201
1
الفن الرابع من الطبيعيات
2
فى الأفعال والانفعالات
3
مقالتان
4
قد فرغنا من تعريف الأمور العامة للطبيعيات، ثم من تعريف الأجسام والصور
5
والحركات الأولية فى العالم واختلافها فى طبائعها، ثم من تعريف أحوال الكون والفساد
6
وعناصرها، فحقيق بنا أن نتكلم عن الأفعال والإنفعالات الكلية التى تحصل عن الكيفيات
7
العنصرية بمعاضدة من تأثيرات الأجسام السماوية، فإذا فرغنا من ذلك شرعنا حينئذ
8
فى تفسير أحوال طبقات الكائنات، مبتدئين بالآثار العلوية والمعدنيات، ثم ننظر فى حال
9
النفس. فإن النظر فى النفس أعم من النظر فى النبات والحيوانات، ثم ننظر فى النبات
10
ثم فى الحيوانات.
11
ونختم هذه الجملة الطبيعية.
202
1
المقالة الأولى
2
من هذا الفن تسعة فصول
3
الفصل الأول
4
فى طبقات العناصر
5
هذه العناصر الأربعة تشبه أن تكون غير موجودة على محوضتها وصرافتها فى أكثر
6
الأمر. وذلك لأن قوى الأجرام السماوية تنفذ فيها، فتحدث فى السفليات الباردة حرًا
7
يخالطها، فتصير بذلك بخارية ودخانية، فتختلط بها نارية وهوائية. وترقى إلى العلويات
8
أيضًا أبخرة مائية وأدخنة أرضية، فتخلطها بها، فيكاد أن تكون جميع المياه وجميع الأهوية
9
مخلوطة ممزوجة.
10
ثم إن توهمت صرافة فيشبه أن تكون للأجرام العلوية من النارية. فإن الأبخرة
11
والأدخنة أثقل من أن تبلغ ذلك الموضع بحركاتها. واذا بلغت فما أقوى تلك النار على
12
إحالتها سريعًا.
13
ويشبه أن يكون باطن الأرض البعيد من أديمها إلى غورها قريبا من هذه الصفة.
14
فإن لم يكن بد من أن يكون كل جزء من النار والأرض كائنًا فاسدًا باطنه وظاهره
15
إلا أن ما يخلص إلى مجاورة الفلك من النار يمحض، ولا تكسر محوضته بشائب.
203
1
وكذلك ما يخلص إلى المركز من الأرض يشبه المحض، فلا ينفذد [*]ينفذد corrupt for ينفذ فيه تأثير
2
السماويات نفوذًا يعتدّ به، ولا ينفذ إليه شائب؛ إذ لا يقبل رسوبًا إلى ذلك الحد.
3
فيشبه لذلك أن تكون الأرض ثلاث طبقات: طبقة تميل إلى محوضة الأرضية
4
وتغشاها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية هى طين؛ وطبقة منكشفة عن الماء جفف
5
وجهها الشمس، وهو البر والجبل. وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر، وهو
6
أسطقس الماء.
7
ويستحيل أن يكون للماء أسطقس وكلية غير البحر. وذلك لأنه لا يخلو إما أن
8
يكون باطنًا غائرًا، أو ظاهرًا. فإن كان ظاهرًا فهو لا محالة بحر ليس غير البحر.
9
وإن كان باطنًا لم يخل إما أن يكون مستقرًا فى الوسط، أو منحازًا إلى بعض الجنبات.
10
فإن كان مستقرًا فى الوسط، فإما أن يكون بالطبع، فتكون الأرض أخف من الماء،
11
وهذا محال؛ وإما بالقسر، فيكون ههنا قاسر للماء إلى حفر غور الأرض والانحياز فيه،
12
وهذا أيضًا محال.
13
وإن كان منحازًا فى جنبة واحدة، فتكون كلية الماء محصورة فى بقعة صغيرة من
14
الاوض [*]الاوض corrupt for الارض وكلية الماء لا تقل، لا محالة، عن الأرض، إن لم تزد عليه. ثم يكون مقدار ماء البحر
15
غبر قاصر عن مبلغه. فلم لا يكون البحر كلية دونه؟ ولم لا تفيض الأنهار فى «طرطاوس»؛
16
بل فى البحر لا غير، ولا يوجد إلى «طرطاوس» مغيض؟
17
على أن لا نشك أن فى الأرض أغوارًا مملوءة، إلا أنها لا تبلغ فى الكثرة مقادير
204
1
البحار؛ ولا الأرض يكثر فيها التجويفات كثرة يكون لها تأثير بالقياس إلى كلية الأرض،
2
كما ليس للجبال تأثير فى كريتها.
3
والهواء أيضًا فهو طبقات: طبقة بخارية، وطبقة هواء صرف، وطبقة دخانية.
4
وذلك لأن البخار، وإن صعد فى الهواء صعودا، فإنه إنما يصعد إلى حد ما. وأما الدخان
5
فيجاوزه ويعلوه؛ لأنه أخف حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة فيه. وأعنى بالبخار
6
ما يتصعد من الرطب، من حيث هو رطب، وأعنى بالدخان ما يتصعد عن اليابس من
7
حيث هو يابس. ولأن البخار، بالحقيقة، على ما بيناه، ماء متخلخل متصغر الأجزاء،
8
وطبيعة الماء أن يبرد بذاته، ومن صورته، إذا زال عنه المسخن وبعد عهده به، فيجب أن
9
يكون الجزء البخارى من الهواء باردا بالقياس إلى سائر الهواء. لكن ما يلى الأرض منه
10
يسخن بمجاورة الأرض المسخنة بشعاع الشمس المستقر عليها استقرار الكيفيات
11
لا الأجسام. وما يبعد عنه يبرد. فتكون طبقة الهواء السافلة بخارا يسخن بمجاورة
12
الشعاع، ثم تليه طبقة بخارية باردة، ثم يليه هواء أقرب إلى المحوضة، ثم يليه هواء
13
دخانى، وكأنه خلط من هواء ونار وأرض، ثم تليه نار، فتكون هذه الصفات ثمانية:
14
أرض إلى الخلوص ماء وطين، وبر مع الجبال، والبحر كطبقة واحدة مركبة،
15
وهواء مسخن بالشعاع، وهواء بارد، وهواء أقرب إلى المحوضة، وهواء دخانى نارى ونار.
16
فهذه طبقات العناصر فى ترتيبها ووضعها.
205
1
الفصل الثانى
2
فصل فى
3
أحوال كلية من أحوال البحر
4
ماء البحر ليس حكمه حكم سائر العناصر فى أن له طبقات مختلفة ظاهرة الاختلاف
5
فى ترتيب العلو والسفل. وذلك لأن الماء سريع الاختلاط بما يخالطه؛ لأنه ليس عمقه
6
وثخنه مثل عمق الهواء وثخنه. فلذلك يشتد اختلاط الآثار بكليته وتنفذ فيه. وجذب
7
الشمس لما فى باطن الأرض وتحريكها إياه يفى بتبليغه وجه البحر وإخراجه عنه. ولولا ذلك
8
لكان ظاهر البحر، وما يلى وجهه، أقرب ماء إلى طبيعة الهواء، وكان لا كثير تأثير فيه
9
للأرضية. وليس كذلك؛ بل ماء البحر كله مالح أو زعاق.
10
والماء لا يتغير التغيرات التى بعد الكيفيات الأول، بنفسه، إنما يتغير لمخالطة
11
شىء آخر. والهواء إذا خالطه جعله أرق وأعذب، ولم يجعله ملحا. إنما يصير ملحا بسبب
12
الأرضية المحترقة المرة إذا خالطته. فلم يخطىء من زعم أن ملوحة ماء البحر لأرضية خالطته،
13
إذا اعتقد، مع ذلك، شرط الاحتراق والمرارة.
14
وأنت فيمكنك أن تتخذ الملح من رماد كل محترق، ومن كل حجر يفيده التكليس
15
حدة ومرارة، إذا طبخته فى الماء، وصفيته، ولم تزل تطبخ ذلك الماء أو تدعه فى الشمس،
206
1
فإنه ينعقد ملحا. ولهذا ما يتخذ قوم من القلى ومن النورة ومن الرماد ملحا متى شاؤوا.
2
وسبب ملوحة العرق والبول مخالطة المرارة المحترقة المائية فيملح. ولما أعوز الملح فى
3
بعض البلاد كانو يتخذونه من رماد قصب وشجر يكون لهم بهذا التدبير.
4
وليس ما ظن قوم من أن ملوحة ماء البحر إنما هى بسبب أن الكثيف منه يبقى
5
محتبسا فيه بعد تبخر البخارات اللطيفة، فيكون بسببه مرا. ومعلوم أن كثافته باختلاط
6
الأرضية به. فإن لم تزد شرطا، وقلت بمجرد الكثافة، فهلا كان الطين مرا أو ملحا؟
7
ولم، إذا عاد إليه ماء يتبخر عنه فى الأودية العذبة والأمطار الجود، لا يعود البتة مرة أخرى
8
عذبا؟ فمن المعلوم أن البحر، وإن أنفق صيفا، فإنه يسترجع شتاء.
9
والماء بنفسه ليس فيه كثيف ولطيف، بل هو متشابه الأجزاء. إنما الكثيف منه
10
ما خالطته أرضية؛ لأنه لا شىء أكثف من الماء إلا الأرض، والأرضى إذا خالطته أرضية
11
لا كيفية لها لم يتكيف، وإنما يتكيف من كيفية الأرض. فإن كانت الأرضية شديدة
12
المرارة لم يتملح؛ بل يزعق، وإن كانت قليلة المرارة، بحيث إذا تحلل فى الماء، قبل نوعا
13
من الاستحالة عن مرارته، ملح. وأى ماء ملح طبخته انعقد منه، آخر الطبخ لا محالة،
14
ملح، وحتى من البول والعرق ومياه أنهار ملحة.
15
والدليل على أن ماء البحر يتملح بمخالطته الأرضية، وليس ذلك طبيعيًا له، أنه
16
يقطر ويرشح فيكون عذبا، وقد تتخذ كرة من شمع فترسل فيه، فيرشح العذب إلى
17
باطنه رشحًا.
207
1
والبحر أيضًا قد تكون فى مواضع منه مياه عذبة، وقد تمده مياه عذبة، إلا أنها
2
ألطف من ماء البحر المجتمع فيه قديمًا، فيسبق إليه التحلل. فإن اللطيف يسبق إليه،
3
وخصوصا فى حال الانتشار، يعين على ذلك، كما لو بسط الماء على البر.
4
وإذا كان كذلك صار العذب يتحلل بخارًا ويصير سحبًا وغير ذلك، والمالح الكثيف يبقى.
5
وقد يتفق أن يصعد منه بخار، إلا أنه لكثافته لا يجاوز البحر؛ بل ينزل عن
6
قريب مطرًا مالحًا. وهذا فى النوادر ويطيب بمخالطة الهواء.
7
فمن المعلوم أن الملح إذا طبخ فى الماء، فيصعد بخار الماء، وكان الملح لطيفًا،
8
يصعد معه أيضًا.
9
فالبحر بالحقيقة كما قيل من أنه يعطى الصفو لغيره، ويحبس الكدر لنفسه،
10
مع أنه يأخذ الصفو أيضًا.
11
والبحر لملوحة مائيته، وكثرة أرضيته أثقل من المياه الأخرى وزنا. ولذلك فقل
12
ما يرسب فيه البيض. وأما بحيرة فلسطين فلا يرسب فيها شىء، حتى الحيوان المكتوف.
13
ولا يتولد فيها الحيوان، ولا يعيش. وههنا نهر عذب أيضًا لا يتولد فيه حيوان لبرده
14
من منبعه إلى مصبه.
15
على أن فى البحر مواضع يعذبها ما ينبع إليها من عيون تحتها.
16
وقد قال «أنبادقليس»: إن ملوحة البحر بسبب أن البحر عرق الأرض. وهذا
17
كلام شعرى ليس بفلسفى. لكنه مع ذلك يحتمل التأويل. فإن العرق رطوبة من البدن
208
1
تملحت بما يخالطها من المادة المحترقة من البدن. وماء البحر قد يملح بقريب من ذلك.
2
فإذًا كانت ملوحة البحر لهذه العلة ولغاية هى حفظ مائه عن الأجون، ولولاه لأجن،
3
وانتشر فساد أجونه فى الأرض، وأحدث الوباء العام. على أن ماء البحر يأجن إذا خرج
4
من البحر أيضًا، وإنما ينحفظ بعضه بمجاورة بعض وبمدد التمليح الذى يصل إليه.
5
فلهذه الأسباب كان الغالب فى البحر مالحًا. إنما العذب منه قليل. وطبيعته
6
حارة تلهب النارفوق أن تطفئها، ثقيلة لذاعة للمغتسل به، أكالة. وإذا تميز منه العذب
7
فليس بسبب الأرض؛ بل بسبب عيون ذكرناها، وإلآ لأصلحتها الأرض الطيبة إذا
8
جعل فيها له مصانع.
9
فبين من هذا أن جميع أجزاء الماء قابل للاختلاط بما يتصعد من الأراضى، ومنفذ
10
لما ينفذ من القوى السماوية. فليس للبحر طبقات.
11
وأما اختصاص البحر فى طباعه بموضع دون موضع فأمر غير واجب؛ بل الحق
12
أن البحر ينتقل فى مدد لا يضبطها الأعمار، ولا تتوارث فيها التواريخ والآثار المنقولة
13
من قرن إلى قرن إلا من أطراف بسيرة وجزائر صغيرة؛ لأن البحر لا محالة مستمد من
14
أنهار وعيون تفيض إليه، وبها قوامه. ويبعد أن يكون تحت البحر عيون ومنابع هى
15
التى تحفظه دون الأنهار. وذلك لأنها لو كانت لوجب أن يكون عددها جدًا، وأن
16
لا تخفى على ركاب البحر؛ بل إنما تستحفظ البحار بالأنهار التى مصبها من نواحى مشرفة
17
عالية بالقياس إلى البحر.
209
1
ومن شأن الأنهار أن تستقى من عيون، ومن مياه السماء. ومعولها القريب إنما هو
2
على العيون. فإن مياه السماء أكثر جدواها فى فصل بعينه دون فصل. ثم لا العيون
3
ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها فى بقاع واحدة بأعيانها تشابهًا مستمرًا. فإن
4
كثيرًا من العيون يغور وينضب ماؤها. وكثيرًا ما تقحط السماء فلا بد من أن تجف
5
أودية وأنهار، وربما طمت الأنهار، بما يسيل من أجزاء الأرض، جوانب من النجاد.
6
وأنت ترى آثار ذلك فى كثير من المسالك، وفى أودية الجبال والمغاوز، وتتيقن أنها كانت
7
وقتًا من الزمان غايرة المياه، وقد انقطع الآن مواردها.
