293
1
بسم الله الرحمن الرحيم
2
العزة للّه
3
رسالة الكندى فى ماهية النوم والرؤيا
4
أبان الله لك الخفيّات، وأسعدك فى دار الحياة ودار الممات! سألْتَ،
5
سدّدك الله لأغراض الحق، وأعانك على نَيْلِه، أنْ أرسم لك ما النوم
6
وما لرؤيا؛
7
وهذا، كان الله لك مُعينًا! من لطيف العلوم الطبيعية، وخاصة ما تخطى
8
فيه إلى القول على قوى النفس. وقد يحتاج الناظر فى هذا النوع من العلم
9
إلى التمهّر بما وصفت؛ فإنه إن قصّر عن ذلك قصّر عن فهمه، وتَبَيُّنِ
10
مارسمنا على سبيل البينات الطبيعية.
11
وقد رسمتُ من ذلك بقدر ما ظننتُه لمثلك كافيًا، وبالله التوفيق، فنقول:
294
1
إنّ معرفة ما يعرض للشىء إنما تكون بعد الإحاطة بعلم مائيّة الشىء؛
2
والنوم والرؤيا أحدُ ما يعرض للنفس، فيجب أن يكون النظر فى ذلك لمن أتقن
3
القولَ على جوهر النفس، وفَهمَ فُنونَه وكثرةَ تصرفه وما يلحق فى ذلك
4
بالاشتباه.
5
وإن من قوى النفس القوتيْن العظيمتين المتباعدتين: الحسيّة والعقلية،
6
وإن قواها المتوسطة بين الحس والعقل موجودةٌ جميعًا فى الإنسان، الذى هو الجرم
7
الحى النامى.
8
فإذا كانت هذه الأوائلُ معلومةً، وكانت أفعال هذه القوى، أعنى الحادثةَ
9
عنها، معلومة، كانت مائيةُ النوم معلومة ومائية الرؤيا، بالقول الوجيز القليل
10
فى العدد.
11
وذلك أنا نقول: «نائم» للذى، وإنْ كان حيًّا بالفعل، فإنه لا يحسّ
12
بواحد من الحواس الخمسة.
13
فإذَنْ النوم هو ترك استعمال النفس للحواس جميعًا؛ فإنا إذا لم نبصرْ، ولم
14
نسمعْ، ولم نَذُق، ولم نشمّ، ولم نلمس، من غير مرض عارض، ونحن على
15
طباعنا، فنحن نِيَامٌ.
295
1
فإذَنْ النوم بتكميل الرسم هو تركُ الحىّ الثابت على طباعه فى الصحة
2
استعمالَ الحواس بالطبع؛
3
فإن كان هذا كما قد قيل، فقد يظهر ما الرؤيا، إذْ كان معلومًا قوى
4
النفس وكان منها قوةٌ تُسمى المصوِّرة، أعنى القوةَ التى توجدنا صور
5
الأشياء الشخصية، بلا طين، أعنى مع غيبة حواملها عن حواسنا، وهى
6
التى يسميها القدماء من حكماء اليونانيين الفنطاسيا؛ فإن الفصل بين الحس
7
وبين القوة المصوِّرة أن الحس يوجدنا صورَ محسوساته محمولةً فى طينتها؛ فأما
8
هذه القوة فأنها توجدنا الصور الشخصية مجردة، بلا حوامل بتخطيطها وجميع
9
كيفياتها وكمياتها.
10
وقد تعمل هذه القوةُ أعمالَها فى حال النوم واليقظة، إلّا أنها فى النوم أظهر
11
فعلا وأقوى منها فى اليقظة؛
12
فقد نجد المستيقظ الذى نَفْسُه مستعملةٌ بعض حواسها تتمثل له صورُ الأشياء
296
1
التى يفكر فيها؛ وعلى قدر استغراق الفكر له وتركه استعمالَ الحواس تكون
2
تلك الصور أظهرَ له، حتى كأنه يشاهدها بحسّه، وذلك إذا انتابه [من]
3
الشغل بفكره عن الحس ما يُعدمه استعمالَ البصر والسمع؛ فإنا كثيرًا ما نرى
4
المفكرُ ينَادَى فلا يُجيب؛ ويكون أمام بصره الشىءُ، فيخبر عند خروجه
5
من الفكر، إذا سئل: هل رآه أوْ لا؛ فيخبر أنه لم يَرَه؛ وكذلك يعرض له فى
6
باقى الحواس عن أكثرها،
7
وهذا فى عامة الناس موجود. فأما الخواص فى البراعة فى الذهن والعقل
8
وقوة التمييز، فإن قوة أنفسهم البارعة توجدهم صورَ الأشياء مجردةً، ولم
9
يتشاغلوا عن أكثر المُحَس.
