51
1
احصَاءُ العُلوم
53
1
بسِم الله الرحمن الرحيم
2
مقالة فى إحصَاء العُلِوم
3
كتاب أبى نصر محمد بن محمد الفارابى فى مراتب العلوم قال:
4
قصدنا فى هذا الكتاب أن نحصى العلوم المشهورة علمًا علمًا،
5
ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ماله منها أجراء،
6
وجمل ما فى كل واحد مر أجزائه. ونجعله فى خمسة فصول: الأول فى
7
علم اللسان وأجزائه، والثانى فى علم المنطق وأجزائه، والثالث فى علوم
8
التعاليم، وهى العدد والهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم التعليمى وعلم
9
الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحيل؛ والرابع فى العلم الطبيعى
10
وأجزائه، وفى العلم الإلهى وأجزائه، والخامس فى العلم المدنى وأجزائه
11
وفى علم الفقه، وعلم الكلام.
12
وينتفع بما فى هذا الكتاب، لأن الإنسان إذا أراد أن يتعلم
13
علمًا من هذه العلوم وينظر فيه علم على ماذا يقدم وفى ماذا
54
1
ينظر وأى شىء سيفيد بنظره وما غناء ذلك وأى فضيلة تنال به،
2
ليكون أقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة لا على
3
عمى وغرر.
4
وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقايس بين العلوم، فيعلم أيها
5
أفضل وأيها أنفع وأيها أتقن وأوثق وأقوى وأيها أوهن
6
وأوهى وأضعف.
7
وينتفع به أيضًا فى تكشيف من ادعى البصر بعلم من هذه العلوم
8
ولم يكن كذلك: فإنه إذا طولب بالإخبار عن جملة مافيه وبإحصاء أجزائه
55
1
ويحمل مافى كل جزء منه فلم يضطلع به تبين كذب دعواه
2
وتكشف تمويهه.
3
وبه يتبين أيضًا فيمن يحسن علمًا منها هل يحسن جميعه
4
أو بعض أجزائه، وكم مقدار ما يحسنه.
5
وينتفع به المتأدب المتفنن الذى قصده أن يشدو جمل مافى كل
6
علم، ومن أحب أن يتشبه: بأهل العلم ليظن به أنه منهم.
57
1
الفصل الأول
2
فى علم اللِسَان
3
علم اللسان فى الجملة ضربان:
4
أحدهما حفظ الألفاظ الدالة عند أمةٍ ما وعلم ما يدل عليه شىء
5
منها؛ والثانى علم قوانين تلك الألفاظ.
6
والقوانين فى كل صناعة أقاويل كلية أى جامعة ينحصر فى كل واحد
7
منها أشياء كثيرة مما تشتمل عليه تلك الصناعة وحدها حتى يأتى
8
على جميع الأشياء التى هى موضوعة للصناعة أو على أكثرها.
9
وتكون معدّة إما ليحاط بها ما هو من تلك الصناعة لئلا يدخل فيها
10
ما ليس منها أو يشذ عنها ما هو منها؛ وإما ليمتحن بها مالا
11
يؤمن أن يكون قد غلط فيه غالط؛ وإما ليسهل بها تعلم ما تحتوى
12
عليه الصناعة وحفظها.
13
والأشياء المفردة الكثيرة إنما تصير صنائع أو فى صنائع بأن تحصر
14
فى قوانين تحصل فى نفس الإنسان على ترتيب معلوم: وذلك مثل الكتابة
58
1
والطب والفلاحة والعمارة وغيرها من الصنائع عملية كانت أو نظرية
2
وكل قول كان قانونًا فى صناعة ما فانه معدّ بما هو قانون لأحد
3
ما ذكرنا أو لجميعه: فلذلك كان القدماء يسمون كل آلة عملت لامتحان ما
4
عسى أن يكون الحس قد غلط فيه ــ من كمية جسم أوكيفيته أو غير ذلك مثل
5
الشاقول والبركار والمسطرة والموازين ــ قوانين؛ ويسمون أيضًا جوامع
6
الحساب وجداول النجوم قوانين، والكتب المختصرة التى جعلت تذاكير
7
الكتب الطويلة قوانين، إذ كانت أشياء قليلة العدد تحصر أشياء
8
كثيرة ويكون تعلمنا لها وحفظنا إياها، وهى قليلة العدد، قد علمنا
9
أشياء كثيرة العدد.
10
ونرجع الآن إلى ماكنا فيه فنقول: إن الألفاظ الدالة فى لسان كل
11
أمة ضربان؛ مفرد ومركب. فالمفرد كالبياض والسواد والإنسان
12
والحيوان؛ والمركب كقولنا: الإنسان حيوان، وعمرو أبيض.
13
والمفردة منها ما هى ألقاب أعيان: مثل زيد وعمرو، ومنها
59
1
ما يدل على أجناس الأشياء وأنواعها: مثل الإنسان والفرس والحيوان
2
والبياض والسواد والمفردة والدالة على الأجناس والأنواع منها أسماء
3
ومنها كلم ومنها أدوات. ويلحق الأسماء والكلم التذكير والتأنيث
4
والتوحيد والتثنية والجمع؛ ويلحق الكلم خاصة الأزمان، وهى الماضى
5
والحاضر والمستقبل.
6
وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى: علم
7
الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما
8
تكون مفردة وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة،
9
وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين الأشعار.
10
فعلم الألفاظ المفردة الدالة يحتوى على علم ما تدل عليه لفظة لفظة
11
من الألفاظ المفردة الدالة على أجناس الأشياء وأنواعها وحفظها وروايتها
12
كلها، الخاص بذلك اللسان والدخيل فيه والغريب عنه والمشهور عند
13
جميعهم.
14
وعلم الألفاظ المركبة هو علم الأقاويل التى تصادف مركبة
15
عند تلك الأمة، وهى التى صنعها خطباؤهم وشعراؤهم ونطق بها
60
1
بلغاؤهم وفصحاؤهم المشهورون عندهم، وروايتها وحفظها، طوالًا
2
كانت أو قصارًا، موزونة كانت أو غير موزونة.
3
وعلم قوانين الألفاظ المفردة يفحص أولًا فى الحروف المعجمة
4
عن عددها ومن أين يخرج كل واحد منها فى آلات التصويت؛
5
وعن المصوت منها، وعما يتركب منها فى ذلك اللسان وعما لايتركب وعن
6
أقل ما يتركب منها حتى يحدث عنها لفظة دالة؛ وكم أكثر مايتركب
7
وعن الحروف الثابتة التى لا تتبدل فى بنية اللفظ عند لواحق الألفاظ
8
من تثنية وجمع وتذكير وتأنيث واشتقاق وغير ذلك، وعن الحروف
9
التى بها يكون تغاير الألفاظَ عند اللواحق، وعن الحروف التى تندغم
10
عندما تتلاقى.
11
ثم من بعد هذا يعطى قوانين أمثلة الألفاظ المفردة ويميز بين
12
المثالات الأول التى ليست هى مشتقة من شىء وبين ما هى مشتقة،
13
ويعطى أمثلة أصناف الألفاظ المشتقة، ويميز فى المثالات الأول
61
1
بين ما هى منها مصادر [وهى التى منها يعمل الكلم وبين ماليس منها
2
بمصدر] [وكيف تغير المصادر حتى تصير كلمًا، ويعطى أصناف أمثلة
3
الكلم] وكيف يعدل بالكلم حتى تصير أمرًا ونهيا وما جانس
4
ذلك فى أصناف كميتها: وهى الثلاثية والرباعية وما هو أكثر منها،
5
والمضاعف منها وغير المضاعف وفى كيفيتها: وهى الصحيح منها
6
والمعتل، ويعرف كيف يكون ذلك عند التذ كير والتأنيث والتثنية
7
والجمع، وفى وجوه الكلم وفى أزمانها جميعا (والوجوه هى أنا وأنت
8
وذاك وهو)، ثم يفحص عن الألفاظ التى عسر النطق بها
9
أول ما وضعت فغيرت حتى سهل النطق بها.
10
وعلم قوانين الألفاظ عندما تركب ضربان:
11
أحدهما يعطى قوانين أطراف الأسماء والكلم عندما تركب أو ترتب
12
والثانى يعطى قوانين فى أحوال التركيب والترتيب نفسه كيف هى فى ذلك
62
1
اللسان، وعلم قوانين الأطراف المخصوص بعلم النحو، فهو يعرف
2
أن الأطراف إنما تكون أولًا للاسماء ثم للكلم وأن أطراف الأسماء
3
منها ما يكون فى أوائلها مثل ألف لام التعريف العربية أو ما قام
4
مقامها فى سائر الألسنة؛ ومنها ما يكون فى نهاياتها، وهى الأطراف
5
الأخيرة، وتلك التى تسمى حروف الإعراب، وأن الكلم ليس لها أطراف
6
أول وإنما لها أطراف أخيرة؛ والأطراف الأخيرة للأسماء والكلم هى
7
فى العربية مثل التنوينات الثلاثة والحركات الثلاث والجزم شىء آخر إن كان
8
يستعمل فى اللسان العربى طرفا؛ ويعرف أن من الألفاظ ما لاينصرف
9
فى الأطراف كلها، بل إنما هو مبنى على طرف واحد فقط فى جميع
10
الأحوال التى ينصرف فيها غيره من الألفاظ ومنها ماينصرف فى بعضها
11
دون بعض، ومنها ما ينصرف فى جميعها؛ ويحصى الأظراف كلها؛
12
ويميز أطراف الأسماء من أطراف الكلم؛ [ويحصى جميع الأحوال لتى
13
تنصرف فيها الأسماء المنصرفة] وجميع الأحوال التى ينصرف فيها
14
الكلم؛ ثم يعرف فى أى حال يلحق كل واحد من الأسماء والكلم أى
63
1
طرف، فيأتى أولًا على إحصاء حالٍ حالٍ من أحوال الأسماء
2
الموحدة المنصرفة التى يلحقها فى كل حال طرف مامن أطراف الأسماء؛
3
ثم يعطى مثل ذلك فى الأسماء المثناة والمجموعة إلى أن يستوعب الأحوال
4
التى يتبدل فيها على الكلم أطرافها التى جعلت لها؛ ثم يعرف الأسماء
5
التى تنصرف فى بعض الأطراف وفى أيها تنصرف وفى أيها لا تنصرف؛
6
أم يعرف الأسماء التى كل واحد منها مبنى على طرف واحد فقط وأيها
7
مبنى على أى طرف.
8
وأما الأدوات فإن كانت عادتهم أن تكون كل واحدة منها مبنية على
9
طرف واحد، أو كان بعضها مبنيا على واحد فقط وبعضها ينصرف فى
10
شىء من الأطراف، عرف كل ذلك. وإن كانت قد توجد لهم ألفاظ
11
يشك فى أمرها هل هى أدوات أوأسماء أو كلم، أوكان يخيل فيها
12
أن بعضها يشاكل الأسماء وبعضها يشاكل الكلم احتاج أن يعرف ما من هذه
13
[يجرى مجرى الأسماء وفى ماذا ينصرف من أطرافها، وما منها]
14
يجرى مجرى الكلم وفى ماذا ينصرف من أطرافها.
64
1
وأما الضرب الذى يعطى قوانين التركيب نفسه فإنه يبين أولًا
2
كيف تتركب الألفاظ وتترتب فى ذلك اللسان، وعلى كم ضرب حتى
3
تصير أقاويل. ثم يبين أيها هو التركيب والترتيب الأفصح فى
4
ذلك اللسان.
5
وعلم قوانين الكتابة يميز أولًا ما لايكتب فى السطور من حروفهم
6
وما يكتب؛ ثم يبين فيما يكتب فى السطوركيف سبيله أن يكتب.
7
وعلم قوانين تصحيح القراءة يعرف مواضع النقط والعلامات التى
8
تجعل عندهم لما لا يكتب فى السطور من حروفهم وما يكتب والعلامات
9
التى تميز بين الحروف المشتركة، والعلامات التى تجعل للحروف التى إذا
10
تلاقت اندعم بعضها فى بعض أو تنحى بعضها لبعض والعلامات التى
11
تجعل عندهم لمقاطع الأقاويل، وتميز علامات المقاطع الصغرى
12
من علامات المقاطع الوسطى والكبرى، فتبين علامات رداءة
13
الألفاظ والأقاويل المرتبطة والتى ينقض بعضها بعضا وخاصة إذا
14
تباعد ما بينها.
65
1
وعلم الأشعار على الجهة التى تشا كل علم اللسان ثلاثة أجزاء:
2
أحدها إحصاء الأوزان المستعملة فى أشعارهم، بسيطة كانت
3
الأوزان أو مركبة، ثم إحصاء تركيبات الحروف المعجمة التى
4
تحصل عن صنفٍ صنفٍ منها ووزنٍ وزنٍ من أوزانهم وهى التى تعرف
5
عند العرب بالأسباب والأوتاد، وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل؛ ثم
6
الفحص عن مقاديرالأبيات والمصاريع، ومن كم حرف ومقطع يتم
7
بيتٌ بيتٌ فى وزنِ وزن. ثم يميز الأوزان الوافية من الناقصة وأى الأوزان
8
أبهى واحسن وألذَّ مسموعا.
9
والجزء الثانى النظر فى نهايات الأبيات فى وزنِ وزنٍ أيما منها عندهم على
10
وجه واحد، وأيما منها على وجوه كثيرة. ومن هذه أيها هو التام وأيها
11
الزائد وأيها الناقص وأى النهايات يكون بحرف واحد بعينه محفوظا
12
فى الشعر كله، وأيها منها يكون بحزوف أكثر من واحد محفوظة
66
1
فى القصيدة، وكم أ كثر الحروف التى تكون نهايات الأبيات [عندهم؛
2
ثم نعرف التى هى بحروف كثيرة هل يحوز أن يبدل مكان بعضها حرف
3
أخر مساوية لها فى زمان النطق بها أم لا، وأيها منها يجوز أن يبدل
4
بحرف مساو له فى الزمان.