8
وإذا كان كذلك فستنسجم مواد أودية وأنهار، ويعرض للجهة التى تليها من
9
البحار التى تنضب، وستستجد عيون وأودية وأنهار من جهات أخرى، فتقوم بدل
10
ما نضب. ويفيض الماء فى تلك الجهة على البر. فإذا مضت الأحقاب، بل الأدوار،
11
يكون البحر قد انتقل عن حيز إلى حيز، وليس يبعد أن يحدث الاتفاق أو الصناعة خلجان،
12
إذا طرقت فى سد بين البحر وبين غور نتوءًا، وهدمته، أو بين أنهار كبار وبين مثله.
13
وقد يعرف من أمر النجف الذى بالكوفة أنه بحر ناضب، وقد قيل إن أرض
14
مصر هذه سبيلها، ويوجد فيها رميم حيوان البحر.وقد حدّثت عن بحيرة خوارزم
15
أنها حالت من المركز الذى عهدها به مشايخ الناحية المسنون حوولا [*]حوولا Middle Arabic for حؤولا، إلا أن أعمارنا
16
لا تفى بضبط أمثال ذلك فى البحار الكبار، ولا التواريخ التى يمكن ضبطها،
17
تفى بالدلالة على الانتقالات العظيمة فيها. وربما هلكت أمم من سكان ناحية دفعة
18
بطوفان أو وباء، أو انتقلو دفعة، فتنوسى ما يحدث بها بعدهم.
210
1
وهكذا حال الجبال. فإن بعضها ينهال ويتفتت، وبعضها يحدث ويشمخ بأن
2
تتحجر مياه تسيل عليها أنفسها وما يصحبها من الطين. ولا محالة أنها تتغير عن أحوالها
3
يومًا من الدهر. ولكن التاريخ فيه لا يضبط. فإن الأمم يعرض لهم آفات من الطوفانات
4
والأوبئة، وتتغير لغتهم وكتاباتهم فلا يدرى ما كتبوا وقالوا. وهو ذا يوجد فى كثير
5
من الجبال. وبالهرمين اللذين بمصر، على ما بلغنى، كتابات منها ما لا يمكن اخراجه،
6
ومنها ما لا تعرف لغته.
7
وأعلم أن البحر ساكن فى طباعه، وإنما يعرض ما يعرض من حركته بسبب رياح
8
تنبعث من قعره، أو رياح تعصف فى وجهه، أو لمضيق يكون فيه ينضغط فيه الماء من
9
الجوانب لثقله، فيسيل مع أدنى تحرك، ثم يلزم ذلك لصدم الساحل والنبوّ عنه إلى
10
الناحية التى هى أغور. أو لاندفاع أودية فيه مموجة له بقوة، وخصوصا إذا ضاقت مداخلها
11
وارتفعت وقل عمقها، فيعرض أن يتحرك إلى المغار.
12
واذا كان فى البحر موضع مشرف، ووقع أدنى سبب محرك للماء، فسال عنه إلى
13
الغور، فلا يزال يجذب مقدمه مؤخره على الاستتباع فيدوم سيالا. والبحر الموضوع
14
فى الوهاد الغائرة أسلم من تمويج الرياح، حتى يخيل من الجريان ما يخيله نظيره
15
فى موضع عال.
16
قالو إن البحر الموضوع فى داخل منار هرقل لقلة عمقه وضيق مواضع منه وكثرة
17
ما يسيل إليه من الأنهار يخيل جريانا، والبحر الذى من الجانب الآخر بالخلاف لكبره،
18
وقلة ما ينصب فيه وشدة عمقه.
211
1
الفصل الثالث
2
فصل فى
3
تعريف سبب تعاقب الحر والبرد
4
قد يعرض فى هذه العناصر؛ بل وفى المركبات منها، شىء يسمى التعاقب، وهو
5
أنه إذا استولى حر على ظاهر بارد اشتد برد باطنه وبالعكس. ولهذا ما توجد مياه الآبار
6
والقنى فى الشتاء حارة، وفى الصيف باردة.
7
وقد اختلفت الأقاويل فى هذا.
8
فقائل إن الحرارة والبرودة تنهزم إحداهما من الاأخرى، كأنها تهرب من عدوها.
9
فإذا استولت عليها من الظاهر انهزمت غائرة؛ وإن استولت عليها من الباطن انهزمت
10
ظاهرة، وكما يظن من هرب الماء من النار. وهذا المذهب يوجب أن يكون العرض
11
من شأنه أن ينتقل من جزء موضوع إلى جزء موضوع، بل من موضوع إلى موضوع.
12
فإنه كثيرا ما يكون الباطن من الجسمين جسما منفصلا بنفسه، فيعرض هذا العرض له
13
فى ذاته؛ إذ المشتمل عليه منهما، يستحيل استحالة مفرطة، عن حر مثلا، فيستحيل
14
هو استحالة مفرطة عن برد، كأنه انتقل من المحيط به، وهو موضوع مفرد، إليه
15
وهو موضوع غير مفرد.
212
1
وقد علمنا أن انتقال الأعراض مما لا يقول به المحصلون.
2
وقوم آخرون أبوا أن يكون لهذا المعنى حقيقة إلا فيما يكون الجسم الواقع فيه هذا
3
الشأن إنما يسخنه جسم لطيف حار هو سار فيه، أو يبرده جسم لطيف بارد هو سار فيه.
4
فإن كان ذلك الجسم بخارا، فاستولى البرد على ظاهره، احتقن البخار فى داخل الجسم
5
المستولى على ظاهره، ولم يتحلل، فازداد سخونة، أو كان المستولى حرا فجفف الظاهر،
6
فكثفه، فإن ذلك الجسم اللطيف لا يتحلل؛ بل يبقى داخلا محتقنًا، ويزداد لا محالة
7
قوة؛ اذ لولا الاحتقان لكان يتحلل.
8
وأكثر هؤلاء لم يصدقوا أمر القنى والآبار؛ بل ذكروا أن ذلك غلط من الحس
9
كما يعرض لداخل الحمام. فإنه أول ما يدخل عن هواء بارد شتوى يتسخن ما يفيض
10
على رأسه من ماء فاتر، ثم إذا استحم بالحمام الداخل استبرد ذلك الماء بعينه، وذلك لأنه
11
أول ما دخل كان بارد البشرة، وكان الماء بالقياس إليه حارا، ثم لما أقام فى الحمام
12
الداخل سخنت بشرته بالتدريج، حتى صارت أسخن من ذلك الماء. فلما أعاد ذلك الماء
13
على بشرته كان باردا بالقياس إليها. وأما الانتقال المتدرج فيه فلا يحس به، كما يحس
14
عن المغافص دفعة ذلك الذى يسميه الأطباء سوء المزاج المختلف.
15
قالوا: وكذلك حال الأبدان فى الشتاء، فإنها تكون أبرد من مياه القناة،
16
وفى الصيف أسخن من تلك المياه، والمياه فى الفصلين على حال متقاربة، لكن الحس
17
يغلط فيها الغلط المشار إليه.
213
1
وهذا الذى قالوه ليس مما لا يمكن. لكن ليست الصورة فى الآبار والقنى على نحو
2
ماذكروا بوجه من الوجوه. فإنا قد امتحنا تلك المياه فوجدناها فى الشتاء تذيب الجمد
3
فى الحال، ولا تذيبه فى الصيف. وليس يصعب علينا فى الشتاء أن نسخن أبداننا
4
سخونة تعادل سخونة الصيف. فإذا فعلنا ذلك، وجرّبنا تلك المياه صادفناها حارة،
5
وفى الصيف جربناها فصادفناها باردة، وكثير منها يقارب المياه المبردة بالثلج والجمد.
6
وههنا أمور جزئية من الأحوال الطبيعية تكذب هذا الرأى وتبطله سنحصيها خلال
7
ما نحن شارحو أمره من جزئيات الطبيعيات، لكن الحق فى هذا شىء آخر.
8
نقول إن الجسم الذى له طبيعة مبردة أو مسخنة فإنه يبرد ذاته، أو يسخنها، بطبيعته،
9
ويبرد أيضا ما يجاوره ويتصل به، أو يسخنه.
10
وأيضا نقول إن القوة الواحدة إذا فعلت فى موضوع عظيم وفعلت فى موضوع صغير
11
فإن تأثيرها فى الموضوع الصغير أكثر وأقوى من تأثيرها فى الموضوع العظيم. وهذا أمر
12
قد تحققته من أمور سلفت. وتوجدك التجربة مصداقه. فلا سواء إحراق خشبة صغيرة
13
وإحراق خشبة كبيرة، ولا سواء إضاءة مشكاة من سراج واحد بعينه، واضاءة صحراء
14
رحيبة منه.
15
فإذا كان فى جسم ما، من نفسه، أو من شىء فيه، مبدأ تسخين، وكان ذلك
16
المبدأ يسخنه كله، كان تسخينه له كله أضعف من تسخينه لما هو أصغر من كليته.
17
وإذا استولى البرد على الأجزاء الظاهرة منه، فامتنع فعلها فيه وبقى المنفعل عنه
214
1
الأجزاء الباطنة، وهو أقل من كليته، كان، تسخنها وانفعالها من المؤثر أشد بكثير
2
من تسخن الكلية وانفعالها عن تلك القوة بعينها، كمن كان عليه ثقل يحمله فنقص
3
بعضه، وتسلطت قوته على شطر منه، فيكون تأثيره فيه أسرع وأقوى وكذلك الحال
4
فى التبريد.
5
فيجب أن نعتقد حال التعاقب على هذه الجملة، لا على سبيل اختلاف مقايسة،
6
ولا على سبيل انتقال عرض، أو انهزام ضد من ضد. فالماء ليس إنما ينهزم من النار
7
على ما يظنونه؛ بل يتبخر دفعة بخارات شأنها أن ترتفع إلى فوق دفعة، مع مخالطة الماء
8
الذى لم يستحل، فتحدث من ذلك حركة مضطربة وصوت ينبعث عن شدة حركة هوائية
9
تعرض هناك، لا على سبيل أن الماء يستغيث من النار بوجه من الوجوه. وهذه الحركة إنما
10
يقصد الماء فيها كالمساعدة للنار، والمصير نحو جهتها لما قبله من السخونة. فربما لم يمكنه
11
لثقله ولبطلان الكيفية المكتسبة له عند مفارقة مستوقد النار بالغليان، وربما قسره
12
الهواء الذى يحدث فيه منه على التفرق، وقذفه إلى بعيد تطريقًا لنفسه، كما يغليه
13
ويحبسه، وكما يحدث عن إغلائه من التموج.
215
1
الفصل الرابع
2
فصل فى
3
تعريف ما يقال من أن الأجسام كلما ازدادت
4
عظما ازدادت شدة وقوة
5
ولهذه العناصر بل وللمركبات شىء آخر نظير ماذكرناه، وهو أن الكمية إذا
6
ازدادت ازدادت الكيفية. فإن النار إذا عظمت، وأدخل فيها حديدة فإنها تماس الحديدة
7
منها سطحًا مثل السطح الذى تماسه من النار الصغيرة. لكن سطح النار الكبيرة يحمى
8
فى زمان غير محسوس، وسطح النار القليلة يحمى بعد حين.
9
وكذلك الشىء الذى يلقى فى ملح قليل فإنه لا يتملح، كما يتملح إذا ألقى فى الملاحة
10
فى مدة قليلة.
11
فبين أن كيفية الأعظم أشد كيفية من الأصغر. فمن الناس من يظن أن السبب فى ذلك
12
ليس هو لأن الأعظم أشد كيفية، ولكن الأعظم تتدارك أجزاؤه البعيدة ما يعرض
13
للأجزاء القريبة من المنفعل. فإن هذا المنفعل لا محالة، كما تأثر بمادته فقد يؤثر بصورته.
14
فإن الفاعل فى الطبيعيات منفعل. فإذا انفعلت الأجزاء القريبة من الفاعل الكبير عن
216
1
المنفعل المكنوف الضعيفأعادت الأجزاء التى تليها إياها إلى قوتها، فحفظت قوتها.
2
وهذا مثل المنغمس فى الماء الغمر. فإنه يصيبه من البرد ما لا يصيبه لو انغمس فى ماء يسير.
3
وذلك لأن الماء اليسير إذا برد البدن تسخن أيضًا من البدن. فإذا تسخن لم يجد
4
مما يطيف به ما يتداركه فيبرد. وأما الماء الغمر فإنه إذا سخن ما يلى البدن منه تداركه
5
ما يلى ما يليه، فبرده، فعاد يبرد البدن. فلا يزال يتضاعف تبريده.
6
فهؤلاء يكاد أن يكون احتجاجهم يناقض مذهبهم. أما أولا فلأنهم يجعلون الأجزاء
7
تبرد من الأجزاء: وليس يجب أن يسخن الشىء حتى يبرد. فإن البارد إذا لم يكن
8
الجامد فى الغاية؛ بل كان من شأنه أن يقبل زيادة برد، كان من شأنه أن يبرد مما هو مبرد
9
زيادة تبريد: وهذا يوجب أن تكون الأجزاء كلما تجاورت أكثر، زاد كل واحد منها
10
فى برد صاحبه؛ لأن صاحبه يبرد من طبيعته، ويبرد أيضًا من مجاورته لأنه مبرد.
11
فيجب من هذا أن يكون كلما ازداد عظما ازداد تبردًا، وإن لم يكن هناك مسخن.
12
وليس لقائل أن يقول إن الماء كله متشابه، فيستحيل أن يفعل جزء منه فى جزء،
13
قائلا إن الشىء، كما قد علم، لا يفعل فى شبيهه. وإذا كان كذلك فما دام مجاوره باردًا
14
مثله لم يصح أن يؤثر فيه؛ بل يجب أن يتسخن هو أولا، حتى يصير ضده، فيفعل ذلك
15
فيه البرد.
16
وإنما ليس له أن يقول ذلك لأن المجاور اليارد [*]اليارد corrupt for البارد ليس ينفعل عن مجاوره من حيث
17
هو بارد؛ بل من حيث ذلك مبرد، وهو ناقص البرد، مستعد لزيادة التبرد. فهو من
18
جهة ما هو مستعد مقابل للبارد بالفعل.
217
1
ومعنى قولهم إن الشىء لا يفعل فى شبيهه هو أن الشىء الحاصل بالفعل من المستحيل
2
أن يقال إنه مستفاد عن طارئ من شأنه أن يحدث عنه مثل ذلك الحاصل، بخلاف
3
ما يعرض إذا كان الطارئ بهذه الصفة، والمطروء عليه عادم لذلك الشىء الذى فرضناه،
4
فيما كلامنا فيه، حاصلا، بل فيه ضده. وأما الزيادة عن الحاصل فقد تقع من الطارئ
5
إذا كان بطبعه فاعلا لها، وكان فى المجاور بقية استعداد لقبولها، كيف كان الطارئ فى
6
كيفيته، كان قويا أو ضعيفًا؛ إلا أن يكون ضعفه فى تلك الكيفية يجعله إلى ضدها أقرب،
7
فيكون السلطان فى التأثير لضدها.