10
فإذا استغرق الفكرُ مفكرًا، حتى لا يستعمل شيئا من الحواس بتّةً، فقد
11
تناهى به الفكر إلى النوم. وصارت قوتُه المصوِّرةُ هى أقوى ما يكون على إظهار
12
فعالها، إذ ليس يشتغل عن إعطاء نفسه صورة معانى أفكاره الحسية،
13
فيراها كالحس، مجردةً، لا فصل بينهما بتّةً؛ بل مع فكره فى كل ما فكر فيه
297
1
تظهر له صورة الفكر مجردة أنقى وأبين وأزكى من المحسوسة، لأن
2
الحساسة تنال محسوساتِها بآلة ثانية تعرض لها القوة والضعف من خارج
3
وداخل معًا؛ وهذه القوة المصوِّرة تنال ما تنال بلا آلة ثانية، لتعرضَ لها قوةٌ
4
أو ضعف؛ بل إنما تنالها بالنفس المجردة. فليس يعرض فيها عكر ولا فساد،
5
وإن كانت فى الحى مقبولة بالآلة الأولى المشتركة [بين] الحس والعقل. وهذه
6
القوة المصورة وغيرها من قوى النفس، أعنى [فى] الدماغ، فإن هذا
7
العضو موضوع لجميع هذه القوى النفسية؛ فأما الحس فموضوعٌ له آلاتٌ
8
ثوانٍ، كالعين والسماخ والأذن والخياشيم والأنف واللسان والحنك
298
1
واللهوات وجميع العصب إلا يسير؛ فأما الدماغ، وإن كان إذا دخل عليه
2
فسادٌ، فسد وجودُ القوى النفسانية المستعملة لذلك العضو من الدماغ، فإن
3
الحس يعرض له مثل ذلك وما يعرض من هذه الآلات الثوانى فى قوتها
4
وضعفها، فيكون إدراكه أضعف من إدراك التى لا آلات ثوانى [*]ثوانى corrupt for ثوانٍ لها، فإن
5
الأعراض له من جهتين تعرض كثيرًا، أعنى [من جهة] الآلة الأولى و[من جهة
6
الآلات] الثوانى؛ وقد سلم أكثر ذلك فى الأولى، وتعرض له الأعراض
7
فى الثوانى؛ فأما القوة المصورة فإنها تسلم كثيرًا فى الآلة الأولى، كما يسلم
8
الآخر وتعدم الثوانى بتّةً، فلا يعرض لها من جهتها عرض، فتكون أفعالُها
299
1
أبدًا ووجوداتُها مجردة متقنة؛ وأما الحس ففى كل الأحوال يعرض له
2
الاختلاف لحال اختلاف هذه الآلات الثوانى اختلافا دائما؛ فلذلك ما يكون
3
وجودُ القوة المصورة موجوداتِها التى يجدها الحس مع طينة، أتقنَ وأبين.
4
وأيضًا فلأن الصورة التى فى الطينة تتبع الطينة – فإنه ليس كلُّ طينة تقبل
5
كلَّ صورة؛ فإنا إن طبعنا بطابع واحد شمعًا صافيًا وطينًا صافيًا [وطينًا كدرًا]
6
وحصى كدرًا، خرجت الآثار فيها مختلفة على قدر الطين، فإن ألطفَها أجزاء
7
وأبعدها من التحلل أقبلها للصورة وأشدُّها تَأْدِيةً لأسرار الصورة –
8
كذلك المحسوسات مُتَّبعةٌ حواملَ محسوساتها، فنجد فيها الكدر والعوج
9
وجميع أصناف الاختلاف العارض لها من جهة الطينة؛ فأما القوة المصورة
10
فليس تنال الصورةَ الحسية مع طينتها، فليس يعرض لها الفساد العارض من الطينة؛
11
ولذلك ما توجد الصورةُ النومية أتقن وأحسن؛ وأيضًا فإنها تجد ما لا تجد
12
الحواس بتة؛ فإنها تقدر أن تركب الصور، فأمّا الحس فلا يركب الصورة، لأنه
13
لا يقدر على أن يمزج الطين ولا أفعالها؛ فإن البصر لا يقدر على أن يوجدنا
300
1
إنسانًا له قَرْنٌ أو ريشٌ أو غير ذلك مما ليس للانسان فى الطبع، ولا حيوانًا
2
من غير الناطق ناطقا؛ فإنه لا يقدر على ذلك، إذْ ليس هو موجودًا فى طينة
3
من المحسوسة بتةً التى له أن يجد الصور بها؛ فأمّا فكرنا فليس بممتنع عليه
4
أن يوهم الإنسانَ طائرًا أو ذا ريش، [وإن لم يكن ذا ريش]، والسبعَ ناطقا.