5
والجزء الثالث يفحص عما يصلح أن يستعمل فى الأشعار من
6
الألفاظ عندهم مما ليس يصلح أن يستعمل فى القول الذى ليس بشعر.
7
فهذه جمل ما فى كل واحد من أجزاء علم اللسان] .
67
1
الفصل الثانى
2
فى علم المنطق
3
فنخبر بجملة ما فيه، ثم بمنفعته، ثم بموضوعاته، ثم بمعنى عنوانه، ثم
4
نحصى أجزاءه وجمل ما فى كل واحد منها.
5
فصناعة المنطق تعطى بالجملة القوانين التى شأنها أن تقوِّم العقل
6
وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق فى كل ما يمكن أن
7
يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التى تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل
8
والغلط فى المعقولات، والقوانين التى يمتحن بها فى المعقولات ماليس يؤمن
9
أن يكون قد غلط فيه غالط. وذلك أن فى المعقولات أشياء لايمكن
10
أن يكون قد غلط فيها أصلا، وهى التى يجد الإنسان نفسه كأنها
11
قُطرت على معرفتها واليقين بها: مثل أن الكل أعظم من جزئه، وأن
12
كل ثلاثة فهو عدد فرد، وأشياء أخر يمكن أن يغلط فيها ويعدل عن
68
1
الحق إلى ما ليس بحق، وهى التى شأنها أن تدرك بفكر وتأمل وعن
2
قياس واستدلال: ففى هذه دون تلك يضطر الإنسان الذى يلتمس
3
الوقوف على الحق اليقين فى مطلوباته كلها إلى قوانين المنطق.
4
وهذه الصناعة تناسب صناعة النحو :ذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى
5
العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ. فكل
6
ما يعطيناه علم النحو من القوانين فى الألفاط فإن علم المنطق يعطينا نظائرها
7
فى المعقولات.
8
[وتناسب أيضًا علم العروض: فإن نسبة علم المنطق إلى المعقولات
9
كنسبة العروض إلى أوزان الشعر. وكل ما يعطيناه علم العروض من القوانين
10
فى أوزان الشعر فإن علم المنطق يعطينا نظائرها فى المعقولات] .
11
وأيضًا فإن القوانين المنطقية التى هى آلات يمتحن بها فى المعقولات
12
مالايؤمن أن يكون العقل قد غلط فيه أو قصر فى إدراك حقيقة، تشبه
13
الموازين والمكاييل التى هى آلات يمتحن بها فى كثير من الأجسام ما
14
لايؤمن أن يكون الحسن قدغلط فيه أوقصر فى إدراك تقديره، وكالمساطر
15
التى يمتحن بها فى الخطوط مالا يؤمن أن يكون الحس قد غلط أو قصر
16
فى إدراك استقامته [وكالبركار الذى يمتحن به فى الدوائر مالا يؤمن
69
1
أن يكون الحس قد غلط أو قصر فى إدراك استدارته] .
2
فهذه جملة غرض المنطق. وبِّين من غرضه عظيم غنائه: وذلك
3
فى كل مانلتمس تصحيحه عند أنفسنا، وفيما نلتمس تصحيحه عند
4
غيرنا، وفيما يلتمس غيرنا تصحيحه عندنا:
5
فإنه إذا كانت عندنا تلك القوانين والتمسنا استنباط مطلوب وتصحيحه
6
عند أنفسنا لم نطلق أذهاننا فى تطلب مانصححه مهملة تسبح فى أشياء
7
غير محدودة وتروم المصير إليه من حيث اتفق ومن جهات عسى أن
8
تغلطنا فتوهمنا فيما ليس بحق أنه حق فلا نشعر به، بل ينبغى أن
9
نكون قد علمنا أى طريق ينبغى أن نسلك إليه وعلى أى الأشياء نسلك
10
ومن أين نبتدئ فى السلول [وكيف نقف من حيث تتيقن أذهاننا]
11
وكيف نسعى بأذهاننا على شىء شىء منها إلى أن نفضى لا محالة إلى
70
1
ملتمسنا، ونكون مع ذلك قد عرفنا جميع الأشياء الغلِّطة لنا والملبِّسة علينا
2
فنتحرز منها عند سلوكنا. فعند ذلك نتيقن فيما نستنبطه أنّا صادفنا
3
فيه الحق ولم نغلط. وإذا رابنا أمر شىء استنبطناه فخيل إلينا أنَّا قد
4
سهونا عنه أمتحناه من وقتنا: فإن كان فيه غلط شعرنا به وأصلحنا موضع
5
الزلل بسهولة.
6
وتلك تكون حالنا فيما نلتمس تصحيحه عند غيرنا: فإنَّاإنما نصحح
7
الرأى عند غيرنا بمثل الأشياء والطرق التى تصححه عند أنفسنا؛ فإن
8
نازعنا فى الحجج والأقاويل التى خاطبناه بها فى تصحيح ذلك الرأى عنده،
9
وطالبنا بوجه تصحيحها له، وكيف صارت تصحح ذلك الرأى دون أن
10
تصحح ضده، ولم صَارت أولى من غيرها بتصحيح ذلك الرأى، قدرنا
11
أن نبين له جميع ذلك.
12
وكذلك إذا أراد غيرنا أن يصحح عندنا رأيًا ما، كان عندنا مانمتحن
13
به أقاويله وحججه التى رام أن يصحح بها ذلك الرأى: فإن كانت فى الحقيقة
14
مصححة تبين من أى وجه تصحح، فنقبل ما نقبله من ذلك عن علم
71
1
وبصيرة. [وإن كان غالط أوغلط تبين من أى وجه غالط أو غلط،
2
فنزيف ما نزيفه من ذلك عن علم وبصيرة].
3
وإذا جهلنا المنطق كانت حالنا فى جميع هذه الأشياء بالعكس وعلى
4
الضد. وأعظم من جميع ذلك وأقبحه وأشنعه وأحراه أن يُحذَر ويتقى
5
هو مايلحقنا إذا أردنا أن ننظر فى الآراء المتضادة أونحكم بين المتنازعين
6
فيها، وفى الأقاويل والحجج التى يأتى بها كل واحد ليصحح رأيه ويزِّيف رأى
7
خصمه: فإنَّا إن جهلنا المنطق لم نقف من حيث نتيقن على صواب
8
من أصاب منهم كيف أصاب ومن أى جهة أصاب، وكيف صارت حجته
9
توجب صحة رأيه، ولا على غلط مَن غلطَ منهم أو غالط كيف ومن أى
10
جهة غالط أو غلط وكيف صارت حجته لاتوجب صحة رأيه، فيعرض
11
لنا عند ذلك إما أن نتحيّر فى الآراء كلها حتى ل ندرى أيها صحيح وأيها
12
فاسد، وإما أن نظن أن جميعهاعلى تضادها حق، أونظن أنه ليس ولافى شىء
13
منها حق؛ وإما أن نشرع تصحيح بعضها وتزييف بعضها، ونروم تصحيح
14
ما نصحح وتزييف ما نزيف من حيث لاندرى من أى وجه هو كذ لك.
72
1
فإن نازعنا منازع فيما نصححه أو نزيفه لم يمكنّا أن نبين له وجوه
2
ذلك؛ وإن اتفق أن كان فيما صححناه أو زيفناه شىء هو فى الحقيقة [كذلك
3
لم نكن على يقين فى شىء من هذين أنه فى الحقيقة] كما هو عندنا، بل
4
نعتقد ونظن فى كل ماهو صحيح عندنا عسى أن يكون فاسدًا أو فيما
5
هو عندنا فاسد عسى أن يكون صحيحًا، وعسى أن نرجع إلى ضد مانحن
6
عليه فى الأمرين جميعًا، وعسى أن يرد علينا وارد من خارج أومن
7
خاطر يسنح فى أنفسنا فيزيلنا هو عندنا اليوم صحيح أو فأسد إلى ضده،
8
فنكون فى جميع ذلك كما يقال فى المثل: حاطب ليل!
9
وهذه الأشياء تعرض لنا فى الناس الذين يدعون عندنا الكمال فى
10
العلوم: فإنَّا إن جهلنا المنطق ولم يكن معنا ما نمتحنهم به فإما أن
11
نحسن الظن بجميعهم، وإما أن نتهم جميعهم، وإما أن نشرع فى أن نميز
12
بينهم، فيكون كل ذلك منا بلا تثبت ومن حيث لا نتيقن:
73
1
فلا نأمن أن يكون فيمن أحسنا به الظن مموّه مشنّع، فيكون قد نفق عندنا
2
المبطل وأيدنا من سخر منا ونحن لانشعر،أو يكون فيمن اتهمناه محق،
3
فنكون قد اطرحناه ونحن ل نشعر.
4
فهذه مضرة جهلنا بالمنطق ومنفعه علمنا به. وبِّين أنه ضرورى لمن
5
أحب أن لا يقتصر [فى اعتقاداته وآرائه على الظنون، وهى]
6
الاعتقادات التى لا يأمن صاحبها عند نفسه أن يرجع عنها إلى أضدادها؛
7
وليس بضرورى لمن آثر المُقام والاقتصار فى آرائه على الظنون
8
وقنع بها.
9
وأما من زعم أن الدربة بالأقاويل والمخاطبات الجدلية أو الدربة
10
بالتعاليم، مثل الهندسة والعدد، تغنى عن علم قوانين المنطق أو تقوم
11
مقامه وتفعل فعله وتعطى الإنسان القوة على امتحان كل قول
12
وكل حجة وكل رأى، وتسدّد الإنسان إلى الحق واليقين حتى لايغلط
13
فى شىء من سائر العلوم أصلًا، فهو مثل من زعم أن الدربة والارتياض
14
بحفظ الأشعار والخطب والاستكثار من روايتها يُغنى فى تقويم اللسان وفى
15
أن لا يلحن الإنسان، فى قوانين النحو، ويقوم مقامها ويفعل
74
1
فعلها وأنه يعطى الإنسان قوة يمتحن بها إعراب كل قول هل أصيب
2
فيه أو لُحن. فالذى يليق أن يجاب به فى أمر النحو هاهنا هو الذى يجاب
3
به فى أمر المنطق هناك.
4
وكذلك قول من زعم أن المنطق فضل لا يُحتاج إليه، إذ كان
5
يمكن أن يوجد فى وقت ما إنسان كامل القريحة لا يخطئ الحق أصلًا
6
من غير ان يكون قد علم شيئًا من قوانين المنطق، كقول من زعم أن
7
النحو فضل، إذ قد يوجد فى الناس من لا يلحن أصلًا من غير أن يكون
8
قد علم شيئًا من قوانين النحو: فإن الجواب عن القولين جميعأ
9
جواب واحد.
10
وأما موضوعات المنطق ، وهى التى فيها تُعطى القوانين، فهى المعقولات
11
من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هى دالة على
12
المعقولات. وذلك أن الرأى إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروى ونقيم فى
13
أنفسنا أمورًا ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأى؛ [ونصححه عند غيرنا
14
بأن نخاطبه بأقاويل نُفهمه بها الأمور والمعقولاتِ التى شأنها أن
15
تصحح ذلك الرأى].
75
1
وليس يمكن أن نصحّح أى رأى اتفق بأى معقولات اتفقت،
2
ولا أن نوجد تلك المعقولات بأى عدد اتفق ولا بأى أحوال وتركيب
3
وترتيب اتفق، بل نحتاج فى كل رأى نلتمس تصحيحه إلى أمور
4
ومعقولات محدودة وإلى أن تكون بعدد ما معلوم، وعلى أحوال
5
وتركيب وترتيب معلوم. وتلك ينبغى أن تكون حال ألفاظها التى بها
6
تكون العبارة عنها عند تصحيحها لدى غيرنا. فلذلك نضطر إلى قوانين
7
تحوطنا فى المعقولات وفى العبارة عنها، وتحرسنا من الغلط فيها. وكلتا
8
هاتين، أعنى المعقولات والأقاويل التى بها تكون العبارة عنها يسميها
9
القدماء (النطق والقول): فيسمون المعقولات القول، والنطق
10
الداخل المركوز فى النفس والذى يعبّر به عنها القول، والنطق الخارج
11
بالصوت والذى يصحح به الإنسان الرأى عند نفسه هو القول المركوز فى
12
النفس، والذى يصححه به عند غيره هو القول الخارج با لصوت. فالقول
13
الذى شأنه أن يصحح رأيًا ما يسميه القدماء (القياس)، كان قولًا مركوزًا
14
فى النفس أو خارجًا بالصوت.
76
1
فالمنطق يعطى القوانين التى سلف ذ كرها فى القولين جميعًا.
2
وهو يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطى من قوانين الألفاظ،
3
ويفارقه فى أن علم النحو إنما يعطى قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم
4
المنطق إنما يعطى قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها؛ فإن فى الألفاظ.
5
أحوالًا تشترك فيها جميع الأمم: مثل أن الألفاظ منها مفردة ومنها
6
مركبة، والمفردة اسم وكلمة وأداة، وأن منها ما هى موزونة وغير
7
موزونة وأشباه ذلك.