8
فهذا هو الذى يجب أن يسلم من قول الناس إن الشىء لا يفعل فى شبيهه. فإنه إن لم
9
يفهم على هذه الصورة فليس بواجب أن يسلم. فالبارد إذا جاوره البارد عرض من ذلك
10
أن يكون تبرده من قوته المبردة التى فى طبعه أقوى كثيرا من تبرده عنها، لو كان
11
مجاوره شيئًا حارا، يكون ذلك الحار كاسرًا من البرد الفائض من طبيعته. وإذا كان
12
مجاور الماء فإنه، مع أنه لا يكسر تبريد قوته، فهو يبرد أيضًا؛ لأن القوة التى فى
13
الماء، على ما علمت، تبرد الماء الذى هى فيه، وما يجعله معا من كل فاعل للتبريد؛
14
وهذه القوة بالحقيقة ليست شبيهة للجرم البارد، فيقال إنها لا تفعل فى شبيهها. فإن هذه
15
القوة مبردة، وليست بباردة، وهى الطبيعة المائية، وهى أيضًا محركة، وليست متحركة.
16
فهى إذا وجدت مادة مبردة محتملة لأن تبرد صار ما فيها لا يعوق عن التبريد الذى
218
1
يفيض منه، لأنها متجانسة مشاكلة. والشىء الذى لا يبطل شكله وجب أن تحصل هناك
2
زيادة زائدة فى تبرد المادة.
3
فإن كانت تلك المادة التى فيه زادته تبردا، وتعدى ذلك أيضًا إلى تبريد ما يجاورها
4
فيكون، بالمجاووة، كل واحد من الجزءين يزداد كيفية؛ لأن طبيعته لا تجد عائقا عن
5
تكميل الفعل، ولأنه يفعل أيضًا فى مجاوره وكلما كثرت هذه الزيادة التى فى الكم ازداد
6
هذا التأثير إلى أن يبلغ الحد الذى لا وراءه.
7
ولو كان جائزًا أن تذهب الزيادة إلى غير نهاية لكان يجب أن يذهب هذا الاشتداد
8
إلى غير نهاية للعلة المذكورة. ولهذا ليس يحق ما يشكك به بعض المتشككين على ماذكر
9
فى علوم المشائين أنه، لو كان الفلك، مع عظمه، نارا لكان يجب أن يفسد ما تحته. فقال
10
لا أرى ذلك يجب، فإن المفسد بالحقيقة هو السطح المماس. وهذا السطح يكون على طبيعة
11
واحدة، وإن كان للجسم الذى وراءه أى عظم شئت؛ فإنه لم يعلم أن هذا السطح لا تثبت
12
كيفيته على مبلغ واحد، حالتى عظم جسمه وصغره.
13
وقد سأل أيضاﹰ، وقال: لو كان الازدياد فى العظم يوجب الاشتداد فى الكيف لكان
14
يجب أن تكون نسبة برد ماء البحر إلى برد ماء آخر كنسبة عظمه إلى عظمه ــ قال
15
وليس كذلك؛ فإن ماء البحر، وإن كان أشد تبريدا، وكان الشارع فيه لا يحتمل من
16
تطويل المكث فيه ما يحتمله الشارع فى ماء قليل، فليس يبلغ أن تكون نسبة بردى
17
المائين نسبة المائين فى مقداريهم.
219
1
فنقول إن هذه أيضا مغالطة، وذلك لأنه ليس قولنا «كلما زاد الجسم البارد مثلا
2
قدرا ازدادت كيفيته شدة» يوجب أن تكون نسبة القدرين نسبة الكيفية فى المزيد
3
عليه، على الكيفية الأولى. وذلك أنا إنما قلنا إنه إذا زيد على هذا الماء ماء مثله، صار
4
برد المزيد عليه أشد، و لم نقدر قائلين إنه صار برد المزيد عليه صار ضعف برده الأول،
5
فإنا لم ننقل إليه برد المضاعف عليه بكليته حتى يتضعف. وليس إذا كان انضمام ذلك إليه
6
يوجب زيادة برد فيه، يجب أن تكون تلك الزيادة مثل الأصل الأول، أو مثل الذى فى
7
المضام. نعم لو كان برد الماء المبرد كله ينتقل إليه لكان بالحرى أن يظن هذا الظن،
8
وأن يقال إن البرد إذا كان مثله تضاعف برده. وليس كذلك؛ بل برد الماء المزيد عليه
9
المضاف إليه يلزمه، ولا يفارق جوهره. إنما يتعدى عنه إلى هذا أثر زيادة قليلة.
10
وإذا أضيف آخر إلى المضاف زادت زيادة أخرى قليلة [فلعلها تكون] أقل من
11
تلك؛ لأن المضاف الثانى أبعد.
12
فليس يجب فى الزيادات أن تتضاعف الكيفية فيها بتضاعف الأقدار، وإذ ليس
13
يجب أن تكون الزيادة مثل الأصل؛ بل يجوز أن تكون أقل منه بكثير، وبحيث
14
لا تحس فى الأضعاف اليسيرة، فلا يجب أن يكون ما اعترض به حقا. نعم لو كان جملة
15
البردين اللذين فى الماءين يمكن أن يفعل فى موضوع كان يفعل فيه برد الجزء الأول
16
لكان يكون تبريده ضعف تبريد ذلك. ولكن هذا محال وغير نافع لهذا المتعنت.
17
أما أنه محال فذلك لأن الأول إنما كان يبرد بالمماسه. وإنما كان يماس مثل مثلا.
220
1
ذلك الذى كان يماسه لا يمكن أن يماس مجموع الجزءين؛ بل إنما يماس مجموع الجزءين
2
ضعف ذلك. وعند ذلك يكون فعله فعلا مشابها لفعله؛ لأن المنفعل ضعف المنفعل
3
إلا ما يزيده زيادة اشتداد الكيفية للاجتماع.
4
وهذا الباب أصل فاصل ينبغى أن يحصل ويحقق.
5
وأما أنه غير نافع للمتعنت فلأن المسألة فى تغير سطح واحد.
6
وبعد هذا، فيجب أن يعلم أن النسبة فى الزيادة تصغر، وتصغر دائماﹰ على
7
ترتيب واحد.
221
1
الفصل الخامس
2
فصل فى
3
تعديد الأفعال والانفعالات المنسوبة
4
إلى هذه الكيفيات الأربع
5
إن لهذه الكيفيات الأربع أفعالا وانفعالات منسوبة إليها مشتركة فى جميع الأجسام.
6
فمنها ما هى للفاعلتين ومنها ما هى للمنفعلتين.
7
فأما التى للفاعلتين فمنها ما ينسب إلى الحر. ومنها ما ينسب إلى البرد، ومنها
8
ما ينسب إليها جميعاﹰ.
9
المنسوب إلى الحر مثل النضج، والطبخ والشى، والتبخير والتدخين، والإشعال
10
والإذابة والعقد.
11
والمنسوب إلى البرد مثل التفجيج، ومنع الشي، ومنع التبخير
12
والتدخين، ومنع الإشعال، ومنع الذوبان الذى هو الإجماد، ومنع الانعقاد، وهو
13
الحل والتكرج.
14
وأما الأمر المشترك بينهما فمثل التعفين، ومثل تجميد كثير من الأجسام، كالحديد
15
والقرن. فإن كل واحد منهما يجمد بالحر والبرد، ومثل العقد والتخثير.
222
1
وأما الأمور المنسوبة إلى الكيفيتين المنفعلتين فهى انفعالات لا غير. فمنها ما هي
2
بإزاء هذه الأفعال الصادرة من الكيفيتين الفاعلتين، مثل قبول النضج، وقبول
3
الطبخ، ومثل الانقلاء والانشواء، والتبخر والتدخن، والاشتعال، والذوبان، والانعقاد.
4
ومنها ما ليس بإزاء هذه الأفعال. فمن ذلك ما بقياس إحدى الكيفيتين
5
إلى الأخرى. أما لليابس فمثل الابتلال والنشف والانتقاع والميعان؛ وللرطب مثل
6
الجفوف والإجابة إلى النشف. وما ليس بقياس أحدهما إلى الآخر؛ فمن ذلك ما هو
7
للرطب وحده. ومنه ما هو لليابس وحده. ومنه ما هو للمركب منهما.
8
فأما الذى للرطب وحده فمثل الا نحصار، وسرعة الاتصال والانخراق.
9
والذى لليابس فمثل الانكسار والانرضاض والتفتت والانشقاق وامتناع الاتصال
10
بمثله، أو الالتصاق بغيره. والذى للمختلط فمثل الانشداخ والانطراق والانعجان
11
والانعصار والتلبد والتلزج والامتداد والترقق.
12
فهذه هى الأفعال والانفعالات التى تصدر عن بساطة هذه الكيفيات وتركبها
13
صدورا أوليا. فما كان من هذه الأحوال بفعل وانفعال مشترك جمعنا القول فيه فى باب
14
واحد؛ وما كان من هذه الأحوال مشتركا بين الفاعلة والمنفعلة فسبيلنا أن لا نكرره
15
فى باب المنفعلة.
223
1
الفصل السادس
2
فصل فى
3
لنضج والنهوة [*]والنهوة Middle Arabic for والنهوءةوالعفونة والاحتراق
4
فنقول إن النضج إحالة من الحرارة للجسم ذى الرطوبة إلى موافقة الغاية المقصودة.
5
وهذا على أصناف: منه نضج نوع الشىء، ومنه نضج الغذاء، ومنه نضج الفضل. وقد
6
يقال لما كان بالصناعة أيضًا نضج.
7
فأما نضج نوع الشىءفمثل نضج الثمرة. والفعال لهذا النضج موجود فى جوهر
8
النضيج، ويحيل رطوبته إلى قوام موافق للغاية المقصودة فى كونه. وإنما يتم، فيما يولد
9
المثل، أن يصير بحيث يولد المثل.
10
وأما نضج الغذاء فليس هو على سبيل النضج الذى لنوع الشىء. وذلك لأن نضج
11
الغذاء يفسد جوهر الغذاء، ويحيله إلى مشاكلة طبيعية المتغذى. وفاعل هذا النضج ليس
12
موجودًا فى جوهر ما ينضج؛ بل فى جوهر ما يستحيل إليه. لكنه مع ذلك إحالة من
13
الحرارة للرطوبة إلى موافقة الغاية المقصودة التى هى إفادة بدل ما يتحلل. والاسم الخاص
14
بهذا النضج هو الهضم.
15
و أما نضج الفضل من حيث هو فضل، أعنى من حيث لا ينتفع به فى أن يغذو فهو
224
1
مفارق للنوعين الأولين. فإن هذا النضج إحالة للرطوبة إلى قوام ومزاج يسهل به دفعها،
2
إما بتغليظ قوامه، إن كان المانع عن دفعه شدة سيلانه ورقته؛ وإما بترقيقه، إن كان المانع
3
عن دفعه شدة غلظه؛ وإما بتقطيعه وبتفشيشه، إن كان المانع عن الدفع شدة لزوجته.
4
لكن هذا النضج، مع ذلك، إحالة من الحرارة للرطوبة إلى موافقة الغاية المقصودة.
5
وكذلك النضج الصناعي، وهو بالطبخ أو التطحين أو القلي، أو غير ذلك
6
مما نذكره. ويعارض هذا النضج أمران: أحدهما كالعدم، وهو النهوة [*]النهوة corrupt for النهوءةوالفجاجة، والثاني
7
كالضد، وهو العفونة.
8
فأما النهوة [*]النهوة Middle Arabic for النهوءة فأن تبقى الرطوبة غير مبلوغ بها الغاية المقصودة، مع أنها لا تكون
9
قد استحالت إلى كيفية منافية للغاية المقصودة، مثل أن تبقى الثمرة نية، أو يبقى الغذاء
10
بحالة لا يستحيل إلى مشاكلة المغتذى، ولا أيضًا يتغير، أو يبقى الخلط بحالة لا يستحيل
11
إلى موافقة الاندفاع، ولا أيضًا يفسد فسادا آخر. فإن استحالت الرطوبة هيئة رديئة،
12
تزيل صلوحها للانتفاع بها فى الغاية المقصودة، فذلك هو العفونة.
13
والنهوة [*]والنهوة corrupt for والنهوءة يفعلها بالعرض مانع فعل الحر، ومانع فعل الحر هو البرودة. وأما
14
العفونة فتفعلها.
15
أما فيما سبيله أن ينضج على القسم الأول لضعف الحرارة الغريزية، وقوة الحرارة
16
الغريبة، فإن الحرارة الغريزية لو كانت قوية لكانت تحسن إحالة الرطوبة أو حفظهما.
17
ولو لم تكن حرارة غريبة لما كان هذا يستحيل إلى كيفية حارة ردية [*]ردية Middle Arabic for رديئة؛ بل يبقى فجا،
225
1
ولهذا ما يكون الميت أسرع إلى التعفن بالحرارة الغريبة من الحى بكثير، والساكن
2
من المتحرك، واللحم البنى [*]البنى corrupt for النىّ من المطبوخ، وأبرد الجنسين من اسخنهما؛ فإن السخين الحار
3
لا يقبل من العفونة ما يقبله مضاده؛ مثل ماء البحر ومياه الحمامات فإنها أقل عفونة من
4
مياه الآجام. وجميع ذلك إنما يصير أسرع تعفنا لأن حرارته الغريزية تبطل، وقد يبطئ
5
التعفن إذا لم تكن حرارة غريبة، وإن بطلت الحرارة الغريزية، لأن عدم الحرارة
6
الغريزية لا يكفى فى ذلك. وإذا أردنا أن تحفظ [*]تحفظ corrupt for نحفظ العصير من أن يعفن وينتن فإنا نجعل
7
فيه الخردل أو قثاء الكبر، فإن ذلك يورثه تسخينا غريزيا، أو يقوى حرارته الغريزية،
8
فيقاوم بها الحار الفاعل فيه.
9
فكأن الرطوبة الغريزية تتداول تدبيرها حرارة غريزية وحرارة غريبة،
10
وتكون اليد للغالب منها. فإن استولت عليه الحرارة الغريزية وجهت التدبير إلى الجهة الموافقة
11
للغاية المقصودة، وإن استولت عليه الحرارة الغريبة انصرف التدبير عن الجهة الموافقة؛
12
بل صارت الرطوبة ذات كيفية غريبة غير ملائمة للنوع، ولأنها ليست موجودة فى شىء
13
آخر حتى تصير ملائمة له؛وتكون تلك الحرارة حرارة منافية للوجود، كما الغذاء
14
إذا انهضم عن حرارة غريبة لشىء آخر، فإنها تبقى معطلة عن موافقة الوجود.
15
ومنتهى العفونة التنتين. فللعفونة فى الكائنات عن الرطوبة، طريق مضادة
16
لطريق الكون. فإن الكون يصرف الرطوبة، على المصلحة، إلى الكمال، والعفونة
17
تصرفها، على المفسدة، إلى البوار. والبرد يعين على العفونة، بما يضعف من الحرارة
226
1
الغريزية أولا، وبما يحقن من الغريبة، وهذا هو العفونة.