5
وهذه القوة المصورة إنما هى مصورة الفِكر الحسية؛ فأى فكرة عرضت لنا.
6
عند تشاغلنا عن جميع الحواس، تمثلت صور تلك الفكرة لنا مجردة بغير
7
طينة، فوجدنا فى النوم من الصور الحسية ما ليس يجده الحس بتةً.
8
فقد تبين [لنا] إذَنْ ما الرؤيا بما قلناه: فالرؤيا إذَنْ هى استعمالُ النفسِ
9
الفكرَ ورفعُ استعمال الحواس من جهتها؛ فأمّا من الأثر نفسه فهى انطباعُ
10
صور كل ما وقع عليه الفكر من ذى صورة، فى النفس، بالقوة المصورة، لترك
11
النفس استعمالَ الحواس ولزومِها استعمالَ الفكر.
301
1
فأما لماذا نرى الأشياء قبل كونها؟ [ ولماذا نرى الأشياء بتأويل أشياء دالّة
2
على أشياء، قبل كونها] ؟ولماذا نرى أشياء تُرينا أضدادها؟ ولماذا نرى أشياء
3
فلا نراها، ولا نرى لها تأويلا، ولا نرى أضدادها بتّةً، فإن العلة فى ذلك
4
ما للنفس من العلم [بها] بالطبع وأنها موضع لجميع [أنواع] الأشياء الحسية
5
والعقلية.
6
فقد قال ذلك أيضًا قبلنا أفلاطون، حكيم اليونانيين، واقتناه وحكاه عنه
7
فيلسوفهم [المُبَرّز] أرسطوطاليس فى الأقاويل النفسية؛ وإنما قال ذلك
8
أفلاطون، إذْ كانت الأشياءُ المعلومة جميعا إما محسوسه وإما معقولة، وكان
9
للنفس وجدان المعقولات ووجدان المحسوسات. وكان يقول إن النفس حاسة
10
[أعنى] أنها تجد المحسوسات فى ذاتها، ويقول عاقلة، [أعنى] أنها
11
تجد المعقولات فى ذاتها.
12
وليس المحسوس فى النفس شيئًا آخر غير الحاس؛ فإنه ليس ثَمّ غَيْرٌ
13
وغَيْرٌ، إنما هى ذات واحدة بسيطة؛ فالحاسّ منها فى حال حسيّته ليس هو غير
14
المحسوس، لأن المنطبع فيها هو المحسوس بعينه، أعنى صورة المحسوس؛
302
1
فليس الصورة فيها شيئًا آخر غيرها، بل هى فى تلك الحال موجود لذاتها
2
تلك الصورة.
3
وكذلك معقولها، فإنه ليس غير القوة منها المسماة عقلا، إذْ كان معنى قولنا:
4
«محسوس» إنما هو الأشخاص، وقولنا: «معقول»، إنما هو الأنواع وما فوق
5
الأنواع إلى جنس الأجناس، فإن القوة الواجدة المحسوس التى هى مشتركة
6
للحيوان أجمع [هى الواجدة] صور أشخاص الأشياء، أعنى الصور الشخصية
7
التى هى اللونية والشكلية والطعمية والصوتية والرائحية واللمسية وكل ما كان
8
كذلك من الصور ذوات الطين؛ والقوة الواجدة المعقول، التى هى موجودة
9
للإِنسان، هى الواجدة أنواعَ الأشياء وتمييزات أنواعها وما لحقها.