8
وها هنا أحوال تخص لسانًا دون لسان: مثل أن الفاعل مرفوع
9
والمفعول به منصوب، والمضاف لا يدخل فيه ألف ولام التعريف: فإن
10
هذه وكثيرًا غيرها يخص لسان العرب. وكذلك فى لسان كل أمة أحوال
11
تخصه، وما وقع فى علم النحو من أشياء مشتركة لألفاظ الأمم كلها فإنما
12
أخذه أهل النحو من حيث هو موجود فى ذلك اللسان الذى عمل
13
النحو له، كقول النحويين من العرب: إن أقسام الكلام فى العربية اسم
77
1
وفعل وحرف. وكقول نحويى اليونانيين: أجزاء القول فى اليونانية اسم
2
وكلمة وأداة. وهذه القسمة ليست إنما توجد فى العربية فقط، أو فى
3
اليونانية فقط، بل فى جميع الألسنة، وقد أخذها نحويو العرب على أنها
4
فى العربية، ونحويو اليونانيين على أنها فى اليونانية.
5
فعلم النحو فى كل لسان إنما ينظرفيا يخص لسان تلك الأمة، وفيما
6
هو مشترك له ولغيره، لا من حيث هو مشترك، لكن من حيث هو
7
موجود فى لسانهم خاصة.
8
فهذا هو الفرق بين نظر أهل النحو فى الألفاظ وبين نظر أهل المنطق
9
فيها: وهو أن النحو يعطى قوانين تخص ألفاظ أمة ما، ويأخذ ما هو
10
مشترك لها ولغيرها، لا من حيث هو مشترك، بل من حيث هو موجود
11
فى اللسان الذى عمل ذلك النحو له.
12
والمنطق فيما يعطى من قوانين الألفاظ إنما يعطى قوانين تشترك فيها
13
ألفاظ الأمم، ويأخذها من حيث هى مشتركة، ولا ينظر فى شىء ممايخص
14
ألفاظ أمة ما، بل يوصى أن يؤخذ ما يُحتاج إليه من ذلك عن أهل
15
العلم بذلك اللسان.
78
1
وأما عنوانه فبِّين أنه ينبىء[*]ينبىء corrupt for ينبئ عن جملة غرضه: وذلك أنه مشتق
2
من النطق. وهذه اللفظة تقال عند القدماء على ثلاثة معان:
3
أحدهما القول الخارج بالصوت، وهو الذى به تكون عبارة اللسان
4
عما فى الضمير.
5
والثانى القول المركوز فى النفس، وهو المعقولات التى تدل
6
عليها الألفاظ.
7
والثالث القوة النفسانية المفطورة فى الإنسان، التى بها يميز التمييز
8
الخاص بالإنسان دون ماسواه من الحيوان، وهى التى بها يحصل للإنسان
9
المعقولات والعلوم والصنائع، وبها تكون الروية، وبها يميِّز بين الجميل
10
والقبيح من الأفعال. وهى توجد لكل إنسان حتى فى الأطفال، لكنها
11
نزرة لم تبلغ بعد أن تفعل فعلها: كقوة رجل الطفل على المشى، وكالنار
12
اليسيرة الضوء التى لا تبلغ أن تحرق الجذع، وفى المجانين والسكران
13
كالعين الحولاء، وفى النائم كالعين المغمضة، وفى المغمى عليه كالعين
14
التى عليها غشاوة من بخار أو غيره.
15
فهذا العلم لما كان يعطى قوانين فى النطق الخارج، وقوانين فى
79
1
النطق الداخل، ويقوّم بما يعطيه من القوانين فى الأمرين النطق الثالث
2
الذى هو فى الإنسان بالفطرة، ويسدده حتى لا يفعل فعله فى الأمرين إلا
3
على أصوب ما يكون وأتمه وأفضله، سمى باسم مشتق من النطق الذى يقال
4
على الأنحاء الثلاثة؛ كما أن كثيرا من الكتب التى تعطى قوانين فى النطق
5
الخارج فقط من كتب أهل العلم فى النحو تسمى باسم المنطق.
6
وبِّين أن الذى يسدّد نحو الصواب فى جميع أنحاء النطق أحرى
7
بهذا الاسم.
8
وأما أجزاء المنطق فهى ثمانية: وذلك أن أنواع القياس وأنواع
9
الأقاويل التى يلتمس بها تصحيح رأى أو مطلوب فى الجملة ثلاثة،
10
وأنواع الصنائع التى فعلها بعد استكمالها أن تستعمل القياس فى المخاطبة
11
فى الجملة خمسة: برهانية وجدلية وسوفسطائية وخطبية وشعرية.
12
فالبرهانية هى الأقاويل التى شأنها أن تفيد العلم اليقين فى المطلوب الذى
13
نلتمس معرفته، سواء استعملها الإنسان فيما بينه وبين نفسه فى استنباط
14
ذلك المطلوب، أو خاطب بها غيره، أو خاطبه بها غيره فى تصحيح ذلك
15
المطلوب: فإنها فى أحوالها كلها شأنها أن تفيد العلم اليقين، وهو العلم الذى
80
1
لا يمكن أصلًا أن يكون خلافه، ولايمكن أن يرجع الإنسان عنه، ولا أن
2
يعتقد فيه أنه يمكن أن يرجع عنه، ولاتقع عليه فيه شبهة تغلظه ولامغالطة
3
تزيله عنه، ولا ارتياب ولاتهمة له بوجه ولا بسبب.
4
والأقاويل الجدلية هى التى شأنها أن تستعمل فى أمرين:
5
أحدهما أن يلتمس السائل بالأشياءالمشهورة التى يعترف بها جميع الناس
6
غلبة المجيب فى موضع يضمن المجيب حفظه أو نصرته بالأقاويل
7
المشهورة أيضا. ومتى التمس السائل غلبة المجيب من جهات وبأقاويل ليست
8
مشهورة، والتمس المجيب حفظ ما وضعه أو نصرته بالأقاويل التى ليست
9
مشهورة لم يكن فعلهما ذلك فعلًا على طريق الجدل.
10
والثانى فى أن يلتمس بها الإنسان إيقاع الظن القوى فى رأى قصد
11
تصحيحه إما عند نفسه وإما عند غيره حتى يخيل أنه يقين من غير أن
12
يكون يقينًا.
13
والأقاويل السوفسطائية هى التى شأنها أن تغلّط وتضلّل وتلّبس
14
وتوهم فيما ليس بحق أنه حق، وفيما هو حق أنه ليس بحق، وتوهم فيمن
81
1
ليس بعالم أنه عالم نافذ، وتوهم فيمن هو حكيم عالم أنه ليس كذلك.
2
[وهذا الاسم، أعنى السفسطة، اسم المهنة التى بها يقدر الإنسان على
3
المغالطة والتموية والتلبيس بالقول والإيهام، إما فى نفسه أنه ذو حكمةً
4
وعلم وفضل، أو فى غيره أنه ذو نقص، من غير أن يكون كذلك فى
5
الحقيقة، وإما فى رأى حق أنه ليس بحق، وفيما ليس بحق أنه حق.
6
وهو مركب فى اليونانية من (سوفيا)، وهى الحكمة، ومن (اسطس)،
7
وهو المموِّه. فمعناه حكمة مموِّهة. وكل من له قدرة على التمويه
8
والمغالطة بالقول فى أى شىء كان، سمى بهذا الاسم، وقيل إنه سوفسطائى.
9
وليس كما ظن قوم أن (سوفسطا) اسم إنسان كان فى الزمان القديم،
10
وأن مذهبه إبطال الإدراك والعلوم، وشيعته الذين يتبعون رأيه وينصرون
11
مذهبه يسمون سوفسطائيين، وكل من رأى رأىَ ذلك الرجل ونصر
12
مذهبه سمى بهذا الاسم: فإن هذا ظن غى جدًا، فإنه لم يكن فيما
82
1
سلف إنسان كان مذهبه إبطال العلوم والإدراك، يلقب بهذا اللقب،
2
ولا القدماء سموا بهذا الاسم أحدًا، لأجل أنهم نسبوه إلى إنسان
3
كان يلقب بسوفسطا، بل إنما كانوا يسمون الإنسان بهذا الاسم لأجل
4
مهنته ونوع مخاطبته وقدرته على جودة الفالطة والتمويه، كائنًا من كان من
5
الناس، كمالا يسمون الإنسان جدليًا لانه ينسب إلى إنسان كان يلقب
6
بجدل، بل يسمونه جدليًا لمهنته ونوع مخاطبته ولقدرته على
7
حسن استعماله صناعته كائنًا من كان من الناس. فمن كانت له هذه القوة
8
والصناعة فهو سوفسطائى، ومهنته هى السوفسطائية، وفعله الكائن عن
9
مهنته فعل سوفسطائى.
10
والأقاويل الخطبية هى التى شأنها أن يلتمس بها إقناع الإنسان
11
فى أى رأى كان، وأن يميل ذهنه إلى أن يسكن إلى ما يقال له ويصدق
12
به تصديقًا ما، إما أضعف وإما أقوى: فإن التصديقات الإقناعية هى
13
دون الظن القوى، وتتفاضل فيكون بعضها أزيد من بعض على حسب
14
تفاضل الأقاويل فى القوة وما يستعمل معها: فإن بعض الأقاويل المقنعة
15
يكون أشفى وأبلغ وأوثق من بعض؛ كما يعرض فى الشهادات: فإنها
16
كلما كانت أكثر فإنها أبلغ فى الإقناع وإيقاع التصديق بالخبر وأشفى،
83
1
ويكون سكون النفس إلى ما يقال أشد؛ غير أنها ــ على تفاضل
2
إقناعاتها ــ ليس منها شىء يوقع الظن المقارب لليقين: فبهذا تخالف
3
الخطابة الجدل فى هذا الباب.
4
والأقاويل الشعرية هى التى تركب من أشياء شأنها أن تخيِّل فى الأمر
5
الذى فيه المخاطبة حالًا ما أو شيئًا أفضل أو أخس، وذلك إما
6
جمالًا أو قبحًا أو جلالةً أو هوانًا، أو غير ذلك مما يشاكل هذه.
7
ويعرض لنا عند استماعنا الأقاويل الشعرية عن التخييل
8
الذى يقع عنها فى أنفسنا شبيه بما يعرض عند نظرنا إلى الشىء الذى يشبه
9
ما نعاف: فإننا من ساعتنا يخيَّل لنا فى ذلك الشىء أنه مما يعاف،
10
فتنفر أنفسنا منه، فنتجنبه وإن تيقنا أنه ليس فى الحقيقة كما خيَّل لنا،
84
1
فنفعل فيما تخيّله لنا الأقاويل الشعرية، وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك،
2
كفعلنا فيها لو تيقنا أن الأمر كما خيّله لنا ذلك القول: فإن الإنسان
3
كثيرًا ما تتبع أفعاُله تخيلاته أكثرمماتتبع ظنه أو علمه، لأنه كثيرًا
4
ما يكون ظنه أو علمه، مضادأ لتخيله فيكون فعله الشىء بحسب تخيله
5
لابحسب ظنه أو علمه، كما يعرض عند النظر إلى التماثيل المحاكية للشىء
6
وإلى الأشياء الشبيهة بالأمور.
7
وإنما تستعمل الأقاويل الشعرية فى مخاطبة إنسان يستنهض لفعل
8
شىء ما باستفزازه إليه واستدراجه نحوه: وذلك إما بأن يكون
9
الإنسان المستدرج لاروية له ترشده فينهض نحو الفعل الذى
85
1
يلتمس منه بالتخييل فيقوم له التخييل مقام الروية، وإما أن يكون
2
إنسانا له روية فى الذى يلتمس منه، ولا يؤمن إذا روَّى فيه أن
3
يمتنع، فيعاجل بالأقاويل الشعرية لتُسبق بالتخييل رويته، حتى يبادر
4
إلى ذلك الفعل، فيكون منه بالعجلة قبل أن يستدرك برويته مافى عقى
5
ذلك الفعل، فيمتنع منه أصلا، أو يتعقبه فيرى أن لا يستعجل فيه
6
ويؤخره إلى وقت آخر. ولذلك صارت هذه الأقاويل الشعرية دون
7
غيرها تجمل وتزين وتفخم ويجعل لها رونق وبهاء بالأشياء التى ذكرت
8
فى علم المنطق.
9
فهذه أصناف القياسات والصنائع القياسية، وأصناف المخاطبات
10
التى تستعمل لتصحيح شىء ما فى الأمور كلها؛ وهى فى الجملة خمسة:
11
يقينية، وظنية، ومغلّطة، ومقنعة، ومخيّلة.
12
وكل واحدة من هذه الصنائع الخمس لها أشياء تخصها، ولها أشياء
13
أخر تشترك فيها.
86
1
والأقاويل القياسية، سواء كانت مركوزة فى النفس أو خارجة
2
بالصوت، فهى مؤلفة: أما المركوزة فى النفس فمن معقولات كثيرة
3
مرتبطة مرتبة تتعاضد على تصحيح شىء واحد؛ والخارجة بالصوت
4
فمن ألفاظ كثيرة مرتبطة مرتبة تدل على تلك المعقولات وتساويها،
5
فتصير بإقترانها إليها مترادفة ومتعاونة على تصحيح شىء عند السامع.
6
وأقل الأقاويل الخارجة هى مركبة من لفظين لفظين؛ وأقل
7
الأقاويل المركوزة مركبة من معقولين مفردين معقولين
8
مفردين. وهذه هى الأقاويل البسيطة.
9
والأقاويل القياسية إنما تؤلف عن الأقاويل البسيطة فتصير آقاويل مركبة.