2
وربما استعد الشىء بالعفونة لقبول صورة أخرى، فيتولد منه شىء آخر: نبات
3
أو حيوان. وهذه الحرارة الغريبة إن كانت قوية، بحيث تسرع فى تحليل الرطوبة
4
المذكورة، لم تكن عفونة؛ بل احراق أو تجفيف. وإنما تكون العفونة إذا بقيت
5
الرطوبة مدة تستحيل عن الموافقة وهي رطوبة.
6
فقد عرف من هذا القول حال النضج النافع فى تكميل الصورة النوعية. و أما النضج
7
الثاني و الثالث فإن السبب فيها حرارة غريبة أيضًا لكنها غريزية للشىء الذى لأجله ما ينضج
8
النضج المذكور. فإذا فعلت هذه الحرارة فعلها، و بلغت به الغاية المقصودة فقد نضج؛
9
و إن قصرت و عاوقها برد كانت فجاجة؛ و إن استولت عليها حرارة غريبة أخرى أفسدت
10
على الغريزية فعلها، و قهرت الحرارة التى فى الغذاء، فزال الغذاء عن طبيعته، ولم يستحل
11
إلى طبيعة البدن، وصار معطلا لا ينفع به. وذلك هو العفونة.وكذلك الخلط إذا لم يبق
12
بحاله، ولم يستحل إلى النضج، بقي عفنا. لكن الخلط العفن قد يلحقه النضج، فيجعله
13
بحيث يندفع؛ لأن غاية هذا النضج هي هذا.
14
فالنضج مادته جسم رطب ليس بيابس صلب، ولا أيضا بنحيف لا يحفظ الرطوبة
15
التى له كالخشب. والفاعل فيه حرارة غريزية، وصورته تكيف الرطوبة بكيفية موافقة
16
لغرض الطبيعة، وغايته تتمة نشء الأشخاص الجزئية.
17
والنهوة [*]والنهوة Middle Arabic for والنهوءة مادتها جسم رطب، وفاعلها برد أو عدم حر، وصورتها بقاء الرطوبة
227
1
غير مسلوك بها إلى الغاية الطبيعية.فصورتها عدم النضج، وغايتها الغاية العرضية
2
التى تسمى الباطل، وقد بينا حكمه.
3
والتكرج يشاكل من وجه، العفونة، إلا أن التكرج يبتدئ من حرارة عفنية
4
فى الشىء تفعل تبخرا فيه لا يبلغ إلى أن ينفصل عنه بالتمام؛ بل يحبسه البرد على وجه
5
الشىء وظاهره، فيداخل جرمه أو ما يغشى جرمه. ويحدث منه لون أبيض من اختلاط
6
الهوائية بتلك الرطوبة، كما يعرض للتبريد، ويبقى على وجهه.فإن لم تكن هناك حرارة
7
البتة لم يكن تكرج، وإن كانت الحرارة أقوى كانت عفونة؛ وإن كانت أشد من ذلك
8
كان تجفيف وإحراق.
228
1
الفصل السابع
2
فصل فى
3
الطبخ والشي والقلي والتبخير، والتدخين، والتصعيد
4
والذوب والتليين والاشتعال، والتجمير والتفحم
5
ما يقبل ذلك وما لا يقبله
6
وأما الطبخ فالفاعل القريب له حرارة رطبة تسخن وتخلخل المطبوخ بما هو حار،
7
ولذلك تحلل من جوهره ورطوبته شيئا، ولكنها ترطبه بما هو رطب أكثر مما يحلل
8
منه. ومع ذلك فإن رطوبته الطبيعية تتحلل من ظاهره أكثر من تحللها من باطنه.
9
ويقبل الرطوبة الغريبة أيضا من ظاهره أكثر من قبولها إياها من باطنه. ومادته جوهر
10
فيه رطوبة. فإن اليابس المحض لا ينطبخ إلا باشتراك الاسم. فإنه قد يقال للذهب
11
وما أشبهه، قد انطبخ؛ وذلك إذا نفت الحرارة النارية ما فيه من الجوهر الغريب،
12
وخلصته نقيا.
13
وأما الشي فالفاعل القريب له حرارة خارجة يابسة. ولذلك يأخذ من رطوبة ظاهر المشوي
229
1
بالتحليل أكثر مما يأخذ من رطوبة باطنه، فيكون باطنه أرطب من
2
ظاهره وبخلاف المنطبخ، وتكون الرطوبة الموجودة فى المشوي رطوبة جوهرية،
3
وقد لطفت وأذيبت فى المطبوخ. فقد تكون رطوبته ممتزجة من الشىء الطبيعي
4
ومن الغريب.
5
والشي أصناف فمنه ما تكون الحرارة الملاقية هواء ناريا، ويسمى مشويا على
6
الاطلاق؛ ومنه ما تكون الحرارة الملاقية حرارة أرضية. فإن كان مستقره نفس النار
7
الجمري سمي تكبيبا، وإن كان مستقره جسما آخر أرضيا تسخن من نار خارجة منه، ثم
8
سخن ذلك الجسم، سمى قليا.
9
وقد يكون منه ما يشبه الشي من جهة، والطبخ من جهة، وهو الذى يكون التأثير
10
فيه بحرارة لزجة دهنية، وهذا يسمى تطحينا. فلأن هذه الحرارة رطبة فهذا التأثير
11
قد يشبه الطبخ، ولأنها لزجة لا تنفذ فى جوهر الشىء نفوذا يخلخله ويلينه، بل يجمعه
12
ويحصر رطوبته فى باطنه بتشديد اللزوجة فهذا التأثير يشبه الشى.
13
وقد يقال للهضم والنضج طبخ أيضا باشتراك الاسم.
14
وأما التبخير فهو تحريك الأجزاء الرطبة متحللة من شىء رطب إلى فوق، بما يفاد
15
من مبدأ ذلك بالتسخين.
16
والتدخين هو كذلك للأجزاء الغالب فيها اليابس. فمادة التبخير مائية ومادة
17
التدخين أرضية. والبخار ماء متحلل والدخان أرض متحللة. وكل ذلك من حرارة
18
مصعدة. فالجسم الرطب كالماء، لا يدخن، والجسم اليابس، كالأرض، لا يبخر.
230
1
وقد يكون جسم مركب من رطب ويابس يبخر ولا يدخن. وذلك إذا كانت
2
الرطوبة فيه غير شديدة الامتزاج باليابس، وكان اليابس عاصيا لا يتصعد، كمن يعجن
3
الطلق والحديد، ويخمره بالماء، ثم يقطره، فإنه لا يقطر منه إلا الماء، اللهم إلا أن يتولى
4
فى ذلك الباب حيل. ولا يجوز أن يكون جسم ممتزج هذا الامتزاج ويدخن ولا يبخر،
5
وذلك لأن الرطوبة أطوع لتصعيد الحرارة من اليبوسة. وكل ما يتصعد ويتبخر ويتدخن
6
فأول ما يتصعد منه بخار ساذج لا محالة، أو شىء الغالب فيه المائية ثم يصعد غير ذلك.
7
فإن كانت فيه دهنية صعدت الدهنية بعد المائية.وإن كان جوهر اليبوسة فيه مما يقبل
8
التصعد صعد حينئذ الدخان. وذلك لأن الرطوبة أطوع، ثم المختلط من رطوبة ويبوسة
9
كالدهنية اللزجة، ثم شىء آخر. فإنه، وإن كانت مادة التبخير والتدخن ما قلنا فليس
10
يجب من ذلك أن يكون كل مركب متبخرا أو متدخنا. وذلك لأن الرطب واليابس
11
إذا امتزجا فربما امنزجا[*]امنزجا corrupt for امتزجا امتزاجا شديدا، حتى تعسر مفارقة أحدهما الآخر،
12
وانفصاله عنه.
13
وربما كان الامتزاج أسلس من ذلك. فإن كان المزاج سلسا أمكن أن ينفصل
14
بعض الأجزاء عن بعض فيتبخر ويتدخن. وإن كان محكما لم يكن لبعض الأجزاء أن
15
يفارق بعضا.
16
فإن كان الرطب جامدًا فربما أثر فيه الحر حتى يذوب؛ وربما لم يؤثر أثرًا يذوب به
17
ولكن يلين كالحديد. وربما لم يؤثر، إذابة ولا تليينًا، كالطلق والياقوت. ويجوز
18
أن يكون جوهر الغالب فيه المائية، وقد جمد جمودًا لا يؤثر فيه النار كالياقوت. وكل
231
1
ما كان كذلك فهو رزين ثقيل لشدة تلاحم أجزائه. وإذا كان من هذه الأجساد ما قد
2
يتحلل منه شىء يسير بالتسخين من النار، إلا أن جوهره لا يفسد، فقد يعرض أن تفيده
3
النار رزانة واجنماع [*]واجنماع corrupt for واجتماع أجزاء يصغر به، كالنحاس والفضة وغير ذلك.فإن هذه إذا عمل
4
فيها النار كثيرًا انفصل عنها شىء من جوهر الكباريت والزرانيخ والسك، وازدادت
5
ثقلا، وذلك لأن الذى ينفصل منها هو شىء هوائي تجفف. وإذا زالت وبقيت
6
الأرضية وحدها كان الشىء أثقل منه إذا كان مخلوطًا بهوائية وأصغر. فالجسم المبخر
7
وحده هو الرطب، الصرف، أو الذى لا تشتد ملازمة رطوبته يبوسته. فهو غير محكم
8
تلازم الأجزاء.
9
والجسم المدخن هو اليابس المحض القابلة أجزاؤه للتلطيف أو المركب الذى التزم
10
رطوبته ويبوسته، إلا أن جملة تركيبه مخلخل غير محكم، فتقبل أجزاؤه الانفصال،
11
وتعين رطوبته على تصعد يبوسته. فإن كثيرًا من الأجسام التى لا تتصعد بالحرارة،
12
أو التى يعسر تصعيدها، إذا اختلطت بالأجسام التى تتصعد خلطًا شديدًا تصعدت.
13
فإن قومًا يرومون أن يصعدوا الحديد والزجاج والطلق وغير ذلك، فلا يزالون
14
يصغرون أجزاءه، و يخلخلونها بالتربية فى النوشادر المحلول. فحينئذ يوقدون عليه بقوة
15
فيتصعد الجميع. وكثيرًا مالا يحتاج إلى أن يخلط به ما يصعد فى نفسه؛ بل يلطف وتصغر
16
أجزاؤه تصغيرًا مفرطًا، فإنه حينئذ يقبل التصعيد مثل النحاس. فإنه مما يذوب
17
ولا يصعد. فإذا زنجر زنجرة محكمة جدًا بالغة صعد عن أدنى حرارة.
232
1
وكذلك كثير من الأجسام التى تتصعد بسهولة يجعل بحيث لا يتصعد؛ إما بأن
2
يغلب عليه مالا يصعد بمزاج قوى، مثل النوشادر يحل ويحل الملح الحجري، ويخلطان
3
خلطًا يغلب فيه الملح، ثم يترك المخلوط مدة حتى يشتد امتزاجه، ثم يعقد، فلا يدع الملح
4
النوشادر أن يصعد؛ لأنه ينوء به ويثقله، وشدة الامتزاج لا تمكنه من الافتراق.
5
لكن ذلك المجوع يذوب. فإن جعل النوشادر أغلب صعد، واستصحب الملح.
6
كما إذا جعل الملح أغلب ثبت واستصحب النوشادر، وإما بأن تجمع أجزاؤه
7
جميعًا [*]جميعًا corrupt for جمعا [according to Van Riet 1989, 47 fn.] مدمجًا، حتى يصغر الحجم، ويشتد الاجتماع، وتتلازم الأجزاء، فلا تتفرق،
8
ولا تتصعد.
9
وقد يحاول قوم أن يجعلوا النوشادر وما يجري مجراه بهذه الصفة.
10
وأما الإذابة فيحتاج الجوهر القابل لها إلى رطوبة تلازم اليبوسة. وإذا تحللت عن
11
جمودها، وسالت، بقيت بعد التحلل والسيلان متلازمة. فإن لم تبق فهي متبخرة،
12
وإن بقيت قليلا، ثم انفصلت، فهو مما يذوب ويتبخر معًا كالشمع.
13
وأما التليين بالنار كالحديد والزجاج، فيشبه أن لا تكون الرطوبة التى فيه بحيث
14
تسيل بعد التحلل، وهذا قلَّما يتبخر. والرطوبة فى الذائب أكثر منها فى المتلين. وجميع
15
ما يلين ولا يذوب، بل مالا يلين ولا يذوب فإنه إذا أفيد كيفية حادة دسمة من شىء ناري
16
مشوّي به، أو يلقى عليه، سهل قبوله لفعل النار، فاستولت عليه النار، وحللت اليابس
17
العاصي فيه، وخلخلت جوهره، حتى يسيل للتخلخل مثل الحديد والطلق والمارقيشيثا والملح.
233
1
فإن جميع ذلك إذا شوى بالكبريت، أو الزرنيخ أو النوشادر وزبد البحر، أو الملح
2
المتخذ بالقلي، أو أشياء أخر من هذا الجنس، ذاب.
3
وأما الجسم المشتعل فهو الذى ينفصل عنه بخار ليس من الرطوبة والبرودة، بحيث
4
لا يستحيل نارا؛ بل هو رطب حار دهني أو يابس لطيف.فإن كان يابسا كثيفا
5
أو رطبا لا دهنية فيه لم يشتعل. وجميع البخار المنفصل عن الدهنيات، وعن الأشربة
6
الحارة المزاج، والمياه البحرية، يشتعل. وكل مشتعل فهو الذى من شأنه أن يتصعد عنه
7
دخان قابل للاستحالة إلى النارية، إشراقا وإضاءة وحرارة.
8
وأما المتجر غير المشتعل فهو الذى تستحيل أجزاؤه إلى النارية إشراقا وإضاءة
9
وحميا، لكنه لا ينفصل عنه شىء، إما ليبوسته مثل الصخر والحجر؛ وإما لشدة
10
رطوبته، حتى يكون ما يتحلل منه بخارا مائيا لطيفا لا يشتعل. واليابس منه يبقى
11
فى جوهره، فيحترق.
12
وأما المشتعل الغير المتجمر فهو الذى ليس من شأن أجزائه، ما لم تتبخر،
13
أن تستحيل إلى النارية مثل الدهن، فإنه لا يتجمر البتة؛ بل يشتعل.
14
والمشتعل المتجمر هو الذى يجتمع فيه الأمران جميعا.
15
والفحم من جوهر أرضي قابل للاشتعال بطل تجمره قبل فناء ما فى جوهره من
16
المادة المستعدة للاشتعال.
17
والرماد هو بقية جوهر أرضي قد تفرق أجزاؤه، لتصعد جميع ما فى أجزائه من
234
1
الدخان المتصعد. فإن كان جوهر الشىء مشتعلا كان رمادا، وإن كان غير مشتعل،
2
بل متحجرا فقط، أو ذائبا، سماه قوم كلسا.
3
وقد يتفق أن يكون شىء واحد قابلا للذوب والتدخن والاشتعال جميعا كالشمع.
4
ومثل هذا الشىء لا يكون عسر الإذابة كما تدرى.
235
1
الفصل الثامن
2
فصل فى
3
الحل والعقد
4
ينبغي أن يستقصي القول فى أمر الحل والعقد. فليس كل شىء ينحل عن إذابة الحر.
5
فقد تنحل أشياء من البرد والرطوبة، بل قد تنعقد أشياء من الحر. فإن الملح يعسر
6
انحلاله بالنار، وينحل بالماء والنداوة بالسهولة، حتى يصير ماء من غير أن يكون داخله
7
من جوهر الماء زيادة يعتد بها، أو يكون بحيث لو خلط مثلها بجسم يابس سيّله. والبيض
8
ينعقد بالنار حتى يصلب بعد سيلانه، وانحلاله. وكثير من الأشياء يعرض له أن لا ينعقد
9
بالحر؛ بل يخثر. وكثير منها ما يعرض له ذلك من البرد كالزيت. وكثير من الأشياء
10
يخثر بها جميعًا، كالعسل. وأما المنى فإنه يرق لا محالة بالبرد.
11
فنقول أولا: إن من شأن المائية أن تخترق بالمخالطة، وأن تجمد بالبرد، وأن تنعقد
12
أيضًا باليبوسة. فلذلك يصير الماء أرضًا، لا بزيادة برد تلحقه. وإذا جمد البرد فربما
13
كان ذلك بمشاركة من ضغط الحار أولا، ومعونة منه حتى يحدث بخارًا حارًا، ويتحلل
14
فيتبعه الجمود.
15
وأيضًا فإن من شأن المائية أن تتحلل وترق بالحر، وذلك معلوم. ومن شأنها أن
236
1
تخثر بالمخالطة:إما بالحقيقة فبمخالطة الأرضية، كما يحدث عنه الطين، وإما بالحس
2
فلمخالطة الهوائية، كما يحدث عنه الزبد، وذلك بكثرة ما يحدث من السطوح التى
3
ينعكس عنها البصر، فلا ينفذ نفوذه فى المشف. ومع ذلك، فيكون الهواء لشدة اجتماعه
4
فى المحتقن إياه المنحني عليه بثقله يعرض له من المقاومة ما يعرض له فى الزق المنفوخ فيه
5
إذا دفع باليد وراء الزق.
6
ومن شأن الأرضية أن يشتد جفوفها بالحر. فيجب أن يكون بحيث يتندى ويسيل
7
بالبرد، فيكون البرد من شأنه أن يجمد السيال ويلين ضده.
8
والحر من شأنه أن يدمج ويجفف اليابس وأن يرق ضده.
9
ومن شأن الهوائية والنارية ألاّ يجمد الماء فى طباعهما من اللطف، وإن صارا بحيث
10
يجمدان فقد استحالا عن جوهرهما.
11
وأينما رطوبة حصلت فيها أرضية وهوائية لم تجمد بسبب الهوائية، ولكنها تخثر
12
من الحر والبرد جميعًا. أما من الحر فبسبب ما فيها من الأرضية، وأما من البرد فبسبب
13
استحالة ما فيها من الهوائية. وهذا كالزيت.
14
واليبس من طباعه أن يحيل الضد إلى مشاكلته. فاليبس من شأنه أن يجمد.
15
وكذلك الرطوبة من شأنها أن تذيب وتحل.وهذا هو الحق.
16
والحرارة تعين كلا من اليبوسة والرطوبة على فعله فالرطب الحار أشد تحليلا
17
لما يحل به. واليبوسة الحارة أشد عقدًا لما يعقد بها.
237
1
وأما العسل فيجعله الحر أولا أرق فى قوامه. وذلك لما يتحلل من لطيفه، فيكون
2
هو أرق بالقياس إلى ما كان قبل أن مسه الحر. لكنه إن أصابه البرد لم يكن أولا
3
أرق بالقياس إلى ما كان من قبل.وذلك لأن فى هذه الحال يجمد أشد مما كان
4
قبل. فالبرد يجمده لأن فيه رطوبة، والحر يجمده لأن فيه يبوسة. فتغلب بالحر على
5
ما علمت، ويعينها تحلل من الرطوبة.
6
وأما الزيت فعسيرًا ما يجمد، وذلك للزوجته، ولما فيه من الهوائية، وإن كان
7
قد يخثر لاستحالة هوائية إلى الضبابية. والطبخ لا يخثره كثير تخثير، لأنه لا يقدر على
8
التفصيل بين رطوبته ويبوسته، لأنه شديد الاختلاط جدًا. ولذلك هو لزج. وإنما ينقص
9
قدره لتبخر ما يتبخر عنه. لكن المتبخر يكون فى صفة ما يبقى فيه من حيث إنه يتصعد
10
ممتزجًا من الجوهرين، لا ألطف كثيرًا منه، وذلك كما يتبخر الصاعد عن الماء، ويترك
11
الباقي بحاله. والزيت يعسر تصعيده لأنه لزج مشتعل.
12
وأما البيض فإن الحر يعقده عن سيلانه، ثم يحله بالتفرين[*]بالتفرين corrupt for بالتفريق لا بالتسيل[*]بالتسيل corrupt for بالتسييل. وإنما ينعقد
13
البيض بالحر لأن المنبث فى جوهره يبوسة رققها النضج فى الرطوبة. فإذا ما سخن استعانت
14
اليبوسة بالحرارة، على ما فد وقفت عليه، فغلبت الرطوبة وعقدت.
15
ومادة الملح ماء عقده يبس أرضي خالطه بمعاونة حرارة. فلذلك ينحل بالبرد،
16
وخصوصا إن كان مع الرطوبة. وقد ينحل أيضًا برطوبة حارة، إن لم تكن الرطوبة
17
لزجة. فإن اللزج لا يفعل رطوبته حلا، ويزيد حرارته عقدًا. وأغلب ما يحل الملح هو
238
1
الرطوبة، لأن انعقاد مادة رطوبته هو بسبب اليابس الأرضي الذى فيه، ولو لم يكن هناك
2
رطوبة انعقدت، بل يبوسة أرضية، لكان يعسر انحلالها بالرطوبة.
3
وأما البرد فيحله لإيهانه قوة اليبوسة التى فيه المستفادة من الحر الذى يسببه [*]يسببه probably corrupt for بسببه ما قدر
4
اليابس على عقد تلك الرطوبة المقتضية للسيلان فى مثل حالها.
5
ومن الأشياء ما يجمد بالبرد وينحل بالرطوبة كالدم فهو مائي أرضى. فلمائية يجمده
6
البرد، ولأرضيته تحله الرطوبة. والشظايا التى فى الدم تعين على إجماد الدم ليبسها. وإن
7
كانت الشظايا قليلة أبطأ انعقاده. وأما المنى فإنما تخثره الريح المخالطة، وهي الهوائية، فإذا
8
كسرها البرد وأحالها، أو انفصل، رقّ. والدم قد ينعقد، لكنه إن كان رقيقًا جمد
9
ولم يخثر كالماء. وإن كان غليظًا خثر أولا، لاختلاف جمود أجزائه.والجبنية هي علة
10
انعقاد اللبن لأرضيتها وتجفيفها. وكل لبن قليل الجبنية فهو لا ينعقد. وكذلك إذا نزع
11
جبنه لم ينعقد.
12
والدم أيضا فإن ثقله والليفية التى فيه سبب من أسباب انعقاده. فإن قل ثقله وليفه،
13
كدم بعض الحيوان، أو الدم الغير النضج المائى من كل حيوان، إذا نزع عنه ليفه،
14
لم يجمد.
15
وكل ما ينحل بالحر فهو الذى جمد بالبرد، والغالب عليه الرطوبة وكل ما ينحل
16
بالبرد فهو الذى جمد بالحر والغالب عليه اليبوسة. وقد يجتمع الحر والبرد على إجماد
17
الشىء فيصعب حله، وإذابته. وذلك الشىء هو الذى أعان الحار على جموده بما حلل
18
من الرطوبة، وبما غلب من سلطان اليبوسة، وأعان البرد على جموده بكره على ما بقي
239
1
رطبا منه، فيشاركان على إجماده. وهذا مثل الحديد ومثل الخزف. فإن كانت قد
2
بقيت فيه رطوبة صالحة أمكن أن يذاب بالاحتيال؛ وإلا فبالقسر. فإن الخزف أيضا يلين
3
ويسيل فى شدة الحر.
4
واعلم أن الحر إذا اشتد سلطانه خلخل المادة وسيّل الرطوبة، فأبطل معه إجماد
5
اليابس الذى يستعين به، وبما يحدث منه فى تلك البيوسة أيضا من تخلخل.
6
والملح والخزف قد يذوب آخر الأمر. لكن الملح إذا أراد أن يذوب لم يكن؛
7
لأن اليابس فيه قليل فى الكم، كثير فى القوة. وكذلك حاله إذا انحل فى الماء.
8
وأما أشياء أخرى فأولا لا تلين ونخثر، ثم تذوب.
9
والرطوبات القابلة للخثورة منها أرضية كالعسل، ومنها هوائية أرضية مثل الزيت.
10
وكل ما يخثر بالبرد، وفيه هوائية، فإنه يبيض أولا لجمود هوائيته وقربه من المائية. وكثير
11
من الرطوبات إذا طبخت فى النار ابيضت أيضا كالزيت. وذلك لتحلل الوسخ منه وتحلل،
12
شىء من المائية والهوائية التى خالطته. وكثيرا ما تسوّد لما يخالطها وينحصر فيها من
13
الدخان بسبب الاحتراق.
14
والمدوف فى الرطوبة منه ما ينحل ومنه ما يختلط. والذى ينحل فهو الذى لا يرسب،
15
وهو الذى يرجع إلى أجزاء صغار ليس فى قوّتها أن تخرق جرم الرطوبة وتنفذ فيه كالملح
16
والنوشادر. ومنه ما يرسب كالطين إذا حلل فى الماء. فإنه لا تفعل الرطوبة فى تحليله
240
1
ما تفعل فى تحليل الملح، لأن مسام الملح كثيرة ومستقيمة، وأجزاء لطيفة. وليس كذلك
2
حال الخزف، ولا تنفذ فيها الرطوبة نفوذا مفرقا.
3
ومن أراد أن يمزج أشياء مختلفة مزاجا يشتد تلازمه فهو يحتال فى حل تلك الأشياء
4
ثم جمعها، ثم عقدها. لكن أكثر ما يفعل به ذلك يبطل خاصيته. وكثير منها يبقى
5
خاصيته كالملح والسكر.
6
والرطوبة، إذا كانت مغلوبة، جمدت بأدنى برد، وانحلت بحرارة شديدة.
7
فإن كانت غالبة فبالضد. فلذلك ما كان الرصاص يسهل ذوبه، ويبطئ جموده،
8
والحديد بالعكس.
241
1
الفصل التاسع
2
فصل فى
3
أصناف انفعالات الرطب واليابس
4
وأما الابتلال والانتقاع والنشف والميعان فلنتكلم فيها، فنقول.
5
إن من الأجسام ما يبتل، ومنها ما لا يبتل. أما الذى يبتل فهو الذى إذا ماسه جسم
6
مائي لزمه منه رطوبة غريبة؛ والذى لا يبتل فهو الذى إذا ماسه ذلك لم يعرض له هذا
7
العرض. وذلك إما لشدة صقالته، وإما لشدة دهنيته. على أن الدهنية تفعل ذلك
8
بما يحدث هناك من الصقالة. فإن الصقيل، لاستواء سطحه، تزلق عنه الرطوبة
9
إلى جهة تميل إليها بالتمام. وأما غير الصقيل فتلزم الرطوبة ما فيه من المسام، ثم يتصل
10
ذلك اللزوم، فيحصل منه شىء كثير على وجهه.
11
وأما الانتفاع فإن يغوص الرطب فى جوهره، فيحدث فيه لينا، مع تماسك. فإنه
12
إن لم يحدث فيه لينا لم يقل منتقع. وإن انحل لم يكن أيضا منتقعا. وكل منتقع مبتل. وليس
13
كل مبتل منتقعا.
14
والأجسام الرطبة إما رطبة برطوبة هي لها فى أنفسها، مثل الغصن الناضر، وإما
15
رطبة رطوبة غريبة. وتلك إما لازمة لسطح الجسم، كالحب المبلول، وإما غائصة فى عمقه،
16
كالجسم المنقوع فى الماء.
242
1
وإذا نفذت الرطوبة فى العمق، ولم يحدث العارض المذكور، كما فى حال النشف
2
الذى لا يبلغ الترطيب البالغ، فلا يسمى نقيعا.
3
والنشف يحدث لدخول الرطوبة المائية إثر ما ينفش من مسام الجسم اليابس
4
من الأجزاء الهوائية المحصورة فيه المحتبسة فى مجاريه بالقسر لضرورة الخلاء.فإذا وجدت
5
ما ينفذ، ويقوم مقامها، أمكنها أن تتحلل بالطبع الذى يقتضي مفارقتها له.فإن انحصار
6
الهوائية فى الأرضية وفى المائية انحصار قسرى. فإذا تحلل وانفصل وجرى الماء فى مجاريه
7
فربما عرض لما يجري فى المسام، وخالطه الجسم، أن ينعقد من اليبوسة للمخالطة لمثل
8
السبب الذى ينعقد له الملح، وما يجرى مجراه. فيعرض له ما يعرض فى الجص إذا خلط
9
به الماء ــ وكذلك فى النورة وغيره. وربما لم يعرض.
10
وكثير مما ينشف يعرض له أن يجف فى الحال. وذلك لأن الرطوبة إذا كانت
11
قليلة، وانجذبت بالقوة إلى باطن لم يجب أن تحتبس على الظاهر إذا لم تجد الهواء الآخر
12
المماس للرطوبة يتبعها منجذبا عن انجذابها من الهواء المنفصل. ويكون جذب الهواء الآخر
13
للمقسور أشد من ممانعة الهواء الذى فى موضعه الطبيعي، لأن المقسور المحبوس المضيق
14
ذو ميل بالفعل.
15
والذى فى موضعه الطبيعي لا ميل له بالفعل، إلا إذا تحرك وزال عن موضعه.
16
وإنما ينفعل من الهواء الحادث فيما نحن فيه من الهواء ما هو ساكن فى موضعه لا ميل
17
له. وإذا تحرك غلب ميله الطبيعي أيضا، فلم يكن ميل الساكن الذى لم يترعج من ذاته
18
ميلا طبيعيا.
243
1
وإذا كانت الرطوبة المنشوفة مائية رقيقة أسرع نفوذها. وكثيرا ما تكون سرعة
2
الحركة سببا لتسخين الرطوبة، حتى تتبخر وتتحلل. وإن لم تكن الرطوبة مائية؛ بل
3
كانت دهنية، أبطأ نفوذها. ولا ينشف من الأجسام اليابسة إلا ذو مسام موجودة
4
بالفعل لطيفة. وأما المصمت فلا ينشف، وكذلك مسامه مملوءة من غير الهواء.
5
وقد بقى مما نحن نتكلم فيه الانحصار والاتصال والانخراق.
6
فالانحصار هو قبول الرطب وضعا يلزمه شكل مساو لشكل باطن ما يحويه.
7
فإن كان ما يحويه مشتملا على جميعه تشكل جميعه بشكله؛ وإن كان أعظم منه، فإن كان
8
الجسم الرطب مائيا، وينقص من الحاوي سطحه الأعلى، تشكل علوه بتقبيب. والسبب
9
فى ذلك التقبيب أن ذلك السطح لا يلزمه شكل غريب. وإذا لم يلزمه كان له الشكل
10
الذى عن طبعه. والشكل الذى عن طبعه هو الكرى.
11
والجسم الرطب إن كان مخلى عنه امتد فى وضعه نافذا؛ وإن كان محصورا أو ممنوعا
12
تشكل فى الحاصر والمانع بمثل شكله.
13
وأما الاتصال فهو أمر يخص الرطب، وهو أن الرطب، إذا لاقى ما يماسه، بطل
14
السطح بينها بسهولة، وصار مجموعها واحدا بالاتصال. واليابس لا يسهل ذلك فيه.
15
والرطوبات المختلفة إذا اجتمعت، فما كان منها مثل الماء والدهن، ظهر تميز السطوح
16
فيها؛ وما لم يكن كذلك؛ بل كان مثل دهنين، أو مثل شراب وخل وماء، لم يظهر.
17
فيشبه أن تتحد فى بعضها السطوح اتحادا، وأن تخفى فى بعضها عن الحس. وتحقيق
18
الأمر فى ذلك وتفصيله فى كل شىء مما يصعب.
244
1
وأما الانخراق فهو خاصية الرطب، وهو سهولة انفصاله بمقدار جسم النافذ فيه،
2
مع التئامه عند زواله. وأنواع تفرق الاتصال هي الانخراق والانشقاق والانكسار،
3
والانرضاض والتفتت.
4
فالأنخراق يقال لما قلنا، وقد يقال لما يكون من تفرق الاتصال للأجسام اللينة،
5
لا لحجم ينفذ فيها؛ بل يجذب بعض أجزائها عن جهة بعض، فينفصل.
6
وأما الانقطاع فهو انفعال بسبب فاصل بنفوذه، يستمر مساويا لحجم النافذ فى جهة
7
حركة نفوذه لا يفضل عليه. وإنما قلنا من جهة الحركة لأنه يجوز أن يفضل على الحجم
8
من الجهة التى عنها الحركة.
9
وأما الانشقاق فهو تفرق اتصال عن سبب تفريقه فى جهة حركتها أكثر من الموضع
10
الذى تأتيه قوة السبب أولا. وهذا على وجهين:
11
فيكون تارة بمداخلة جسم ذي حجم، فيزيد تفرق الاتصال فى الجهة التى إليها
12
الحركة على حجمه.
13
والثاني أن لا يكون لأجل حجم نافذ؛ بل لجذب يعرض للأجزاء بعضها لبعض.
14
والسبب فى ذلك أن الجزءين المفصولين يكون بينهما جسم مستطيل؛ ويكون الجزءان
15
يابسين وإلى الصلابة ما هما. فإذا حمل عليها بالتفريق لم يجب الأجزاء الطولية المحمول
16
بالقوة عليها وحدها للتباعد، مع بقاء الاتصال، كأنها لا تنحني؛ بل هو ذا يجب أن
17
يكون تباعدها مستتبعا لأجزاء كثيرة.وأكثر ما ينشق طولا لا ينقطع عرضا.
245
1
ومن أنواع القطع الحرد والخرط والنقر والنشر والثقب والحفر، وغير ذلك
2
مما لا نطيل الفصل بتحديده.
3
وأما الانكسار فهو انفصال الجسم الصلب بدفع دافع قوي من غير نفوذ حجمه
4
إلى أجزاء كبار؛ والانرضاض كذلك إلى أجزاء صغار.
5
أما التفتت فكالا نرضاض، إلا أنه مما يتهيأ رضه لقوة ضعيفة. والمنكسر
6
والمنرض والمتفتت هو الذى له منافذ خالية عن غير الهواء. فالمنكسر منافذه أقل
7
وأعظم. والمنرض منافذه أكثر وأصغر. وكلاهما يتصل عند حدود محكمة
8
يتماسك بها. والمتفتت منافذه كثيرة صغيرة ضعيفة التئام الحدود.
9
ونقول أيضا إن من الأجسام المركبة ما هي لينة، ومنها ما هي صلبة. واللين هو
10
الذى يتطامن سطحه عن الدفع بسهولة، ويمكن أن يبقى بعد مفارقته مدة طويلة أو قصيرة؛
11
وبهذا يفارق السيال. فإن السيال لا يحفظ الحجم إلا زمانا يجب ضرورة بين كل حركتين
12
مختلفتين، وفى ذلك الزمان يكون ملاقيا لفاعل الحجم، ولا يمكن أن يحفظ الحجم والشكل
13
مع مفارقة الفاعل البتة.
14
والصلب هو الذى لا يتطامن سطحه إلا بعسر.
15
ثم إن أنواع اللين تقبل أنحاء من التشكيل والوضع لا يقبلها أنواع الصلب. فمنه
16
ما ينشدخ، ومنه ما ينحنى. والمنشدخ أعم من المنطرق. وذلك لأن المنشدخ هو الذى
17
تتحرك أجزاؤه إلى باطنه. فمنه ما يبقى على ما يعمل به من ذلك، وهو المنطرق. ومنه
18
ما لا يبقى؛ بل يعود مثل الإسفنجة التى تعتصر فتعود.
246
1
وبين المنعصر والمنطرق فرق؛ لأن المنطرق متصل الأجزاء غير مشوب بجسم
2
غريب. وإنما يتطامن جزء منه مجيبا للدافع، لا بخروج شىء منه. والمنعصر يتطامن
3
بخروج شىء منه، ويخرج منه دائما، إما مائية وإما هوائية. ثم يجوز أن يبقى على حاله،
4
ويجوز أن لا يبقى. فالمنطرق هو المندفع إلى عمقه بانبساط يعرض له فى القطرين الآخرين،
5
قليلا قليلا، وهو يحفظ ذلك فى نفسه، ويكون من غير انفصال شىء منه.
6
والمنعصر يخالفه فى كلا الشرطين أو أحدهما. والمنعصر الذى يبقى على الهيئة التى
7
يفيدها العصر، إن كان يابسا يسمى متلبدا؛ وإن كان رطبا يسمى منعجنا. ويقال
8
انعجان أيضا لاندفاع الأجزاء اليابسة فيما يخالطها من الرطوبة المائية ليشتد بذلك تداخلها.
9
ويعرض لكل منطرق أن يترقق، فيكون من حيث يندفع فى عمقه منطرقا،
10
ومن حيث ينعصر فى عمقه أو يزيد، فى قطريه الآخرين، مترققا.
11
وأما المنحني فهو الذى من شأنه أن يصير أحد جانبيه الطوليين أزيد، والآخر
12
أنقص بزواله عن الاستقامة إلى غيرها. وذلك يكون للين فيه مطاوع. ويكون ذلك
13
لرطوبة فيه.
14
والتمدد هو حركة الجسم مزدادا فى طوله منتقصا فى قطريه. وذلك الجسم
15
إما لزج وإما لين جدا.والأولى أن يسمى هذا لدنا، وهو الذى يقبل التمدد والعطف،
16
ولا يقبل الفصل بسرعة.وإنما يكون الحال كذلك فى جميع ذلك؛ لأنه يكون قد اشتد
17
مزاج رطوبته ويبوسته، حتى إن رطوبته لا تسيل؛ بل تتماسك لشدة ما خالطها من اليبوسة.
247
1
ويبوسة لا تتفرك، ولا تتفتت؛ بل تتماسك لشدة ما جمعها من الرطوبة؛ إذ الرطب
2
يتماسك متقوما باليابس، واليابس يتماسك مجتمعًا بالرطب.
3
فمن المتمدد ما يلزم المادّ له بالالتصاق، وهو اللزج، ومنه ما يلزمه بتعلقه به كالقير.
4
وهذا الصنف لا يسمى لزجا؛ بل لدنا. فإن اللزج ما يسهل تشكيله وحصره، ويلزم
5
جرمه ما يماسه. وذلك بسبب أن الغالب فيه الرطوبة. لكن اللزج ألزم من الرطب؛
6
لأن الرطب سيال جدا. وأما اللزج فإن أجزاءه التى تلزم الشىء أكثر من أجزاء
7
الرطب؛ لأن اللزج لا ينفصل بسهولة إلى أجزاء صغار انفصال الرطب، فتكون
8
حركته أبطأ، وزواله أعسر.
9
وليس كل لزج يمتد. فإن الدهن لا يتمدد. ولكن كل لزج له قوام صالح.
10
وإنما يقبل التمدد من اللزج ما لا يجف. وذلك هو اللزج الحقيقى.فإن اللزج التام
11
اللزوجة لا يجف؛ بل إنما يجف لزج لم يبلغ مزاج رطبه ويابسة مبلغا لا يتميزان بعد.
12
لكنه مع ذلك امتزاج متداخل جدا لا ينفصل إلا بالقوة محللة لطيفة. والأجسام التى
13
فى طباعها رطوبة يعتد بها، فإما أن تكون بكليتها جامدة، فلا تتطرق ولا تمتد
14
ولا تنحني، كما يعرض للياقوت والبلّور، وكثيرا من الحجارة التى تتكون عن مياه تجمد؛
15
بل كنفس الجمد؛ وإما أن يكون فيها بكليتها فضل من رطوبة ليس يجمد. وإنما ليس
16
يجمد لدهانته. فذلك الشىء ينطرق، وخصوصا إذا حمي، فسال أيضا شىء مما هو
17
جامد. فإن سيّل الجميع عاد ذائبا.
248
1
والنار، وإن كانت تعقد بمعونة اليابس فذلك إلى حد، مادام لم يشتد فعلها فى
2
اليابس، ولم تخرجه عن كونه يابسا كثيفا. فإذا أفرط فعلها فى اليابس خلخلت
3
اليابس أيضا. فإذا تحلل اليابس تحلل الجميع.
249
1
المقالة الثانية من الفن الرابع
2
فى الطبيعيات
3
هذه المقالة نصف فيها جملة القول فيما يتبع المزاج من الأحوال المختلفة،
4
وهي فصلان.
250
1
الفصل الأول
2
فصل فى
3
ذكر اختلاف الناس فى حدوث الكيفيات المحسوسة التى بعد الأربع،
4
وفى نسبتها إلى المزاج، ومناقضة المبطلين منهم
5
أما المزاج وما هو، وكيف هو فقد قلنا فيه. فيجب أن يتذكر جميع ما قيل من ذلك.
6
والذى يجب علينا أن نستقصي الكلام فيه حالُ الأمور التى توجد فى هذه المركبات
7
عند المزاج، فنقول:
8
إن هذه العناصر الأربعة لا يوجد فيها من الكيفيات إلا الأربع، وإلا الخفة والثقل،
9
ماخلا[*]ماخلا corrupt for ما خلا الأرض. فقد يشبه أن يكون لها لون. لكن لمانع أن يمنع ذلك، فيقول: إن اللون
10
الموجود للأرض إنما يوجد لها بعد ما يعرض لها من امتزاج المائية، وغير ذلك. ويصلح
11
لذلك المزاج أن تكون ملونة. ويقول إنه لو كان لنا سبيل إلى مصادفة الأرض الخالصة
12
لكنا نجدها خالية عن الألوان، وكنا نجدها شافة. فإن الأخلق بالأجسام البسيطة
13
ألاّ يكون لها لون. و الأحرى عندي، بعد الشك الذى يوجبه الإنصاف، وبعد وجوب
14
ترك القضاء البت فيما لا سبيل فيه إلى قياس يستعمل، و إنما المعول فيه على تجربة
15
تتعذر ــ هو أن الأرض لها فى ذاتها لون، وأن الامتزاج الذى وقع لا يقعدنا عن وجود
251
1
ما فيه أرضية غالبة. فكان يجب أن نرى فى شىء من أجزاء التربة، مما ليس
2
متكونا معدنيا، شيئا فيه إشفاف ما أفكان لا تكون هذه الكيفية فاشية فى
3
جميع أجزاء الأرض، ولكان حكم الأرض حكم الماء أيضًا والهواء. فإنها، وإن امتزجت،
4
فلا يعدم فيها مشف.فالأحرى أن تكون الأرض ملونة لا ينفذ فيها البصر. فإنا نعني
5
باللون ما إذا جعل وراءه مرآة لم تؤده إلى البصر.
6
والبساطة لا تمنع أن يكون الجرم ملونا غير شفاف؛ فإن القمر، على مذهب الجمهور
7
من الفلاسفة، هذا شأنه. ثم إن أنكر ذلك منكر كان حاصل الأمر أنه لا كيفية للعناصر
8
خلا ما ذكر. وإن اعترف لم يكن لها إلا اللون لبعضها. وأما الطعم والرائحة فلا يوجد لشىء
9
منها إلا بالمزاج. فإن كان من ذلك شىء لشىء فعسى أن يظن أنه للأرض. وبالحقيقة
10
لا رائحة لأرض لم تستحل بالمزاج.
11
والأرض الصحيحة كالأرض التى يتولد فيها الذهب، لا يوجد لها رائحة البتة.
12
وكذلك فى غالب حال الأرض. ومما يعلم أن ذلك محدث بالمزاج ما نراه يشتد بالامتزاج.
13
ثم إن كان للأرض طعم أو رائحة، وكان للأشياء الأخرى بسبب الأرض، فإنما يجب
14
أن يحصل للمركب من الأرض وغيرها ذلك الطعم، وقد انكسر، وتلك الرائحة وقد
15
انكسرت. وأما طعم ورائحة غريبة فلا. فكيف تكون الطعوم والروائح المتضادة
16
إلا أن تكون الرائحة قد تتولد بالامتزاج، وليست إنما تستفاد من الأرضية على ما ظنه
17
بعضهم، وكذلك الألوان.
252
1
ونحن نشاهد فى المركبات طعومًا وأراييح وألوانًا ليست فى البسائط. ونشاهد
2
أيضًا أفعالا تصدر عنها ليست فى البسائط، لا صرفة، ولا مكسورة، وذلك مثل جذب
3
المغناطيس للحديد والكهربا للتبن، والسقمونيا للصفراء؛ وأفعالا وأحوالا أخرى
4
للجمادات والنبات، بل للحيوانات. والحياة أيضًا من هذه الجملة.
5
فمعلوم أن هذه الأشياء إنما تحصل لهذه الأجسام بعد المزاج. فمن الناس من ظن أن
6
هذه الأفعال نسب تقع بين الممتزجات؛ بل بين المجتمعات، عند الذىن لا يقولون
7
بالمزاج، وبين أمور أخرى. فيقولون إنه لا لون بالحقيقة، وإن اللون الذى يرى هو
8
وضع وترتيب مخصوص يكون للأجرام الغير المتجزئة بعضها عند بعض، وعند الأجسام
9
الشعاعية التى تقع عليها؛ وإن الطعوم أيضًا هي انفعالات تعرض من تقطيع حدة تلك
10
الأجسام وزواياها على نظم مخصوص، فيكون الذى يقطع تقطيعًا إلى عدد كثير، صغار
11
مقادير الآحاد، شديد النفوذ يرى محرقًا حريفًا؛ والذى يتلافى تقطيعًا مثل ذلك يسمى
12
حلوًا وكذلك فى الروائح، وإنه لا طعم فى الحقيقة ولا لون ولا رائحة. ولو كان لون
13
حقيقي لكان طوق الحمامة لا يختلف حكمه عند البصر، مع اختلاف مقامات الناظر،
14
إذا انتقل الناظر،، وجعل يستبدل بالقياس إليه وإلى الشمس، وضعًا بعد وضع.
15
ولو كان طعم حقيقي لكان الممرور لا يستمرئ العمل [*]العمل corrupt for العسل [according to Van Riet 1989, 74 fn.]. فهذا مذهب قوم. وقوم يرون
16
أن الأمر بالضد، وأن العناصر موجود فيها اللون والرائحة والطعم، إلا أنها كامنة
17
مغمورة بما لا لون له ولا رائحة له، وأن المزاج لا فائدة له فى حصول ما ليس من ذلك؛
18
بل فى ظهوره. وهؤلاء أصحاب الكمون.
253
1
وقوم يرون أن المزاج، الذى كيفيته متوسطة حدًا من المتوسط، إذا كان حده
2
بحال ما كان لونا وطعما، وإن كان بحال أخرى كان لونًا وطعما آخر؛ وأنه ليس الطعم
3
واللون، وسائر الأمور التى تجري مجراها، شيئًا والمزاج شيئًا آخر؛ بل كان واحد منها
4
مزاج خاص يفعل فى اللمس شيئًا، وفى البصر شيئًا.
5
وقال قوم آخرون إنه ليس الأمر على أحد هذه الوجوه؛ بل المزاج، على التقدير
6
الذى يتفق له، أمر يهيء المادة لقبول صورة وكيفية مخصوصة. فما كان قبوله ذلك
7
إنما هو من علل فاعلة لا تحتاج إلى أن يكون لها وضع محدود قبله مع استكمال الاستعداد،
8
مثل النفس والحياة وغير ذلك. وما كان قبوله ذلك إنما هو من علل محتاجة إلى وضع محدود
9
قبله إذا صار له مع غلية الوضع، كنضج التين مثلا من الشمس إذا أشرقت عليه.
10
فهذه هي المذاهب التى يعتد بها فى هذا الباب.
11
فأما المذهب المبنى على الأجرام التى لا تتجزأ، وعلى أن سبب حدوث الكيفيات
12
اختلاف أحوالها، بحسب اختلاف الترتيب والوضع الذى يعرض لها، فما قدمناه يغني
13
عن إعادتنا قولا كثيرًا فى رده؛ بل نحن نعلم أن هذه الأجسام متصلة، وأن الأسود منها
14
أسود، كيف كان شكله ووضعه، والأبيض أبيض كيف كان وضعه.
15
وكذلك قولنا فى الطعوم والروائح، وإن ذلك لا يختلف بحسب وضع وترتيب،
16
وإنه لولا خاصية لكل واحد من الأجسام المختلفة لاستحال أن تتخيل منها الحواس
17
تخيلات مختلفة، أو تنفعل انفعالات مختلفة.
254
1
وأما طوق الحمامة فليس المرئي منها شيئًا واحدًا؛ بل هناك أطراف للريش ذات
2
جهتين أو جهات، كل جهة لها لون، وكل جهة تستر الجهة الأخرى بالقياس إلى القائم.
3
وذلك بالجملة على مثل سدى ولحمة «أبو قلمون» من الثياب والفرش.
4
ومذهب الكمون فقد بالغنا فى نقضه فى موضعه.
5
وأما مذهب القائلين إن كل واحد منها مزاج، ليس أنه يتبع المزاج، فهو مذهب
6
خطأ. فإن كل واحد من الأمزجة على التفاوت الذى بينها، لا يخرج عن حد ما بين
7
الغايات، ويكون ملموسًا لا محالة إن كان أخرج من اللامس إلى الطرف، أو يكون مساويا
8
للامس لا ينفعل عنه، إما أن يكون المزاج لا يدرك باللمس؛ بل بالبصر أو بالشم ــ
9
فهذا باطل؛ لأن المزاج كيفية ملموسة، واللون ليس بملموس. وكذلك الطعم وغيره.
10
وليس لقائل أن يقول إن الإبصار لمس ما لمزاج مخصوص لا يضبطه سائر آلات
11
اللمس. وذلك لأن كل ملموس فيحس.وله إضافة إلى برد أو حر، أو إلى رطوبة
12
أو إلى يبوسة. واللون لا يدرك النفس منه شيئًا من ذلك، ولا الطعم ولا الرائحة. وهذه
13
الكيفيات يوجد منها غايات فى التضاد.والأمزجة متوسطة ليست بغايات البتة. فهذه
14
إذن أشياء غير المزاج.
15
لكن الأمزجة المختلفة تختلف فى الاستعداد لقبول شىء منها دون شىء، فيستعد
16
بعضها للاحمرار وبعضها للاصفرار، وبعضها للابيضاض، وبعضها لطعم ما، وبعضها
17
لرائحة ما، وبعضها للنمو، وبعضها للمس [*]للمس corrupt for للحس [according to the Tehrān lithograph]، وبعضها للنطق؛ بل قد تحصل بالأمزجة
255
1
فى المركبات استعدادات لقوى فعالة أفعالا تصدر عنها بالطبع ليست من جنس أفعال
2
البسائط مثل جذب الحديد للمغناطيس، وغير ذلك. فتكون هذه القوى التى تحدث
3
بالحقيقة، منها ما هي طبايع لأنها مبادئ حركات لما هي فيه بالذات، ومنها ما هي مبادئ
4
تحريكات لأشياء خارجة عنها يفعل فيها بالاختيار.
5
والناس قد يقعون فى شغل شاغل إذا أخذوا يفحصون عن علل هذه الأحوال والقوى،
6
يرومون أن ينسبوا ذلك إلى كيفيات أو أشكال أو غير ذلك مما للبسائط. ويشق عليهم
7
الأمر، فيدفعون إلى تكلف يخرجهم عن الجادة المستقيمة. فلا سبيل إلى إدراك المناسبات
8
التى بين الأمزجة الجزئية وبين هذه القوى والأحوال التى تتبعها، وتوجد بعد وجودها.
9
ومن شأن الناس أن لا يبحثوا عن علل الأمور المتقاربة الظاهرة؛ لأن كثرة
10
مشاهدتهم إياها يزيل عنهم التعجب؛ وزوال التعجب عنهم يسقط الأشغال بطلب العلة،
11
ولا يعني أكثرهم بأن يعلموا أنه لِمَ كانت النار تحرق فى ساعة واحدة بلدة كبيرة،
12
أو لِمَ البرد ييبس الماء، ويعنيهم بأن يعلموا لِمَ المغناطيس يجذب الحديد.ولو كانت
13
النار شيئًا عزيز الوجود ينقل من قطر بعيد من أقطار العالم، ثم يشعل من شعلة منها
14
شعل كثيرة لدهش الإنسان من العجب الموجود فيها، ولكان طلبه لسبب فعلها أكثر
15
من طلبه لسبب فعل المغناطيس. وكذلك لو كان البَرد مما يجلب من بلاد إلى بلاد، فيسلط
16
على الماد [*]الماد corrupt for الماء فييبسه، لكان الناس يتعجبون. لكن كثرة مشاهدتهم ما يشاهدون من
256
1
ذينك يسقط عنهم الاشتغال به، حتى إن سأئل لِمَ يفعل البرد ذلك استنكروا،
2
وقالوا: لأن طبيعته ذلك، ولأنه برد؛ وكذلك فى جانب النار يقولون إنها إنما تفعل ذلك، لأنها نار.
3
.والبصير منهم الذى يرتفع عن درجة الغاغة يقول: لأن المادة التى للنار
4
اكتسبت صورة تفعل هذا الفعل لذاتها، ولأن البرد طبيعته أن يكثف الجسم ويجمده.
5
ثم لا يقنعه مثل هذا فى حجر مغناطيسي أن يقال: لأن المزاج سبب لأن حصل فى هذا
6
المركب قوة هي لذاتها وطباعها تجذب الحديد، لا لشىء آخر. وليس أمر جذب مغناطيس
7
بأعجب من أمر نبات ما ينبت، وإحساس ما يحس، وحركة ما يتحرك بالإرادة. لكن
8
جميع ذلك أسقط فيه التعجب كثرته وغلبة وجوده.
9
والقول فى جميع ذلك قول واحد، وهو أن الجسم المركب استعد، بمزاجه، لقبول
10
هيئة، أو صورة، أو قوة مخصوصة، يفاض عليه ذلك من واهب الصور والقوى،
11
دون غيره.أما فيضانه عنه فلجوده، ولأنه لا يقصر عنه مستحق مستعد.
12
وأما اختصاص ذلك الفيض به دون غيره فلاستعداده التام الذى حصل بمزاجه.
13
فجميع هذه الأشياء تفعل أفاعيلها؛ لأن لها تلك القوة الفعالة. وإنما لها تلك القوة هبة
14
من الله تعالى. فيجب أن يتحقق أن المزاج هو المعد لذلك.
15
على أن كثيرا من الأعراض يعرض أيضا بسبب مخالطة غير مزاجية. فإن كل
16
جسم شاف، إذا خالطه الهواء فصار أجزاء صغار، أبيضّ، كالماء إذا صار زبدا،
17
أو كالزجاج إذا دقّ، وغير ذلك. ويكون ذلك لأن النور الذى ينفذ فيه يقع على سطوح
257
1
كثيرة صغار لا ترى أفرادها وترى مجتمعة، فيتصل رؤية شىء منير باطنه لنفوذ الضوء
2
فى المشف إلى السطوح الباطنة، وانعكاسه عنها مستقرا عليها، ولا ينفذ البصر فيها
3
لكثرة ما ينعكس عنها من الضوء. فإن المشف الذى يشف، وينعكس عنه الضوء جميعا،
4
لا يشف حين ينعكس الضوء عنه. فإذا صار لا يشف رؤى ذا لون. ويكون هو البياض.
5
وكذلك الشىء اليابس إذا عملت فيه النار عملا كثيرا وأخرجت عن منافذه الرطوبة
6
وأودعته الهوائية، بيّضته.
7
وأما أنه هل يكون بياض غير هذا، وفى جسم متصل، فمما لم أعلم بعد امتناعه
8
ووجوده. وسيأتي لي كلام فى هذا المعنى أشد استقصاء.
9
وأما فى الطعوم والروائح فليس الأمر فيها على هذه الجملة. وذلك لأنه ليس فيها
10
شىء مذوق أو مشموم بذاته ينفذ فى الأجسام، فيجعلها بحال من الطعم والرائحة، كما أن
11
ْ الضوء شىء مرئي بذاته. فإذا خالط الأجسام جاز أن يجعلها على حال من الرؤية.
12
فههنا يفترق حال اللون وحال الطعم والرائحة؛ إذ اللون يصير مرئيا؛ بمرئي بذاته
13
هو غيره، وهو الضوء. وليس الطعم والرائحة كذلك. وكما أن المرئي بذاته، وهو الضوء،
14
على ما نحقق الأمر فيه من بعد، هو كيفية حقيقية، كذلك الطعم والرائحة.
15
وأما القوى فإنها ليست من هذا القبيل. فإنها ليست بحسب إدراك الحس،
16
أو نسبة غير الشي الذى ينفعل عنها. فإن لم يكن الجسم الذى يصدر عنه فعل مخصوص
17
مخصوصا مميزا مما ليس يصدر عنه الفعل الذى كان مخصوصا به، لم يصدر عنه فعل مخصوص.
258
1
وإذ ليس الاختصاص بالجسمية فهو بغير الجسمية. وإذ ليس الفعل صادرا عن المزاج صدورا
2
أوليا، لأن الفعل الصادر عن المزاج هو ما يصدر عن حار وبارد ورطب ويابس مكسور،
3
وليس هذا الفعل ذلك، فهو إذن عن قوة غير المزاج.
4
لكن لقائل أن يقول: إنكم تقولون إن المزاج، ليس إلا كيفيات مكسورة،
5
قد يوجب إعداد لم تكن للبسائط، وليس هو كسر إعداد البسائط.وكذلك سيوجب
6
صدور أفعال لم تكن للبسائط، ولا هو كسر أفعال لها.
7
فنقول إن هذا غلط. فإن الأفعال إنما تنسب نسبة أولية إلى الكيفيات،
8
ولا يكون للمواد فيها شركة، وتكون كل قوة إنما هي ما هي لأجل فعلها. ويكون
9
معنى قولنا إن هذه القوة قوية صرفه أن فعلها يصدر عنها قويا صرفا؛ ومعنى قولنا هذه
10
القوة ضعيفة مكسورة أن الفعل الذى يصدر عنها يصدر ضعيفا. فلا مفهوم لقولنا حرارة
11
ضعيفة إلا أن الفعل الذى للحرارة يصدر عنها ضعيفا. ثم لا ننكر أن تكون الأفعال
12
عن الحرارات المختلفة فى الضعف والقوة تختلف اختلافا كثيرا، حتى يكون بعضه إحراقا
13
وبعضه إنضاجا. لكنها تشترك فى المعنى الذى يكون للحرارة. فالذى يقع ذلك المعنى
14
منه شديدا وقويا يقع منه إحراق، والذى يقع منه ذلك إلى حد يكون إنضاجا.
15
ولا ننكر أيضًا أن تحدث أمور مشتركة من بين الحرارة واليبوسة، ومن بين الحرارة
16
والرطوبة، ويكون عنها اختلافات؛ إلا أنها ترجع، آخر الأمر، إلى ما تقتضيه الحرارة
17
واليبوسة، أو الحرارة والرطوبة. وأما شىء خارج جملة عن طبيعة الحرارة، أو عن الطبيعة
18
المشتركة التى تتألف عن الحرارة وشىء آخر، فلا يكون ذلك فعل الحرارة بالذات، وذلك مثل.
259
1
جذب المغناطيس، أو مثل شىء آخر مما هو خارج عن أن يكون ملموسًا بوجه. فلا هو ذات
2
حرارة ممزوجة أو صرفه. فليس هو من قبيل المزاج، وذلك كاللون. وكيف، والمزاج
3
يلمس ويحس به، ولا يشعر بلون أصلا، واللون يدرك ويبصر، ولا يشعر بمزاج أصلا؟
4
فيكون لا محالة ما أدرك غير ما لم يدرك. وليس يلزم من هنا أن لا تكون أمور تلحق
5
هذه الكيفيات باختلاف أحوالها، مما ليست هي أفاعيل هذه الكيفيات؛ بل أمور
6
أخرى تتبعها.
7
وأما ما كنا فيه من أمر الاستعداد فيجب أن نعلم أن الاستعداد بالحقيقة أمر للمادة،
8
ويكاد تكون المادة مستعدة لكل شىء. وفيها قوة قبول كل شىء. لكن الأمور التى
9
توجد فيها منها ما من شأنه أن لا يجتمع مع بعض ما هو فى قوة قبول المادة. فإذا وجد
10
ذلك لم يوجد هو، فيقال حينئذ إنه لا استعداد فى المادة لذلك الأمر.
11
ومنها ما من شأنه أن يجتمع معه اجتماعًا. وكل ذلك لا لأن الكيفية فعلت فى ذلك
12
فعلا ما، ولكن لأن المادة فى نفسها هذا شأنها.
13
ولا يمتنع أن يكون بعض مقادير الكيفيات بحيث لا يصلح لبعض الأمور، وبعضها
14
يصلح. فإنا ندري أنه لا يستوي الغالب والمعتدل، وإن كنا ندري أن فعل الغالب
15
والمنكسر من جنس واحد، لكنه تارة قوي، وتارة منكسر، وليس صلوحه لشىء
16
من الأشياء هو فعله. وليس إذا كان فعله متجانسًا يجب أن يكون صلوحه متجانسًا.
17
فأنت تعلم أن الحرارة القوية جدًا لا تصلح لإنضاج الخبز، وإنما تصلح له الحرارة بقدر
260
1
دون الغالب. فالمزاج إذن لا يوجب إعدادًا لم يكن؛ بل الاستعداد قائم فى المادة. فربما
2
حيل بين المادة وبين ما هي مستعدة له بكيفية. وربما دفعت تلك الكيفية بضدها،
3
فخلص الاستعداد عن العوق، لا لأنه حدث فى أمر المادة استعداد لم يكن.
4
فالمزاج علة عرضية للاستعداد، بمعنى أنه يميط المانع. وليس يلزم من ذلك أن يكون
5
فعلا الحرارتين إلا بالأشد والأضعف.
6
فبين أن قياس ما قيل ليس قياس الاستعداد.
261
1
الفصل الثاني
2
فصل فى
3
تحقيق القول فى توابع المزاج
4
يجب أن تعلم أن الأجسام إذا اجتمعت، وامتزجت، فربما لم يعرض لبعضها من
5
المزاج إلا المزاج نفسه. فليس يلزم أن يكون كل مزاج بحيث يصلح لصورة نوع
6
وخاصيته، وأن يكون كل امتزاج إنما يؤدي إلى مزاج يصلح لصورة النوع وخاصيته،
7
حتى لا يتفق امتزاج من الامتزاجات المؤدية إلى خروج عن ذلك. فإن هذا، كما أقدر،
8
تحكم حائف [*]حائف corrupt for خائف.
9
ثم من الممتزجات، التى تستفيد بالمزاج زيادة أمر، منها ما يستفيد بذلك زيادة كيفية
10
ساذجة، لا يتم بها فعل أو انفعال طبيعي، كلون ما، وشكل، وغير ذلك.
11
ومنها ما يستفيد زيادة قوة انفعالية أو فعلية، أو صورة نوعية. فمن ذلك ما يكون
12
المستفاد فيه قوة نفسانية. ومنها ما يكون المستفاد فيه قوة تفعل فعلها على سبيل الفعل
13
النفسانى. وقد علمناك ذلك فى الفنون الماضية.
14
وما كان من هذه القوى الفعلية والانفعالية ليست بنفسانية يسمى خواص.
15
على أن من الناس من يطلق لفظة الخاصة فى مثل هذا الموضع على جميع ذلك وهذه
16
الخواص تابعة لنوعيات المركبات الكائنة، أو هي نفس فصول نوعياتها.
262
1
فإذا قيل مثلا إن دواء كذا يفعل بجوهره، فيعني أنه يفعل بهذه الصورة التى
2
تنوع بها. وإذا قيل إنه يفعل بكيفيته، فيعني أنه يفعل بما استفاده من العناصر، أو بمزاجه.
3
فالسقمونيا يسخن بما فيه من الجوهر النارى. لكنه ليس يسهل الصفراء بذلك؛ بل
4
بالقوة المستفادة التى له فى نوعيته التى استعد لقبولها بالمزاج.
5
وكثيرًا ما تكون هذه القوة فصلا للنوع، وكثيرًا ما تكون خاصة. ويعسر علينا إعطاء
6
علامة نميز بها بين ذينك، ولكن لفظة الخاصة فى هذا الموضع، فى استعمال الطبيعيين،
7
تطلق على الشىء الذى يدعى فى المنطق فصلا، وعلى الشىء الذى يدعى خاصة.
8
وكثير من القوى التى تكون فى المركبات لا تفعل فعلها ما لم يرد بدن حيوان
9
أو نبات، فتنفعل عن البدن، وتنهض فيه القوة الغالبة فيه. فكثيرًا ما يكون الشىء
10
هنالك قد سخن تسخينًا، والغالب فى جوهره الشىء البارد. وذلك إذا كان الجوهر
11
البارد فيه لا ينفعل عن الحار الغريزي انفعال الجوهر الحار؛ لأن ذلك غليظ كثيف،
12
فلا يستحيل، أو لا ينفذ فى المسام. ويفعل الجوهر الحار فعله، فيكون ذلك الشىء حارًا
13
بالقياس إلى فعله فى البدن، ويكون باردًا فى أغلب جوهره. وربما كان الأمر بالعكس.
14
فكثيرًا ما يكون الحار غالبًا عليه، لكنه يكون شديد الامتزاج باليابس الغليظ الذى
15
فيه، ويكون البارد أسلس مزاجًا، ويسرع إلى الانفصال.
16
وربما كان أحد هذين من طبيعته أن لا ينفعل عن الحار الغريزي، وكان الآخر بحيث
17
ينفعل عنه. وربما كان الشىء حارًا فى الغالب، ولم يسخن تسخين شىء آخر فى حكمه،
18
إذا كان سريع الانفشاش، أو الانحلال كدهن البلسان إذا استعمل فى المروخات.
263
1
ويشبه أن يكون الشراب الطري أسخن فى نفسه من العتيق المنحل عنه ناريته،
2
الباقي فيه مائيته وأرضيته. لكن ذلك أبقى فى البدن، وأبطأ تحللا، فيسخن أكثر،
3
وهذا أشد تحللا. ومثال ذلك الجمر؛ فإنه إذا مس أحرق أشد مما تحرق النار الصرفة
4
إذا مست؛ لأن ذلك الجمر كثيف متشبث والنار لطيفة متخلخلة.
5
وكثير من الأشياء يبرد فى وقت، ويسخن فى وقت، لاختلاف زمان انفعال
6
ما فيه من الجوهر البارد والحار، فيفعل أحدهما فى البدن بعد الآخر. وربما كان المبرد
7
يستحيل غذاء، فيسخن من حيث هو غذاء ودم. وربما كان المسخن مركبا من جوهر
8
لطيف وجوهر غليظ، فيسبق اللطيف إلى فعله، ثم يتفشى، ثم يليه الغليظ، فيفعل فعله
9
من بعد، مثل البصل فإن فيه جوهرًا حريفا يسخن، لكن جرمه الذى يبقى بعد ذلك
10
يبرد ويرطب؛ ويحدث بلغما خاما.
11
والاستقصاء فى جزئيات هذه الأشياء يجب أن يوكل إلى صناعة أخرى. لكنك
12
قد علمت أن المزاج لا يخلو من أحد أقسام: إما أن يكون الكيفيات كلها متساوية فيه،
13
وهذا هو الذى يسمى بالمعتدل؛ وإما أن تكون مضادة متكافئة، ومضادة
14
ليست كذلك.
15
فيكون مثلا الرطب واليابس متعادلين فيه، لكن الحار أكثر من البارد،
16
أو البارد أكثر من الحار، أو يكون الحار والبارد متعادلين فيه، لكن اليابس
17
أكثر من الرطب، أو الرطب أكثر من اليابس، أو يكون الحر والرطوبة غالبين معا،
264
1
أو الحر واليبوسة، أو البرد والرطوبة، أو البرد واليبوسة، فتكون الأقسام تسعة.
2
وأما أنه أيها يمكن أن يوجد، وأيها لا يمكن أن يوجد، فينبغي أن يكون ما تقدم
3
من الأصول التى أعطيناكها مغينا [*]مغينا corrupt for مغنيا إياك عن بسطنا الكلام فيه، ومعطيا لك قدرة على
4
تحصيل الأمر فيه.
5
لكن ههنا شىء آخر، وهو أن الأمزجة أيضًا تختلف بحسب أجساد الحيوانات
6
والنبات وأجزائها وسائر الكائنات. فيكون منها ما هو كما ينبغى لسلامة الفاصل
7
من ذلك النوع، وإن كان فيه، مثلا، من الماء ضعف الأرض. فإن كان كذلك فهو
8
معتدل بالقياس إليه وعدل له. وإن خرج عن هذا الحد المحدود فإما أن يخرج خروجا
9
مجاوزا للحد الذى هو طرف مزاج ذلك النوع ــ فإن لمزاج كل نوع عرضًا يحتمله
10
إذا جاوز أقصى كل واحد من حديه بطل نوعه ــ فحينئذ لا يجوز أن يكون مزاجا لذلك
11
الشىء. وإما أن يخرج خروجا محتملا، فتكون الغلبة إما مفردة، على ما قلنا،
12
وإما مركبة.
13
وهذه الأمزجة تدل عليها الكيفيات التى تتبعها دلالة قوية؛ وذلك بأن الروائح
14
الحارة تدل على حرارة غالبة، والهادئة الرائحة تدل على مزاج بارد. والطعوم أيضًا
15
تدل على القوى. وذلك لأن رءوس الطعوم تسعة تتركب من الأمزجة الحارة واليابسة
16
والمعتدلة مع الأجسام اللطيفة والكثيفة والمعتدلة، على ما يمكنك أن تعرفه من كتب
17
الأطباء. فيدل الحريف والمر والمالح على الحار؛ ويدل الحامض والعفص على البارد.
18
وللألوان أيضًا دلالة. فإن الأجساد التى تكتسب لونًا إلى السواد والحمرة، وما يجري
265
1
مجراها، بعد أن لا يكون لها ذلك فى جواهرها، فإن ذلك يدل على ميل طباعها إلى
2
الحر؛ بل نقول: إن ما فيه رطوبة فالحمرة والسواد يدلان فيه على الحرارة، والبياض
3
على البرودة. واليابسان فالأمر فيهما بالضد؛ لأن الحرارة تبيض اليابس، وتسود
4
الرطب المائى.
5
لكنه قد يعرض أمر يبطل أحكام دلالة هذه الألوان، وربما أبطل أحكام غيرها.
6
وذلك لأنه كثيرًا ما يتفق أن يكون دواء قوى القوة، مع قلة المقدار، كما تعرفه. فإذا
7
خلط يسيره بكثير من الأدوية التى ليست شديدة القوة جدًا كان الغالب، بحسب
8
الرؤية، غير الغالب بحسب القوة. فإن الغالب بحب الرؤية غير الغالب بحسب القوة.
9
ثم يكون الفعل للمغلوب فى الرؤية، دون الغالب فى الرؤية، ويكون طابع الغالب فى الرؤية،
10
فى ذاته، باقيا على ما كان قديما. وإن كان هذا مما يجوز أن يقع بالصناعة، كذلك
11
قد يجوز أن يكون بعض الأجسام فى الطبع مركبا من أجسام مركبة أيضا، ويكون المغلوب
12
فيها قوى القوة قليل المقدار، ومضادا بالطبع للغالب المقدار الضعيف القوة. فيكون
13
الظاهر عند الحس هو كيفية الغالب فى الرؤية، ويكون الظاهر فى القوة كيفية المغلوب
14
فى الرؤية؛ مثلا أن يكون الجسم مركبا فى الطبيعة، على نحو تركيبك بالصناعة، لو ركبت
15
وزن نصف درهم فربيون مع رطل من الماست، فلا يحس هناك للفربيون لون ولا طعم،
16
ويكون لون الماست وطعمه ظاهرين. لكنك إذا استعملت هذا المركب ظهر للفربيون
17
فيه فعل ظاهر من التسخين.فلا يكون حينئذ الأبيض الرطب هو المسخن، ولكن الذى
18
خالطه. فلا يكون ما قيل من أن الأبيض الرطب باردة قولا كاذبا؛ لأن ههنا أيضا
266
1
الأبيض الرطب بارد، ولكن الذى يسخن هو شىء آخر.
2
وإذا وقع فى الخلقة الطبيعية مثل هذه الحال لم تصح دلالات هذه الكيفيات على
3
الكييفيات الأولى فى جملة المركبات، وإن كانت الكيفية منها تلزم قوة كيفية منها
4
فى المزاج؛ إذ ذلك التركيب لا يفصله الحس. فإن من الأجسام المركبة ما تركيبه من
5
العناصر أول، والحس يراه متشابه الأجزاء. فقد جعله المزاج شيئا واحدا على الوجه
6
الذى قلنا إن للمزاج أن يفعله. ومن الأجسام ما تركيبه بعد تركيب أول، كالذهب على
7
رأى قوم يرون أنه دائما يخلق من زئبق قد تولد أولا بمزاج متقدم وكبريت حاله
8
هذه الحالة، ثم عرض لهما مزاج، وكالإنسان من الأخلاط، وهذا على قسمين:
9
قسم منه ما يكون الامتزاج الثانى حاله فى تأحيد الممتزج حال الامتزاج الأول.
10
ومما له ذلك الترياق والمعجونات المخمرة.
11
ومنه ما ليس كذلك، فإنه مركب من أجزاء حقها أن لا تتحد فى الطبع كشىء
12
واحد؛ بل أن تكون مختلفة متباينة. فأكثر الجمادات والمعدنيات بالصفة الأولى؛
13
وأكثر النبات والحيوان، من جهة تركيبه من أعضائه، بل جلها، على الصفة الثانية.
14
ومن المعلوم أن المركبات عن أجزاء متميزة بالفعل تنتهى إلى أجزاء بسيطة لا تقسمها
15
بالفعل أجزاء متخالفة. فلذلك كان أعضاء الحيوان وأجزاء النبات لا محالة تنتهى إلى
16
أجزاء أولى بسيطة، وهى التى تسمى المتشابهة الأجزاء، مثل اللحم والعظم اللذين كل
17
جزء منهما محسوس لا يحتاج إلى إفساده فى تجزئته إليه، وهو محسوس مثله لحما وعظما. ثم
267
1
تتألف منها الأجزاء الآلية، مثل الورق واللحاء والثمرة للشجر، ومثل اليد والرجل
2
للحيوان. ثم تتألف من الآلية جملة البدن.
3
فهذه مسائل متناسبة من العلم الطبيعي؛ وهى بعينها أصول ومبادئ لصنائع جزئية
4
تحت العلم الطبيعى.
5
تم الفن الرابع من الطبيعيات بحمد الله وحسن تيسيره
6
والحمد لله رب العالمين