10
فإذا كان المحسوس موجودًا فى النفس، فليس الحاس فى النفس غير المحسوس؛
11
وكذلك العقل من النفس ليس هو غير المعقول فى حال وجود النفس المعقولَ؛
12
فإذَنْ العقل فى النفس هو المعقول، والحس هو المحسوس، إذا كانا موجوديْن
13
للنفس؛ فأمّا قبل أن يوجَدا، فإن المحسوس هو صور الأشخاص، والمعقول هو صور
14
ما فوق الأشخاص، أعنى الأنواع والأجناس؛ والأجناس والأنواع والأشخاص
15
هى جميع المعقولات، فهى إذا كانت للحاسّ العاقل، أى موجودة لنفسه، فهى
16
جميعًا فى نفسه؛ فلذلك قال أفلاطن إن النفس مكانٌ لجميع الأشياء المحسوسة
17
والمعقولة؛ فإذَنْ النفس علّامة بالطبع، لأن العلم أجمع إنما هو للحس والعقل
18
وما جانسهما وعمّهما.
303
1
فإذن قد يقرب أن يَتَبَيَّنَ ما العلة فى اختلاف أحوال الرؤيا فى تَقْدِمَةِ
2
معارفها؛ فإن النفس، لأنها علّامة يقظانة حيّة، قد ترمز بالأشياء قبل كونها،
3
أو تنبى بها بأعيانها؛ فإذا كان الحى مُتَهَيِّئًا لكمال القبول بالنقاء من
4
الأعراض التى يفسد بها قبولُ قوى النفس، وكانت النفس قويةً على إظهار
5
آثارها فى آلة ذلك الحى، أدّت الأشياء أعيانَها قبل كونها؛ وعلى قدر
6
حاله فى التهيؤ كذلك يكون كثرة ما يُؤدّى الأشياءَ أعيانها؛ فإن أحوال
7
الآلة الواحدة من أحوال النفس، أعنى [فى] أشخاص ذوى الأنفس التامة،
8
أعنى الإنسانية، قد تختلف فى الأزمان، فتكون مرة أقبل ومرة أضعف قبولا؛
9
فهذه هى العلة فى الرؤيا التى تُقَدِّم الإنباءَ بالشىء عينه قبل كونه.
10
فأما الرامزة فإنها إذا كانت الآلةُ أقلَّ تَهَيُّؤًا لقبول إنباء النفس الحى
304
1
بها، بالأشياء؛ فإنهاحينئذ [تحتال أو تتلطّف] لاتخاذ الحى ما أرادت
2
اتخاذه إياه بالرمز: مثلا أقول كأنها أرادت أن تُرِيَه سفرًا، فأرَتْه ذاته طائرة
3
من مكان إلى مكان، فرمزت له بالنُقْلة، وذلك إذا لم تَقْوَ الآلةُ على أن
4
تقبل أسباب الفِكَر النقية؛ فإنه، كما أن الأحياء النامين يوجد منهم من
5
يفكر فى الشىء قبل كونه، فيستعمل الفِكَر الصحيحة بالمقدمات الصادقة
6
[المؤدية] لمثل ذلك الشىء المولِّدة حقيقةَ النتائج العظيمة [لكل] ما فكّر
7
فيه فينبىء بالأشياء قبل كونها، وتضعف أحوال ناس آخرين عن تخريج مثل
8
تلك الفِكر، فيصير اعتقادهم ظنونا – والظن ذو طرفيْن متناقضيْن، أعنى
9
هو كذا، وليس هو كذا، فإنْ اتّفق وقوعُ الظن على حقيقة الشىء كان صادقا،
10
وإنْ اتفق وقوعه على نقيض الحقيقة كان ظنا كاذبا – وكذلك يعرض فى الرؤيا،
305
1
إذا قصرت عن نظم الفِكَر من المقدمات الصادقة، فتصير فكرتُها ظنّة؛
2
فما وقع على حقيقة الشىء كان تأويلا، أعنى ما يُرْمَز به؛ وما وقع على نقيض
3
الحقيقة كان ما يدل على ضدّ ما يرى الحىُّ من الرؤيا.