10
واقل الأقاويل المركبة ماكان مركبًا عن قولين بسيطين، وأكثرها غير
11
محدود. فكل قول قياسى فأجزاؤه العظمى هى الأقاويل البسيطة،
12
وأجزاؤه الصغرى، وهى أجزاء أجزائه، هى المفردات من المعقولات
13
والألفاظ الدالة عليها.
14
فتصير أجزاء المنطق بالضرورة ثمانية، كل جزء منها فى
15
كتاب:
87
1
الأول فيه قوانين المفردات من المعقولات والألفاظ الدالة عليها.
2
وهو فى الكتاب الملقب أما بالعربية فالمقولات وباليونانية
3
(قاطيغورياس).
4
والثانى فيه قوانين الأقاويل البسيطة التى هى المعقولات المركبة من
5
معقولين مفردين معقولين مفردين والألفاظ الدالة عليها المركبة من
6
لفظين لفظين. وهو فى الكتاب الملقب إما بالعربية فالعبارة،
7
وباليونانية (بارى إرمينياس).
8
والثالث فيه الأقاويل التى تُسبَر بها القياسات المشتركة للصنائع
9
الخمس، وهى فى الكتاب الملقب، إما بالعربية فالقياس وباليونانية
10
(أنالوطيقا الأولى).
11
والرابع فيه القوانين التى تمتحن بها الأقاويل البرهانية وقوانين الأمور
12
التى تلتئم بها الفلسفة، وكل ماتصير به أفعالها أتم وأفضل وأكمل. وهو
13
بالعربية كتاب البرهان، وباليونانية (أنالوطيقا الثانية).
14
والخامس فيه الأقاويل التى تمتحن بها الأقاويل الجدلية وكيفية السؤال
15
الجدلى والجواب الجدلى، وبالجملة قوانين الأمورالتى تلتئم بها صناعة الجدل
88
1
تصير بها أفعالها أكمل وأفضل وأنفذ؛ وهو بالعربية كتاب (المواضع
2
الجدلية) وباليونانية (طوبيقا).
3
والسادس فيه أولًا قوانين الأشياء التى شأنها أن تغلط عن الحق وتلبِّس
4
وتحيّر، وإحصاء جميع الأمور التى يستعملها من قصد التمويه والمخرقة
5
فى العلوم والأقاويل؛ ثم من بعدها إحصاء جميع ما ينبغى أن تتلقى به
6
الأقاويل المغلطة التى يستعملها المشنّع والمموِّه، وكيف تُفسخ،
7
وبأى الأشياء تدفع، وكيف يتحرّز الإنسان من أن يغلط فى مطلوباته
8
أو يغالط. وهذا الكتاب يسمى باليونانية (سوفسطيقا) ومعناه الحكمة
9
المموّهة.
10
والسابع فيه القوانين التى تُمتحن وتُسبَر بها الأقاويل الخطبية
11
وأصناف الخطب وأقاويل البلغاء والخطباء، فيُعلم هل على مذهب
12
الخطابة أم لا؛ ويحصى فيها جميع الأمور التى تلتئم بها صناعة الخطابة،
13
ويعرف كيف صنعة الأقاويل الخطبية والخطب فى فن فن من
14
الأمور، وبأى الأشياء تصير أجود وأكمل، وتكون أفعالها أنفذ وأبلغ.
15
وهذا الكتاب يسمى باليونانية (ريطوريقا) وهو الخطابة.
16
والثامن فيه القوانين التى تُسبر بها الأشعار وأصناف الأقاويل الشعرية
17
المعمولة والتى تعمل فى فن فن من الأمور، ويحصى أيضًا جميع الأمور
89
1
التى تلتئم بها صناعة الشعر، وكم أصنافها وكم أصناف الأشعار
2
والأقاويل الشعرية، وكيف صنعة كل صنف منها ومن أى الأشياء
3
يعمل، وبأى الأشياء يلتئم ويصير أجود وأفخم وأبهى وألذ
4
وبأى أحوال ينبغى أن يكون حتى يصير أبلغ وأنفذ. وهذا
5
الكتاب يسمى باليونانية (بويوطيقا) وهو كتاب الشعر.
6
فهذه أجزاء المنطق، وجملة ما يشتمل عليه كل جزء منها.
7
والجزء الرابع هو أشدها تقدمًا بالشرف والرياسة[*]والرياسة Middle Arabic for والرئاسة. والمنطق إنما
8
التمس به على القصد الأول الجزء الرابع، وباقى أجزائه إنما عمل
9
لأجل الرابع: فإن الثلاثة التى تقدمه فى ترتيب التعليم هى توطئات
10
ومداخل وطرق إليه، والأربعة الباقية التى تتلوه فلشيئين:
11
أحدهما أن فى كل واحد منها إرفادًا ما ومعونة، على أنها كالآلات
12
للجزء الرابع، ومنفعة بعضها أكثر وبعضها أقل.
90
1
والثانى على جهة التحريز: وذلك أنها لو لم تتميز هذه الصنائع بعضها
2
عن بعض بالفعل حتى تعرف قوانين كل واحدة منها على انفرادها
3
متميزة عن قوانين الأخر، لم يأمن الإنسان عند التماسه الحق
4
واليقين أن يستعمل الأشياءالجدلية، من حيث لايشعر أنها جدلية فتعدل به
5
عن اليقين إلى الظنون القوية؛ أو يكون قد استعمل من حيث لا يشعر
6
أمورًا خطبية، فتعدل به الى الإقناع، أو يكون قد استعمل
7
المخلّطات من حيث لايشعر: فإما أن توهمه فيما ليس بحق أنه حق فيعتقده
8
وإما ان تحيره، أو يكون قد استعمل الأشياء الشعرية، من حيث لايشعر
9
أنها شعرية، فيكون قد عمل فى اعتقاداته على التخيلات وعند نفسه
10
أنه سلك فى هذه الأحوال الطربق إلى الحق فصادف ملتمسه ولايكون
11
صادفه على الحقيقة، كما أن الذى يعرف الأغذية والأدوية إن لم تتميز
12
له السموم عن هذه بالفعل حتى يتيقن معرفتها بعلاماتها، لم يأمن
13
أن يتناولها على أنها غذاء أو دواء من حيث لايشعر فيتلف.
14
وأما على القصد الثانى فإنه يكون قد أعطى أيضًا أهل كل صناعة
91
1
من الصنائع الأربع جميع ما تلتئم به تلك الصناعة، حتى يدرى الإنسان إذا
2
أراد أن يكون جدليًا بارعا كم شىء يحتاج إلى تعلمه ويدرى بأى شىء
3
يمتحن على نفسه أو على غيره أقاويله، ليعلم هل سلك فيها طريق
4
الجدل أولا؛ ويدرى إذا أراد أن يصير خطيبًا بارعًا كم شىء يحتاج
5
إلى تعلمه، ويدرى بأى الأشياء يمتحن على نفسه أو على غيره، ليعلم هل
6
سلك فى أقاويله طريق الخطابة أو طريق غيرها. وكذلك يدرى إذا
7
أراد أن يصير شاعرًا بارعًا كم شىء يحتاج أن يتعلمه، ويدرى بأى
8
الأشياء يمتحن على نفسه وعلى غيره من الشعراء، ليعلم هل سلك
9
فى أقاويله طريق الشعر أو عدل عنه وخلط به طريقا غيره. وكذلك
10
يدرى إذا أراد أن يكون له القدرة على بأى يغالط غيره ولا يغالطه
11
أحد كم شىء يحتاج الى أن يعلمه، ويدرى أن الأشياء يمكن أن يمتحن
12
كل قول وكل رأى، فيعلم هل غلط هو فيه أو غولط، ومن أى
13
جهة كان ذلك.
93
1
تافصل الثالث
2
فى علم التعَاليِم
3
وهذا لعلم ينقسم إلى سبعة أجزاء عظمى أحصيناها فى أول
4
الكتاب.
5
علم العدد
6
أما علم العدد فإن الذى يعرف بهذ الاسم علمان:
7
أحدهما علم العدد العملى، والآخر علم العدد النظرى.
8
فالعملى يفحص عن الأعداد من حيث هى أعداد معدودات تحتاج إلى
9
أن يضبط عددها من الأجسام وغيرها، مثل رجال أو أفراس
10
أو دنانير أو دراهم أو غير ذلك من الأشياء ذوات العدد؛ وهى التى
11
يتعاطاها الجمهور فى المعاملات السوقية والمعاملات المدنية.
12
وأما النظرى فإنه إنما يفحص عن الأعداد بإطلاق على أنها مجردة
13
فى الذهن عن الأجسام وعن كل معدود منها، وإنما ينظر فيها مخلصة
14
عن كل ما يمكن أن يعدّ بها من المحسوسات، ومن جهة ما يعم جميع
94
1
الأعداد التى هى أعداد المحسوسات وغير المحسوسات. وهذا هو الذى
2
يدخل فى جملة العلوم.
3
فعلم العدد النظرى يفحص عن الأعداد على الإطلاق وعن كل
4
ما يلحقها فى ذواتها مفردة من غير أن يضاف بعضها إلى بعض، وهى
5
مثل الزوج والفرد، وعن كل ما يلحقها عندما يضاف بعضها إلى بعض،
6
وهو التساوى والتفاضل وأن يكون عدد جزءًا لعدد أو أجزاء له
7
أو ضعفه أو مثله أو زيادة جزء أو أجَزاء، أو أن تكون متناسبة
8
أو غير متناسبة ومتشابهة أو غير متشابهة ومتشاركة أو متباينة
9
ثم يفحص عما يلحقها عند زيادة بعضها على بعض وجمعها، وعند نقص
10
بعضها عن بعض وتفريقها، من تضعيف عدد بعدة آحاد أعداد
11
أخر ومن تقسم عدد إلى أجزاء بعدة آحاد عدد آخر، مثل أن
12
يكون العدد مربعًا أو مسطحا أو مجسما أو تامًا أو غير تام؛ فإنه
13
يفحص عن هذه كلها وعما يلحقها عندما يضاف بعضها إلى بعض،
95
1
ويعرف كيف الوجه فى إستخراج أعداد من أعداد معلومة. وبالجملة
2
فى استخراج كل ماسبيله أن يستخرج من الأعداد.
3
علم الهندسة:
4
وأما علم الهندسة فالذى يعرف بهذا الإسم شيئان: هندسة عملية،
5
وهندسة نظرية:
6
فالعملية منها تنظر فى خطوط وسطوح فى جسم خشب إن كان الذى
7
يستعملها نجارًا، أو فى جسم حديد إن كان الذى يستعملها حدادًا، أو فى
8
جسم حائط إن كان الذى يستعملها بنَّاء، أو سطوح أرضين ومزارع إن كان
9
ماسحًا؛ وكذلك كل صاحب هندسة عملية فإنه إنما يصور فى نفسه
10
خطوطًا وسطوحًا وتربيعًا وتدويرًا وتثليثًا فى جسم هوالمادة التى
11
هى الموضوعة لتلك الصناعة العملية.
12
والنظرية إنما تنظر فى خطوط وسطوح أجسام على الإطلاق والعموم
13
وعلى وجه يعم سطوح جميع الأجسام، ويصور فى نفسه الخطوط بالوجه
14
العام الذى لا يبالى فى أى جسم كان، ويتصور فى نفسه السطوح
15
والتربيع والتدوير والتثليث بالوجه الأعم الذى لا يبالى فى أى جسم
16
كان ويتصور المجسمات بالوجه الأعم الذى لا يبالى فى أى جسم
17
كانت وفى أى مادة ومحسوس كانت، بل على الإطلاق من غير أن يقيم
96
1
فى نفسه مجسمًا هو خشب أو مجسمًا هو حائط أو مجسمًا هو حديد، ولكن
2
المجسم العام لهذه.
3
وهذا العلم هو الذى يدخل فى جملة العلوم، وهو يفحص فى الخطوط
4
وفى السطوح وفى المجسمات على الإطلاق عن أشكالها ومقاديرها وتساويها
5
وتفاضلها، وعن أصناف أوضاعها وترتيبها، وعن جميع ما يلحقها مثل
6
النقط والزوايا وغير ذلك؛ ويفحص عن المتناسبة وغير المتناسبة، وعن
7
التى هى منها معطيات وما ليس بمعطيات، وعن المتشاركة منها والمتباينة،
8
والمنطقات منها والصم، وعن أصناف هذين؛ ويعرف الوجه فى
9
صنعه كل ما سبيله منها أن يعمل، وكيف الوجه فى استخراج كل
10
ما كان سبيله منها أن يستخرج، ويعرف أسباب هذه كلها، ولم هى كذلك
11
ببراهين تعطينا العلم اليقين الذى لا يمكن أن يقع فيه الشك. فهذه
12
جملة ما تنظر فيه الهندسة.
13
وهذا العلم جزءان: جزء ينظر فى الخطوط والسطوح، وجزء
14
ينظر فى المجسمات.
15
والذى ينظر فى المجسمات ينقسم على حسب أنواع المجسمات منها مثل
16
المكعب والمخروط والكرة والأسطوانة والمنشورات والصنوبرى.
17
والنظر فى جميع هذه على وجهين:
97
1
أحدهما: أن ينظر فى كل واحد منها على حياله، مثل النظر فى
2
الخطوط على حيالها والسطوح على حيالها والمكعب على حياله
3
والمخروط على حياله.
4
والآخر: أن ينظر فيها وفى لواحقها عندما يضاف بعضها إلى
5
بعض: وذلك إما بقياس بعضها إلى بعض، فينظر فى تساويها وتفاضلها
6
أو غير هذين من لواحقها، وإما أن يوضع بعضها مع بعض وترتب،
7
مثل أن توضع وترتب خطًا فى سطح أو سطحًا فى مجسم أو سطحا فى سطح
8
أو مجسًا فى مجسم.
9
وبنبغى أن يعلم أن للهندسة والأعداد أركانًا وأصولًا وأشياء أخرى
10
نشأت عن تلك الأصول. أما الأصول فمحدودة، وأما التى نشأت عن
11
الأصول فغير محدودة.
12
والكتاب المنسوب إلى إقليدس الفيثاغورى فيه أصول الهندسة
13
والعدد وهو المعروف بكتاب (الاسطقسات). والنظر فيها بطريقين:
14
طريق التحليل وطريق التركيب.
15
والأقدمون من أهل هذا العلم كانوا يجمعون فى كتبهم بين الطريقين
98
1
إلا إقليدس فإنه نظم ما فى كتابه عن طريق التركيب وحده.
2
علم المناظر:
3
وعلم المناظر يفحص عما يفحص عنه علم الهندسة من الأشكال
4
والأعظام والترتيب والأوضاع والتساوى والتفاضل وغير ذلك، ولكن
5
على أنها فى خطوط وسطوح ومجسمات على الإطلاق
6
فيكون نظر الهندسة أعم. وانما احتيج الى أن يفرد علم المناظر،
7
وإن كان داخلا فى جملة مافحصت عنه الهندسة: لأن كثيرًا من التى يلزم
8
فى الهندسة أنها على حال مامن شكل أو وضع أو ترتيب أو غير ذلك، تصير
9
أحوال عندما ينظر إليها على ضد ذلك: وذلك أن التى هى فى الحقيقة
10
مربعات إذا نظر إليها من بُعدٍ ما، ترى مستديرة، [والمتوالية متفاضلة
11
متساوية]، وكثير مماهى موضوعة فى سطح واحد يظهر بعضها أخفض
12
وبعضها أرفع، وكثير مما هى متقدمة تظهر متأخرة، وأشباه هذه كثيرة.
13
ويميز بهذا العلم بين ما يظهر فى البصر بخلاف ما هو عليه بالحقيقة
14
وبين ما يظهر على ما هو بالحقيقة، ويعطى أسباب هذه كلها، ولم هى
15
كذلك ببراهين يقينية، ويعرف فى كل مايمكن أن يغلط فيه البصر وجوه
16
الحيل فى أن لا يغلط، بل يصادف الحقيقة فيما ينظر إليه من الشىء
17
ومقداره وشكله ووضعه وترتيبه وسائرما يمكن أن يغلط فيه البصر.
99
1
وبهذه الصناعة يمكن الإنسان أن يقف على مساحة ما بَعُد من
2
الأعظام بعدًا يتعذر معه الوصول إليه، وعلى مقادير أبعادها منا
3
وأبعاد بعضها من بعض: وذلك مثل ارتفاعات الأشجار الطوال
4
والحيطان وعروض الأودية والأنهار، بل ارتفاعات الجبال وأعماق
5
الأودية والأنهار بعد أن يقع البصر على نهاياتها ثم أبعاد الغيوم
6
وغيرها عن المكان الذى نحن فيه، وبحذاء أى مكان من الأرض
7
ثم أبعاد الأجسام السماوية ومقاديرها أيما يمكن أن ينظر اليها عن انحراف
8
مناظرها. وبالجملة كل عظم التمس الوقوف على مقداره أو بعده عن شىء ما
9
بعد أن يقع عليه البصر. فبعضه بآلات تعمل لتسديد البصر حتى
10
لا يغلط وبعضها بلا آلات.
11
فكل ما ينظر إليه ويرى فإنما يرى بشعاع ينفذ فى الهواء أو
12
فى جسم مشفّ يماس ما بين بصائرنا إلى أن يقع على الشىء المنظور إليه.
100
1
والشعاعات النافذة فى الأجسام المشفة إلى المنظور إليه إما أن تكون
2
مستقيمة أو منعطفة وإما منعكسة وإما منكسرة.
3
فالمستقيمة هى التى إذا خرجت عن البصر امتدت على استقامة سمْت
4
البصر إلى أن تجوز وتنقطع.
5
والمنعطفة هى التى إذا امتدت نافذةً من البصر تلقاها فى طريقها
6
من قبل أن تجوز مرآة تعوقها عن النفوذ على استقامة، فتنعطف
7
منحرفةً إل أحد جوانب المرآة، ثم تمتد فى الجانب الذى انحرفت إليه مارةً
8
إلى مابين يدى الناظر [بمثل هذا الشكل] .
9
والمنعكسة هى التى ترجع عن المرآة فى طريقها التى كانت سلكتها أولًا
101
1
حتى تقع على جسم الناظر الذى من بصره خرجت فيرى الإنسان الناظر
2
نفسه بذلك الشعاع نفسه.
3
والمنكسرة هى التى ترجع من المرآة إلى جهة الناظر الذى من بصره
4
خرجت فتمتد منحرفة عنه إلى أحد جوانية فتقع على شىء
5
آخر إما خلف الناظر أو عن يمينه أو عن يساره أو من فوقه،
6
فيرى الإنسان ما خلفه أو ما فى أحد جوانبه الأخر، [ويكون
7
رجوعها على هذا الشكل] :
8
[والمتوسط بين البصر وبين المنظور إليه] والمرآة هى
102
1
بالجملة الأجسام المشفّة: إماهواء أو ماء أو جسم ما سماوى أو بعض
2
الأجسام المركبة لدينا من زجاج او ما جانسه.
3
والمرايا التى تردّ الشعاعات وتمنعها من النفوذ على سمتها إما أن
4
تكون من المرايا المعمولة مما لدينا من حديد أو غيره، وإما أن
5
تكون بخارًا غليظًا رطبًا وإما ماء وإما جسما آخر إن كان مثل هذا.
6
فعلم المناظر يفحص عن كل ما يرى وينظر إليه بهذه الشعاعات الأربع
7
وفى كل واحدة من المرايا، وعن كل ما يلحق المنظور إليه.
8
وهو ينقسم قسمين:
9
أولهما: الفحص عما ينظر إليه بالشعاعات المستقيمة.
10
والثانى: الفحص عما ينظر إليه بالشعاعات غير المستقيمة، هو
11
المخصوص بعلم المرايا.
12
علم النجوم:
13
وأما علم النجوم فإن الذى يعرف بهذا الاسم علمان:
14
أحدهما: علم أحكام النجوم، وهو علم دلالات الكواكب على
103
1
ماسيحدث فى المستقبل، وعلى كثير مما هو الآن موجود، وعلى كثير
2
مما تقدم.
3
والثانى: علم النجوم التعليمى؛ وهو الذى يعدّ فى العلوم وفى التعاليم
4
وأما ذاك فإنه إنما يعدّ فى القوى والمهن التى بها يقدر الإنسان على الإنذار
5
بما سيكون مثل عبارة الرؤيا والزجر والعرافة وأشباه هذه القوى.
6
فعلم النجوم التعليمى يفحص فى الأجسام السماوية وفى الأرض عن
7
ثلاث جمل:
8
أولها: عن أشكالها [وأوضاع بعضها من بعض ومراتبها فى لعالم]
9
ومقادير أجرامها، ونسب بعضها إلى بعض، ومقادير أبعاد بعضها من
10
بعض، وأن الأرض ليس لها بجملتها انتقال لا عن مكانها ولا
11
فى مكانها.
12
والثانية، عن حركات الأجسام السماوية كم هى، وأن حركاتها
104
1
كلها كرية، وما منها يعم جميعها: الكواكب منها وغير الكواكب،
2
وما منها يعم الكواكب كلها ثم الحركات التى تخص كل واحد من الكوا كب
3
وكم كل واحدة من أصناف هذه الحركات والجهات التى إليها تتحرك
4
وعلى أى جهة يتأتى لكل واحد منها هذه الحركة، وتعرف السبيل إلى
5
تحصيل مكان كل كوكب كوكب من أجزاء اليروج فى وقتٍ وقت
6
بحميع أصناف حركاته.
7
ويفحص أيضا عن جميع ما يلحق الأجسام السماوية وكل واحد منها
8
عن الحركات التى لها فى البروج وما يلحقها عند إضافة بعضها إلى بعض من
9
اجتماع وافتراق واختلاف أوضاع بعضها عن بعض.
10
وبالجملة جميع ما يلحقها عن حركاتها خلوًا من إضافتها إلى الأرض، مثل
11
كسوف الشمس، وعن جميع ما يعرض لها لأجل وضع الأرض منها
12
فى المكان الذى هى فيه من العالم مثل خسوف القمر وعن تلك
13
اللواحق وكم هى وفى أى حال وأى وقت يعرض لها ذلك وفى كم زمان
14
مثل التشاريق والتغاريب وغير ذلك.
105
1
والثالثة تفحص فى الأرض عن المعمورة منها وغير المعمورة،
2
وتبين كم هى المعمورة، وكم أقسامها العظمى وهى الأقاليم، وتحصى المساكن
3
التى يتفق أن يكون كل واحد منها فى ذلك الوقت وأين موضع كل مسكن
4
وترتيبه من العالم، وتفحص عما يلزم ضرورة أن يلحق كل واحد من
5
من الأقاليم والمسا كن عن دورة العالم المشتركة للكل، وهى دورة
6
اليوم والليلة، لأجل وضع الأرض بالمكان الذى هى فيه مثل المطالع
7
والمغارب، وطول الأيام والليالى وقصرها وما أشبه ذلك.
8
فهذه جملة ما اشتمل عليه هذا العلم.
9
علم الموسيقى:
10
وأما علم الموسيقى فإنه يشتمل بالجملة على تعرف أصناف الألحان،
11
وعلى ما منه تؤلف، وعلى ما له ألفت، وكيف تؤلف، وبأى
12
أحوال يجب أن تكون حتى يصير فعلها أنفذ وأبلغ.
13
والذى يعرف بهذا الاسم علمان: أحدهما علم الموسيقى العملية،
14
والثانى علم الموسيقى النظرية.
15
فالموسيقى العملية هى التى شأنها أن توجد أصناف الألحان محسوسة
16
فى الآلات التى لها أعدت إما بالطبع وإما بالصناعة.
17
الآلة الطبيعية هى الحنجرة واللهاة وما فيها ثم الأنف؛ والصناعية
18
مثل المزامير والعيدان وغيرها.
106
1
وصاحب الموسيقى العملية إنما يتصور النغم والألحان وجميع
2
لواحقها على أنها فى الآلات التى منها تعوّد إيحادها
3
والنظرية تعطى علمها وهى معقولة؛ وتعطى أسباب كل
4
ما تأتلف منه الألحان، لا على أنها فى مادة بل على الإطلاق، وعلى
5
أنها منتزعة من كل آلة وكل مادة، وتأخذها على أنها مسموعة على
6
العموم ومن أى آلة اتفقت ومن أى جسم اتفق.
7
وينقسم علم الموسيقى النظرى إلى أجزاء عظمى خمسة:
8
أولها: القول فى المبادىء[*]المبادىء Middle Arabic for المبادئ والأوائل التى شأنها أن تستعمل فى
9
استخراج ما فى هذا العلم، وكيف الوجه فى استعمال تلك المبادىء[*]المبادىء Middle Arabic for المبادئ، وبأى
10
طريق تستنبط هذه الصناعة، ومن أى الأشياء، ومن كم شىء تلتئم، وكيف
11
ينبغى أن يكون الفاحص عما فيها.
12
والثانى القول فى أصول هذه الصناعة، وهو القول فى استخراج النغم
13
وكم عددها وكيف هى؛ وكم أصنافها، وتبيين نسب بعضها إلى بعض
14
والبراهين على جميع ذلك، والقول فى أصناف أوضاعها وترتيباتها التي بها
15
تصير موطأة لأن يأخذ الآخذ منها ما شاء فيركب منها الألحان.
107
1
والثالث: القول فى مطابقة ما تبين فى الأصول بالأقاويل
2
والبراهين على أصناف آلات الصناعة التى تعد بها وإيجادها كلها
3
فيها ووضعها منها على التقدير والترتيب الذى تبين فى الأصول.
4
والرابع: القول فى أصناف الإيقاعات الطبيعية التى هى اوزان النغم.
5
والخامس: فى تأليف الألحان فى الجملة، ثم تأليف الألحان الكاملة،
6
وهى الموضوعة فى الأقاويل الشعرية المؤلفة على ترتيب وانتظام، وكيفية
7
صنعتها بحسب غرض غرض من أغراض الألحان؛ وتعرف
8
الأحوال التى تصير بها أبلغ وأنفذ فى بلوغ الغرض الذى له عملت.
9
علم الأثقال:
10
أما علم الأثقال فإنه يشتمل من أمر الأثقال على شيئين: إما على
11
النظر فى الأثقال من حيث تقدّر أو يُقدّر بها، [وهو الفحص عن أصول
12
القول فى الموازين. وإما على النظر فى الأثقال التى تحرّك أو يحرك بها؛]
108
1
وهو الفحص عن أصول الآلات التى ترفع بهاء الأشياء الثقيلة وتنقل من
2
مكان إلى مكان.
3
علم الحيل:
4
وأما علم الحيل فإنه علم وجه التدبير فى مطابقة جميع ما يبرهن وجوده
5
فى التعاليم التى سلف ذكرها بالقول والبرهان على الأجسام الطبيعية وإيجادها
6
ووضعها فيها بالفعل. وذلك أن تلك العلوم كلها إنما تنظر فى الخطوط
7
والسطوح والمجسمات وفى الأعداد وسائر ما تنظر على أنها معقولة
8
وحدها ومنتزعة من الأجسام الطبيعية. ويحتاج عند إيحاد هذه وإظهارها
9
بالإرادة والصنعة فى الأجسام الطبيعية والمحسوسات [إلى قوة يدبَّر بها
10
إيحادها فيها] ومطابقتها عليها من قِبَل أن للمواد والأجسام المحسوسة
11
أحوالًا تعوق عن أن توضع فيها [تلك التى تبينت بالبراهين عندما يلتمس
12
أن توضع فيها] كيف اتفق وبأى وجه اتفق، بل يحتاج إلى أن توطأ
13
الأجسام الطبيعية لقبول ما يلتمس من إيحاد هذه فيها، وأن يتلطف فى
14
إزالة العوائق.
15
فعلوم الحيل هى التى تعطى وجوه معرفة التدابيروالطرق فى التلطف
109
1
لإيحاد هذه بالصنعة وإظهارها بالفعل فى الأجسام الطبيعية والمحسوسة.
2
فمنها الحيل العددية، وهى على وجوه كثيرة: منها العلم المعروف عند
3
أهل زماننا بالجبر والمقابلة وماشاكل ذلك. على أن هذا العلم مشترك للعدد
4
والهندسة. وهو يشتمل على وجوه التدابير فى استخراج الأعداد التى
5
سبيلها أن تستعمل فيما أعطى إقليدس أصولها من المنطقة والصم فى المقالة
6
العاشرة من كتابه فى (الاسطقسات) وفيما لم يذكر منها فى تلك المقالة.
7
وذلك أن المنطقة والصم لما كانت نسبة بعضها إلى بعض كنسبة أعداد إلى
8
أعداد كان كل عدد نظيرًا لعظم ما منطق أو أصم. فإذا استخرجت الأعداد
9
التى هى نظائر نسب الأعظام فقد استخرجت تلك الأعظام بوجه ما.
10
فلذلك تجعل بعض الأعداد منطقة لتكون نظائر [للأعظام المنطقة، وبعض
11
الأعداد صما لتكون نظائر) للأعظام الصم.
12
ومنها الحيل الهندسية، وهى كثيرة:
13
منها: صناعة رياسة البناء.
14
ومنها الحيل فى مساحة أصناف الأجسام.
15
ومنها حيل فى صنعة آلات نجومية وآلات موسيقية وإعداد
16
آلات لصنائع كثيرة عملية مثل القسى وأصناف الأسلحة.
17
ومنها: الحيل المناظرية فى صنعة آلات تسدد الإبصار نحو إدراك
110
1
حقيقة الأشياء المنظور إليها البعيدة منها، وفى صنعة المرايا، وفى
2
الوقوف من المرايا على الأمكنة التى تردّ [الشعاعات بأن تعطفها أو تعكسها
3
أو تكسرها. ومن ها هنا أيضا يوقف على الأمكنة التى ترد] شعاعات
4
الشمس إلى أجرام أخر، فتحدث من ذلك صنعة المرايا المحرقة والحيل فيها.
5
ومنها: حيل فى صنعة أوان عجيبة وآلات لصنائع كثيرة.
6
فهذه وأشباهها هى [علوم الحيل وهى] مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ الصناعات
7
المدنية العملية التى تستعمل فى الأجسام والأشكال والأوضاع والترتيب
8
والتقدير مثل الصنائع فى الأبنية والنجارة وغيرها.
9
فهذه هى التعاليم وأصنافها.
111
1
الفصل الرابع
2
فى العِلم الطبيعي والعلم الآلِهَى
3
العلم الطبيعى:
4
فالعلم الطبيعى ينظر فى الأجسام الطبيعية وفى الأعراض التى قوامها فى
5
هذه الأجسام، ويعرف الأشياء التى عنها والتى بها والتى لها توجد هذه
6
الأجسام والأعراض التى قوامها فيها.
7
والأجسام منها صناعية ومنها طبيعية.
8
والصناعية مثل الزجاج والسيف والسرير والثوب؛ وبالجملة كل ماكان
9
وجوده بالصناعة وبإرادة الإنسان.
10
والطبيعية هى التى وجودها لا بالصناعة ولا بإرادة الإنسان مثل
11
السماء والأرض وما بينهما والنبات والحيوان.
12
وحال الأجسام الطبيعية فى هذه الأمور كحال الأجسام
13
الصناعية: وذلك أن الأجسام الصناعية [توجد فيها أمور قوامها
14
بالأجسام الصناعية، وتوجد لها أشياء عنها وجود الأجسام
112
1
الصناعية] وأشياء بها وجودها وأشياء لها وجودها وهذه الصناعية
2
أظهر منها فى الطبيعية.
3
والتى قوامها فى الأجسام الصناعية مثل الصقال فى الثوب والبريق
4
فى السيف والإشفاف فى الزجاج والنقوش فى السرير.
5
والأشياء التى لها توجد الأجسام الصناعية هى الغايات
6
والأغراض التى لها تعمل: مثل الثوب، فإنه عمل ليلبس. والسيف
7
ليقاتل به العدو، والسرير ليتقى به نداوة الأرض، أو لشىء غير
8
ذلك مما يعمل السرير لأجله، والزجاج ليحرز فيه ما لا يؤمن
9
أن يشفه غيره من الأوانى.
10
وأما الغايات والأغراض التى لها توجد الأعراض التى
11
قوامها فى الأجسام الصناعية فمثل صقال الثوب ليتجمل به، وبريق
12
السيف ليرهب العدو، ونقش السرير ليحسن به منظره، وإشفاف
13
الزجاج ليكون ما يجعل فيه مرئيا.
14
والأشياء التى توجد عنها الأجسام الصناعية هى الفاعلة والمكونة لها:
15
مثل النجار الذى عنه وجد السرير، والصيقل الذى عنه
16
وجد ألسيف.
113
1
والأشياء التى بها توجد الأجسام الصناعية فى كل جسم صناعى
2
شيئان مثل ما فى السيف، فإن وجوده بشيئين: بالحدة والحديد؛
3
والحدة هى صيغته وهيئته وبها ينفعل فعله؛ والحديد هو مادته
4
وموضوعه، وهو كالحامل لهيئته وصيغته. والثوب وجوده
5
بشيئين: بالغزل وباشتباك لحمته بسداه؛ والاشتباك هيئته وصيغته
6
والعزل كالحامل للاشتباك، وهو موضوعه ومادته. والسرير أيضا
7
وجوده بشيئين: بالتربيع والخشب؛ والتربيع هيئته وصيغته،
8
والخشب مادته، وهو كالحامل للتر بيع.
9
وكذلك باقى الأجسام الصناعية. وباجتماع هذين والتئامهما
10
يحصل وجود كل واحد منهما بالفعل والكمال وما هيته. وكل واحد من
11
هذه إنما يفعل أو يفعل به أو يستعمل أو ينتفع به فى الأمر الذى لأجله
12
عمل بصيغته إذا حصلت فى مادته :فإن السيف إنما يعمل عمله
13
بحدته والثوب إنما ينتفع بلحمته إذا كانت مشتبكة بسداه. وكذلك باقى
14
الأجسام الصناعية.
15
وتلك حال الأجسام الطبيعية: فإن كل واحد منها إنما وجد لغرض
16
ولغاية. وكذلك كل أمر وعرض قوامه فى الأجسام الطبيعية: فإنه
114
1
أوجد لغرض ولغاية ما. وكل جسم وكل عرض فله فاعل ومكّون
2
عنه وجد: وكل واحد من الأجسام الطبيعية فوجوده وقوامه بشيئين:
3
أحدهما: منزلته منه منزلة حدة السيف من السيف، وهو صيغة ذلك
4
الجسم الطبيعى؛ والثانى منزلته منزلة حديد السيف من السيف؛ وذلك
5
مادة الجسم الطبيعى وموضوعه، وهو كالحامل لصيغته أيضًا، إلا أن
6
السيف والسرير والثوب وغيرها من الأجسام الصناعية تشاهد بالبصر
7
والحس صيغتها وموادها، مثل حدة السيف وحديده وتربيع السرير
8
وخشبه.
9
وأما الأجسام الطبيعية فصيغ جلها، وموادها غير محسوسة وإنما
10
يصح وجودها عندنا بالقياس والبراهين اليقينية.
11
على أنه قد يوجد أيضا فى كثير من الأجسام الصناعية ما ليست
12
صيغتها محسوسة، مثل الخمر: فإنه جسم أوجد بالصناعة؛ والقوة التى
13
بها يسكر غير محسوسة، وإنما يعرف وجودها بفعلها؛ وتلك القوة هى
14
صورة الخمر وصيغتها؛ ومنزلتها من الخمر منزلة الحدة من السيف: إذ كانت
15
تلك القوة هى التى بها تفعل الخمر فعلها. وكذلك الأودية المركبة بصناعة
16
الطب مثل الترياق وغيره. فإنها إنما تفعل فى الأبدان بقوى
17
تحدث فيها بالتركيب؛ وتلك القوى غير محسوسة، وإنما يشاهد بالحس
115
1
الأفعال الكائنة عن تلك القوى. فكل دواء إنما يصير دواء
2
بشيئين: بالأخلاط التى منها ركب، وبالقوة التى بها يفعل فعله؛ والأخلاط
3
مادته، والقوة التى بها يفعل فعله صيغته؛ ولو بطلت تلك القوة منه
4
لما كان دواء: كما تبطل حدة السيف فلا يكون سيفًا، وكما يبطل
5
من الثوب التحام سداه بلحمته فلا يكون حينئذ ثوبًا.
6
فعلى هذا المثال ينبغى أن تفهم صيغ الأجسام الطبيعية وموادها:
7
فإنها إن كانت لا تشاهد بالحس صارت كالمواد والصيغ التى لاتشاهد
8
بالحس من مواد الأجسام الصناعية وصيغتها: وذلك مثل جسم العين
9
والقوة التى بها يكون الإبصار، ومثل جسم اليد والقوة التى
10
بها يكون البطش. وكذلك كل واحد من الأعضاء: فإن قوة العين
11
غير مرئية، ولا تشاهد أيضا بشىء من هذه الحواس الأخر،
12
بل إنما تعقل عقلا. وتسمى القوى الأخر التى فى الأجسام الطبيعية
13
صيغًا وصورًا على طريق التشبيه بصور الأجسام الصناعية: فإن
14
الصيغة والصورة والخلقة[*]والخلقة corrupt for والخليقة [according to Schupp 2005, 242, n. 16] تكاد أن تكون أسماء مترادفة تدل عند
15
الجمهور على أشكال الحيوان والأجسام الصناعية، فنقلت فجعلت
116
1
أسماء للقوى والأشياء التى منزلتها فى الأجسام الطبيعية منزلة الخلق
2
والصيغ والصور فى الأجسام الصناعية على طريق التشبيه، إذ كانت
3
العادة فى الصنائع أن تنقل إلى الأشياء التى فيها الأسماء التى يوقعها
4
الجمهور على أشباه تلك الأشياء.
5
ومواد الأجسام وصورها وفاعلها والغايات التى لأجلها وجدت
6
تسمى مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ الأجسام، وإن كانت لأعراض الأجسام تسمى
7
مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ الأعراض التى فى الأجسام.
8
والعلم الطبيعى يعرف الأجسام الطبيعية بأن يضع ما كان منها
9
ظاهر الوجود وضعًا، ويعرف من كل جسم طبيعى مادته وصورته
10
وفاعله والغاية التى لأجلها وجد ذلك الجسم. وكذلك فى أعراضها
11
فإنه يعرف ما به قوامها والأشياء الفاعلة لها والغايات التى لأجلها
12
فعلت تلك الأعراض. فهذا العلم يعطى مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ الأجسام الطبيعية
13
ومبادىء[*]ومبادىء Middle Arabic for ومبادئ أعراضها.
14
والأجسام الطبيعية منها بسيطة ومنها مركبة. فالبسيطة هى الأجسام
15
التى وجودها لا عن أجسام أخر غيرها والمركبة هى التى وجودها
16
عن اجسام أخر غيرها مثل الحيوان والنبات.
117
1
وينفسم العلم الطبيعى ثمانية أجزاء عظمى:
2
أولها: الفحص عما تشترك فيه الأجسام الطبيعية كلها البسيطة
3
منها والمركبة من المبائ والأعراض التابعة لتلك المبادىء[*]المبادىء Middle Arabic for المبادئ [وهذا
4
كله فى( السماع الطبيعى)].
5
والثانى: الفحص عن الأجسام البسيطة هل هى موجودة: فإن
6
كانت موجودة فأى أجسام هى؟ وكم عددها؟ [وهذا هو النظر
7
فى العالم ما هو وما أجزاؤه الأول وكم هى، وأنها فى الجملة ثلاثة
8
أو خمسة وهو النظر فى السماء عن سائر أجزاء العالم وأن مادة ما
9
فيها واحدة. وهو فى الجزء الأول من المقالة الأولى من كتاب ( السماء
10
والعالم)] ثم الفحص بعد ذلك عن اسطقسات الأجسام المركبة
11
هل هى فى هذه البسيطة التى تبين وجودها، أم هى أجسام أخر
12
خارجة عنها. فإن كانت فى هذه ولم يمكن أن تكون خارجة عنها
13
فهل هى جميعها أو بعضها. وإن كانت بعضها فأيما هى منها.
14
[هذا هو الفحص عنها: هل هى مشاهدة أو غير مشاهدة وسائر
15
ما يفحص عنها إلى آخر المقالة الأولى من كتاب السماء والعالم]
16
ثم النظر بعد ذلك فيما تشترك فيه البسيطة كلها ما كان منها
17
اسطقسات وأصولًا للأجسام المركبة، وما لم يكن منها أسطقسات
18
لها. [هذا هو الفحص عن السماء وأجزائها، وهو فى أول المقالة
118
1
الثانية من كتاب (السماء والعالم) إلى قريب من ثلثيها؛ ثم النظر فيما
2
يخص ما ليس اسطقسات ثم فيما يخص منها ما كان اسطقسات
3
والأعراض التابعة لها. هذا الذى ينظر فيه فى آخر المقالة الثانية
4
والثالثة والرابعة من كتاب ( السماء والعالم)].
5
والثالث: الفحص عن كون الأجسام الطبيعية وفسادها على
6
العموم، وعن جميع ما تلتئم به، والفحص عن كيف كون.
7
الاسطقسات وفسادها، وكيف تكون عنها الأجسام المركبة وإعطاء
8
مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ جميع ذلك. [وهذا فى (الكون والفساد)].
9
والرابع: الفحص عن مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ الأعراض والانفعالات التى
10
تخص الاسطقسات وحدها دون المركبات عنها. [وهذا فى المقالات
11
الأول الثلاث من كتاب (الآثار العلوية).].
12
والخامس: النظر فى الأجسام المركبة عن الاسطقسات، وأن
13
منها ما هى متشابهة الأجزاء ومنها ما هى مختلفة الأجزاء، وأن
14
المتشابهة الأجزاء منها ما هى أجزاء ركبت منها المختلفة الأجزاء
15
مثل اللحم والعظم، ومنها ماليس يكون جزءًا أصلًا لجسم طبيعى
16
مختلف الأجزاء مثل الملح والذهب والفضة. ثم النظر فيما تشترك
119
1
فيه الأجسام المركبة كلها، ثم النظر فيما تشترك فيه المركبة
2
المتشابهة الأجزاء كلها، [سواء] كانت أجزاء لمختلفة الأجزاء
3
أم غير أجراء [ وهذا فى المقالة الرابعة من كتاب (الآثار
4
العلوية).]
5
والسادس: [ــ وهو كتاب المعادن ــ] النظر فيما تشترك
6
فيه الأجسام المركبة والمتشابهة الأجزاء التى ليست أجزاءًا لمختلفة
7
الأجزاء وهى الأجسام المعدنية كالحجارة وأصنافها وأصناف
8
الأشياء المعدنية وما يخص كل نوع منها.
9
والسابع: [وهو فى كتاب النبات] النظر فيما يشترك فيه
10
أنواع النبات وما يخص كل واحد منها، وهو أحد جزئى النظر فى
11
المركبة المختلفة الأجزاء.
12
والثامن: [وهو فى كتاب الحيوان وكتاب النفس] النظر
13
فيما تشترك فيه أنواع الحيوان، ومايخص كل واحد منها، وهو
14
الجزء الثانى من النظر فى المركبة المختلفة الأجزاء.
120
1
فيعطى العلم الطبيعى فى كل نوع من هذه الأجسام مباديها
2
الأربعة وأعراضها التابعة لتلك المبادىء[*]المبادىء Middle Arabic for المبادئ.
3
فهذا هو جملة ما فى العلم الطبيعى وأجزائه، وجملة ما فى كل
4
واحد من أجزائه.
5
العلم الإلهى:
6
[وهو كله فى كتابه فيما بعد الطبيعة]
7
والعلم الإلهى ينقسم إلى ثلاثة أجراء:
8
أحدها: يفحص فيه عن الموجودات والأشياء التى تعرض لها بما هى
9
موجودات.
10
والثانى: يفحص فيه عن مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ البراهين فى العلوم النظرية الجزئية،
11
وهى التى ينفرد كل علم منها بالنظر فى موجود خاص، مثل المنطق
12
والهندسة والعدد وباقى العلوم الجزئية الأخرى التى تشاكل هذه
13
العلوم: فيفحص عن مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ علم المنطق، ومبادىء[*]ومبادىء Middle Arabic for ومبادئ علوم التعاليم،
14
ومبادىء[*]ومبادىء Middle Arabic for ومبادئ العلم الطبيعى، ويلتمسس تصحيحها وتعريف جواهرها
15
وخواصها، ويحصى الظنون الفاسدة التى كانت وقعت للقدماء فى مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ
16
هذه العلوم، مثل ظن من ظن فى النقطة والوحدة والخطوط والسطو ح
17
انها جواهر وأنها مفارقة والظنون التى تشاكل هذه فى مبادىء[*]مبادىء Middle Arabic for مبادئ
121
1
سائر العلوم فيقبحها ويبين أنها فاسدة.
2
والجزء الثالث يفحص فيه عن الموجودات التى ليست بأجسام
3
ولا فى أجسام: فيفحص عنها أولًا هل هى موجودة أم لا،
4
ويبرهن أنها مو جودة، ثم يفحص عنها هل هى كثيرة أم لا،
5
فيبين انها كثيرة؛ ثم يفحص عنها هل هى متناهية أم لا، فيبرهن
6
أنها متناهية؛ ثم يفحص هل مراتبها فى الكمال واحدة أم مراتبها
7
متفاضلة، فيبرهن أنها متفاضلة فى الكمال، ثم يبرهن أنها على كثرتها
8
ترتقى من عند انقصها إلى الأكمل فالأكمل، إلى أن تنتهى فى آخر ذلك
9
إلى كامل ما لايمكن أن يكون شىء هو أكمل منه، ولا يمكن أن
10
يكون شىء هو أصلًا فى مثل مرتبة وجوده ولا نظير له ولا ضد،
11
وإلى أول لايمكن أن يكون قبله أول، وإلى متقدم لا يمكن أن يكون
12
شىء اقدم منه، وإلى موجود لا يمكن أن يكون استفاد وجوده
13
عن شىء أصلًا، وأن ذلك الواحد هو الأول والمتقدم على الإطلاق
14
وحده.
122
1
ويبين أن سائر الموجودات متأخر عنه فى الوجود، وأنه [هو
2
الموجود الأول الذى أفاد كل واحد سواه الوجود وأنه هو الواحد
3
الأول الذى أفاد كل شىء سواه الوحدة، وأنه هو الحق الذى
4
أفاد كل ذى حقيقة سواه الحقيقة] وعلى أى جهة أفاد ذلك،
5
وأنه لا يمكن أن يكون فيه كثرة أصلًا ولا بوجه من الوجوه،
6
بل هو أحق باسم الواحد ومعناه، وباسم الموجود ومعناه [وباسم ألحق
7
ومعناه] من كل شىء يقال فيه إنه واحد أو موجود أو حق
8
سواه: ثم يبين أن هذا الذى هو بهذه الصفات هو الذى ينبغى
9
أن يعتقد فيه أنه هو الله عز وجل وتقدست أسماؤه؛ ثم
10
يمعن بعد ذلك فى باقى ما يوصف به الله إلى أن يستوفيها كلها.
11
ثم يعرف كيف حدثت الموجودأت عنه وكيف استفادت
12
عنه الوجود. م يفحص عن مراتب المو جودات، وكيف حصلت
13
لها تلك المراتب وبأى شكل يستأهل كل واحد منها أن يكون فى المرتبة التى
14
هو فيها ويبين كيف ارتباط بعضها ببعض وانتظامه، وبأى شىء
15
يكون ارتباطها وانتظامها، ثم يمعن فى إحصاء باقى أفعاله عز وجل
16
فى الموجودات إلى أن يستوفيها كلها ويبين أنه لا جور فى شىء منها
123
1
ولا خل ولا تتافر[*]تتافر corrupt for تنافر ولا سوء نظام ولا سوء تأليف؛ وبالجملة لا نقص
2
فى شىء منها ولا شر أصلًا.
3
ثم يشرع بعد ذلك فى إبطال الظنون الفاسدة التى ظنت بالله
4
عز وجل فى أفعاله بما يدخل النقص فيه وفى أفعاله وفى الموجودات
5
التى خلقها، فيبطلها كلها ببراهين تفيد العلم اليقين الذى لا يمكن أن
6
يداخل الإنسان فيه ارتياب ولا يخالجه فيه شك، ولا يمكن أن
7
يرجع عنه أصلًا.
124
1
الفصل الخامس
2
فى العِلم المَدنى وعلِم الفقه وعلِم الكلام
3
العلم المدنى:
4
أما العلم المدنى فإنه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن
5
الإرادية وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التى عنها تكون.
6
تلك الأفعال والسنن، وعن الغايات التى لأجلها تفعل،
7
وكيف ينبغى أن تكون موجودة فى الإنسان، وكيف الوجه فى ترتيبها
8
فيه على النحو الذى ينبغى أن يكون وجودها فيه، والوجه فى حفظها عليه
9
ويمبز بين الغايات التى لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السنن. ويبين
10
أن منها ما هى فى الحقيقة سعادة وأن منها ما هى مظنون أنها
11
سعادة من غير أن تكون كذلك؛ وأن التى هى فى الحقيقة سعادة
12
لا يمكن أن تكون فى هذه الحياة، بل فى حياة أخرى بعد هذه
13
الحياة وهى الحياة الآخرة؛ والمظنون به سعادة مثل الثروة والكرامة
14
واللذات، إذا جعلت هى الغايات فقط فى هذه الحياة. ويميز
125
1
الأفعال والسنن ويبين أن التى ينال بها ما هو فى الحقيقة سعادة
2
هى الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، وأن ما سواها هو
3
الشرور والقبائح والنقائص، وأن وجه وجودها فى الإنسان أن
4
تكون الأفعال والسنن الفاضلة موزَّعة فى المدن والأمم على
5
ترتيب وتستعمل استعمالًا مشتركًا. ويبين أن تلك [ليست
6
تتأتى إلا برياسة يمكن معها تلك الأفعال والسنن والشيم والملكات
7
والأخلاق فى المدن والأمم؛ ويجتهد فى أن يحفظها عليهم حتى
8
لا تزول؛ وأن تلك الرياسة لا تتأتى إلا بمهنة وملكة يكون
9
عنها أفعال التمكين فيهم وأفعال حفظ مامكّن فيهم عليهم. وتلك المهنة
10
هى الملكية والملك أو ما شاء الإنسان أن يسميها؛ والسياسة هى فعل
11
هذه المهنة؛ وأن الرياسة ضربان:
12
رياسة تمكّن الأفعال والستن والملكات الإرادية التى شأنها
13
أن ينال بها ما هو فى الحقيقة سعادة، وهى الرياسة الفاضلة.
14
والمدن والأمم المنقادة لهذه الرياسة هى المدن والأمم الفاضلة.
126
1
ورياسة تمكّن فى المدن الأفعال والشيم التى تنال بها ما هى
2
مظنونة أنها سعادات من غير أن تكون كذلك، وهى الرياسة
3
الجاهلية.
4
وتنقسم هذه الرياسة أقسامًا كثيرة. ويسمى كل واحد منها
5
بالغرض الذى يقصده ويؤمه، ويكون على عدد الأشياء التى هى
6
الغايات والأغراض التى لها تُلتَمس هذه الرياسة: فإن كانت تلتمس
7
اليسار سميت رياسة الخسة؛ وإن كانت الكرامة سميت رياسة
8
الكرامة؛ وإن كانت بغير هاتين سميت باسم غايتها تلك.
9
وتبين أن المهنة الملكية الفاضلة تلتئم بقوتين: إحداهما القوة على
10
القوانين الكلية. والأخرى القوة التى يستفيدها الإنسان بطول مزاولة
11
الأعمال المدنية وبمزاولة الأفعال فى الآحاد والأشخاص فى المدن
12
الجزئية والحنكة فيها بالتجربة وطول المشاهدة، على مثال ماعليه الطب:
13
فإن الطبيب إنما يصير معالجًا كاملًا بقوتين: إحداهما القوة على
14
الكليات والقوانين التى استفادها من كتب الطب. والأخرى القوة
15
التى تحصل له بطول المزاولة لأعمال الطب فى المرضى، والحنكة فيها
16
بطول التجربة والمشاهدة لأبدان الأشخاص. وبهذه القوة يمكن
17
الطبيب أن يقدر الأدوية والعلاج بحسب بدنٍ بدنٍ فى حالٍ حالٍ.
127
1
كذلك المهنة الملكية إنما يمكنها أن تقدر الأفعال بحسب عارضٍ
2
عارض وحا لٍ حال فى وقتٍ وقتٍ بهذه القوة وهذه التجربة
3
والفلسفة المدنية تعطى، فيما تفحص عنه من الأفعال والسنن
4
والملكات الإرادية وسائر ما تفحص عنه، القوانين الكلية؛
5
وتعطى الرسوم فى تقديرها بحسب حالٍ حال ووقتٍ وقت، وكيف
6
وبأى شىء، وبكم شىء تقدّر، ثم تتركها غير مقدرة، لأن التقدير
7
بالفعل لقوة أخرى غير هذا العلم، وسبيلها أن تنضاف
8
إليه. ومع ذلك فإن الأحوال والعوارض التى بحسبها يكون
9
التقدير غير محدودة ولا يحاط بها.
10
وهذا العلم جزءان:
11
جزء يشتمل على تعريف السعادة، وتميز ما بين الحقيقة منها
12
والمظنون به، وعلى إحصاء الأفعال والسير والأخلاق والشيم
13
الإرادية الكلية التى شأنها أن توزع] فى المدن والأمم، وتمييز
14
الفاضل منها من غير الفاضل.
15
وجزء يشتمل على وجه ترتيب الشيم والسير الفاضلة فى
16
المدن والأمم، وعلى تعريف الأفعال الملكية التى بها تمكّن
17
السير والأفعال الفاضلة وترّتب فى أهل المدن والأفعال التى
128
1
بها يحفظ عليهم مارّتب ومكّن فيهم: ثم يحصى أصناف المهن الملكية
2
غير الفاضلة كم هى وما كل واحدة منها، ويحصى الأفعال التى يفعلها
3
كل واحد منها، وأى سنن وملكات يلتمس كل واحد منها
4
أن يمكن فى المدن والأمم (حتى ينال بها غرضها من أهل المدن والأمم)
5
التى تكون تحت رياستها، [وهذه فى كتاب ( بوليطبقى[*]بوليطبقى corrupt for بوليطيقى)
6
وهو كتاب (السياسة) لأرسطوطاليس. وهو أيضًا فى كتاب
7
السياسة لأفلاطون وفى كتب أفلاطون وغيره]؛ ويبين أن تلك
8
الأفعال والسير والملكات هى كلها كالأمراض للبدن الفاضلة.
9
[أما الأفعال التى تخص المهن الملكية منها وسيرها
10
فأمراض المهنة الملكية الفاضلة. وأما السير والملكات
11
التى تخص مدنها فهى كالأمراض للمدن الفاضلة]؛ ثم
12
يحصى كم الأسباب والجهات التى من قبَلها لا يؤَمن أن تستحيل
13
الرياسات الفاضلة وسنن المدن الفاضلة إلى السنن والملكات
14
الجاهلية؛ ويحصى معها أصناف الأفعال التى بها تُضبَط المدن والرياسات
15
الفاضلة لئلا تفسد وتستحيل إلى غير الفاضلة؛ ويحصى أيضًا
129
1
وجوه التدابير والحيل والأشياء التى سبيلها أن تستعمل إذا
2
استحالت إلى الجاهلية حتى ترد إلى ما كانت عليه؛ ثم يبين بكم
3
شىء تلتئم المهنة الملكية الفاصلة، وأن منها العلوم النظرية والعملية
4
وأن يضاف إليها القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول
5
مزاولة الأفعال فى المدن والأمم، وهى القدرة على جودة استنباط
6
الشرائط التى تقدّر بها الأفعال والسير والملكات بحسب جمعٍ جمع
7
أو مدينةٍ مدينة أو أمةٍ أمة وبحسب حالٍ وحال وعارضٍ عارض.
8
ويبّين أن المدينة الفاضلة إنما تدوم فاضلةٍ ولا تستحيل متى كان
9
ملوكها يتوالون فى الأزمان على شرائط واحدة بأعيانها حتى يكون
10
الثانى الذى يخلف المتقدم على الأحوال والشرائط التى كان عليها
11
المتقدم؛ وأن يكون تواليهم من غير انقطاع ولا انفصال
12
ويعرف كيف ينبغى أن يُعمَل حتى لا يدخل توالى الملوك انقطاع.
13
ويبّين أى الشرائط والأحوال الطبيعية ينبغى أن تُفقد فى
14
أولاد الملوك وفى غيرهم، حتى يؤهَّل بها من توجد فيه للمُلك بعد
15
الذى هو اليوم ملك. ويبّين كيف ينبغى أن يُنَشأ من وجُدت
16
فيه تلك الشرائط الطبيعيه وبماذا ينبغى أن يؤدَّب، حتى تحصل
17
له المهنة الملكية ويصير مَلكًا تامًا. ويبين مع ذلك أن الذين
130
1
رياستهم جاهلية لا ينبغى أن يكونوا ملوكا أصلًا، وأنهم
2
لايحتاجون فى شىء من أحوالهم وأعمالهم وتدابيرهم إلى الفلسقة
3
لا النظرية ولا العملية، بل يمكن كل واحد منهم أن يصير إلى غرضه
4
فى المدينة والأمة التى تحت رياسته بالقوة التجربية التى تحصل له
5
بمزاولة جنس الأفعال التى ينال بها مقصوده، ويصل بها إلى
6
غرضه من الخيرات، متى اتفقت له قوة قريحة حثيثة جيدة التأتى
7
لاستنباط ما يحتاج إليه فى الأفعال التى ينال بها الخير الذى هو
8
مقصوده، من لذة أو كرامة أو غير ذلك، وانضاف إلى
9
ذلك جودة الائتساء بمن تقدم من الملوك الذين كان مقصدهم
10
مقصده.
11
علم الفقه :
12
وصناعة الفقه هى التى بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير
13
شىءٍ شىء مما لم يصرّح واضع الشريعة بتحديده عن
14
الأشياء التى صرح فيها با لتحديد والتقدير؛ وأن يتحرى
131
1
تصحيح ذلك على حسب غرض واضع الشريعة بالملة التى شرعها
2
فى الأمة التى لها شرع.
3
وكل ملة ففيها آراء وأفعال: فالآراء مثل الآراء التى تشرع فى
4
الله [سبحانه]، وفيما يوصف به، وفى العالم أو غير ذلك.
5
والأفعال مثل الأفعال التى يعظم بها الله [عز وجل]،
6
والأفعال التى بها تكون المعاملات فى المدن.
7
ولذلك يكون علم الفقه جزءين: جزء فى الآراء، وجزء
8
فى الأفعال.
9
علم الكلام:
10
وصناعه[*]وصناعه corrupt for وصناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء
11
والأفعال المحدودة التى صرّح بها واضع الملة، وتزييف كل
12
ما خالفها بالأقاويل.
13
وهذه الصناعة تنقسم جزءين أيضًا: جزء فى الآراء، وجزء
14
فى الأفعال.
132
1
[وهى غير الفقه]: لأن الفقيه يأخذ الآراء والأفعال
2
التى صرح بها واضع الملة مسلمةً، ويجعلها أصولًا فيستنبط منها
3
الأشياء اللازمة عنها. والمتكلم ينصر الأشياء التى يستعملها الفقيه
4
أصولًا من غير أن يستنبط منها أشياء أخرى. فإذا اتفق أن
5
يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعًا فهو فقيه متكلم،
6
فتكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه.
7
* * *
8
وأما الوجوه والآراء التى ينبغى أن تنصر بها الملل، فإن
9
قومًا من المتكلمين يرون أن ينصروا الملل بأن يقولوا إن آراء
10
الملل ركل مافيها من الأوضاع ليس سبيلها أن تمتحن بالآراء والروية
11
والعقول الإنسية، لانها أرفع رتبة منها: إذ كانت مأخوذة عن
12
وحى إلهى، ولأن فيها أسرارًا إلهية تضعف عن إدراكها
13
العقول الإنسية ولا تبلغها.
14
وأيضًا فإن الإنسان إنما سبيله أن تفيده الملل بالوحى ماشأنه
15
أن لا يدركه بعقله وما يخور عقله عنه، وإلا فلا معنى للوحى
133
1
ولافائدة إذا كان إنما يفيد الإنسان ما كان يعلمه وما يمكن إذا
2
تأمله أن يدركة بعقله. ولو كان كذلك لو كل الناس إلى عقولهم،
3
ولما كانت بهم حاجة إلى نبوة ولا إلى وحى. لكن لم يفعل بهم
4
ذلك: فلذلك ينبغى أن يكون ما تفيده الملل من العلوم ماليس فى
5
طاقة عقولنا إدراكه؛ ثم ليس هذا فقط، بل وما تستنكره
6
عقولنا أيضًا، فإنه كل ما كان أشد استنكارًا عندنا كان أبلغ فى
7
أن يكون أكثر فوائد؛ وذلك أن التى تاتى بها الملل مما
8
تستنكره العقول وتستبشعه الأوهام ليست هى فى الحقيقة منكرة
9
ولا محالة، بل هى صحيحة فى العقول الإلهية.
10
فإن الإنسان وإن بلغ نهاية الكمال فى الإنسانية فإن منزلته عند
11
ذوى العقول الإلهية منزلة الصبى والحدث والغُمر عند الإنسان
12
الكامل: فكما أن كثيرًا من الصبيان والأغمار يستنكرون بعقولهم
13
أشياء كثيرة مما ليست فى الحقيقة منكرة ولا غير ممكنة، ويقع لهؤلاء
134
1
أنها غير مكنة، فكذلك منزلة من هو فى نهاية كمال العقل الإنسى
2
عند العقول الإلهية.
3
وكما أن الإنسان من قبل أن يتأدب ويتحنك يستنكر أشياء
4
كثيرة ويستبشعها ويخيل إليه فيها أنها محالة، فإذا تأدب بالعلوم
5
واحتنك بالتجارب زالت عنه تلك الظنون فيها، وانقلبت الأشياء
6
التى كانت عنده محالة فصارت هى الواجبة وصار عنده ما كان يتعجب
7
منه قديمًا فى حدما يتعجب من ضده، كذلك الإنسان الكامل
8
الإنسانية لا يمتنع من أن يكون يستنكر أشياء ويخيل إليه أنها
9
غير ممكنة من غير أن تكون فى الحقيقة كذلك.
10
فلهذه الأشياء رأى هؤلاء أن يجعل تصحيح الملل: فإن الذى
11
أتانا بالوحى من عند الله [جل ذكره] صادق لا يجوز أن يكون
12
قد كذب.
13
ويصح أنه كذلك من أحد وجهين: إما بالمعجزات التى يعقلها
14
أو تظهر على يديه، وإما بشهادات من تقدم قبله من الصادقين
135
1
المقبونى الأقاويل على صدق هذا ومكانه من الله جل وعز أو
2
بهما جميعًا.
3
فإذا صححنا صدقه بهذه الوجوه وأنه لا يجوز أن يكون قد كذب
4
فليس ينبغى أن يبقى بعد ذلك فى الأشياء التى يقولها مجال
5
للعقول ولا تأمل ولاروية ولا نظر.
6
فبهذه وما أشبهها رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.
7
وقوم منهم آخرون يرون أن ينصروا [الملة بأن ينصبوا
8
لها] أولًا جميع ما صرّح به واضع الملة بالألفاظ التى بها عبر
9
عنها، ثم يتتبعون المحسوسات والمشهورات والمعقولات: فما وجدوا
10
منها أو من اللوازم عنها، وإن بعد، شاهدًا لشىء مما فى الملة نصروا
11
به ذلك الشىء؛ وما وجدوا منها مناقضا لشىء ما فى الملة وأمكنهم أن
12
يتأولوا اللفظ الذى به عبر عنه واضع الملة على وجه موافق لذلك
13
المناقض، ولو تأويلًا بعيدًا، تأولوه عليه. وإن لم يمكنهم ذلك وأمكن أن يزيف
14
المناقض أو أن يحملوه على وجه يوافق ما فى الملة فعلوه. فإن تضادت
15
المشهورات والمحسوسات فى الشهادة مثل أن تكون المحسوسات أو
16
اللوازم عنها توجب شيئًا والمشهورات أو اللوازم عنها توجب ضد
136
1
ذلك، نظروا إلى أقواهما شهادة لما فى الملة فأخذوه واطرحوا.
2
الآخر وزيفوه.
3
فإن لم يمكن أن تحمل لفظة الملة على ما يوافق أحد هذه ولا أن
4
يحمل شىء من هذه على ما يوافق الملة، ولم يمكن أن يطّرح ولا أن
5
يزيف شىء من المحسوسات ولا من المشهورات ولا من المعقولات التى
6
تضاد شيئًا منها رأوا حينئذ أن ينصر ذلك الشىء بأن يقال
7
إنه حق لأنه أخبر به من لا يجوز أن يكون قد كذب ولا غلط.
8
ويقول هؤلاء فى هذا الجزء من الملة ما قاله أولئك الأولون
9
فى جميعها.
10
فبهذا الوجه رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.
11
[وقوم من هؤلاء رأوا أن ينصروا] أمثال هذه الأشياء
12
يعنى التى يخيّل فيها أنها شنعة، بأن يتتبعوا سائر الملل فيلتقطوا
13
الأشياء الشنعة التى فيها: فإذا أراد الواحد من [أهل تلك الملل تقبيح
137
1
شىء مما فى مّلة هؤلاء، تلقاه هؤلاء بما فى مّلة أولئك من الأشياء
2
الشنعة فدفعوه بذلك عن ملتهم.
3
وآخرون منهم لما رأوا أن الأقاويل التى يأتون بها فى نصرة امثال هذه
4
الأشياء ليست فيها كفاية فى أن تصح بها تلك الأشياء صحة تامة، حتى
5
يكون سكوت خصمهم عنهم لصحتها عنده لا لعجز عن مقاومتهم فيها
6
بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أن يستعملوا معه الأشياء التى تلجئه
7
إلى أن يسكت عن مقاومتهم، إما خجلًا وحصرًا أو خوفًا من
8
مكروه يناله.
9
وآخرون لما كانت ملتهم عند أنفسهم صحيحة لا يشكون فى
10
صحتها، رأوا أن ينصروها عند غيرهم ويحسنّوها ويزيلوا الشبهة منها
11
ويدفعوا خصومهم عنها بأى شىء اتفق. ولم يبالوا أن يستعملوا
12
الكذب والمغالطة والبهت والمكابرة، لأنهم رأوا أن من يخالف]
138
1
ملتهم أحد رجلين: إما عدوّ، والكذب والمغالطة جائز أن
2
يستعملا فى دفعه وفى غلبته، كما يكون ذلك فى الجهاد والحرب
3
وإما ليس بعدوّ، ولكن جهل حظ نفسه من هذه الملة لضعف
4
عقله وتمييزه، وجائز أن يحمل الإنسان على حظ نفسه بالكذب
5
والمغالطة، كما يفعل ذلك بالنساء والصبيان.
6
* * *
7
كمل كتاب أبى النصر الفارابى فى تفصيل العلوم وأجزائها ومراتبها
8
فى أواخر شهر رمضان المبارك سنة أربعين وستمائة. وهذا الكتاب
9
يسمى بإحصاء العلوم.
10
انتهى الكتاب