4
فبهذا المعنى تضطر النفس إلى الرمز، وهو من التمثيل فى المستيقظ، كما
5
ذكرنا؛ [فـ]الحزر، أعنى الظن ذا الطرفين، [هو] الذى يصدق تارة ويكذب
6
تارة؛ فإن الآلة إن قويت على قبول الرمز الصادق خرج الشىء صدقًا، كما يفعل
7
الظانُّ ظنًّا قويا الواقع بحقيقة الشىء، وإنْ لم يعلم ذلك علمًا تامًا مبرهنًا،
8
فإنه لا يقع بحقيقة الشىء؛ فأما الضعيفة فى الظن فكالضعيفة الظن فى اليقظة،
9
فإن كل واحد منهما يوافق الحق تارة ويوافق الباطل تارة؛ فأما إذا ضعفت الآلة
10
عن قبول قوة الرمز الذى هو شبيه قوة الظن جاء الشىء بالضد، فإن الظانّ أبدًا ظنًا
306
1
ضعيفًا هو المخطىء[*]المخطىء corrupt for المخطئ، فالضد إذن أبدًا حق؛ وهذه هى الرؤيا التى تُرى رَائيَها ضد
2
ما يَرى فى منامه، كالذى رأى إنسانًا مات، فطالت مُدًّتُه؛ ورأى إنسانًا افتقر،
3
فكثر ماله، وما كان كذلك؛ فأما إذا ضعفت الآلة الضعف الذى لا تقبل معه
4
واحدًا من هذه المراتب، فإنه ليس لها نظم يُحكى ولا شرائط توافق وتخالف،
5
كالذى يعرض للمختلط المفكر فى اليقظة؛ لأنه ربما أراد أن يؤلف اللفظ
6
فضلا عما لطف من الكلام العام، فيلفظ بنكس القول وتخليطه، وهم الذين
7
تسميهم العامة كثيرى السقط فى اللفظ، كالمحكى عن حمزة بن نصر وذويه؛
8
وهذه الرؤيا التى على هذا المثال هى المسماة أضغاثًا؛ وإنما اشتق لها هذا الاسم
9
من الأضغاث أنفسها، فإن الضغث عضو من شجرة ميتةٍ؛ فإنما هو مشارك
10
للشجرة بالاسم، بالشبه البعيد؛ فكذلك هذه الرؤيا مشاركة للرؤيا المُنْبئَة،
11
بالاسم، لا بصدق المعنى.
12
وأما العلل القريبة المُنيمَة للحىّ فهى بردُ الدماغ وابتلاله؛ فإنه إذا برد
13
وابتلّ استرخى عن حال اعتداله وتَهَيُّئِه للحركة الحسية، إذْ آلات الحس
14
منبعثة وناشئة من الدماغ، كما قد بينّا فى الأقاويل المشاكلة لذلك، أعنى فى القول
307
1
على طبيعة الحيوان، فتركتْ النفسُ استعمالَ الحواس لعسرة ذلك، ومالت إلى
2
الفكرة، فحدث النوم وما يُرى [فى] النوم.
3
وأما العلة المرطبة للدماغ والمبردة له، فإنه غُؤورُ الحرارة فى باطن بدن
4
الحى وبردُ أطرافه وارتفاعُ البخار الرطب اللطيف بغؤور الحرارة فى باطن
5
البدن، إلى الدماغ؛ ومن الدليل على ذلك أنا إذا أكثرنا من الطعام الرطب البارد
6
وسكنت حركاتُنا، فبرد ظاهرُ أبداننا، وبطنت الحرارةُ، استرخت حواسُنا،
7
وثقل علينا استعمالُها، وانطبق ما كان منها استعمالُه بالفتح؛ وإن كان الحى
8
على حال لا يقدر على أن يطبقه، هيأت الطبيعة له ما يريحه من الحس،
9
كالذى يعرض للعيون، فإنها تقلب سوادها وتخفيه تحت الأجفان العليا؛ وإنْ كان
10
طبع الحيوان مما يمكن سواد ناظره أن يتسع ويضيق، كما هو موجود فى الهرر
11
والأرانب وسباع الطير وما كان كذلك، فإنها متهيِّئة لتضييق سواد ناظرها
12
وتوسيعه، والجفن متقلِّص ضيق السواد، حتى يصير فى حال لا يحس بثقل
13
استعمال الحس على الحيوان، مع برد الدماغ ورطوبته؛ حتى أنا إذا
14
أرَدْنا استدعاء النوم سكنّا أبداننا من الحركة، وأطبقنا أبصارنا، واحتلنا
15
لإظلام موضعنا، وباعدنا عنا الأصوات، لِأنْ يبطلَ استعمال الحواس، فيكون
16
النوم الذى حدَدْنا فى أول كتابنا هذا.
308
1
ومن الدليل أيضا على ذلك أنا إذا أبْطَنّا الفكر إبْطانا شديدًا،
2
وأكْبَبْنا على النظر فى الكتب والفكر فيما فيها وسكنت أعضاؤنا لذلك،
3
فبرد ظاهرُ أبداننا، لعدم الحركة العارضة، استرخت حواسُّنا، وثقل علينا
4
الحس، وعرض لنا النوم، بما يرْفَعُ ما بطن من الحرارة من البخار الرطب
5
البارد إلى أدمغتنا.
6
ومن ذلك أيضا ما يعرض لنا فى عقب التعب الشديد، ما لم يكن فى
7
أبداننا حرارة غريبة خارجة عن الغريزة؛ فإنا نحتاج إلى تسكين أبداننا من
8
الحركة المتعبة، فإذا سكّنّاها بطنت الحرارة وارتفعت إلى أدمغتنا تلك الأبخرة
9
الباردة الرطبة؛ وقد تعيننا الطبيعة على ذلك عونا شديدًا، فإن ذلك جنس
10
من سياستها للأبدان، لأن النوم يفعل سكونَ الأعضاء من الحركة وتفريغَ
11
الآلة الهاضمة للهضم وإفادةَ البدن من الغذاء خلفا من كل ما سال وتحلّل منه
309
1
بالتعب، مع تفريغها أيضا الحرارة لطبخ ما فى باطن البدن ببطونها فى باطنه؛
2
وهذه هى العلة التمامية لكون النوم.
3
فإن بارىء الكل، جلّ ثناؤه، صيّر للحيوان زمانا للراحة وعمل الآلات
4
والقوى التى للغذاء النامى لجسم الحىّ، إذْ هو متحلِّلٌ سيّال؛ فإنه
5
لا يَكْمُل ما يملأ ويُرْبى جسمَ الحى، مع ما يسيل منه دائما، إلا
6
ما يشبه الدعة والهدوء والنوم، بالقوة على الهضم؛ فإنه لو لم يكن له راحةٌ
7
نومية تُفرِّغ الطبيعة للهضم بكمالٍ، وتمنعها الانقسامَ فى قوتها، للحس
8
والهضم، لم يكن قسمُ الهضم مع استعمال الحس يبلغ ما يملأ ما يفرغ من أعضاء
9
جسم الحى وينفد من قواه؛ ومن الدليل على ذلك أن الذين تبرد قواهم
310
1
لشدة التعب أو لشدة الاستفراغ بالباه أو الأدوية، يُؤمرون بالنوم لتقوى طبائعهم
2
على الزيادة فى الهضم؛ ونجدهم إذا تيقظوا بعد النوم الكائن فى ذلك، تنبهوا،
3
وقد زال عنهم الضعفُ الذى فعله الاستفراغ والنقص والتعب والأدوية
4
كلُّه أو أكثره، وعادت قواهم؛ وكذلك يعرض لمن دام سهرهُ شدّةُ اليبس وغؤور
5
الأصداغ والعينين ويبس جلدة الوجه على العظم وتقلّص الشفتين وجمود
6
الريق، كالذى يعرض لمن استفرغ بالدواء وبالباه، أو فناء الرطوبة الغريزية
7
التى فناها سبب الموت، لقلة ما تقوم به الطبيعة من الهضم مع السهر، إذْ قوتُها
8
مقسومةٌ للحس ولجميع أفعال النفس، حتى إن من دام سهرُه، وإن كثُر غذاؤه،
9
سريع فناء الرطوبة والموت؛ ومن كثر نومه من الأغذية الموافقة فى إعانة
10
النوم على الهضم، عظُم بدنُه ورطب لكثرة الغذاء.
11
فإذْ قد تبيّن ما علل النوم القريبة والبعيدة، فقد ظهرت منفعة النوم فى ماذا
12
هى؛ فهو، كما قدمنا، نافع فى تكميل الغذاء وإعانة الطبيعة على بنية
311
1
الأبدان وتقويتها، أعنى إخلاف ما نفد منها.
2
فهذا فيما سألت كافٍ بحسب موضعك من النظر؛ كفاك الله مُهِمّات
3
الأمور! والحمد للّه، ولىّ الحمد ومستحقّه، حمدًا كفاء نعمه على جميع خلقه.
4
تمت الرسالة والحمد لله رب العالمين والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين.