1
1
بسم اللّه الرحمن الرحيم
2
الحمد للّه رب العالمين وصلاته على النبى المصطفى محمد وآله الأكرمين أجمعين.
3
الفن الثالث عشر من كتاب الشفاء فى الإلهيات.
4
المقالة الأولى
5
وهى ثمانية فصول
6
[الفصل الأول]
7
ا فصل
8
فى ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتتبين إنيته فى العلوم
9
[1] |3|[ed. Cairo vol. 1]وإذ قد وفقنا اللّه ولى الرحمة والتوفيق، فأوردنا ما وجب إيراده من
10
معانى العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية، فبالحرى أن نشرع فى تعريف المعانى الحكمية،
11
ونبتدئ مستعينين بالله فنقول:
2
1
[2] إن العلوم الفلسفية، كما قد أُشير إليه فى مواضع أخرى من الكتب، تنقسم
2
إلى النظرية وإلى العملية. قد أُشير إلى الفرق بينهما وذُكر أن النظرية هى التى نطلب [*]نطلب corrupt for يُطلب [according to Bertolacci 2006, 489] فيها
3
استكمال القوة النظرية من النفسِ بحصول العقل بالفعل، وذلك |4|[ed. Cairo vol. 1] بِحصول العلم التصوّرى
4
والتصديقى بأمور ليست هى هى بأنها من أعمالنا وأحوالنا، فتكون الغاية فيها حصول رأى
5
واعتقاد ليس رأيًا واعتقادًا فى كيفية عمل أو كيفية مبدأ عمل من حيث هو مبدأ عمل. وأن
6
العملية هى التى يطلب فيها أولًا استكمال القوة النظرية بحصول العلم التصوّرى والتصديقى
7
بأمور هى هى بأنها أعمالنا، ليحصل منها ثانيًا استكمال القوة العملية بالأخلاق.
8
[3] وذكر أن النظرية تنحصر فى أقسام ثلاثة هى: الطبيعية، والتعليمية، والإلهية.
9
[4] وأن الطبيعية موضوعها الأجسام من جهة ما هى متحركة وساكنة، وبحثها
10
عن العوارض التى تعرض لها بالذات من هذه الجهة.
11
[5] وأن التعليمية موضوعها إما ما هو كم مجرد عن المادة بالذات، وإما ما هو
12
ذو كم. والمبحوث عنه فيها أحوال تعرض للكم بما هو كم. ولا يؤخذ فى حدودها نوع
13
مادة، ولا قوة حركة.
14
[6] وأن الإلهية تبحث عن الأمور المفارقة للمادة بالقوام والحد.
15
[7] وقد سمعت أيضا أن الإلهى هو الذى يبحث فى الأسباب الأولى
16
للوجود الطبيعى والتعليمى وما يتعلق بهما، وعن مسبب [*]مسبب corrupt for سبب [according to Bertolacci 2006, 489] الأسباب ومبدأ المبادئ وهو
17
الإله تعالى جده. |5|[ed. Cairo vol. 1]
18
[8] فهذا هو قدر ما يكون قد وقفت عليه فيما سلف لك من الكتب. ولم يتبين
19
لك من ذلك الموضوع للعلم الإلهى ما هو بالحقيقة إلا إشارة جرت فى كتاب البرهان
3
1
من المنطق إن تذكرتها. وذلك أن فى سائر العلوم قد كان يكون لك شىء هو موضوع،
2
وأشياء هى المطلوبة، ومبادئ مسلمة منها تؤلف البراهين. والآن، فلست تحقق حق
3
التحقيق ما الموضوع لهذا العلم، وهل هو ذات العلة الأولى حتى يكون المراد معرفة صفاته
4
وأفعاله أو معنى آخر.
5
[9] وأيضا قد كنت تسمع أن ههنا فلسفة بالحقيقة، وفلسفة أولى، وأنها تفيد
6
تصحيح مبادئ سائر العلوم، وأنها هى الحكمة بالحقيقة. وقد كنت تسمع تارة أن الحكمة
7
هى أفضل علم بأفضل معلوم، وأخرى أن الحكمة هى المعرفة التى هى أصح معرفة واتقنها،
8
وأخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل. وكنت لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى، وما
9
هذه الحكمة، وهل الحدود والصفات الثلاث لصناعة واحدة، أو لصناعات مختلفة كل
10
واحدة منها تسمى حكمة.
11
[10] ونحن نبين لك الآن أن هذا العلم الذى نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى، وأنه
12
الحكمة المطلقة، وأن الصفات الثلاث التى رُسم بها الحكمة هى صفات صناعة واحدة،
13
وهذه هى الصناعة. وقد علمٍ أن لكل علم موضوعًا يخصه، فلنبحث الآن عن الموضوع
14
لهذا العلم، ما هو، ولننظر هل الموضوع لهذا العلم هو إنية الله تعالى جده، أو ليس ذلك،
15
بل هو شىء من مطالب هذا العلم، فنقول:
16
[11] إنه لا يجوز أن يكون ذلك هو الموضوع، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر
17
مُسلّم الوجود فى ذلك العلم، وإنما يبحث عن أحواله. وقد |6|[ed. Cairo vol. 1] عُلم هذا فى مواضع
18
أخرى. ووجود الإله تعالى جده لا يجوز أن يكون مسّلما فى هذا العلم كالموضوع، بل
19
هو مطلوب فيه. وذلك لإنه إن لم يكن كذلك لم يخل إما أن يكون مسلّما فى هذا العلم
4
1
و مطلوبًا فى علم آخر، وإما أن يكون مسلّمًا فى هذا العلم وغير مطلوب فى علم آخر.
2
وكلا الوجهين باطلان. وذلك لأنه لا يجوز أن يكون مطلوبًا فى علم آخر، لأن العلوم
3
الأخرى إما خلقية أو سياسية، وإما طبيعية، وإما رياضية، وإما منطقية. وليس فى
4
العلوم الحكمية علم خارج عن هذه القسمة، وليس ولا فى شىء منها يُبحث عن إثبات
5
الإله تعالى جده، ولا يجوز أن يكون ذلك. وأنت تعرف هذا بأدنى تأمل لأصول كررت
6
عليك. ولا يجوز أيضا أن يكون غير مطلوب فى علم آخر لأنه يكون حينئذ غير مطلوب
7
فى علم البتة. فيكون إما بيّنا بنفسه، وإما مأيوسا عن بيانه بالنظر، وليس بيّنا بنفسه ولا
8
مأيوسا عن بيانه، فإن عليه دليلا. ثم المأيوس عن بيانه كيف يصح تسليم وجوده؟ فبقى
9
أن البحث عنه إنما هو فى هذا العلم.
10
[12] ويكون البحث عنه على وجهين: أحدهما البحث عنه من جهة وجوده،
11
والآخر من جهة صفاته. وإذا كان البحث عن وجوده فى هذا العلم، لم يجز أن يكون
12
موضوع هذا العلم، فإنه ليس على علم من العلوم إثبات موضوعه، وسنبين لك عن قريب
13
أيضا، أن البحث عن وجوده لا يجوز أنيكون إلا فى هذا العلم، إذ قد تبيّن لك من حال
14
هذا العلم أنه بحث عن المفارقات للمادة أصلًا. وقد لاح لك فى الطبيعيات أن الإله غير
15
جسم، ولا قوة جسم، |7|[ed. Cairo vol. 1]بل هو واحد بريئ عن المادة، وعن مخالطة الحركة من كل
16
جهة. فيجب أن يكون البحث عنه لهذا العلم. والذى لاح لك من ذلك فى الطبيعيات
17
كان غريبا عن الطبيعيات، ومستعملا فيها، منه ما ليس منها، إلا أنه أريد بذلك أن يُعجَّل
18
للإنسان وقوف على إنية المبدأ الأول فتتمكن منه الرغبة فى اقتباس العلوم، والانسياق إلى
19
المقام الذى هناك ليتوصل إلى معرفته بالحقيقة.
5
1
[13] ولما لك يكن بد من أن يكون لهذا العلم موضوع وتبين لك أن الذى يُظَن أنه
2
هو موضوعه ليس بموضوعه، فلننظر: هل موضوعه الأسباب القصوى للموجودات كلها
3
أربعتها إلا واحدا منها الذى لم يكن [*]يكن corrupt for يمكن [according to Bertolacci 2006, 489] القول به؟ فإن هذا أيضا قد يظنه قوم.
4
[14] لكن النظر فى الأسباب كلها أيضا لا يخلو إما أن ينظر فيها بما هى موجودات
5
أو بما هى أسباب مطلقة، أو بما هى كل واحد من الأربعة على النحو الذى نحصه. أعنى
6
أن يكون النظر فيها من جهة أن هذا فاعل، وذلك قابل، وذلك شىء آخر؛ أو من جهة
7
ما هى الجملة التى تجمع منها.
8
[15] فنقول: لا يجوز أن يكون النظر فيها بما هى أسباب مطلقة، حتى يكون
9
الغرض من هذا العلم هو النظر فى الأمور التى تعرض للأسباب بما هى أسباب مطلقة.
10
ويظهر هذا من وجوه: أحدها، من جهة أن هذا العلم يبحث عن معان ليست هى من
11
الأعراض الخاصة بالأسباب بما هى أسباب، مثل الكلى والجزئى، والقوة والفعل، والإمكان
12
والوجوب وغير ذلك. |8|[ed. Cairo vol. 1]ثم من البيّن الواضح أن هذه الأمور فى أنفسها بحيث يجب
13
أن يبحث عنها، ثم ليست من الأعراض الخاصة بالأمور الطبيعية والأمور التعليمية. ولا
14
هى أيضا واقعة فى الأعراض الخاصة بالعلوم العملية. فيبقى أن يكون البحث عنها للعلم
15
الباقى من الأقسام وهو هذا العلم.
16
[16] وايضا فأن العلم بالأسباب المطلقة حاصل بعد العلم بإثبات الأسباب للأمور
17
ذوات الأسباب. فإنا ما لم نثبت وجود الأسباب للمسبَّبات من الأمور بإثبات أن لوجودها
18
تعلقًا بما يتقدمها فى الوجود، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق، وأن ههنا سببًا ما.
19
وأما الحس فلا يؤدى إلا إلى الموافاة. وليس إذا توافى شيئان، وجب أن يكون أحدهما
6
1
سببا للآخر. والإقناع الذى يقع للنفس لكثرة ما يورده الحس والتجربة فغير متأكد، على ما
2
علمت، إلا بمعرفة أن الأمور التى هى موجودة فى الأكثر هى طبيعية واختيارية. وهذا فى
3
الحقيقة مستند إلى إثبات العلل، والإقرار بوجود العلل والأسباب. وهذا ليس بيٍّنا أوليا
4
بل هو مشهود [*]مشهود corrupt for مشهور [see fn. and Bertolacci 2006, 489]، وقد علمت الفرق بينهما. وليس إذا كان قريبا عند العقل، من البين
5
بنفسه أن للحادثات مبدأ ما يجب أن يكون بيَّنا [*]بيَّنا corrupt for بيِّنا بنفسه، مثل كثير من الأمور الهندسية
6
المبرهن عليها فى كتاب أوقليدس. ثم البيان البرهانى لذلك ليس فى العلوم الأخرى، فإذن
7
يجب أن يكون فى هذا العلم.
8
[17] فكيف يمكن أن يكون الموضوع للعلم المبحوث عن أحواله فى المطالب
9
مطلوب الوجود فيه؟ وإذا كان كذلك فبيِّن أيضا أنه ليس البحث عنها من جهة |9|[ed. Cairo vol. 1]
10
الوجود الذى يخص كل واحد منها، لأن ذلك مطلوب فى هذا العلم. ولا أيضا من جهة ما
11
هى جملة ما وكل، لست أقول جملى وكلى. فإن النظر فى أجزاء الجملة أقدم من النظر
12
فى الجملة، وإن لم يكن كذلك فى جزئيات الكلى باعتبار قد علمته، فيجب أن يكون
13
النظر فى الأجزاء إما فى هذا العلم فتكون هى أولى بأن تكون موضوعة [*]موضوعة corrupt for موضوعه [according to Bertolacci 2006, 489]، أو يكون فى
14
علم آخر. وليس علم آخر يتضمن الكلام فى الأسبأب القصوى غير هذا العلم. وأما إن
15
كان النظر فى الأسباب من جهة ما هى موجودة وما يلحقها من تلك الجهة فيجب إذن أن
16
يكون الموضوع الأول هو الموجود بما هو موجود.
17
[18] فقد بان أيضًا بطلان هذا النظر، وهو أن هذا العلم موضوعه الأسباب
18
القصوى، بل يجب أن يُعلم أن هذا كماله ومطلوبه. |10|[ed. Cairo vol. 1]
7
1
[الفصل الثاني]
2
ب فصل
3
فى تحصيل موضوع هذا العلم
4
[1] فيجب أن ندل على الموضوع الذى لهذا العلم لا محالة حتى يتبيّن لنا الغرض
5
الذى هو فى هذا العلم، فنقول:
6
[2] إن العلم الطبيعى قد كان موضوعه الجسم، ولم يكن من جهة ما هو موجود،
7
ولا من جهة ما هو جوهر، ولا من جهة ما هو مؤلف من مبدئيه، أعنى الهيولى والصورة،
8
ولكن من جهة ما هو موضوع للحركة والسكون. والعلوم التى تحت العلم الطبيعى أبعد
9
من ذلك. وكذلك الخلقيات.
10
[3] وأما العلم الرياضى فقد كان موضوعه إما مقدارًا مجردًا فى الذهن عن المادة،
11
وإما مقدارًا مأخوذًا فى الذهن مع مادة، وإما عددًا مجردًا عن المادة. وإما عددًا فى
12
مادة. ولم يكن أيضا ذلك البحث متجهًا إلى إثبات أنه مقدار مجرد أو فى مادة أو عدد
13
مجرد أو فى مادة، بل كان فى [*]فى corrupt for من [according to Bertolacci 2006, 489] جهة الأحوال التى تعرض له بعد وضعه كذلك. والعلوم
14
التى تحت الرياضيات أولى بان لا يكون نظرها إلا فى العوارض التى يلحق [*]يلحق corrupt for تلحق [see fn. and Bertolacci 2006, 489] أوضاعًا
15
أخص من هذه الأوضاع.
16
[4] والعلم المنطقى، كما علمت، فقد كان موضوعه المعانى المعقولة الثانية التى
17
تستند إلى المعانى المعقولة الأولى من جهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم |11|[ed. Cairo vol. 1] إلى
18
مجهول، لا من جهة ما هى معقولة ولها الوجود العقلى الذى لا يتعلق بمادة أصلا أو يتعلق
19
بمادة غير جسمانية. ولم يكن غير هذه العلوم علوم أخرى.
8
1
[5] ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجود وجوهر، وعن الجسم بما هو
2
جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما، وعن الأمور الصورية
3
التى ليست فى مادة أو هى مادة غير مادة الأجسام، وأنها كيف تكون وأى نحو من
4
الوجود يخصها، فما يجب أن يجرد له بحث. وليس يجوز أن يكون من جملة العلم
5
بالمحسوسات، ولا من جملة العلم بما وجوده فى المحسوسات، لكن التوهم والتحديد
6
يجرده من المحسوسات. فهو إذن من جملة العلم بما وجوده مباين.
7
[6] أما الجوهر فبيِّن أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان
8
جوهرٌ إلا محسوسًا. وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات، فهو بما
9
هو عدد غير متعلق بالمحسوسات.
10
[7] وأما المقدار فلفظه أسم مشترك، فيه [*]فيه corrupt for فمنه [according to Bertolacci 2006, 489] ما يقال له مقدار، ويعنى به البعد المقوم
11
للجسم الطبيعى، ومنه ما يقال [*]له, add. according to Bertolacci 2006, 489 مقدار، ويعنى به كمية متصلة تقال على الخط والسطح
12
والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما. وليس ولا واحد منهما مفارقا للمادة، ولكن
13
المقدار بالمعنى الأول وإن كان لا يفارق المادة فإنه أيضا مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية.
14
فإذا كان مبدأ لوجودها لم يجز أن يكون |12|[ed. Cairo vol. 1] متعلق القوام بها بمعنى أنه يستفيد القوام
15
من المحسوسات، بل المحسوسات تستفيد منه القوام. فهو إذا أيضا متقدم بالذات على
16
المحسوسات. وليس الشكل كذلك، فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسما
17
متناهيا موجودا وحملها سطحا متناهيا. فإن الحدود تجب للمقدار من جهة استكمال
18
المادة به وتلزمه [*]وتلزمه corrupt for ويلزمه [according to Bertolacci 2006, 490] من بعد. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل موجودا إلا فى المادة ولا علة
19
أولية لخروج المادة إلى الفعل.
9
1
[8] وأما المقدار بالمعنى الآخر فإن فيه نظرًا من جهة وجوده، ونظرًا من جهة
2
الموجود [*]الموجود corrupt for الوجود [according to Bertolacci 2006, 490]عوارضه. فأما النظر فى أن وجود أيّ أنحاء الوجود هو، ومن أى أقسام ،
3
فليس هو بحثًا أيضًا عن معنى متعلق بالمادة.
4
[9] فأما موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنه خارج عن المحسوسات.
5
[10] فبين أن هذه كلها تقع فى العلم الذى يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات،
6
ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هى كلها حالاته وعوارضه إلا الموجود. فإن
7
بعضها جواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى؛ وليس يمكن أن يعمهما [*]يعمهما corrupt for يعمها [according to Bertolacci 2006, 490] معنى
8
محقق إلا حقيقة معنى الوجود.
9
[11] وكذلك قد يوجد أيضا أمور يجب أن تتحدد وتتحقق فى النفس، وهى
10
مشتركة فى العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولى الكلام فيها مثل الواحد |13|[ed. Cairo vol. 1] بما هو
11
واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد وغير ذلك، فبعضها يستعملها
12
استعمالا فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم فى نحو وجودها. وليست
13
عوارض خاصة لشىء من موضوعات هذه العلوم الجزئية، وليست من الأمور التى يكون
14
وجودها إلا وجود الصفات للذوات ولا أيضا هى من الصفات التى تكون لكل شىء،
15
فيكون كل واحد منها مشتركًا لكل شىء. ولا يجوز أن يختص [*]يختص corrupt for تختص [according to Bertolacci 2006, 490] أيضا بمقولة ولا يمكن أن
16
يكون [*]يكون corrupt for تكون [according to Bertolacci 2006, 490] من عوارض شىء إلا الموجود بما هو موجود.
17
[12] فظاهر لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه،
18
وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما قلنا. ولأنه غنى عن تعليم ماهيته وعن
19
إثباته، حتى يحتاج إلى أن يتكفل علم غير هذا العلن بإيضاح الحال فيه لإستحالة أن يكون
10
1
إثبات الموضوع وتحقيق ماهيته فى العلم الذى هو موضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط،
2
فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود؛ ومَطَالبُه الأمور التى تلحقه بما هو
3
موجود من غير شرط.
4
[13] وبعض هذه الأمور هى له كالأنواع: كالجوهر والكم والكيف؛ فإنه ليس يحتاج
5
الموجود فى أن ينقسم إليها، إلى إنقسام قبلها، حاجة الجوهر إلى انقسامات، حتى يلزمه
6
الانقسام إلى الإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه [*]له, add. according to Bertolacci 2006, 490 كالعوارض الخاصة، مثل الواحد والكثير،
7
والقوة والفعل، والكلى والجزئى؛ والممكن والواجب، فإنه ليس يحتاج الموجود فى قبول هذه
8
الأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصّص طبيعيًا أو تعليميًا أو خلقيًا أو غير ذلك. |14|[ed. Cairo vol. 1]
9
[14] ولقائل أن يقول، إنه إذا جعل الموجود هو الموضوع لهذا العلم لم يجز
10
أن يكون إثبات مبادئ الموجودات فيه، لأن البحث فى كل علم هو عن لواحق
11
موضوعه لا عن مبادئه.
12
[15] فالجواب عن هذا أن النظر فى المبادئ أيضا هو بحث عن عوارض هذا
13
الموضوع، لأن الموجود كونه مبدأ غير مقوِّم له ولا ممتنع فيه؛ بل هو بالقياس إلى طبيعة
14
الموجود أمر عارض له، ومن العوارض الخاصة به. لأنه ليس شىء أعم من الموجود،
15
فيلحق غيره لحوقًا أوليًا. ولا أيضا يحتاج الموجود إلى أن يصير طبيعيا أو تعليميا أو شيئا
16
آخر حتى يعرض له أن يكون مبدأ. ثم المبدأ ليس المبدأ للموجود كله، ولو كان مبدأ
17
للموجود كله لكان مبدأ لنفسه؛ بل الموجود كله لا مبدأ له، إنما المبدأ مبدأ للموجود
18
المعلول. فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجود
11
1
مطلقًا، بل إنما يبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية؛ فإنها وإن كانت لا
2
تبرهن على وجود مبادئها المشتركة، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كل واحد
3
منها، فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها [*]بعدها corrupt for بعده [according to Bertolacci 2006, 490] من الأمور التى فيها.
4
[16] ويلزم هذا العلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء. منها ما يبحث عن الأسباب
5
القصوى، فإنها الأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده، ويبحث عن السبب الأول
6
الذى يفيض عنه كل موجود معلول بما هو موجود معلول لا بل ما هو وجود متحرِّك فقط أو
7
متكمَّم فقط. ومنها ما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها مايبحث عن مبادئ العلوم
8
الجزئية. ولأن مبادئ كل علم |15|[ed. Cairo vol. 1] أخص هى مسائل العلم فى الأعلى [*]الأعلى corrupt for الأعم [according to Bertolacci 2006, 490]، مثل مبادئ
9
الطب فى الطبيعى، والمساحى فى الهندسة، فيعرض إذن فى هذا العلم أن يتضح فيه
10
مبادئ العلوم الجزئية التى تبحث عن أحوال الجزئيات الموجودة [*]الموجودة corrupt for الموجود [according to Bertolacci 2006, 490]الموجودة.
11
[17] فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود، والأمور التى هى له كالأقسام
12
والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعى فيسلمه إليه،
13
وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضى فيسلمه إليه، وكذلك فى غير ذلك. وما قبل
14
ذلك التخصيص كالمبدأ [*]كالمبدأ corrupt for وكالمبدأ له [according to Bertolacci 2006, 490] فنبحث [*]فنبحث corrupt for فيبحث [see fn. and Bertolacci 2006, 490] عنه ونُقرر [*]ونُقرر corrupt for ويُقرر [see fn. and Bertolacci 2006, 490]] حاله.فتكون إذن مسائل هذا العلم [*]بعضهاله, add. according to Bertolacci 2006, 491
15
فى أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها فى عوارض الموجود، وبعضها
16
فى مبادئ العلوم الجزئية.
17
[18] فهذا هو العلم المطلوب فى هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى، لأنه العلم بأول
18
الأمور فى الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور فى العموم، وهو الوجود والوحدة.
19
وهو أيضا الحكمة التى هى أفضل علم بافضل معلوم؛ فإنها أفضل علم أى اليقين، بأفضل
12
1
المعلوم أى الله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضا معرفة الأسباب القصوى للكل. وهو
2
أيضا المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهى الذى هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة فى الحد
3
والوجود، إذ الموجود بما هو موجود ومبادئه وعوارضه ليس شىء منها، كما اتضح، إلا
4
متقدم الوجود على المادة وغير متعلق الوجود بوجودها.
5
[19] وإن بحث فى هذا العلم عما لا يتقدم المادة، فإنما يُبحث فيه عن معنى.
6
ذلك المعنى غير محتاج الوجود إلى المادة، بل الأمور المبحوث عنها فيه هى أقسام
7
أربعة: فبعضها بريئة عن المادة وعلائق |16|[ed. Cairo vol. 1] المادة أصلا. وبعضها يخالط المادة، ولكن
8
مخالطة السبب المقوم المتقدم وليست المادة بمقوم له. وبعضها قد فى المادة وقد يوجد
9
توجد لا فى المادة مثل العلية والوحدة، فيكون الذى لها بالشركة بما هى هى أن لا تكون
10
مفتقرة التحقق إلى وجود المادة، وتشترك هذه الجملة أيضا فى أنها غير مادية الوجود أى
11
غير مستفادة الوجود من المادة. وبعضها أمور مادية، كالحركة والسكون، ولكن ليس
12
المبحوث عنه فى هذا العلم حالها فى المادة، بل نحو الوجود الذى لها. فإذا أخذ هذا
13
القسم مع الأقسام الأخرى اشتركت فى فى أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير قائم
14
الوجود بالمادة. وكما أن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة، لكن
15
نحو النظر والبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة، وكان لا يخرجه تعلق ما
16
يبحث عنه بالمادة عن أن يكون البحث رياضيا، كذلك الحال ههنا.
17
[20] فقد ظهر ولاح أن الغرض فى هذا العلم أى شىء هو.
18
[21] وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة من وجه، ويخالفهما من وجه،
19
ويخالف كل واحد منهما من وجه. أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه فى هذا العلم
13
1
لا يتكلم فيه صاحب علم جزئى، ويتكلم فيه الجدلى والسوفسطائى. وأما المخالفة فلأن
2
الفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم فى مسائل العلوم الجزئية وذانك
3
يتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة فبالقوة، لأن الكلام الجدلى يفيد الظن لا اليقين كما
4
علمت فى صناعة المنطق. وأما مخالفة السوفسطائية فبالإرادة، وذلك لأن هذا يريد الحق
5
نفسه، وذلك يريد أن يظن به انه حكيم يقول الحق وإن لم يكن حكيما. |17|[ed. Cairo vol. 1]
6
[الفصل الثالث]
7
ج فصل
8
فى منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه
9
[1] وأما منفعة هذا العلم، فيجب أن تكون قد وقفت فى العلوم التى قبل هذا على
10
أن الفرق بين النافع وبين الخير ما هو، وأن الفرق بين الضار وبين الشر ما هو، وأن النافع هو
11
السبب الموصل بذاته إلى الخير، والمنفعة هى المعنى الذى يوصل به الشر إلى الخير.
12
وإذ قد تقرر هذا فقد علمت أن العلوم كلها تشترك فى منفعة واحدة وهى: تحصيل كمال
13
النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية. ولكنه إذا فُتش فى رؤوس الكتب
14
عن منفعة العلوم لم يكن القصد متجهًا إلى هذا المعنى، بل إلى معونة بعضها فى بعض،
15
حتى تكون منفعةُ علم ما هى معنى يتوصل منه إلى تحقيق علم آخر غيره.
16
[2] وإذا كانت المنفعة بهذا المعنى فقد يقال قولًا مطلقًا، وقد يقال قولًا متخصصًا.
17
فأما المطلق فهو أن يكون النافع موصّلا إلى تحقيق علم آخر كيف كان، وأما المخصّص فأن
18
يكون النافع موصّلا إلى ما هو أجل منه، وهو الغاية له إذ هو لأجله بغير انعكاس.
14
1
[3] فإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المطلق كان لهذا العلم منفعة. |18|[ed. Cairo vol. 1]وإذا أخذنا المنفعة
2
بالمعنى المتخصص كان هذا العلم أجل من أن ينفع فى علم غيره، بل سائر العلوم تنفع فيه.
3
[4] لكن إذا قسمنا المنفعة المطلقة إلى أقسامها كانت ثلاثة أقسام: قسم يكون
4
الموصل منه موصلًا إلى معنى أجل منه؛ وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى مساوٍ
5
له؛ وقسم يكون الموصل منه موصِّلًا إلى معنى دونه، وهو أن يفيد فى كمال دون ذاته.
6
وهذا إذا طلب له أسم خاص كان الأولى به الإفاضة، والإفادة، والعناية، والرياسة [*]والرياسة Middle Arabic for والرئاسة، أو
7
شىء مما يشبه هذا إذا استقريت الألفاظ الصالحة فى هذا الباب عثرت عليه.
8
[5] والمنفعة المخصصة قريبة من الخدمة. وأما الإفادة التى تحصل من الأشرف
9
فى الأخس فليس تشبه الخدمة. وأنت تعلم أن الخادم ينفع المخدوم، والمخدوم أيضا ينفع
10
الخادم، أعنى المنفعة إذا أخذت مطلقة ويكون نوع كل منفعة ووجه الخاص نوعا آخر.
11
فمنفعة هذا العلم الذى بيّنا وحهها هى إفادة اليقين بمبادئ العلوم الجزئية، والتحقق لماهية
12
الأمور المشترك [*]المشترك corrupt for المشتركة [according to Bertolacci 2006, 491] فيها، وإن لم تكن مبادئ. فهذا إذن منفعة الرئيس للمرؤوس، والمخدوم
13
للخادم، إذ نسبة هذا العلم إلى العلوم الجزئية نسبة الشىء الذى هو المقصود معرفته فى
14
هذا العلم إلى الأشياء المقصود معرفتها فى تلك العلوم. فكما أن ذلك مبدأ لوجود تلك،
15
فكذلك العلم به مبدأ لتحقق العلم بتلك. |19|[ed. Cairo vol. 1]
16
[6] وأما مرتبة هذا العلم فهى أن يتعلم بعد العلوم الطبيعية والرياضية. أما الطبيعية،
17
فلأن كثيرا من الأمور المسلمة فى هذا مما تبين فى علم الطبيعى مثل: الكون، والفساد،
18
والتغير، والمكان، والزمان وتعلق كل متحرك بمحرك، وانتهاء المتحركات إلى محرك أول،
19
وغير ذلك. وأما الرياضية، فلأن الغرض الأقصى فى هذا العلم وهو معرفة تدبير البارى [*]البارى Middle Arabic for البارئ
15
1
تعالى، ومعرفة الملائكة الروحانية وطبقاتها، ومعرفة النظام فى ترتيب الأفلاك، ليس يمكن أن
2
يتوصل إلا بعلم الهيئة، وعلم الهيئة لا يتوصل[*]إليه, add. according to Bertolacci 2006, 491 إليه إلا بعلم الحساب والهندسة. وأما الموسيقى
3
وجزئيات الرياضيات والخلقيات والسياسة فهى نوافع غير ضرورية فى هذا العلم.
4
[7] إلا أن لسائل أن يسأل فيقول: إنه إذا كانت المبادئ فى علم الطبيعة والتعاليم
5
إنما تُبرهَن فى هذا العلم وكانت مسائل العلمين تُبرهَن بالمبادئ، وكانت مسائل ذينك العلمين
6
تصير مبادئ لهذا العلم، كان ذلك بيانًا دوريًا ويصير آخر الأمر بيانا للشىء من نفسه،
7
والذى يجب أن يقال فى حل هذه الشبهة هو ما قد قيل وشرح فى كتاب البرهان. وإنما
8
نورد منه مقدار الكفاية فى هذا الموضوع فنقول:
9
[8] إن المبدأ للعلم ليس إنما يكون مبدأ لأن جميع المسائل تستند فى براهينها إليه
10
بفعل أو بقوة، بل ربما كان المبدأ مأخوذا فى براهين بعض هذه المسائل، ثم قد يجوز أن
11
تكون فى العلوم مسائل براهينها لا تستعمل وصفا [*]وصفا corrupt for وضعا [see fn. and Bertolacci 2006, 491] البتة؛ بل إنما |20|[ed. Cairo vol. 1] تستعمل
12
المقدمات التى لا برهان عليها. على أنه إنما يكون مبدأ العلم بالحقيقة إذا كان يفيد
13
أخذه اليقين المكتسب من العلة، وأما إذا كان ليس يفيد العلة، فإنما يقال له مبدأ العلم على
14
نحوٍ آخر. وبالحرىّ أن يقال له مبدأ على حسب ما يقال للحس مبدأ، من جهة أن الحس
15
بما هو حس يفيد الوجود فقط.
16
[9] فقد ارتفع إذن الشك، فإن المبدأ الطبيعى يجوز أن يكون بيّنا بنفسه، ويجوز
17
أن يكون بيانه فى الفلسفة الأولى بما ليس يتبين به [فيما] بعد، ولكن أنما تتبين به فيها
18
مسائل أخرى حتى يكون ما هو مقدمة فى العلم الأعلى لإنتاج ذلك المبدأ لا يتعرض له فى
19
إنتاجه من ذلك المبدأ، بل له مقدمة أخرى. وقد يجوز أن يكون العلم الطبيعى أو الرياضى
16
1
أفادنا برهان «أن» وإن لم يفدنا فيه برهان «اللم» ثم يفيدنا هذا العلم فيه برهان «لِمَ»
2
خصوصًا فى العلل الغائية البعيدة.
3
[10] فقد اتضح إنه إما أن يكون ما هو مبدأ بوجه ما لهذا العلم من المسائل التى فى
4
العلوم الطبيعية ليس فى بيانه من مبادئ تتبين فى هذا العلم، بل من مبادئ بيِّنة بنفسها؛ وإما
5
أن يكون بيانه من مبادئ هى مسائل فى هذا العلم، لكن ليس تعود فتصير مبادئ لتلك
6
المسائل لعينها [*]لعينها corrupt for يعينها [according to Bertolacci 2006, 491] بل لمسائل أخرى؛ وإما أن تكون تلك المبادئ لأمور من هذا العلم لتدل على
7
وجود ما يراد أن نبين [*]نبين corrupt for ببين [see fn. and Bertolacci 2006, 491] فى هذا العلم لمَّيته. ومعلوم أن هذا الأمر إذا كان على هذا الوجه
8
لم يكن بيان دور البتة، حتى يكون بيانا يرجع إلى أخذ الشىء فى بيان نفسه. |21|[ed. Cairo vol. 1]
9
[11] ويجب أن تعلم أن فى نفس الأمر طريقًا إلى أن يكون الغرض من هذا العلم
10
تحصيل مبدأ [*]مبدأ corrupt for مبتدأ [according to Bertolacci 2006, 491] إلا [*]إلا corrupt for لا [see fn. and Bertolacci 2006, 491] بعد علم آخر. فإنه سيتضح لك فيما بعد إشارة إلى أن لنا سبيلا إلى
11
إثبات المبدأ الأول لا من طريق الإستدلال من الأمور المحسوسة، بل من طريق مقدمات كلية
12
عقلية توجب للوجود مبدأ واجب الوجود وتمنع أن يكون متغيرِّا أو متكثرا فى جهة،
13
وتوجب أن يكون هو مبدأ للكل، وأن يكون الكل يجب عنه على ترتيب الكل. لكنا لعجز
14
أنفسنا لا نقوى على سلوك ذلك الطريق البرهانى الذى هو سلوك عن المبادئ إلى الثوانى،
15
وعن العلة إلى المعلول، إلا فى بعض جمل مراتب الموجودات منها دون التفصيل.
16
[12] فإذن من حق هذا العلم فى نفسه أن يكون مقدمًا على العلوم كلها، إلا أنه من
17
جهتنا يتأخر عن العلوم كلها، فقد تكلمنا على مرتبة هذا العلم من جملة العلوم.
18
[13] وأما أسم هذا العلم فهو أنه: « ما [*]ما corrupt for فيما [according to Bertolacci 2006, 491] بعد الطبيعة». ويعنى بالطبيعة لا القوة التى هى
19
مبدأ حركة وسكون، بل جملة الشىء الحادث عن المادة الجسمانية وتلك القوة والأعراض.
17
1
فقد قيل أنه قد يقال: الطبيعة، للجرم الطبيعى الذى له طبيعة. والجرم الطبيعى هو الجرم
2
المحسوس بما له من الخواص والأعراض. ومعنى «ما بعد الطبيعة» بعدية بالقياس إلينا.
3
فإن أول ما نشاهد الوجود، ونتعرف عن أحواله |22|[ed. Cairo vol. 1] نشاهد هذا الوجود الطبيع.
4
وأما الذى يستحق أن يسمى به هذا العلم إذا اعتبر بذاته، فهو أن يقال له علم «ما قبل
5
الطبيعة»، لأن الأمور المبحوث عنها فى هذا العلم، هى بالذات والعموم، قبل الطبيعة.
6
[14] ولكنه لقائل أن يقول: إن الأمور الرياضية المحضة التى ينظر فيها فى الحساب
7
والهندسة، هى أيضا «قبل الطبيعة»، وخصوصا العدد فإنه لا تعلق لوجوده بالطبيعة البتة،
8
لأنه قد يوجد لا فى الطبيعة، فيجب أن يكون علم الحساب والهندسة علم «ما قبل الطبيعة».
9
[15] فالذى يجب أن يقال فى هذا التشكيك هو أنه: أما الهندسة فما كان النظر
10
فيه منها إنما هو فى الخطوط والسطوح والمجسمات. فمعلوم أن موضوعه غير مفارق
11
للطبيعة فى القوام، فالأعراض اللازمة له أولى بذلك. وما كان موضوعه المقدار المطلق
12
فيؤخذ فيه المقدار المطلق على أنه مستعد لأية نسبة اتفقت، وذلك ليس للمقدار بما هو
13
مبدأ للطبيعيات وصورة؛ بل بما هو مقدار وعرض. وقد عرف فى شرحنا للمنطقيات
14
والطبيعيات الفرق بين المقدار الذى هو يعد [*]يعد corrupt for بعد [see fn. and Bertolacci 2006, 491] الهيولى مطلقا، وبين المقدار الذى هو كم،
15
وأن أسم المقدار يقع عليهما بالإشتراك. وإدا [*]وإدا corrupt for وإذا [see fn. and Bertolacci 2006, 491] كان كذلك فليس موضوع الهندسة بالحقيقة
16
هو المقدار المعلوم المقوم للجسم الطبيعى، بل المقدار المقول على الخط والسطح والجسم.
17
وهذا هو المستعد للنسب المختلفة. |23|[ed. Cairo vol. 1]
18
1
[16] وأما العدد فالشبهة فيه آكد، ويشبه فى ظاهر النظر أن يكون علم العدد هو
2
علم «ما بعد الطبيعة». إلا أن يكون علم «ما بعد الطبيعة» إنما يعنى به شىء آخر، وهو
3
علم «ما هو مباين» من كل الوجوه للطبيعة، فيكون قد سُمِّى هذا العلم بأشرف ما فيه.
4
كما يُسمَّى هذا العلم بالعلم الإلهى أيضا، لأن المعرفة بالله تعالى هى غاية هذا العلم. وكثيرا
5
ما تسمى الأشياء من جهة المعنى الأشرف، والجزء الأشرف، والجزء الذى هو كالغاية.
6
فيكون كأن هذا العلم هو العلم الذى كماله، وأشرف اجزائه، ومقصوده الأول، هو معرنة
7
ما يفارق الطبيعة من كل وجه. وحينئذ إذا كانت التسمية موضوعة بإزاء هذا المعنى لا
8
يكون لعلم العدد مشاركة له فى معنى هذا الإسم، فهذا هذا.
9
[17] ولكن البيان المحقق لكون علم الحساب خارجا عن علم «ما بعد الطبيعة»
10
هو أنه سيظهر لك أن موضوعه ليس هو العدد كل كل وجه، فإن العدد قد يوجد فى
11
الأمور المفارقة، وقد يوجد فى الأمور الطبيعية، وقد يعرض له وضع فى الوهم مجردًا عن
12
كل شىء [*]كل شىء corrupt for شىء [according to Bertolacci 2006, 491] وهو عارض له. وإن كان لا يمكن أن يكون العدد موجودًا، إلا عارضًا لشىء
13
فى الوجود. فما كان من العدد وجوده فى الأمور المفارقة، امتنع أن يكون موضوعا لأية
14
نسبة اتفقت من الزيادة و اليقصان [*]اليقصان corrupt for النقصان [see fn. and Bertolacci 2006, 492]، بل إنما يثبت على ما هو عليه فقط، بل إنما يجب [*]يجب corrupt for يجوز [according to Bertolacci 2006, 492]
15
أن يوضع بحيث يكون قابلًا لأى زيادة اتفقت، ولأى نسبة اتفقت إذا كان فى هيولى
16
الأجسام التى هى بالقوة كل نحو من المعدودات، أو كان فى الوهم؛ وفى الحالين جميعا
17
هو غير مفارق |24|[ed. Cairo vol. 1] للطبيعة.
18
[18] فإذن علم الحساب من حيث ينظر فى العدد إنما ينظر فيه وقد حصل له
19
الاعتبار الذى أنما[*]أنما corrupt for إنما يكون له عند كونه فى الطبيعة، ويشبه أن يكون أول نظره فيه هو فى
19
1
الوهم، ويكون إنما هو فى الوهم بهذه الصفة، لأنه وهم له مأخوذ من أحوال طبيعية لها أن
2
تجتمع وتفترق وتتحدد وتنقسم.
3
[19] فالحساب ليس نظرا فى ذات العدد، ولا نظرا فى عوارض العدد من حيث
4
هو عدد مطلقا؛ بل هو فى عوارضه من حيث هو يصير بحال تقبل ما أشير إليه، وهو حينئذ
5
مادى أو وهمى إنسانى يستند إلى المادة.
6
[20] وأما النظر فى ذات العدد، وفيما يعرض له من حيث لا يتعلق بالمادة ولا
7
يستند إليها، فهو لهذا العلم. |25|[ed. Cairo vol. 1]
8
[الفصل الرابع]
9
د فصل
10
فى جملة ما يتكلم فيه فى هذا العلم
11
[1] فينبغى لنا فى هذه الصناعة أن نعرف حال نسبة الشىء والموجود إلى
12
المقولات؛ وحال العدم؛ وحال الوجوب، أى [*]أى corrupt for فى [according to Bertolacci 2006, 492] الوجود الضرورى وشرائطه؛ وحال الإمكان
13
وحقيقته، وهو بعينه النظر فى القوة والفعل؛ وأن ننظر فى حال الذى بالذات والذى
14
بالعرض؛ وفى الحق والباطل؛ وفى حال الجوهر، وكم أقسام هو، لأنه ليس يحتاج الموجود
15
فى أن يكون جوهرا موجودا إلى أن يصير طبيعيا أو تعليميا، فإن ههنا جواهر خارجة
16
عنهما. فيجب أن نعرف حال الجوهر الذى هو كالهيولى، وأنه كيف هو، وهل هو مفارق
17
أو غير مفارق، ومتفق النوع أو مختلف، وما نسبته إلى الصورة، أن الجوهر الصورى
20
1
كيف هو، وهل هو أيضًا مفارقٍ [*]مفارقٍ corrupt for مفارقٌ [see fn. and Bertolacci 2006, 492] أو ليس بمفارق، وما حال المركب، وكيف حال كلّ
2
واحد منهما عند الحدود، وكيف مناسبة ما بين الحدود والمحدودات.
3
[2] ولأن مقابل الجوهر بنوع ما هو العرض، فينبغى أن نتعرف فى هذا العلم طبيعة
4
العرض، وأصنافه، وكيفية الحدود التى تحد بها الأعراض، ونتعرف حال مقولة مقولة
5
من الأعراض، وما أمكن فيه أن يظن أنه جوهر وليس |26|[ed. Cairo vol. 1] بجوهرٍ، فنبيّن عرضيته،
6
ونعرف مراتب الجواهر كلها بعضها عن بعض فى الوجود بحسب التقدم والتأخر، ونعرف
7
كذلك حال الأعراض.
8
[3] ويليق بهذا الموضوع أن نتعرف حال الكلّى والجزئى؛ والكلّ والجزء؛
9
وكيف وجود الطبائع الكلية، وهل لهاوجود فى الأعيان الجزئية؛ وكيف وجودها
10
فى النفس، وهل لها وجود مفارق للأعيان والنفس. وهنالك نتعرف حال الجنس والنوع،
11
وما يجرى مجراهما.
12
[4] ولأن الموجود لا يحتاج فى كونه علة أو معلولا إلى أن يكون طبيعيًا أو تعليميًا
13
أو غير ذلك، فبالحرى أن نتبع ذلك الكلام فى العلل، وأجناسها، وأحوالها، وأنها كيف
14
ينبغى أن تكون الحال بينها وبين المعلولات، وفى تعريف الفرقان بين المبدأ الفاعلى وبين
15
غيره، وأن نتكلم فى الفعل والإنفعال، وفى تعريف الفرقان بين الصورة والغاية، واثبات كل
16
واحد منهما، وأنهما فى كل طبقة يذهب إلى علّةٍ أولى.
17
[5] ونبين الكلام فى المبدأ والإبتداء، ثم الكلام فى التقدم والتأخر والحدوث،
18
وأصناف ذلك، وأنواعه، وخصوصية كل نوع منه، وما يكون متقدما فى الطبيعة ومتقدما
21
1
عند العقل، وتحقيق الأشياء المتقدمة عند العقل، ووجه مخاطبة من أنكرها، فما كان فيه
2
من هذه الأشياء رأى مشهور مخالف للحق نقضناه.
3
[6] فهذه وما يجرى مجراها لواحق الوجود بما هو وجود، ولأن الواحد مساوق
4
للوجود فيلزمنا أن ننظر أيضا فى الواحد، وإذا نظرنا فى الواحد وجب أن ننظر فى
5
الكثير، ونعرف التقابل بينهما. |27|[ed. Cairo vol. 1]وهناك يجب أن ننظر فى العدد، وما نسبته
6
إلى الموجودات، وما نسبة الكم المتصل، الذى يقابله بوجه ما، إلى الموجودات، ونعد
7
الآراء الباطلة كلها فيه، ونعرّف أنه ليس شىء من ذلك مفارقًا ولا مبدأ للموجودات،
8
ونثبت العوارض التى تعرض للأعداد، والكميات المتصلة، مثل الأشكال وغيرها. ومن
9
توابع الواحد: الشبيه، والمساوى، والموافق، والمجانس، والمشاكل، والمماثل، والهو هو.
10
فيجب أن نتكلم فى كل واحد من هذه ومقابلاتها، وأنها مناسبة للكثرة مثل الغير الشبيه،
11
وغير المساوى، وغير المجانس، وغير المشاكل، والغير بالجملة، والخلاف، والتقابل،
12
وأصنافها، والتضاد بالحقيقة، وماهيته.
13
[7] ثم بعد ذلك ننتقل إلى مبادئ الموجودات فنثبت المبدأ الأول وأنه واحد حق
14
فى غاية الجلالة، ونعرّف أنه من كم وجه «واحد»، ومن كم وجه «حق»، وأنه كيف
15
يعلم كل شىء، وكيف هو قادر على كل شىء، وما معنى أنه يعلم وأنه يقدر، وأنه جواد،
16
وأنه سلام أى خير محض، معشوق لذاته، وهو اللذيذ الحق، وعنده الجمال الحق، ونَفْسَخ
17
ما قيل وظُنَّ فيه من الآراء المضادة للحق.
18
[8] ثم نبيّن كيف نسبته إلى الموجودات عنه، وما أول الأشياء التى توجد عنه.
19
ثم كيف تترتب عنه الموجودات مبتدئة من الجواهر الملكية العقلية، ثم الجواهر الملكية
22
1
النفسانية، ثم الجواهر الفلكية السماوية، ثم هذه العناصر، ثم المكونات عنها، ثم الإنسان.
2
وكيف تعود إليه هذه الأشياء، وكيف هو مبدأ |28|[ed. Cairo vol. 1]لها فاعلى، وكيف هو مبدأ لها
3
كمالى، وماذا تكون حال النفس الإنسانية إذا انقطعت العلاقة بينها وبين الطبيعة، وأى
4
مرتبة تكون مرتبة وجودها. وندل فيما بين ذلك على جلالة قدر النبوة، ووجوب طاعتها،
5
وأنها واجبة من عند الله، وعلى الأخلاق والأعمال التى تحتاج إليها النفوس الإنسانية مع
6
الحكمة فى أن يكون لها السعادة الأخروية. ونعرف أصناف السعادات.
7
[9] فإذا بلغنا هذا المبلغ ختمنا كتابنا هذا، والله المستعان به على ذلك. |29|[ed. Cairo vol. 1]
8
[الفصل الخامس]
9
ه فصل
10
فى الدلالة على الموجود والشىء وأقسامها الأُوَل، بما يكون فيه تنبيه على الغرض
11
[1] فنقول: إن الموجود، والشىء، والضرورى، معانيها ترتسم فى النفس ارتسامًا
12
أوليًا، ليس ذلك الارتسام مما يُحتاج إلى أن يُجلب بإشياء أعرف منها. فإنه كما أن فى باب
13
التصديق مبادئ أولية، يقع التصديق لها لذاتها، ويكون التصديق بغيرها، بسببها، وإذا لم
14
يخطر [*]يخطر corrupt for تخطر [according to Bertolacci 2006, 492] بالبال أو لم يفهم اللفظ الدال عليها، لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها، وإن
15
لم يكن التعريف الذى يحاول أخطارها بالبال أو تفهيم ما يدل به عليها من الألفاظ محاولًا
16
لإفادة علم ليس فى الغريزة؛ بل مُنَبِّهًا على تفهيم ما يريده القائل ويذهب اليه؛ وربما كان ذلك
17
بأشياء هى فى نفسها [*]نفسها corrupt for أنفسها [according to Bertolacci 2006, 492] أخفى من المراد تعريفه، لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف.
23
1
[2] كذلك فى التصورات أشياء هى مبادئ للتصور، وهى متصورة لذواتها، وإذا
2
أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك بالحقيقة تعريفا لمجهول؛ بل تنبيهًا وإخطارًا بالبال، بأسمٍ أو
3
بعلامةٍ، ربما كانت فى نفسها أخفى منه، لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة.
4
[3] فإذا استعملت تلك العلامة تنبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال، من
5
حيث أنه هو المراد لا غيره، من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة |30|[ed. Cairo vol. 1] إياه.
6
[4] ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر فى ذلك إلى
7
غير النهاية، أو لَدارَ.
8
[5] وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها،
9
كالموجود، والشىء الواحد [*]الواحد corrupt for والواحد [according to Bertolacci 2006, 492] وغيره. ولهذا ليس يمكن أن يبيّن شىء منها بِبَيان لا دور فيه
10
البتة، أو بيان شىءٍ أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقوم [*]يقوم corrupt for يقول [according to Bertolacci 2006, 492] فيها شيئًا وقع فى إضطراب،
11
كمن يقول: إن من الحقيقة الموجود أن يكون فاعلًا أو منفعلًا؛ وهذا إن كان ولا بد فمن
12
أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل. وجمهور الناس يتصوّرون حقيقة
13
الموجود ولا يعرفون البتة أنه يجب أن يكون فاعلا أو منفعلا، وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح
14
لى ذلك إلا بقياس لا غير، فكيف يكون حال من يروم أن يعرّف حال الشىء الظاهر بصفة
15
له، تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له؟
16
[6] وكذلك قول من قال: إن الشىء هو الذى يصح عنه الخبر، فإن «يصح» أخفى
17
من «الشىء» و «الخبر» أخفى من «الشىء»، فكيف يكون هذا تعريفًا للشىء؟ وإنما
18
تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل فى بيان كل واحد منهما أنه «شىء» أو أنه
19
«أمر» أو أنه «ما» أو أنه «الذي»، وجميع ذلك كالمرادفات لأسم الشىء.
24
1
[7] فكيف يصح أن يعرف الشىء تعريفا حقيقيا بما لم يعرف إلا به؟ نعم، ربما كان
2
فى ذلك أو أمثاله تنبيه ما. وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت إن الشىء هو ما يصح الخبر عنه،
3
تكون كأنك قلت: إن الشىء هو الشىء الذى يصح الخبر عنه، لأن معنى «ما» و«الذي»
4
و«الشىء» معنى واحد، فتكون قد أخذت الشىء فى حد الشىء. |31|[ed. Cairo vol. 1]على أنا لا
5
ننكر أن يقع بهذا أو ما يشبهه، مع فساد مأخذه، تنبيه بوجه ما على الشىء.
6
[8] ونقول: إن معنى الوجود [*]الوجود corrupt for الموجود [according to Bertolacci 2006, 492] ومعنى الشىء متصوران فى الأنفس، وهما معنيان.
7
[والموجود] والمثبت والمحصل أسماء مترادفة على معنى واحد، ولا نشك فى أن معناها
8
قد حصل فى نفس من يقرأ هذا الكتاب.
9
[9] والشىء وما يقوم مقامه قد يدل به على معنى آخر فى اللغات كلها، فإن لكل
10
أمر حقيقة هو بها ما هو، فالمثلث حقيقة أنه مثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض، وذلك
11
هو الذى ربما سميناه الوجود الخاص، ولم نرد به معنى الوجود الإثباتى. فإن لفظ الوجود
12
يدل به أيضا على معانى كثيرة، منها الحقيقة التى عليها الشىء، فكأنه ما عليه يكون
13
الوجود الخاص للشىء.
14
[10] ونرجع فنقول: إنه من البين أن لكل شىء حقيقة خاصة هى ماهيته، ومعلوم
15
أن حقيقة كل شىء الخاصة به غير الوجود الذى يرادف الإثبات.
16
[11] وذلك لأنك إذا قلت: حقيقة كذا موجودة إما فى الأعيان، أو فى الأنفس،
17
أو مطلقا يعمها [*]يعمها corrupt for يعمهما [according to Bertolacci 2006, 492] جميعا، كان لهذا معنى محصل مفهوم. ولوقلت: إن حقيقة كذا، حقيقة
18
كذا، أو أن حقيقة كذا حقيقة، لكان حشوا من الكلام غير مفيد. ولو قلت: إن حقيقة
19
كذا شىء، لكان أيضا قولًا غير مفيد ما يجهل؛ واقل إفادة منه أن تقول: إن الحقيقة
25
1
شىء، إلا أن يعنى بالشىء، الموجود، كأنك قلت: إن حقيقة كذا حقيقة موجودة. وأما
2
إذا قلت: حقيقة آ شىء ما، و حقيقة ب شىء آخر، فإنما صح هذا وأفاد لأنك تضمر
3
فى نفسك أنه شىء آخر مخصوص مخالف |32|[ed. Cairo vol. 1] لذلك الشىء الآخر، كما لو قلت:
4
إن حقيقة أ وحقيقة بَ حقيقة أخرى. ولولا هذا الإضمار وهذا الإقتران جميعا لم يفد،
5
فالشىءئ يراد به هذا المعنى. ولا يفارق لزوم معنى الوجود إياه البتة، بل معنى الوجود [*]الوجود corrupt for الموجود [according to Bertolacci 2006, 492]
6
يلزمه دائما، لأنه إما موجودًا فى الأعيان، أو موجودا فى الوهم والعقل، فإن لم
7
يكن كذا لم يكن شيئا.
8
[12] وأن ما يقال: إن الشىء هو الذى يخبر عنه، حق؛ ثم الذى يقال، مع هذا،
9
إن الشىء قد يكون معدوما على الإطلاق، أمر يجب أن ينظر فيه. فإن عنى بالمعدوم
10
المعدوم فى الأعيان، جاز أن يكون كذلك، فيجوز أن يكون الشىء ثابتا فى الذهن معدوما
11
فى الأشياء الخارجة. وإن عنى غير ذلك كان باطلا، ولم يكن عنه خبر البتة، ولا كان
12
معلومًا إلا على أنه متصور فى النفس فقط. فأما أن يكون متصَوَّرًا فى النفس صورة تشير
13
إلى شىء خارج فكلاّ.
14
[13] أما الخبر، فلأن الخبر يكون دائمًا عن شىءٍ متحقّق فى الذهن. والمعدوم
15
المطلق لا يخبر عنه بالإيجاب، وإذا أخبر عنه بالسلب أيضا فقد جعل له وجود بوجه ما
16
فى الذهن. لأن قولنا: «هو»، يتضمن إشارة، والإشارة إلى المعدوم ــ الذى لا صورة
17
له بوجه من الوجوه فى الذهن ــ محال. فكيف يوجب على المعدوم شىء، ومعنى
18
قولنا: إن المعدوم «كذا»، معناه أن وصف «كذا» حاصل للمعدوم، ولافرق بين الحاصل
19
والموجود؟ فنكون كأنا قلنا: إن هذا الوصف |33|[ed. Cairo vol. 1]موجود للمعدوم. بل نقول:
26
1
[14] إنه لا يخلو أن ما يوصف به المعدوم ويحمل عليه إما أن يكون موجودا
2
وحاصلا للمعدوم أو لا يكون موجودًا حاصلًا له؛ فإن كان موجودا وحاصلا للمعدوم،
3
فلا يخلو إما أن يكون فى نفسه موجودا أو معدوما، فإن كان موجودا فيكون للمعدوم
4
صفة موجودة، وإذا كانت الصفة موجودة، فالموصوف بها موجود لا محالة، فالمعدوم
5
موجود، وهذا محال؛ وإن كانت الصفة معدومة، فكيف يكون المعدوم فى نفسه موجودا
6
لشىء؟ فإن ما لا يكون موجودا فى نفسه، يستحيل أنيكون موجودا للشىء. نعم قد
7
يكون الشىء موجودًا فى نفسه ولا يكون موجودا لشىء آخر.
8
[15] فأما إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم فهى نفى الصفة عن المعدوم، فإنه إن
9
لم يكن هذا هو النفى للصفة عن المعدوم، فإذا نفينا الصفة عن المعدوم، كان مقابل هذا،
10
فكان وجود الصفة له؛ وهذا كله باطل.
11
[16] وإنما نقول: إن لنا علمًا بالمعدوم، فلأن المعنى إذا تحصل فى النفس فقط ولم
12
يُشر فيه إلى خارج، كان المعلوم نفس ما فى النفس فقط، والتصديق الواقع بين المتصور من
13
جزئيه هو أنه جائز فى طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج، وأما فى هذا
14
الوقت فلا نسبة له، فلا معلوم غيره.
15
[17] وعند القوم الذين يرون هذا الرأى، أن فى جملة ما يخبر عنه ويعلم أمورًا
16
لا شيئية لها فى العدم، ومن شاء أن يقف على ذلك فليرجع إلى ما هذوا به من أقاويلهم
17
التى لا تستحق فضل الاشتغال بها. |34|[ed. Cairo vol. 1]
18
[18] وإنما وقع اولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأن الإخبار إنما يكون عن
19
معانٍ لها وجود فى النفس، وإن كانت معدومة فى الأعيان، ويكون معنى الإخبار عنها
27
1
أنلها نسبة ما إلى الأعيان. مثلا إن قلت: إن القيامة «تكون» فَهِمْت القيامة وفَهِمْت
2
«تكون»، وحملت «تكون» التى فى النفس، على القيامة التى فى النفس، بأن هذا
3
المعنى إنما يصح فى معنى آخر معقول أيضا، وهو معقول فى وقت مستقبل، أن يوصف
4
بمعنى ثالث معقول، وهو معقول الوجود. وعلى هذا القياس الأمر فى الماضى. فبين أن
5
المخبر عنه لا بد من أن يكون موجودًا وجودا ما فى النفس. والإخبار فى الحقيقة فى الحقيقة [*]فى الحقيقة corrupt for بالحقيقة [according to Bertolacci 2006, 493] هو عن
6
الموجود فى النفس، وبالعرض عن الموجود فى الخارج.
7
[19] وقد فهمت الآن أن الشىء بماذا يخالف المفهوم للموجود والحاصل، وأنهما
8
مع ذلك متلازمان.
9
[20] وعلى أنه قد بلغنى أن قومًا يقولون: أن الحاصل يكون حاصلا، وليس
10
بموجود، وقد تكون صفة الشىء ليس شيئا لا موجودا ولا معدوما، وأن «الذي»
11
و»ما» يدلان على غير ما يدل عليه الشىء. فهؤلاء ليسوا من جملة المميِّزين. وإذا أخذوا
12
بالتمييز بين هذه الألفاظ من حيث مفهوماتها إنكشفوا.
13
[21] فنقول الآن: إنه وإن لم يكن الموجود، كما علمت، جنسًا، ولا مقولًا
14
بالتساوى على ما تحته، فإنه معنى متفق فيه على التقديم والتأخير. وأول ما يكون، يكون
15
للماهية التى هى الجوهر ثم يكون لما بعده. وإذ هو معنى واحد |35|[ed. Cairo vol. 1]على النحو الذى
16
أومأنا إليه فتلحقه عوارض تخصه، كما قد بينا من قبل. فلذلك يكون له علم واحد يتكفل
17
به. كما أن لجميع ما هو صحى علما واحدا.
18
[22] وقد يعسُر علينا أن نعرّف حال الواجب والممكن والممتنع بالتعريف المحقق
19
أيضا؛ بل بوجه العلامة. وجميع ما قيل فى تعريف هذه مما بلغك عن الأولين قد يكاد يقتضى
28
1
دورا. وذلك لأنهم، على ما مر لك فى فنون المنطق، إذا أرادوا أن يحدوا الممكن، أخذوا
2
فى حده إما الضرورى وإما المحال ولا وجه غير ذلك. وإذا أرادوا أن يحدوا الضرورى،
3
أخذوا فى حده إما الممكن وإما المحال. وإذا أرادوا أن يحدوا المحال أخذوا فى حده إما
4
الضرورى وإما الممكن. مثلًا إذا حدوا الممكن قالوا مرة، إنه غير الضرورى أو أنه المعدوم
5
فى الحال الذى ليس وجوده، فى أى وقت فُرض من المستقبل، بمحال. ثم إذا احتاجوا إلى
6
أن يحدوا الضرورى قالوا: إما أنه الذى لا يمكن أن يفرض معدوما، أو إنه الذى إذا فرض
7
بخلاف ما هو عليه كان محالا. فقد أخذوا الممكن تارة فى حده، والمحال أخرى. وأما
8
الممكن فقد كانوا أخذوا، قبل، فى حده إما الضرورى وإما المحال. ثم المحال، إذا ارادوا أن
9
يحدوه، أخذوا فى حده إما الضرورى بأن يقولوا: إن المحال هو ضرورى العدم؛ وإما الممكن
10
بأن يقولوا: إنه الذى لا يمكن أن يوجد؛ أو لفظًا آخر يذهب مذهب هذين.
11
[23] وكذلك ما يقال من أن الممتنع هو الذى لا يمكن أن يكون، أو هو الذى يجب
12
أن لا يكون. والواجب هو الذى هو ممتنع ومحال أن لا يكون، أو ليس |36|[ed. Cairo vol. 1] بممكن أن
13
لا يكون. والممكن هوالذى ليس يمتنع أن يكون أو لا يكون، أو الذى ليس بواجب أن
14
يكون وأن لا يكون. وهذا كله كما تراه دور ظاهر. وأما كشف الحال فى ذلك فقد مرّ
15
لك فى أنولوطيقا.
16
[24] على أن أوْلى هذه الثلاثة فى أنيتصور أولا، هو الواجب. وذلك لأن
17
الواجب يدل على تأكد الوجود، والوجود أعرف من العدم، لأن الوجود يعرف بذاته،
18
والعدم يعرف، بوجه ما من الوجوه، بالوجود.
19
[25] ومن تفهمنا [*]تفهمنا corrupt for تفهيمنا [see fn. and Bertolacci 2006, 493] هذه الأشياء يتضح لك بطلان قول من يقول: إن المعدوم يعاد
20
لأنه أول شىء مخبر عنه بالوجود. وذلك أن المعدوم إذا أعيد يجب أن يكون بينه وبين ما
29
1
هو مثله، لو وجد بدله، فرق. فإن كان مثله إنما ليس هو لأنه ليس الذى كان عدم، وفى
2
حال العدم كان هذا غير ذلك.
3
[26] فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذى أو مأنا إليه فيما سلف آنفا.
4
وعلى أن المعدوم إذا أعيد احتيج أن تعاد جميع الخواص التى كان بها هو ما هو. ومن
5
خواصه وقته، وإذا أعيد وقته كان المعدوم غير معاد، لأن المعاد هو الذى يوجد فى وقت
6
ثان. فإن كان المعدوم تجوز إعادته وإعادة جملة المعلومات التى كانت معه، والوقت إما
7
شىء له حقيقة وجود قد عدم، أو موافقة موجود لعرض من الأعراض، على ما عرف
8
من مذاهبهم، جاز أن يعود الوقت والأحوال، فلا يكون وقت ووقت، فلا يكون عود.
9
[27] على أن العقل يدفع هذا دفعًا لا يحتاج فيه إلى بيان، وكل ما يقال فيه فهو
10
خروج عن طريق التعليم. |37|[ed. Cairo vol. 1]
11
[الفصل السادس]
12
و فصل
13
فى ابتداء القول فى الواجب الوجود، والممكن الوجود،
14
وأن الواجب الوجود لا علة له، وأن الممكن الوجود معلول،
15
وأن الواجب الوجود غير مكافئ لغيره فى الوجود، ولا متعلق بغيره فيه
16
[1] ونعود إلى ما كنا فيه فنقول: إن لكل واحد من الواجب الوجود، والممكن
17
الوجود، خواص. فنقول: إن الأمور التى تدخل فى الوجود تحتمل فى العقل الإنقسام إلى
30
1
قسمين، فيكون منها ما إذا اعتبر بذاته لم يجب وجوده، وظاهر أنه لا يمتنع أيضا وجوده،
2
وإلا لم يدخل فى الوجود، وهذا الشىء هو فى حيّز الإمكان، ويكون منها ما إذا اعتبر
3
بذاته وجب وجوده.
4
[2] فنقول: إن الواجب الوجود بذاته لا علة له، وإن الممكن الوجود بذاته له علة،
5
وإن الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وإن الواجب الوجود لا يمكن
6
أن يكون وجوده مكافئا لوجود آخر، فيكمون كل واحد منهما مساويا للآخر فى وجوب
7
الوجود ويتلازمان. وأن الواجب الوجود لا يجوز أنيجتمع وجوده عن كثرة البتة. وأن
8
الواجب الوجود لا يجوز أن تكون الحقيقة التى له مشتركا فيها بوجه من الوجوه، حتى
9
يلزم تصحيحنا ذلك أن يكون واجب الوجود غير مضاف، ولا متغير، ولا متكثر،
10
ولا مشارك فى وجوده الذى يخصه. |38|[ed. Cairo vol. 1]
11
[3] أما الواجب الوجود لا علة له، فظاهر. لأنه إن كان لواجب الوجود علة
12
فى وجوده، كان وجوده بها. وكل ما وجوده بشىء، فإذا اعتبر بذاته دون غيره لم يجب
13
له وجود، وكل ما إذا اعتبر بذاته دون غيره، ولم ولم [*]ولم corrupt for لم [according to Bertolacci 2006, 493] يجب له وجود، فليس واجب الوجود
14
بذاته. فبين أنه إن كان لواجب الوجود بذاته علة لم يكن واجب الوجود بذاته، فقد ظهر
15
أن الواجب الوجود لا علة له. وظهر من ذلك أنه لا يجوز أن يكون شىء واجب الوجود
16
بذاته، وواجب الوجود بغيره، لأنه إن كان يجب وجوده بغيره، فلا يجوز أن يوجد دون
17
غيره، وكلما [*]وكلما corrupt for وكل ما [according to Bertolacci 2006, 493] لا يجوز أن يوجد دون غيره، فيستحيل وجوده واجبا بذاته. ولو وجب
18
بذاته، لحصل. ولا تأثير لإيجاب الغير فى وجوده الذى [*]الذى corrupt for والذى [according to Bertolacci 2006, 493] يؤثر غيره فى وجوده؛ فلا يكون
19
واجبا وجوده فى ذاته.
31
1
[4] وأيضا أن كل ما هو ممكن الوجود باعتبار ذاته، فوجوده وعدمه كلاهما بعلة،
2
لأنه غذا وجد فقد حصل له الوجود متميزًا من العدم، وإذا عدم حصل له العدم متميزًا من
3
الوجود. فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من الأمرين يحصل له عن غيره أو لا عن غيره،
4
فإن كان عن غيره فالغير هو العلة؛ وإن كان لا يحصل عن غيره.
5
[5] ومن [*]ومن corrupt for فمن [according to Bertolacci 2006, 493] البين أن كل ما لم يوجد ثم وجد فقد تخصص بأمر جائز غيره. وكذلك
6
فى العدم، وذلك لأن هذا التخصيص إما تكفى فيه ماهية الأمر أو لا تكفى فيه ماهية [*]ماهية corrupt for ماهيته [according to Bertolacci 2006, 493]
7
فإن كانت ماهيته تكفى لأى الأمرين كان، حتى يكون |39|[ed. Cairo vol. 1] حاصلًا، فيكون ذلك الأمر
8
واجب الماهية واجب الماهية [*]واجب الماهية corrupt for واجبًا لماهيته [according to Bertolacci 2006, 493] لذاته، وقد فرض غير واجب؛ هذا خلف. وإن كان لا يكفى فيه وجود
9
ماهيته، بل أمر يضاف إليه وجود ذاته، فيكون وجوده لوجود شىء آخر غير ذاته لا بد
10
منه، فهو علته، فله علة. وبالجملة فإنما يصير أحد الأمرين واجبا له، لا لذاته، بل لعلة.
11
أما المعنى الوجودى فبعلةٍ، هى علة وجودية. وأما المعنى العدمى فبعلةٍ، هى عدم العلة
12
للمعنى الوجودى، وعلى ما علمت.
13
[6] فنقول: إنه يجب أن يصير واجبًا بالعلة، وبالقياس إليها. فإنه إن لم يكن
14
واجبا، كان عند وجود العلة وبالقياس إليها ممكنًا أيضا، فكان يجوز أن يوجد وأن لا
15
يوجد غير متخصص باحد الأمرين، وهذا محتاج من رأس إلى وجود شىء ثالث يتعين
16
له به الوجود من العدم، أو العدم عن الوجود عند وجود العلة، فيكون ذلك علة أخرى،
17
ويتمادى الكلام إلى غير النهاية. وإذا تمادى إلى غير النهاية لم يكن، مع ذلك، قد تخصص
18
له وجوده، فلا يكون قد حصل له وجود، وهذا محال، لا لأنه ذاهب إلى غير النهاية
32
1
فى العلل فقط، فإن هذا فى هذا الموضع بُعْدٌ [*]بُعْدٌ corrupt for بَعْدُ [according to Bertolacci 2006, 493] مشكوك فى إحالته، بل لأنه لم يوجد بُعْدٌ [*]بُعْدٌ corrupt for بَعْدُ [according to Bertolacci 2006, 493]
2
ما به يتخصص به وقد فرض موجودًا. فقد صح أن كل ما هو ممكن الوجود لا يوجد ما لم
3
يجب بالقياس إلى علته.
4
[7] ونقول: ولا يجوز أن يكون واجب الوجود مكافئا لواجب وجود آخر، حتى
5
يكون هذا موجودًا مع ذلك، وذلك موجودًا مع هذا، وليس أحدهما |40|[ed. Cairo vol. 1]علة للآخر،
6
بل هما متكافئان فى أمر لزوم الوجود. لأنه لا يخلو إذا اعتبر ذات أحدهما بذاته دون
7
الآخر، إما أنيكون واجبا بذاته أو لا يكون واجبا بذاته.
8
[8] فإن كان واجبا بذاته فلا يخلو إما أن يكون له وجوب أيضا باعتباره مع
9
الثانى، فيكون الشىء واجب الوجوب [*]الوجوب corrupt for الوجود [see fn. and Bertolacci 2006, 493] بذاته، وواجب الوجود لأجل غيره، وهذا
10
محال، كما قد مضى. وإما أن لا يكون له وجوب بالآخر، فلا يجب أن يتبع وجوده
11
وجود الآخر، ويلزمه أن [*]أن corrupt for بل [according to Bertolacci 2006, 493] لا يكون لوجوده علاقة بالآخر، حتى يكون إنّما يوجد إذا
12
وجد الآخر هذا.
13
[9] وأما إن لم يكن واجبا بذاته، فيجب أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود،
14
وباعتبار الآخر واجب الوجود. فلا يخلو حينئذ إما أن يكون الآخر كذلك أو لا يكون،
15
فإن كان الآخر كذلك فلا يخلو حينئذ إما أن يكون وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك
16
فى حد إمكان الوجود، أو فى حد وجوب الوجود.
17
[10] فإن كان وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك هو فى حد وجوب الوجود،
18
وليس من نفسه، أو من ثالث سابق، كما قلناه فى وجه سلف، بل من الذى يكون منه،
19
كان وجوب وجود شرطًا فيه وجوب وجود ما يحصل بعد وجوب وجوده، بَعْدية
20
بالذات؛ فلا يحصل له وجوب وجود البتة. وإن كان وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك
33
1
فى حد الإمكان، فيكون وجوب وجود هذا بالذات ذلك هو فى حد الإمكان، ويكون
2
ذات ذلك فى حد الإمكان مفيدًا لهذا وجوب الوجود، وليس له حد الإمكان مستفادا
3
من هذا، بل الوجوب. |41|[ed. Cairo vol. 1]فتكون العلة لهذا إمكان وجود ذلك، وإمكان وجود ذلك
4
ليس علته هذا، فيكونان غير متكافئين، أعنى ما هو علته [*]علته corrupt for علة [according to Bertolacci 2006, 493] بالذات ومعلول بالذات.
5
[11] ثم يعرض شىء آخر وهو، إنه إذا كان إمكان وجود ذلك هو علة إيجاب
6
وجود هذا، لم يتعلق وجود هذا بوجوبه؛ بل بإمكانه. فوجب أن يجوز وجوده مع
7
عدمه وقد فرضا متكافئين؛ هذا خلف. فإذن ليس يمكن أن يكونا متكافئ الوجود،
8
فى حالٍ ما لا يتعلقان بعلة خارجة، بل يجب أن يكون أحدهما هو الأول بالذات،
9
أو يكون هناك سبب خارج آخر يوجبهما جميعا بايجاب العلاقة التى بينهما أو
10
يوجب العلاقة بإيجابهما.
11
[12] والمضافان ليس أحدهما واجبًا بالآخر، بل مع الآخر، والموجب لهما العلة
12
التى جمعتهما، وأيضا المادتان والموضوعان أو الموصوفان بهما. وليس يكفى وجود
13
المادتين أو الموضوعين لهما وحدهما، بل وجود ثالث يجمع بينهما. وذلك لأنه لا يخلو إما
14
أن يكون وجود كل واحد من الأمرين وحقيقته هو أن يكون مع الآخر، فوجوده بذاته يكون
15
غير واجب، فيصير ممكنًا، فيصير معلولًا، ويكون كما قلنا ليس علته مكافئة فى الوجود،
16
فتكون إذن علته أمرًا آخر، فلا يكون هو والآخر علة للعلاقة التى بينهما، بل ذلك الآخر.
17
[13] وأما أن لا يكون، فتكون المعية طارئةً على وجوده الخاص لاحقةً له. وأيضا
18
فإن الوجود الذى يخصه لا يكون عن مكافيه [*]مكافيه Middle Arabic for مكافئه من حيث هو مكافيه [*]مكافيه Middle Arabic for مكافئه؛ بل عن علة متقدمة إن
19
كان معلولا. فحينئذ إما أن يكون وجوده ذلك عن صاحبه، لا من حيث يكافيه [*]يكافيه Middle Arabic for يكافئه، |42|[ed. Cairo vol. 1]
34
1
بل من حيث وجود صاحبه الذى يخصه، فلا يكونان متكافئين، بل علة ومعلولا. ويكون
2
صاحبه أيضا علة للعلاقة الوهمية بينهما كالأب والابن، وإما أن يكونا متكافئين من جملة
3
ما يكون الأمران ليس أحدهما علة للآخر، وتكون العلاقة لازمة لوجودهما، فتكون العلة
4
الأولى للعلاقة هى أمر خارج موجد لذاتيهما على ما علمت، والعلاقة عرضية، فيكون
5
لا تكافؤ هناك إلا بالعرض المباين أو اللازم. وهذا غير ما نحن فيه، ويكون للذى بالعرض
6
علة لا محالة، فيكونان من حيث التكافؤ معلولين. |43|[ed. Cairo vol. 1]
7
[الفصل السابع]
8
ز فصل
9
فى أن واجب الوجود واحد
10
[1] ونقول ايضا: إن واجب الوجود يجب أن يكون ذاتا واحدة. وإلا فليكن
11
كثرة ويكون كل واحد منها واجب الوجود، فلا يخلو إما أن يكون كل واحد منها فى
12
المعنى الذى هو حقيقته، لا يخالف الآخر البتة أو يخالفه. فإن كان لا يخالف الآخر فى
13
المعنى الذى لذاته بالذات، ويخالفه بأنه ليس هو، وهذا خلاف لا محالة، فيخالفه فى
14
غير المعنى. وذلك لأن المعنى الذى هو فيهما غير مختلف، وقد قارنه شىء به صار هذا
15
أو فى هذا، أو قارنه نفسه أنه هذا أو فى هذا، ولم يقارنه هذا المقارن فى الآخر، بل ما
16
به صار ذاك ذاك، أو نفس أن ذاك ذاك، وهذا تخصيص ما قارن ذلك المعنى، وبينهما
17
به مباينة. فإذن كل واحد منها يباين الآخر به، وليس يخالفه فى نفس المعنى، فيخالفه
18
فى غير المعنى.
35
1
[2] والأشياء التى هى غير المعنى وتقارن المعنى هى الأعراض واللواحق الغير
2
الذاتية. وهذه اللواحق فإما أن تعرض لوجود الشىء بما هو ذلك الوجود |44|[ed. Cairo vol. 1] فيجب
3
أن يتفق الكل فيه وقد فرض أنها مختلفة فيه، وهذا خلف. وإما أن تعرض له عن أسباب
4
خارجة لا عن نفس ماهيته، فيكون لولا تلك العلة لم تعرض، فيكون لولا تلك العلة لم
5
يختلف. فيكون لولا تلك العلة لكانت الذوات واحدةً أو لم تكن، فيكون أولا تلك العلة
6
ليس هذا بانفراده واجب الوجود، وذلك بانفراد، واجب الوجود لا من حيث الوجود،
7
بل من حيث الأعراض.
8
[3] فيكون وجوب وجود كل واحد منهما الخاص به، المنفرد له، مستفادا من
9
غيره. وقد قيل إن كل ما هو واجب الوجود بغيره فليس واجب الوجود بذاته، بل هو فى
10
حد ذاته ممكن الوجود، فتكون كل واحدة من هذه، مع أنها واجبة الوجود بذاتها، ممكنة
11
الوجود فى حد ذاتها، وهذا محال.
12
[4] ولنفرض الآن أنه يخالفه فى معنى أصلى، بعد ما يوافقه فى المعنى، فلا يخلو
13
ذلك المعنى إما أن يكون شرطًا فى وجوب الوجود، أو لا يكون. فإن كان شرطا فى
14
وجوب الوجود، فظاهر أنه يجب أن يتفق فيه كل ما هو واجب الوجود، وإن لم يكن
15
شرطا فى وجوب الوجود، فوجوب الوجود متقرر دونه وجوب وجود، وهو داخل
16
عليه، عارض، مضاف إليه، بعد ما تم ذلك وجوب وجود، وقد منعنا هذا وبينا فساده.
18
فإذن لا يجوز أن يخالفه فى المعنى. |45|[ed. Cairo vol. 1]
19
[5] بل يجب أن نزيد لهذا بيانًا من وجه آخر وهو: أن انقسام معنى وجوب الوجود
20
فى الكثرة لا يخلو من وجهين: إما أن يكون على سبيل انقسامه بالفصول وإما على سبيل
36
1
انقسامه بالعوارض. ثم من المعلوم أن الفصول لا تدخل فى حد ما يقام مقام الجنس. فهى لا
2
تفيد الجنس حقيقته، وإنما تفيده القوام بالفعل، وذلك كالناطق، فإن الناطق لا يفيد الحيوان
3
معنى الحيوانية، بل يفيده للقوام[*]للقوام corrupt for القوام بالفعل ذاتا موجودة خاصة. فيجب ايضًا أن تكون فصول
4
وجوب الوجود، إن صحت، بحيث لا تفيد وجوب الوجود حقيقة وجوب الوجود، بل
5
يفيده الوجود بالفعل. وهذا محال من وجهين:
6
[6] أحدهما، أنه ليس حقيقة وجوب الوجود إلا نفس تأكد الوجود، لا كحقيقة
7
الحيوانية التى هى معنى غير تأكد الوجود، والوجود لازم لها، أو داخل عليها، كما
8
علمت. فإذن إفادة الوجود لوجوب الوجود، هى إفادة شرط من حقيقته ضرورةً، وقد
9
منع جواز هذا ما بين الجنس والفصل.
10
[7] والوجه الثانى، أنه يلزم أن تكون حقيقة وجوب الوجود متعلقةً فى أن تحصل
11
بالفعل الموجب له، فيكون المعنى الذى به يكون الشىء واجب الوجود يجب وجوده
12
بغيره، وإنما كلامنا فى وجوب الوجود بالذات، فيكون الشىء الواجب الوجود بذاته
13
واجب الوجود بغيره، وقد أبطلنا هذا.
14
[8] فقد ظهر أن انقسام وجوب الوجود إلى تلك الأمور، لا يكون انقسام المعنى
15
الجنسى إلى الفصول. فتبيّن أن المعنى الذى يقتضى وجوب الوجود لا يجوز |46|[ed. Cairo vol. 1] أن
16
يكون معنى جنسيًا ينقسم بفصول وأعراض، فبقى أن يكون معنى نوعيًا. فنقول: ولا
17
يجوز أن تكون نوعيته محمولة على كثيرين، لأن أشخاص النوع الواحد، كما بينا، إذا لم
18
تختلف فى المعنى الذاتى، وجب أن تكون إنما تختلف بالعوارض، وقد منعنا إمكان هذا
37
1
فى وجوب الوجود، وقد يمكن أن نبين هذا بنوع من الإختصار، ويكون الغرض راجعًا
2
إلى ما أردناه. فنقول:
3
[9] إن وجوب الوجود إذا كان صفة للشىء وموجودًا له، فإما أن يكون واجبًا فى
4
هذه الصفة، أى فى وجوب الوجود، أن تكون عين تلك الصفة موجودة لهذا الموصوف،
5
فيمتنع الواحد منها أن يوجد وجودا لا يكون صفةً له، فيمتنع أن يوجد لغيره، فيجب
6
أن يوجد له وحده؛ وإما أن يكون وجودها له ممكنا غير واجب. فيجوز أن يكون هذا
7
الشىء غير واجب الوجود بذاته وهو واجب الوجود بذاته؛ هذا خلف. فوجوب
8
الوجود لا يكون إلا لواحد فقط.
9
[10] فإن قال قائل: إن وجوده لهذا، لا يمنع وجوده صفة للآخر فكونه صفةً للآخر
10
لا يبطل وجوب كونه صفةً له. فنقول:
11
[11] كلامنا فى تعيين وجوب الوجود صفة له، من حيث هو له، من حيث لا
12
يلتفت فيه إلى الآخر، فذلك ليس صفة للآخر بعينه؛ بل مثلها الواجب فيها ما يجب فى
13
تلك بعينها. وبعبارة أخرى نقول:
14
[12] إن كون الواحد منها واجب الوجود، وكونه هو بعينه، إما أن يكون واحدا،
15
فيكون كل ما هو واجب الوجود فهو بعينه وليس غيره. وإن كان |47|[ed. Cairo vol. 1] كونه واجب
16
الوجود، غير كونه هو بعينه، فمقارنة واجب الوجود لأنه هو بعينه، إما أن يكون أمرًا
17
لذاته، أو لعلةٍ وسبب موجب غيره. فإن كان لذاته، ولأنه واجب الوجود، فيكون كل
18
ما هو واجب الوجود هذا بعينه؛ وإن كان لعلة وسبب موجب غيره، فلكونه هذا بعينه
19
سببٌ، فلخصوصية وجوده المنفرد سبب، فهو معلول.
38
1
[13] فإذن واجب الوجود واحد بالكلية ليس كأنواع تحت جنس، وواحد بالعدد
2
ليس كأشخاص تحت نوع، بل معنى شرح أسمه له فقط، ووجوه غير مشترك فيه.
3
وسنزيد هذا إيضاحا فى موضع آخر. فهذه الخواص التى يختص بها واجب الوجود.
4
[14] وأما الممكن الوجود، فقد تبين من ذلك خاصيته وهو أنه يحتاج ضرورة إلى
5
شىء آخر يجعله بالفعل موجودا. وكل ما هو ممكن الوجود فهو دائما، باعتبار ذاته،
6
ممكن الوجود، لكنه ربما عرض أن يجب وجوده بغيره، وذلك إما أن يعرض له دائما، وإما
7
أن يكون وجوب وجوده عن غيره ليس دائما، بل فى وقت دون وقت. فهذا يجب أن
8
يكون له مادة تتقدم وجوده بالزمان، كما سنوضحه. والذى يجب وجوده بغيره دائما، فهو
9
أيضا غير بسيط الحقيقة. لأن الذى له باعتبار ذاته، غير الذى له من غيره، وهو حاصل
10
الهوية منهما جميعًا فى الوجود، فلذلك لا شىء غير واجب الوجود تعرّى عن ملابسة
11
ما بالقوة والإمكان باعتبار نفسه، وهو الفرد، وغيره زوج تركيبى. |48|[ed. Cairo vol. 1]
12
[الفصل الثامن]
13
ح فصل
14
فى بيان الحق، والصدق، والذب عن أول الأقاويل، فى المقدمات الحقة
15
[1] أما الحق فيفهم منه الوجود فى العيان مطلقًا، ويفهم منه الوجود الدائم،
16
ويفهم منه حال القول أو العقد الذى يدل على حال الشىء فى الخارج إذا كان مطابقًا له،
17
فنقول: هذا قول حق، وهذا إعتقاد حق. فيكون الواجب الوجود هو الحق بذاته دائما،
18
والممكن الوجود حق بغيره، باطل فى نفسه. فكل ما سوى الواجب الوجود الواحد باطل
39
1
فى نفسه. وأما الحق من قبل المطابقة فهو كالصادق، إلا أنه صادق فيما أحسب باعتبار
2
نسبته إلى الأمر، وحق باعتبار نسبة الأمر إليه.
3
[2] وأحق الأقاويل أن يكون حقًا ما كان قد صدقه دائما، وأحق ذلك ما كان صدقه
4
أوليا ليس لعلة. وأول كل الأقاويل الصادقة الذى يتنهى إليه كل شىء فى التحليل، حتى
5
أنه يكون مقبولا بالقوة أو بالفعل فى كل شىء يُبين أو يتبين به، مكا بيناه فى كتاب البرهان،
6
هو أنه: لا واسطة بين الإيجاب والسلب. وهذه الخاصة ليست من عوارض شىء إلا
7
من عوارض الموجود بما هو موجود، لعمومه فى كل موجود. |49|[ed. Cairo vol. 1]والسوفسطائى إذا
8
أنكر هذا، فليس ينكره إلا بلسانه معاندًا, أو يكون قد عرض له شبهة فى أشياء فسد
9
عليه عنده فيها طرفَا النقيض لغلط جرى عليه مثلا، لأنه لا يكون حصل له حال التناقض
10
وشرائطه. ثم إن تبكيت السوفسطائى، وتنبيه المتحير أبدا، إنما هو فى كل حال على
11
الفيلسوف، ويكون لا محالة بضرب من المحاورة. ولا شك أن تلك المحاورة تكون ضربًا
12
من القياس الذى يلزم مقتضاه، إلا أنه لا يكون فى نفسه قياسا يلزم مقتضاه، ولكن يكون
13
قياسا بالقياس.
14
[3] وذلك لأن القياس الذى يلزم مقتضاه على وجهين: قياس فى نفسه، وهو الذى
15
تكون مقدماته صادقة فى أنفسها، وأعرف عند العقلاء من النتيجة، ويكون تأليفه تاليفا
16
منتجا، وقياس كذلك بالقياس، وهو أن تكون حال المقدمات كذلك عند المحاور حتى
17
يسلم الشىء وإن لم يكن صدقا، وإن كان صدقًا لم يكن أعرف من النتيجة التى يسلمها،
18
فيؤلف عليه بتأليف صخيح مطلق أو عنده. وبالجملة فقد كان القياس ما إذا سلمت
19
مقدماته لزم منه شىء، فيكون ذلك قياسا من حيث كذا. ولكنه ليس يلزم أن يكون
40
1
كل قياس قياسا يلزم مقتضاه، لأن مقتضاه يلزم إذا سلم، فإذا لم يسلم كان قياسا لأنه قد
2
أورد فيه ما إذا وضع وسلم لزم، ولكن لما لم يسلم بعد لم يلزم مقتضاه، فيكون القياس
3
قياسا، أعم من كونه قياسا يلزم مقتضاه. |50|[ed. Cairo vol. 1]وكونه قياسًا يلزم مقتضاه، هو أيضا
4
على قسمين، على ما علمت، فالقياس الذى يلزم مقتضاه بحسب الأمر فى نفسه، هو
5
الذى مقدماته مسلمة فى أنفسها، وأقدم من النتيجة. وأما الذى هو بالقياس، فالذى قد
6
سلم المخاطب مقدماته، فتلزمه النتيجة.
7
[4] ومن العجائب أن السوفسطائى الذى غرضه المماراة يضطر إلى أحد الأمرين: إما
8
إلى السكوت والإعراض، وإما إلى الإعتراف لا محالة بأشياء، والإعتراف بأنها تنتج عليه.
9
[5] وأما المتحير فعلاجه حل شبهة، وذلك لأن المتحير لا محالة إنما وقع فيما
10
وقع فيه إما لما يراه من تخالف الأفاضل الأكثرين، ويشاهده من كون رأى كل واحد منهم
11
مقابلا لرأى الآخر الذى يجده قرنا له، لايَقْصُر عنه، فلا يجب عنده أن يكون أحد القولين
12
أولى بالتصديق من الآخر؛ وإما لأنه سمع من المذكورين المشهورين المشهود لهم بالفضيلة
13
أقاويل لم يقلها عقله بالبديهة، كقول من قال: إن الشىء لا يمكنك أن تراه مرتين، بل ولا
14
مرة واحدة، وإن لا وجود لشىء فى نفسه، بل بالإضافة. فإذا كان قائل مثل هذا القول
15
مشهورًا بالحكمة لم يكن بعيدا أن يتحير الشادى لقوله. وإما لأنه قد اجتمع عنده قياسات
16
متقابلة النتائج ليس يقدر على أن يختار واحد منها ويزيف الآخر. |51|[ed. Cairo vol. 1]
41
1
[6] فالفيلسوف يتدارك ما عرض لأمثال هؤلاء من وجهين: أحدهما حل ما وقع فيه
2
من الشك؛ والثانى التنبيه التام على أنه لا يمكن أن يكون بين النقيضين واسطة.
3
[7] أما حل ما وقع فيه فمن ذلك أن يعترفه أن الناس ناس لا ملائكة. ومع ذلك
4
فليس يجب أن يكونوا متكافئين فى الإصابة، ولا يجب إذا كان واحد أكثر صوابا فى
5
شىء من آخر، أن لا يكون الآخر أكثر صوابًا منه فى شىء آخر. وأن يعرف أن أكثر
6
المتفلسفين يتعلم المنطق وليس يستعمله، بل يعود آخر الأمر فيه إلى القريحة فيركبها ركوب
7
الراكض من غير كف عنان أوجذب خطام. وأن من الفضلاء من يرمز أيضا برموز،
8
ويقول ألفاظًا ظاهرة مستشنعة أو خطأ وله فيها غرض خفى، بل أكثر الحكماء، بل
9
الأنبياء الذين لا يؤتون من جهة غلطا أو سهوا هذه وتيرتهم. فهذا يزيل شغل قلبه من جهة
10
ما استنكر من العلماء.
11
[8] ثم يعرفه فيقول: إنك إذا تكلمت فلا يخلو إما أن تقصد بلفظك نحو شىء
12
من الأشياء بعينه، أو لا تقصد، فإن قال إذا تكلمت لم أفهم شيئا، فقد خرج هذا من
13
جملة المسترشدين المتحيرين، وناقض الحال فى نفسه، وليس الكلام معه هذا الضرب من
14
الكلام. |52|[ed. Cairo vol. 1]وإن قال: إذا تكلمت فهمت باللفظ كل شىء فقد خرج عن الإسترشاد.
15
فإن قال: إذا تكلمت فهمت به شيئًا بعينه. أو أشياء كثيرة محدودة. فعلى كل حال
16
فقد جعل للفظ دلالة على أشياء بعينها لا يدخل فى تلك الدلالة غُيرها. فإن كانت تلك
17
الكثرة تتفق فى معنى واحد فقد دل أيضا على معنى واحد، وإن لم يكن كذلك فالاسم
42
1
مشترك، ويمكن لا محالة أن يفرد لكل واحد من تلك الجملة إسما؛ فهذا يسلمه من قام
2
مقام المسترشدين المتحيرين.
3
[9] وإذا كان الاسم دليلًا على شىء واحد كالإنسان مثلا فاللا إنسان، أعنى ما
4
هو مباين للإنسان لا يدل عليه ذلك الإسم بوجه من الوجوه. فالذى يدل عليه اسم الإنسان
5
لا يكون الذى يدل عليه إسم اللا إنسان، فإن كان الإنسان يدل على اللا إنسان، فيكون لا
6
محالة الإنسان، والحجر، والزورق، والفيل شيئا واحدا؛ بل يدل على الأبيض، والأسود،
7
والثقيل، والخفيف، وجميع ما هو خارج مما دل عليه اسم الإنسان. وكذلك حال المفهوم
8
من الألفاظ هذه، فيلزم من هذا أن يكون كل شىء وأن يكون ولا شىء من الأشياء نفسه،
9
وأن لايكون للكلام مفهوم.
10
[10] ثم لا يخلو إما أن يكون هذا حكم كل لفظ، وحكم كل مدلول عليه باللفظ،
11
أو يكون بعض هذه الأشياء بهذه الصفة، وبعضها بخلافها. فإن كان هذا فى كل شىء فقد
12
عرض أن لا خطاب ولا كلام، بل لا شبهة ولا حجة أيضا. وإن كان فى بعض الأشياء قد
13
تتميز الموجبة عن السالبة، وفى بعضها لا تتميز، فحيث تتميز يكون لا محالة ما يدل عليه
14
الإنسان غير ما يدل عليه باللا إنسان؛ |53|[ed. Cairo vol. 1]وحيث لا يتميز كالأبيض واللا أبيض
15
يكون مدلولهما واحد، فيكون كل شىء هو لا أبيض فهو أبيض، وكل شىء هو أبيض فهو لا
16
أبيض، فالإنسان إذا كان له مفهوم متميز فإن كان الأبيض فهو أيضا لا أبيض الذى هو والأبيض
17
واحد، واللا إنسان كذلك؛ فيعرض مرة أخرى أن يكون الإنسان واللا إنسان غير متميزين.
18
[11] فهذا ومثاله قد يزيح علة المتحيّر المسترشد فى أن يعرف أن الإيجاب
19
والسلب لا يجتمعان، ولا يصدقان معا. وكذلك أيضا قد تبين له أنهما لا يرتفعان ولا
20
يكذبان معا، فإنه إذا كذبا معا فى شىء، كان ذلك الشىء ليس بإنسان مثلا، وليس أيضا
43
1
بلا إنسان. فيكون قد اجتمع الشىء الذى هو اللا إنسان وسالبه الذى هو لا لا إنسان،
2
وقد نبه على بطلانه. فهذه الأشياء وما يشبهها مما لا يحتاج أن نطول فيه، وبحل الشبه
3
المتقابلة من قياسات المتحير يمكننا أن نهديه.
4
[12] وأما المتعنت فينبغى أن يكلف شروع النار، إذ النار واللانار واحد؛ وأن
5
يؤلم ضربا، إذا الوجع واللا وجع واحد؛ وأن يمنع الطعام والشراب، إذ الأكل والشرب
6
وتركهما واحد.
7
[13] فهذا المبدأ الذى ذببنا عنه من يكذبه، هو أول مبادئ البراهين، وعلى
8
الفيلسوف الأول أن يذب عنه. ومبادئ البراهين تنتفع فى البراهين. والبراهين تنتفع فى معرفة
9
[الأغراض] الذاتية لموضوعاتها. لكن معرفة جوهر الموضوعات |54|[ed. Cairo vol. 1]الذى كان فيما
10
سلف يعرف بالحد فقط، فمما يلزم الفيلسوف ههنا أن يحصله، فيكون لهذا العلم الواحد
11
أن يتكلم فى الأمرين جميعا.
12
[14] لكن قد يتشكك على هذا أنه إن تكلم فيها، على سبيل التحديد
13
والتصور، فهو ذلك الذى يتكلم فيه صاحب العلم الجزئى، وإن تكلم فيها فى التصديق
14
صار الكلام فيها برهانيا.
15
[15] فنقول: إن هذه التى كانت موضوعات فى علوم أخرى تصير عوارض فى
16
هذا العلم، لأنها أحوال تعرض للموجود، وأقسام له، فيكون ما لا يبرهن عليه فى علم
17
آخر، يبرهن عليه ههنا. وأيضا إذا لم يلتفت إلى علم آخر وقسم موضوع هذا العلم نفسه
18
إلى جوهر وعوارض تكون خاصة له، فيكون ذلك الجوهر الذى هو موضوع لعلم ما
19
أو الجوهر مطلقا، ليس موضوع هذا العلم، بل قسمًا من موضوعه، فيكون ذلك بنحو
44
1
ما عارضًا لطبيعة موضوعه، الذى هو موجود، إن صار ذلك الجوهر دون شىء آخر
2
لطبيعة الموجود أن تقارنه أو يكون هو. فإن [للموجود] طبيعة يصح حملها على كل
3
شىء، كان ذلك الجوهر أو غيره، فإنه ليس لأنه موجود هو جوهر، أو جوهر ما،
4
وموضوع ما، على ما فهمت، قبل هذا، فيما سلف.
5
[16] ومع هذا كله فليس البحث عن مبادئ التصور والحد حدًا ولا تصورًا، ولا
6
البحث عن مبادئ البرهان برهانا، حتى يصير البحثان المتخالفان بحثا واحدا.
45
1
المقالة الثانية
2
وفيها أربعة فصول
3
[الفصل الأول]
4
ا فصل
5
فى تعريف الجوهر وأقسامه بقول كلى
6
[1] |57|[ed. Cairo vol. 1]فنقول: إن الوجود للشىء قد يكون بالذات مثل وجود الإنسان
7
إنسانًا، وقد يكون بالعرض مثل وجود زيد أبيض. والأمور التى بالعرض لا تحد. فلنترك
8
الآن ذلك ولنشتغل بالموجود، والوجود الذى بالذات.
9
[2] فأقدم أقسام الموجودات بالذات هو الجوهر، وذلك لأن الموجود قسمين:
10
أحدهما، الموجود فى شىء آخر، ذلك الشىء الآخر متحصل القوام والنوع فى نفسه،
11
وجودا لا كوجود جزء منه، من غير أن تتضح مفارقته لذلك الشىء، وهو الموجود فى
12
موضوع؛ والثانى، الموجود من غير أن يكون فى شىء من الأشياء بهذه الصفة، فلا يكون
13
فى موضوع البتة، وهو الجوهر.
46
1
[3] وإن كان ما أشير إليه فى القسم الأول موجودًا فى موضوع، فلذلك الموضوع لا
2
يخلو أيضا من أحد هذين الوصفين؛ فإن كان الموضوع جوهرا فقوام العرض فى الجوهر،
3
وإن لم يكن جوهرا كان أيضا فى موضوع ورجع البحث |58|[ed. Cairo vol. 1]إلى الإبتداء، واستحال
4
ذهاب ذلك إلى غير النهاية، كما سنبين فى مثل هذا المعنى خاصة. فيكون لا محالة آخره
5
فيما ليس فى موضوع، فيكون فى جوهره، فيكون الجوهر مقوم العرض موجودا، وغير
6
متقوم بالعرض، فيكون الجوهر هو المقدم فى الوجود.
7
[4] وأما أنه هل يكون عرض فى عرض، فليس بمستنكر، فإن السرعة فى الحركة،
8
والإستقامة فى الخط، والشكل المسطح فى البسيط، وأيضا فإن الأعراض تنسب إلى
9
الوحدة والكثرة، وهذه، كما سنبين لك، كلها أعراض. والعرض وإن كان فى عرض فهما
10
جميعًا معا فى موضوع، والموضوع بالحقيقة هو الذى يقيمها جميعًا، وهو قائم بنفسه.
11
[5] ثم قد يجوّز كثير ممن يدعى المعرفة أن يكون شىء من الأشياء جوهرا وعرضا
12
معا بالقياس إلى شيئين، فيقول: إن الحرارة عرض فى غير جسم النار، لكنها فى جملة
13
النار ليست بعرض لأنها موجودة فيه كجزء، وأيضا ليس يجوز رفعها عن النار، والنار
14
تبقى، فإذن وجودها فى النار ليس وجود العرض فيها، فإذ لم يكن وجودها فيها وجود
15
العرض، فوجودها فيها وجود الجوهر.
16
[6] وهذا غلط كبير، وقد أشبعنا القول فيه فى أوائل المنطق، وإن لم يكن ذلك
17
موضعه، فإنهم إنما غلطوا فيه هناك. |59|[ed. Cairo vol. 1]
18
[7] فنقول: قد علم، فيما سلف، أن بين المحل والموضوع فرقًا، وأن الموضوع يعنى
19
به ما صار بنفسه ونوعيته قائما، ثم صار سببا لأن يقوم به شىء فيه ليس كجزء منه.
47
1
وأن المحل كل شىء يحله شىء فيصير بذلك الشىء بحال ما، فلا يبعد أن يكون شىء
2
موجودا فى محل ويكون ذلك المحل لم يصر بنفسه نوعا قائما كاملا بالفعل، بل إنما تحصل
3
قوامه من ذلك الذى حله وحده، أو مع شىء آخر، أو أشياء أخرى اجتمعت، فصيرت
4
ذلك الشىء موجودًا بالفعل، أو صيرته نوعا بعينه. وهذا الذى يحل هذا المحل يكون
5
لا محالة موجودًا لا فى الموضوع. وذلك لأنه ليس يصلح أن يقال: إنه فى شىء، إلا فى
6
الجملة، أو فى المحل، وهو فى الجملة كجزء، وكان الموضوع ما يكون فيه الشىء، وليس
7
كجزء منه، وهو فى المحل ليس كشىء حصل فى شىء، ذلك الشىء قائم بالفعل نوعا،
8
ثم يقيم الحال فيه؛ بل هذا المحل جعلناه إنما يقوم بالفعل بتقويم ما حله، وجعلنا إنما يتم له
9
به نوعيته إذا كانت نوعيته إنما تحصل أو تصير له نوعيةً باجتماع أشياء جملتها يكون ذلك
10
النوع. فبين أن بعض ما فى المحل ليس فى موضوع.
11
[8] وأما إثبات هذا الشىء الذى هو فى محل دون موضوع، فذلك علينا إلى
12
قريب. وإذا أثبتناه، فهو الشىء الذى يخصه [*]يخصه corrupt for نخصه [according to Bertolacci 2006, 496] فى مثل هذا الموضوع بإسم الصورة، وإن كنا
13
قد نقول لغيره أيضا صورة باشتراك الأسم. وإذا كان الموجود |60|[ed. Cairo vol. 1] لا فى الموضوع هو
14
المسمى جوهرًا، فالصورة أيضا جوهر. فأما المحل الذى لا يكون فى محل آخر فلا يكون
15
فى موضوع لا محالة، لأن كل موجود فى موضوع فهو موجود فى محل ولا ينعكس.
16
فالمحل الحقيقى أيضا جوهر، وهذا المجتمع أيضا جوهر.
17
[9] وقد عرفت من الخواص التى لواجب الوجود أن واجب الوجود لا يكون إلا
18
واحدًا، وأن ذا الأجزاء أو المكافئ لوجوده لا يكون واجب الوجود، فمن هذا يعرف
48
1
أن هذا مركب، وهذه الأجزاء كلها فى أنفسها، ممكنة الوجود، وأن لها لا محالة سببا
2
يوجب وجودها.
3
[10] فنقول أولًا: إن كل جوهر فإما أن يكون جسمًا، وإما أن يكون غير جسم،
4
فإن كان غير جسم فإما أن يكون جزء جسم، وإما أن لا يكون جزء جسم، بل يكون
5
مفارقا للاجسام بالجملة. فإن كل جزء جسم فإما أن يكون صورته، وإما أن يكون
6
مادته. وإن كان مفارقا ليس جزء جسم فإما أن تكون له علاقة تصرف ما فى الأجسام
7
بالتحريك ويسمى نفسًا، أو يكون متبرئا عن المواد من كل جهة ويسمى عقلًا. ونحن نتكلم
8
فى إثبات كل واحد من هذه الأقسام. |61|[ed. Cairo vol. 1]
9
[الفصل الثاني]
10
ب فصل
11
فى تحقيق الجوهر الجسمانى وما يتركب منه
12
[1] وأول ذلك معرفة الجسم وتحقيق ماهيته.
13
[2] أما بيان أن الجسم جوهر واحد متصل وليس مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، فقد
14
فرغنا عنه. وأما تحقيقه وتعريفه فقد جرت العادة بأن يقال: إن الجسم جوهر طويل عريض
15
عميق، فيجب أن ينظر فى كيفية ذلك. لكن كل واحد من ألفاظ الطول والعرض والعمق
16
يفهم منه أشياء مختلفة. فتارة يقال: طول للخط كيفما كان، وتارة يقال طول لأعظم الخطين
17
المحيطين بالسطح مقدارا، وتارة يقال طول لأعظم الأبعاد المختلفة الممتدة المتقاطعة كيف
18
كانت خطًا أو غير خط، وتارة يقال طول للبعد المفروض بين الرأس ومقابله من القدم أو
49
1
الذنب من الحيوان. واما العرض فيقال للسطح نفسه، ويقال لأنقص البعدين مقدارا، ويقال
2
للبعد الواصل بين اليمين واليسار. والعمق أيضا قد يقال لمثل البعد الواصل بين السطحين،
3
وقد يقال له مأخوذا ابتداء من فوق، حتى إن ابتدأ من أسفل سمى سمكا. فهذه هى
4
الوجوه المشورة فى هذا.
5
[3] وليس يجب أن يكون فى كل جسم خط بالفعل، فإن الكرة ليس فيها خط
6
بالفعل البتة ولا يتعين فيها المحور ما لم تتحرك؛ وليس من شرط الكرة فى أن |62|[ed. Cairo vol. 1]تصير
7
جسما أن تكون متحركة حتى يظهر فيها محور أو خط آخر. فإنها تتحقق جسما بما
8
يحقق الجسمية، ثم يعرض لها أو يلزمها الحركة. وأيضا الجسم ليس يجب أن يكون فيه من
9
حيث هو جسم سطح، فإنه إنما يجب فيه من حيث يكون متناهيا، وليس يحتاج فى تحققه
10
جسما ومعرفتنا إياه جسما إلى أن يكون متناهيا، بل التناهى عارض لازم له، ولذلك
11
لا يحتاج إلى تصوره جسم حين يتصور الجسم. ومن تصور جسمًا غير متناه فلم يتصور
12
جسما لا جسما، ولا يتصور عدم التناهى إلا للمتصور جسما. لكنه أخطأ كمن قال: إن
13
الجسم آلة، فقد أخطأ فى التصديق ولم يخطئ فى تصور بسيطة وهما الموضوع والمحمول.
14
[4] ثم إن كان لا بد للجسم فى تحققه جسما أن تكون له سطوح، فقد يكون جسم
15
محيط به سطح واحد وهو الكرة. وليس أيضا من شرط الجسم فى أن يكون جسما
16
أن تكون له أبعاد متفاضلة، فإن المكعب أيضا جسم مع أنه محاط بحدود ستة، ومع
17
ذلك ليس فيه أبعاد متفاضلة حتى يكون له طول وعرض وعمق بأحد المعانى. ولا أيضا
18
يتعلق كونه جسمًا بأن يكون موضوعا تحت السماء، حتى تعرض له الجهات لأجل جهات
50
1
العالم، ويكون له طول وعرض وعمق بمعنى آخر، وإن كان لا بد من أن يكون إما سماء
2
وإما فى سماء. |63|[ed. Cairo vol. 1] فبين من هذا أنه ليس يجب أن يكون فى الجسم ثلاثة أبعاد بالفعل
3
على الوجوه المفهومة من البعاد الثلاثة حتى يكون جسما بالفعل.
4
[5] فإذا كان الأمر على هذا، فكيف يمكننا أن نضطر أنفسنا إلى فرض أبعاد ثلاثة
5
بالفعل، موجودة فى الجسم، حتى يكون جسما؟ بل معنى هذا الرسم للجسم أن الجسم هو
6
الجوهر الذى يمكنك أن تفرض فيه بعدًا كيف شئت ابتداء، فيكون ذلك المبتدأ هو الطول،
7
ثم يمكنك أن تفرض أيضا بعدا آخر مقاطعا لذلك البعد على قوائم، فيكون ذلك البعد
8
الثانى هو العرض, ويمكنك أن تفرض فيه بعدا ثالثا مقاطعا لهذين البعدين على قوائم تتلاقى
9
الثلاثة على موضع واحد، ولا يمكنك أن تفرض بعدًا عموديًا بهذه الصفة غير هذه الثلاثة.
10
[6] وكون الجسم بهذه الصفة هو الذى يشار لأجله إلى الجسم بأنه طويل عريض
11
عميق، كما يقال: إن الجسم هو المنقسم فى جميع الأبعاد. وليس يعنى أنه منقسم بالفعل
12
مفروغ عنه، بل على أنه من شأنه أن يفرض فيه هذا القسم.
13
[7] فهكذا يجب أن يعرّف الجسم، وهو أنه الجوهر الذى كذا صورته، وهو بها
14
هو ما هو، ثم سائر الأبعاد المفروضة فيه بين نهاياته ونهاياته أيضا وأشكاله وأوضاعه أمور
15
ليست مقومة له، بل هى تابعة لجوهره. وربما لزم بعض الأجسام شىء منها أو كلها، وربما
16
لم يلزم بعض الأجسام شىء منها أو بعضها. |64|[ed. Cairo vol. 1]
17
[8] ولو أنك أخذت شمعة فشكّلتها بشكل افترض لها ابعاد بالفعل بين تلك النهايات
18
معدودة مقدرة محدودة، ثم إذا غيرت ذلك الشكل لم يبق شىء منها بالفعل واحدًا
51
1
بالشخص بذلك الحد وبذلك القدر، بل حدثت أبعاد أخرى مخالفة لتلك بالعدد، فهذه
2
الأبعاد هى التى من باب الكم.
3
[9] فإن اتفق أن كان جسما، كالفلك مثلا، تلزمه أبعاد واحدة، فليس ذلك له بما
4
هو جسم، بل لطبيعة أخرى حافظة لكمالاته الثانية. فالجسمية بالحقيقة صورة الاتصال
5
القابل لما قلناه من فرض الأبعاد الثلاثة. وهذا المعنى غير المقدار وغير الجسمية التعليمية.
6
فإن هذا الجسم من حيث له هذه الصورة لا يخالف جسما آخر بأنه أكبر أو أصغر، ولا
7
يناسبه بأنه مساوٍ أو معدود به وعاد له أو مشارك أو مباين، وإنما ذلك له من حيث هو
8
مقدّر ومن حيث جزء منه يعده. وهذا الإعتبار له غير اعتبار الجسمية التى ذكرنا. وهذه
9
أشياء قد شرحناها لك بوجه أبسط فى موضع آخر يحتاج أن تستعين به.
10
[10] ولهذا ما يكون الجسم الواحد يتخلخل ويتكاثف بالتسخين والتبريد،
11
فيختلف مقدار جسميته. وجسميته، التى ذكرناها لا تختلف ولا تتغير؛ فالجسم
12
الطبيعى جوهر بهذه الصفة.
13
[11] وأما قولنا: الجسم التعليمى. فإما أن يقصد به صورة هذا من حيث هو محدد،
14
مقدّر، مأخوذ فى النفس، ليس فى الوجود، أو يقصد به مقدار ما ذو اتصال أيضا بهذه
15
الصفة من حيث له اتصال محدود مقدّر كان فى [نفس] |65|[ed. Cairo vol. 1] أو فى مادة. فالجسم
16
التعليمى كأنه عارض فى ذاته لهذا الجسم الذى بيناه، والسطح نهايته، والخط نهاية نهايته.
17
وسنوضح القول فيما بعد، وننظر فى أن الإتصال كيف يكون لها وكيف يكون للجسم الطبيعى.
52
1
[12] فنقول أولا: إن منطباع الأجسام أن تنقسم ولا يكفى فى إثبات ذلك
2
المشاهدات؛ فإن لقائل أن يقول: إن الأجسام المشاهدة ليس شىء منها هو جسم واحد
3
صرفا، بل هى مؤلفة من أجسام، وإن الأجسام الوحدانية غير محسوسة، وأنها لا يمكن
4
أن تنقسم بوجه من الوجوه.
5
[13] وقد تكلمنا على إبطال هذا بالبيانات الطبيعية، وخصوصا على أسهل
6
المذاهب نقضًا، وهو مذهب من خالف بينها بالأشكال. فإن قال قائل: إن طبائعها و إن
7
أشكالها متشاكلة. فحينئذ يجب أن يبطل مذهبه ورأيه بما أقول.
8
[14] فنقول: إن جعل أصغر الأجسام لا قسمة فيه لا بالقوة ولا بالفعل حتى كان
9
كالنقطة جملة، فإن ذلك الجسم يكون لا محالة حكمه حكم النقطة فى امتناع تأليف الجسم
10
المحسوس عنه، وإن لم يكن كذلك، بل كان فى ذاته بحيث يمكن أن يفرد منه قسم عن
11
قسم, لكنه ليس يطبع الفصل المفرق بين القسمين اللذين يمكن فرضهما فيه توهما، فنقول:
12
[15] لا يخلو إما أن يكون حال ما بين القسم والقسم مخالفة لحال ما بين الجزء
13
والجزء فى أن الجزءين لا يلتحمان وأن القسمين لا يفترقان، أمرا لطبيعة |66|[ed. Cairo vol. 1]الشىء
14
وجوهره، أو من سبب من خارج عن الطبيعة والجوهر. فإن كان سببا من خارج عن الطبيعة
15
والجوهر فإما أن يكون سببًا يتقوم به الطبيعة والجوهر بالفعل كالصورة للمادة والمحل للعرض،
16
أو سببًا لا يتقوم به.
17
[16] فإن كان سببا لا يتقوّم به فجائز من حيث الطبيعة والجوهر أن يكون بينهما
18
التئام عن افتراق وافتراق عن التئام، فتكون هذه الطبيعة الجسمية باعتبار نفسها قابلة
19
للانقسام و إنا لا تنقسم بسبب من خارج. وهذا القدر يكفينا فيما نحن بسبيله.
53
1
[17] وأما إن كان ذلك السبب يتقؤم [*]يتقؤم corrupt for يتقوم به كل واحد من الأجزاء إما تقومًا داخلا فى
2
طبيعته وماهيته، أو تقوما فى وجوده بالفعل غير داخل فى ماهيته مختلفًا فيه فيعرض
3
أول ذلك أن هذه الأجسام مختلفة الجواهر. وهؤلاء لا يقولون به. وثانيا أن طبيعة الجسمية
4
التى لها لا يكون مستحيلًا عليها ذلك وإنما يستحيل ذلك عليها من حيث صورة تنوعها،
5
ونحن لا نمنع ذلك، ويجوز أن يقارن الجسمية شىء يجعل ذلك الجسم قائما نوعا لا يقبل
6
القسمة ولا الإتصال بغيره؛ وهذا قولنا فى الفلك. والذى يحتاج إليه ههنا هو أن تكون
7
طبيعة الجسمية لا تمنع ذلك بما هى طبيعة الجسمية.
8
[18] فنقول أولا: قد تحققنا أن الجسمية من حيث هى جسمية ليست غير
9
قابلة للإنقسام، ففى كلطباع الجسمية أن تقبل الإنقسام. فيظهر من هذا أن صورة
10
الجسم والأبعاد قائمة فى شىء. وذلك أن هذه الأبعاد هى الإتصالات أنفسها أو شىء
11
يعرض للإتصال، على ما سنحققها، وليست أشياء يعرض لها |67|[ed. Cairo vol. 1] الإتصال. فإن لفظ
12
الأبعاد إسم لنفس الكميات المتصل لا للأشياء التى تعرض لها الإتصال. والشىء الذى
13
هو الإتصال نفسه أو المتصل بذاته فمستحيل أن يبقى هو بعينه، وقد [بطل] الإتصال.
14
فكل إتصال [بُعْدٍ] إذا انفصل بطل ذلك البعد وحصل بعدان آخران. وكذلك إذا حصل
15
إتصال، أعنى الإتصال بالمعنى الذى هو فصل لا عروض، وقد بينا هذا فى موضع آخر.
16
فقد حدث بعد آخر وبطل كل واحد مما كان بخاصيته. ففى الأجسام إذن شىء موضوع
17
للاتصال والانفصال، ولما يعرض للاتصال من المقادير المحدودة.
18
[19] وأيضا فإن الجسم من حيث هو جسم له صورة الجسمية، فهو شىء بالفعل؛
19
ومن حيث هو مستعد أى استعداد شئت فهو بالقوة؛ ولا يكون الشىء من حيث هو
54
1
بالقوة شيئا هو من حيث هو بالفعل شيئا آخر، فتكون القوة للجسم لا من حيث له الفعل.
2
فصورة الجسم تقارن شيئا آخر غير له فى أنه صورة، فيكون الجسم جوهرًا مركبًا من
3
شىء عنه له القوة، ومن شىء عنه له الفعل. فالذى له به الفعل هو صورته، والذى عنه
4
بالقوة هو مادته، وهو الهيولى.
5
[20] ولسائل أن يسأل ويقول: فالهيولى أيضا مركبة، وذلك لأنها فى نفسها هيولى
6
وجوهر بالفعل، وهى مستعدة أيضا.
7
[21] فنقول: إن جوهر الهيولى وكونها بالفعل هيولى ليس شيئا آخر إلا أنه جوهر
8
مستعد لكذا، والجوهرية التى لها تجعلها بالفعل شيئًا من الأشياء، |68|[ed. Cairo vol. 1]بل تُعدِّها لأن
9
تكون بالفعل شيئا بالصورة. وليس معنى جوهريتها إلا أنها أمر ليس فى موضوع. فالإثبات
10
ههنا هو أنه أمر، وأما أنه ليس فى موضوع فهو سلب، «وأنه أمر» ليس يلزم منه أن يكون
11
شيئا معينا بالفعل لأن هذا عام، ولا يصير الشىء بالفعل شيئا بالأمر العام ما لم يكون له فصل
12
يخصه وفصله أنه مستعد لكل شىء، فصورته التى تظن له هى أنه مستعد قابل.
13
[22] فإذن ليس ههنا حقيقة للهيولى تكون بها بالفعل، وحقيقة أخرى بالقوة؛ إلا
14
أن يطرأ عليه حقيقة من خارج، فيصير بذلك الفعل وتكون، فى نفسها واعتبار وجود
15
ذاتها، بالقوة. وهذه الحقيقة هى الصورة. ونسبة الهيولى إلى هذين المعنيين أشبه بنسبة
16
البسيط إلى ما هو جنس وفصل من نسبة المركب إلى ما هو هيولى وصورة.
17
[23] فقد بان من هذا أن صورة الجسمية من حيث هى صورة الجسمية محتاجة
18
إلى مادة، ولأن طبيعة الصورة الجسمية فى نفسها من حيث هى صورة جسمية لا
19
تختلف. فإنها طبيعية واحدة بسيطة، ليس يجوز أن تتنوع بفصول تدخل عليها بما هى
55
1
جسمية، فإن دخلتها فصول تكون أمورا تنضاف إليها من خارج، وتكون أيضا إحدى
2
الصور المقارنة للمادة، ولا يكون حكمها معها حكم الفصول الحقيقية.
3
[24] وبيان هذا هو أن الجسمية إذا خالفت جسمية الأخرى فيكون لأجل أن
4
هذه حارة وتلك باردة، أو هذه لها طبيعة فلكية وتلك لها طبيعة أرضية. وليس |69|[ed. Cairo vol. 1]
5
هذا كالمقدار الذى ليس هو فى نفسه شيئا محصلا ما لم يتنوع بأن يكون خطا أو سطحا
6
أو جسما، وكالعدد الذى هو ليس شيئا محصلا ما لم يتنوع أثنين أو ثلاثة أو أربعة. ثم
7
إذا تحصل لا يكون تحصيله بأن ينضاف إليه شىء من خارج، وتكون الطبيعة الجنسية
8
كالمقدارية أو العددية دونها طبيعة قائمة مشار إليها تنضاف إليها طبيعة أخرى فتتنوع بها؛
9
بل تكون طبيعة الاثنينية نفسها هى العددية التى تحمل على الاثنينية وتختص بها، والطولية
10
نفسها هى المقدارية التى تحمل عليها وتختص بها.
11
[25] وأما ههنا فلا يكون كذلك، بل الجسمية إذا أضيف إليها صورة أخرى لا تكون
12
تلك الصورة التى تظن فصلا والجسمية باجتماعها جسمية، بل تكون الجسمية أحدهما
13
متحصلة فى نفسها متحققة. فإنا نعنى ههنا بالجسمية التى كالصورة لا التى كالجنس، وقد
14
عرفت الفرق بينهما فى كتاب البرهان، وسيأتيك ههنا إيضاح وبيان لذلك.
15
[26] على أنك قد تحققت فيما تبين لك الفرق بينهما، ما كان كالمقدار يجوز أن
16
تكون أنواعه تختلف بأمور لها فى ذاتها؛ والمقدار المطلق لا يكون له فى ذاته شىء منها،
17
وذلك لأن المقدار المطلق لا تتحصل له ذات متقررة إلا أن تكون خطا أو سطحا، فإذا
18
تحصل خطا أو سطحا، جاز أن يكون للخط لذاته مخالفة للسطح بفصل هو محصل
19
لطبيعة المقدارية، خطا أو سطحا. |70|[ed. Cairo vol. 1]
56
1
[27] وأما الجسمية التى نتكلم فيها فهى فى نفسها طبيعة محصلة، ليس تحصل
2
نوعيتها بشىء ينضم إليها، حتى لو توهمنا أنه لم ينضم إلى الجسمية معنى، بل كانت
3
جسمية لم يكون متحصلا فى أنفسنا إلا مادة وإتصال فقط. وكذا إذا أثبتنا مع
4
الإتصال شيئا آخر فليس لأن الإتصال نفسه لا يتحصل لنا إلا بإضافته إليه وقرنه به، بل
5
بحجج أخرى تبين أن الإتصال لا يوجد بالفعل وحده. فليس أن لا يوجد الشىء بالفعل
6
موجودا هو أن لا تتحصل طبيعته، فإن البياض والسواد كل شىء منهما متحصل الطبيعة
7
معنى متخصصًا، أتم تخصيصه الذى هو فى ذاته؛ ثم لا يجوز أن يوجد بالفعل إلا فى مادة.
8
[28] وأما المقدار مطلقا فيستحيل أن يتحصل طبيعة مشارا إليها إلا أن يجعل
9
بالضرورة خطًا أو سطحًا، حتى يصير جائزا أن يوجد؛ لا أن المقدار يجوز أن يوجد مقدارا،
10
ثم يتبعه أن يكون خطا أو سطحا على سبيل أن ذلك شىء لا يوجد الأمر دونه بالفعل.
11
وإن كان متحصل الذات، فإن هذا ليس كذلك، بل الجسمية تتصور أنها وجدت بالأسباب
12
التى لها أن توجد بها وفيها وهى جسمية فقط بلا زيادة، والمقدار لا يتصور أنه وجد
13
بالأسباب التى له أن يوجد بها وفيها وهو مقدار فقط بلا زيادة. فذلك المقدار لذاته يحتاج
14
إلى فصول حتى يوجد شيئا متحصلا، وتلك الفصول ذاتيات له لا تحوجه إلى أن |71|[ed. Cairo vol. 1]
15
يصير لحصولها غير المقدار. فيجوز أن يكون مقدارا يخالف مقدارا فى أمر له بالذات.
16
[29] وأما صورة الجسمية من حيث هى جسمية فهى طبيعة واحدة بسيطة محصلة
17
لا اختلاف فيها، ولا تخالف مجرد صورة جسمية لمجرد صورة جسمية بفصل داخل فى
57
1
الجسمية، وما يلحقها إنما يلحقها على أنها شىء خارج عن طبيعتها. فلا يجوز إذن أن تكون
2
جسمية محتاجة إلى مادة، وجسمية غير محتاجة إلى مادة. واللواحق الخارجية لا تغنيها
3
عن الحاجة إلى المادة بوجه من الوجوه، لأن الحاجة إلى المادة إنما تكون للجسمية ولكل ذى
4
مادة لأجل ذاته، وللجسمية من حيث هى جسمية لا من حيث هى جسمية مع لاحق.
5
[30] فقد بان أن الأجسام مؤلفة من مادة وصورة. |72|[ed. Cairo vol. 1]
6
[الفصل الثالث]
7
ج فصل
8
فى أن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة
9
[1] ونقول الآن إن هذه المادة الجسمانية يستحيل أن توجد بالفعل متعرية عن
10
الصورة. ومما يوضح ذلك بسرعة أنا بينا أن كل وجود يوجد فيه شىء بالفعل محصل
11
قائم، وأيضا استعداد لقبول شىء آخر، فذلك الوجود مركب من مادة وصورة، والمادة
12
الأخيرة غير مركبة من مادة وصورة.
13
[2] وأيضا إنها إن فارقت الصورة الجسمية فلا يخلو إما أن يكون لها وضع وحيز
14
فى الوجود الذى لها حينئذ، أو لا يكون، فإن كان لها وضع وحيز وكان يمكن أن تنقسم
15
فهى لا محالة ذات مقدار وقد فرض لا مقدار لها، وإن لم يمكن أن تنقسم ولها وضع،
16
فهى لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهى إليها خط، ولا يجوز أن تكون مفردة الذات منحازة،
17
على ما علمت فى مواضع.
18
[3] وأما إن كان هذا الجوهر لا ضع له ولا إليه إشارة، بل هو كالجواهر المعقولة،
19
لم يخل إما أن يحل فيه البُعْد المحصل بأسره دفعة، أو يتحرك هو إلى كمال مقداره تحركًا
58
1
على الإتصال. فإن حل فيه المقدار دفعة وحصل لا محالة مع تقدره فى حيز مخصوص،
2
فيكون قد صادفه المقدار مختصا بحيّز، وإلا لم يكن |73|[ed. Cairo vol. 1]حيز أولى به من حيز، فقد
3
صادفه المقدار حيث انضاف إليه، فيكون لا محالة قد صادفه وهو فى الحيز الذى هو
4
فيه، فيكون ذلك الجوهر متحيزا، إلا أنه عساه أة لا يكون محسوسا، وقد قد فرض غير
5
متحيز البتة، هذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة من قبول المقدار،
6
لأن المقدار إن وافاه وليس هو فى حيز كان المقدار يقترن به لا فى حيز، ولم يكن يوافيه فى
7
حيز مخصوص من الأحياز المختلفة المحتملة له، فيكون حينئذ لا حيز له، وهذا محال؛
8
أو يكون فى كل حيز يمكن أن يكون له لا يخصصه ببعضه، وهذا أيضا محال.
9
[4] وهذا يظهر ظهورًا أكثر فى توهمنا الهيولى مدرة ما قد تجردت ثم حصل حصل فيها
10
صورة تلك المدرة، فلا يجوز أن تحصل فيها وليست فى حيز، ولا يجوز أن تكون تلك
11
المدرة تحصل فى كل حيز هو بالقوة حيز طبيعى للمدرة، فإن المدرية لا تجعلها شاغلة لكل
12
حيز لنوعها، ولا تجعلها أولى بجهة من حيزها دون جهة، ولا يجوز أن توجد إلا فى جهة
13
مخصوصة من جملة كلية الحيز، ولا يجوز أن تتحصل فى جهة مخصوصة، ولا مخصص
14
له بها من الأحوال. إذ ليس إلا اقتران صورة بمادة، وذلك مشترك الإحتمال للحصول فى
15
أى جهة كانت من الجهات الطبيعية لأجزاء الأرض. وقد علمت أن مثل هذا الحصول فى
16
جهة من الحيز إنما يكون فيما يكون بسبب وقوعه بالقرب [منه] بقسر قاسر خصص
17
ذلك القرب باتجاهه |74|[ed. Cairo vol. 1]إلى ذلك المكان بعينه بالحركة المستقيمة أو حدوثه فى الابتداء
18
هناك. وبذلك القرب أو وقوعه فيه بنقل ناقل لذلك تخصص، وقد أشبع لك الكلام فى
59
1
هذا. فالهيولى التى للمدرة لا تختص بعد التجريد، ثم ليس صورة للمدرية بجهة إلا أن يكون
2
لها مناسبة مع تلك الجهة. لتلك المناسبة، لا ليس لكونها هيولى أؤلا؛ ولا لنفس اكتسابها
3
بالصورة ثانيا تخصصت بها؛ وتلك المناسبة وضع ما.
4
[5] وكذلك إن كان قبوله المقدار بكماله لا دفعة، بل على انبساط، وعلى أن كل
5
ما من شأنه أن ينبسط، فله جهات، وكل ما له جهات فهو ذو وضع فيكون ذلك الجوهر
6
ذا وضع وحيز، وقيل لا وضع له ولا حيز، وهذا خلف.
7
[6] والذى أوجب هذا كله فرضُنا أنه يفارق الصورة الجسمية، فيمتنع أن يوجد
8
بالفعل إلا متقوما بالصورة الجسمية، وكيف تكون ذاتٌ لا حيز لها فى القوة ولا فى الفعل
9
تقبل الكم؟ فتبين أن المادة لا تبقى مفارقة.
10
[7] وأيضا فإنها لا تخلو إما أن يكون وجودها وجودَ قابلٍ، فيكون دائما قابلا
11
لشىء لا يعرى عن قبوله لها، وإما أن يكون لها وجود خاص متقوم، ثم يلحق به أنه
12
يقبل فيكون بوجودها الخاص المتقوم غير ذى كم وغير ذى حيز، |75|[ed. Cairo vol. 1]فيكون المقدار
13
الجسمانى هو الذى [عرض] له وصير ذاته بحيث له بالقوة أجزاء بعد ما آن لِذَاته أن
14
تقوّم جوهرا فى نفسه غير ذى حيز ولا كمية ولا قبول قسمة.
15
[8] فإن كان قبوله الخاص الذى يتقوم به لا يبقى عند التكثر أصلا، فيكون ما
16
هو متقوم بأنه لا حيز له، ولا ينقسم بالوهم، [والفرض] يعرض له أن يبطل عنه ما يتقوم
17
به الفعل لورود عارض عليه، وإن كانت تلك الوحدانية لا لما تقوّم به الهيولى؛ بل لأمر
18
آخر. ويكون ما فرضناه وجودًا خاصا له ليس وجودا خاصا به يتقوم، فيكون حينئذ
60
1
للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل، وصورة أخرى عارضة بها تكون تكون
2
غير واحدة بالقوة والفعل. فيكون بين الأمرين شىء مشترك، هو قابل للأمرين، من شأنه
3
أن يصير مرة وليس فى قوته أن ينقسم ومرة أخرى وفى قوته أن ينقسم أعنى القوة القريبة
4
التى لا واسطة لها.
5
[9] فلنفرض الآن هذا الجوهر وقد صار بالفعل اثنين، وكل واحد منهما بالعدد غير
6
الآخر، وحكمه أنه يفارق الصورة الجسمانية، فليفارق كل واحد منهما الصورة الجسمانية،
7
فيبقى كل واحد منهما جوهرا واحدا بالقوة والفعل. ولنفرضه بعينه أنه لم ينقسم إلا أنه أزيل
8
عنه الصورة الجسمانية حتى يبقى جوهرا واحدا بالقوة والفعل، فلا يخلو إما أن يكون
9
بعينه هذا الذى يبقى جوهرا وهو غير جسم، هو بعينه مثل الذى هو كجزئه الذى بقى
10
كذلك مجردًا أو يخالفه؛ |76|[ed. Cairo vol. 1]فإم خالفه فلا يخلو إما أن يكون لأن هذا بقى وذلك
11
عُدم، أو بالعكس، أو يكون كلاهما قد بقيا ــ ولكن تختص بهذا كيفية أو صورة لا
12
توجد إلا لذلك ــ أو يختلفان بالتفاوت بعد الإتفاق فى المقدار أو الكيفية أو غير ذلك.
13
[10] فإن بقى أحدهما وعدم الآخر، والطبيعة واحدة، متشابهة، وإنما أعدَم
14
أحدَهما رفعُ الصورة الجسمانية فيجب أن يعدِمَ الآخر ذلك بعينه. وإن اختص بهذا
15
كيفية، والطبيعة واحدة ولم تحدث حالة إلا مفارقة للصورة الجسمانية، ولم يحدث مع هذه
16
حالة إلا ما يلزم هذه الحالة، فيجب أن يكون حال الآخر كذلك.
17
[11] فإن قيل: إن الأولين وهما اثنان متحدان فيصيران واحدا؛ فنقول: ومحال
18
أن يتحد جوهران، لأنهما إن اتحدا وكل منهما موجود فهما اثنان لا واحد، وإن
19
اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود؟ وإن عدما جميعا
61
1
باالإتحاد وحدث شىء ثالث منهما فهما غير متحدين بل فاسدين، وبينهما وبين الثالث
2
مادة مشتركة، وكلامنا فى نفس المادة لا فى شىء ذى مادة. وأما إن اختلفا بالتفاوت
3
فى المقدار أو غير ذلك، فيجب أن يكونا وليس لهما صورة جسمانية ولهما صورة
4
مقدارية، وهذا خلف. وأما أن لا يختلفا بوجه من الوجوه، فيكون حينئذ حكم الشىء
5
لو لم ينفصل عنه ما هو غيره، هو حكمه بعينه وقد انفصل عنه غيره، وحكمه مع غيره
6
وحكمه |77|[ed. Cairo vol. 1]وحده ومن كل جهة حكما واحدا، هذا خلف. أعنى أن يكون حكم
7
بعض الموضوع وحكم كله واحدًا من كل جهة، أعنى أن يكون لو كان الشىء لن ينقص
8
بأن [لَمْ يؤخذ] منه شىء كما إذا أخذ منه شىء، وحكمه ولم يضف إليه شىء حكمه
9
وقد أضيف إليه شىء.
10
[12] وبالجملة كل شىء يجوز فى وقت من الأوقات أن يصير اثنين، ففى طباع
11
ذاته استعداد للإنقسام لا يجوز أن يفارقه، وربما يمتنع عنه بعارض غير استعداد الذات،
12
وذلك الاستعداد محال إلا بمقارنة المقدار للذات.
13
[13] فبقى أن [المادة] لا تتعرّى عن الصورة الجسمية. ولأن هذا الجوهر إنما صار
14
كمّا [بمقدار] حلّه، فليس بكم بذاته، فليس يجب أن تختص ذاته بقبول قطر بعينه دون
15
قطر وقدر دون قدر، وإن كانت الصورة الجسمية واحدة. ونسبة ما هو غير مجتزئ ولا
16
متكّمم فى ذاته، بل إنما يتجزأ ويتكمم بغيره إلى أى مقدار يجوز وجوده نسبة واحدة،
17
وإلا فله مقدار فى ذاته يطابق ما يساويه دون ما يفضل عليه.
18
[14] فبين من هذا أنه يمكن أن تصغر المادة بالتكاثف وتكبر بالتخلخل، وهذا
19
محسوس، بل يجب أن يكون تعين المقدار عليها بسبب يقتضى فى الوجود ذلك |78|[ed. Cairo vol. 1]
62
1
المقدار. وذلك [السبب] لايخلو إما أن يكون أحد الصور والأعراض التى تكون فى
2
المادة، أو سببا من خارج. فإن كان سببًا من خارج فإما أن يفيد ذلك المقدار المقدر بتوسط
3
أمر آخر أو بسبب استعداد خاص، فيكون حكم هذا وحكم القسم الأول واحدًا يرجع
4
إلى أن الأجسام لإختلاف أحوالها تختلف مقاديرها. وإما أن لا تكون الإفادة بسبب ذلك
5
وبتوسطه، فتكون الأجسام متساوية الإستحقاق للكم ومتساوية الأحجام، وهذا كاذب.
6
[15] ومع ذلك أيضا فليس يجب أن يصدر عن ذلك السبب حجم بعينه دون
7
حجم إلا لأمر، وأعنى بذلك الأمر شرطا ينضاف إلى المادة به تستحق المقدار المعين،
8
لا لنفس كونها مادة ولا أيضا لكونها مادة لها مصور بالكمية، بل يكون للمادة شىء لأجله
9
تستحق أن يصورها المصور بذلك الحجم والكمية. ويجوز أن تختلف بالنوع مطلقا،
10
ويجوز أن تختلف بالأشد والأضعف ليس بالنوع مطلقا، وإن كان الأشد والأضعف
11
قد يقارب الإختلاف فى النوع، لكن بين الإختلاف بالنوع مطلقا وبين الإختلاف بالأشد
12
والأضعف مخالفة معلومة عند المعتبرين. فقد علم أن الهيولى قد تتهيأ بعينها لمقادير
13
مختلفة وهذا أيضا مبدأ للطبيعيات.
14
[16] وأيضا فإن كل جسم يختص لا محالة بحيز من الأحياز، و ليس له الحيز
15
الخاص به بما هو جسم، وإلا لكان كل جسم كذلك، فهو إذن لا محالة مختص به لصورة
16
ما فى ذاته، وهذا بين. فإنه إما أن يكون غير قابل للتشكيلات والتفصيلات |79|[ed. Cairo vol. 1] فيكون
17
بصورة ما صار كذلك [لا أنه] بما هو جسم قابل له، وإما أن يكون قابلا لها بسهولة
18
أو بعسر. وكيف ما كان، فهو على إحدى الصور المذكورة فى الطبيعيات. فإذن المادة
63
1
الجسمية لا توجد مفارقة للصورة. فالمادة إذن إنما تتقوم بالفعل بالصورة، فإذن المادة إذا
2
جردت فى التوهم، فقد فعل بها ما لا يثبت معه فى الوجود. |80|[ed. Cairo vol. 1]
3
[الفصل الرابع]
4
د فصل
5
فى تقديم الصورة على المادة فى مرتبة الوجود
6
[1] فقد صحّ أن المادة الجسمانية إنما تقوم بالفعل عند وجود الصورة، وأيضًا فإن
7
الصورة المادية ليست توجد مفارقة للمادة. فلا يخلو إما أن تكون بينهما علاقة المضاف
8
فلا تعقل ماهية كل واحد منهما إلا مقولة بالقياس إلى الآخر. وليس كذلك، فإنا نعقل
9
كثيرا من الصور الجسمانية، ونحتاج إلى تكلف شديد حتى نثبت أن لها مادة، وكذلك
10
هذه المادة نعقلها الجوهرَ المستعد، ولا نعلم من ذلك أن ما تستعد له يجب أن يكون فيه
11
منه شىء بالفعل إلا ببحث ونظر. نعم هى من حيث هى مستعدة مضافة إلى مستعد
12
له وبينهما علاقة الإضافة، لكن كلامنا فى مقايسة ما بين ذاتيهما دون ما يعرض لهما من
13
إضافة أو يلزمهما، وقد عرفت كيف هذا.
14
[2] وأيضًا فإن كلامنا فى الحال بين المادة وبين الصورة من حيث هى موجودة.
15
والإستعداد لا يوجب علاقة مع شىء هو موجود لا محالة، وإن كان يجوز |81|[ed. Cairo vol. 1]
16
ذلك. فلا يخلو إما أن تكون العلاقة بينهما علاقة ما بين العلة والمعلول، وإما أن تكون
17
العلاقة بينهما علاقة أمرين متكافئى الوجود ليس أحدهما علة ولا معلولا للآخر، ولكن لا
64
1
يوجد أحدهما إلا والآخر يوجد. وكل شيئين ليس أحدهما علة للآخر ولا معلولا له ثم
2
بينهما هذه العلاقة فلا يجوز أن يكون رفع أحدهما علة لرفع علة الآخر من حيث هو ذات،
3
بل يكون أمرًا معه، أعنى يكون رفعا لا يخلو عن أن يكون مع رفع، لا رفعا موجب
4
رفع، إن كان ولا بد. وقد عرفت الفرق بين الوجهين، فقد عرفت أن الشىء الذى رفعه
5
علتة لرفع شىء آخر فهو علته، فقد بان هذا لك قبل فى مواضع على التفصيل وسيزداد
6
إيضاحا فى خلل ما نفهمه.
7
[3] وأما الآن فقد علمت، ههنا، أنه فرق بين أن يقال فى الشىء: إن رفعه علة
8
لرفع شىء؛ وبين أن يقال: لا بد من أن يكون مع رفعه رفع شىء. فإن كان ليس رفع أحد
9
هذين الشيئين المذكورين علة لرفع الآخر، بل لا بد من أن يكون مع رفعه إرتفاع الآخر، فلا
10
يخلو إما أن يكون رفع المرفوع منهما يوجب رفع شىء ثالث غيرهما، أو يجب عن رفع
11
شىء ثالث، حتى أنه لولا رفع عَرض لذلك الثالث لم يمكن رفع هذا، أو لا يكون شىء
12
من ذلك. فإن لم [يكن]، بل كان ليس يرتفع هذا إلا مع ذلك، وذلك إلا مع هذا من غير
13
سبب ثالث غير طبيعتهما، فطبيعة كل واحد منهما متعلقة فى الوجود، بالفعل، بالآخر.
14
|82|[ed. Cairo vol. 1]فإما أن يكون ذلك لماهيتهما فتكون مضافة، وقد بان أنها ليست مضافة؛ وإما
15
أن يكون فى وجودهما. وبين أن مثل هذا لا يكون واجب الوجود فيكون فى ماهيته
16
ممكن الوجود، لكنه يصير بغيره واجب الوجود فلا يجوز البتة أن يصير واجب الوجود
17
بذلك الآخر؛ فقد بينا هذا. فيجب أن يصير واجب الوجود هو وصاحبه معه فى آخر
18
الأمر، إذا ارتقينا إلى العلل بشىء ثالث، ويكون ذلك الشىء الثالث، من حيث هو علة
65
1
بالفعل لوجوب أحدهما، لا يصح رفع أحدهما إلا برفع كونه علة بالفعل. فيكون هذان
2
إنما يرتفعان برفع سبب ثالث، وقد قلنا ليس كذلك، هذا خلف. فقد بطل هذا، وبقى
3
الحق أحد القسمين الآخرين.
4
[4] فإن كان رفعهما بسبب رفع شىء ثالث حتى يكونا هما معلولاه، فلننظر كيف
5
يمكن أن تكون ذات كل واحد منهما تتعلق بمقارنة ذات الآخر. فإنه لا يخلو إما أن يكون
6
كل واحد منهما يجب وجوده من العلة بواسطة صاحبه، فيكون كل واحد منهما هو العلة
7
القريبة لوجوب وجود صاحبه، وهذا محال، فقد بان أن هذا مستحيل فيما سلف من
8
أقاويلنا؛ وإما أن يكون أحدهما بعينه أقرب إلى هذا الثالث، فيصير هو العلة الواسطة،
9
والثانى هو المعلول، ويكون الحق هو القسم الذى قلنا: إن العلاقة بينهما علاقة يكون بها
10
أحدهما علة والآخر معلولا. |83|[ed. Cairo vol. 1]
11
[5] فأما إن كان رفع أحدهما يوجب رفع ثالث يجب عن رفعه رفع الثانى منهما،
12
فقد صار أحدهما علة العلة، وعلة العلة علة. والأمر يتقرر فى آخره على أن يكون
13
أحدهما معلولا والآخر علة.
14
[6] فلننظر الآن أيهما ينبغى أن تكون العلة منهما. فأما المادة فلا يجوز أن تكون هى
15
العلة لوجود الصورة، أما أولا: فلأن المادة إنما هى مادة، لأن لها قوة القبول والاستعداد،
16
والمستعد بما هو مستعد لا يكون سببا لوجود ما هو مستعد له، ولو كان سببا لوجب أن
17
يوجد ذلك دائما له من غير استعداد.
18
[7] وأما ثانيا: فإنه من المستحيل أن تكون ذات الشىء سببا لشىء بالفعل وهو بعد
19
بالقوة؛ بل يجب أن تكون ذاته قد صارت بالفعل، ثم صار سببا لشىء آخر، سواء كان
66
1
هذا التقدم بالزمان أو بالذات، أعنى ولو لم يكن البتة موجودا إلا وهو سبب للثانى، وإلا
2
أن يقوم به الثانى بالذات، ولذلك يكون متقدما بالذات. وسواء كان ما هو سبب له يقارن
3
ذاته أو يكون مفارقا ذاته، فإنه يجوز أن يكون بعض أسباب وجود الشىء إنما يكون عنه
4
وجود شىء يكون مقارنًا لذاته، وبعض أسباب وجود الشىء إنما يكون عنه وجود شىء
5
مباين لذاته، فإن العقل ليس ينقبض عن تجويز هذا؛ ثم البحث يوجب وجود القسمين
6
جميعا، فإن كانت المادة سببا للصورة فيجب أن تكون لها ذات بالفعل أقدم من الصورة،
7
وقد منعنا هذا منعًا ليس بناؤه على أن ذاته لا يمكن أن يوجد |84|[ed. Cairo vol. 1]إلا ملتزما لمقارنة
8
الصورة، بل على أن ذاته يستحيل وجودها أن يكون بالفعل إلا بالصورة؛ وبين الأمرين فرق.
9
[8] وأما ثالثا فإنه إذا كانت المادة هى العلة القريبة للصورة، والمادة لا اختلاف لها
10
فى ذاتها، وما يلزم عن الشىء الذى لا اختلاف فيه لا اختلاف فيه البتة، فكان يجب أن
11
تكون الصورة المادية لا اختلاف فيها. فإن كان اختلافها لأمور تختلف من أحوال للمادة،
12
فتكون تلك الأمور هى الصور الأولى فى المادة، ويعود الكلام بأصله جذعا. فإن كان علة
13
وجود هذه الصور المختلفة المادة وشىء آخر مع المادة ليس فى المادة، حتى لا تكون المادة
14
وحدها هى العلة القريبة، بل المادة وشىء آخر، فيكون ذلك الشىء الآخر والمادة إذا
15
اجتمعا جميعًا حصل صورة ما معينة فى المادة. وإن كان شىء غير ذلك الآخر واجتمع
16
مع المادة حصلت صورة غير تلك الصورة المعينة، فتكون المادة فى الحقيقة لها قبول الصورة.
17
[9] وأما خاصية كل صورة فإنما تكون عن تلك العلل. وإنما تكون كل صورة هى
18
هى بخاصيتها، فتكون علة وجود كل صورة بخاصيتها هى الشىء الخارج، ولا يكون
67
1
للمادة فى تلك الخاصية صنع، وإنما كانت تلك الصورة موجودة وجودها بتلك الخاصية،
2
فيكون لا صنع للمادة فى خصوصية وجود كل صورة، |85|[ed. Cairo vol. 1]إلا أنها لا بد منها فى
3
أن توجد لصورة فيها، وهذه خاصية العلة القابلية، فيبقى لها القبول فقط. فقد بطل أن
4
تكون المادة علة للصورة بوجه من الوجوه. وقد بقى أن تكون الصورة وحدها هى التى
5
بها يجب وجود المادة. فلننظر هل يمكن أن تكون الصورة وحدها هى التى بها يجب
6
وجود المادة. فنقول:
7
[10] أما الصورة التى لا تفارقها مادتها فذلك جائز فيها، وأما الصورة التى تفارق
8
المادة، وتبقى المادة موجودة بصورة أخرى، فلا يجوز ذلك فيها. وذلك لأن هذه الصورة،
9
لو كانت وحدها لذاتها علة، لكانت المادة تعدم بعد عدمها، وتكون للصورة المستأنفة
10
مادة أخرى توجد عنها، ولكانت تلك المادة حادثة، ولكان يحتاج لها إلى مادة أخرى.
11
فيجب إذن أن تكون علة وجود المادة شيئا مع الصورة، حتى تكون المادة أنما يفيض
12
وجودها عن ذلك الشىء. لكن يستحيل أن يكمل فيضانه عنه بلا صورة البتة، بل إنما
13
يتم الأمر بهما جميعا.
14
[11] فيكون تعلق المادة فى وجودها بذلك الشىء وبصورة كيف كانت تصدر عنه
15
فيها، فلا تعدم بعدم الصورة، إذ الصورة لا تفارقها إلا لصورة أخرى تفعل مع العلة ــ التى
16
عنها مبدأ وجود المادة ــ ما كانت تفعله الصورة الأولى. فيما أن هذا الثانى يشارك الأول
17
فى أنه صورة، يشاركه فى أنه يعاونه على إقامة |86|[ed. Cairo vol. 1]هذه المادة، وبما يخالفه يجعل المادة
18
بالفعل جوهرا غير الجوهر الذى كان يفعله الأول.
68
1
[12] فكثير من الأمور الموجودة إنما تتم بوجود شيئين، فإن الإضاءة والإنارة
2
إنما تحصل من سبب مضىء، ومن كيفية لا بعينها تجعل الجسم المستنير قابلا لأن ينفذ
3
فيه الشعاع ولا ينعكسز ثم تكون تلك الكيفية تقيم الشعاع على خاصية غير الخاصيه[*]الخاصيه corrupt for الخاصية
4
التى تقيمه كيفية أخرى من الألوان. ويجب أن لا تناقش فيما لَفَظنا به من نفوذ الشعاع
5
و انعكاسه، بعد أنك بالغرض بصير. ولا يبعد ــ إذا تأملت ــ أن تجد لهذا أمثلة أشد
6
موافقة. ولا يضرك أن لا تجد أيضا مثالا، فإنه ليس يجب أن يكون لكل شىء مثال.
7
[13] ولقائل أن يقول: إنه إن كان تعلق المادة بذلك الشىء وبصورة فيكون
8
مجموعهما كالعلة له، وإذا بطلت الصورة بطل هذا المجموع الذى هو العلة، فوجب
9
أن يبطل المعلول.
10
[14] فنقول: إنه ليس تعلق المادة بذلك الشىء وبالصورة، من حيث الصورة صورة
11
معينة بالنوع، بل من حيث هى صورة. وهذا المجموع ليس يبطل البتة، فإنه يكون دائما
12
موجودا ذلك الشىءُ، والصورة من حيث هى صورة، |87|[ed. Cairo vol. 1]فيكون لو لم يكن ذلك
13
الشىء لم تكن المادة؛ ولو لم تكن الصورة من حيث هى صورة لم تكن المادة. ولو بطلت
14
الصورة الأولى لا بسبب تعقب الثانى لكان يكون ذلك الشىء المفارق وحده، ولا يكون
15
الشىء الذى هو الصورة من حيث هو صورة. فكان يستحيل أن يفيض من ذلك الشىء
16
وجود المادة، إذ هو وحده بلا شريك [و] شريطة.
17
[15] ولكن لقائل أن يقول: إن مجموع ذلك: العلة والصورة ليس واحدا بالعدد،
18
بل واحد بمعنى عام، والواحد بالمعنى العام لا يكون علة للواحد بالعدد، ولمثل طبيعة
19
المادة؛ فإنها واحدة بالعدد.
69
1
[16] فنقول: إنا لا نمنع أن يكون الواحد بالمعنى العام المستحفظ وحده عمومه
2
بواحد العدد علة الواحد بالعدد؛ وههنا كذلك، فإن الواحد بالنوع ــ مستحفظ بواحد
3
بالعدد ــ هو المفارق. فيكون ذلك الشىء يوجب المادة، ولا يتم أيجابها [*]أيجابها corrupt for إيجابها إلا بأحد أمور
4
تقارنه، أيها كانت. وأما هذا الشىء فستعلمه بعد.
5
[17] فالصور إما صور لا تفارقها المادة، وإما صور تفارقها المادة ولا تخلو
6
المادة عن مثلها.
7
[18] فالصور التى تفارق المادة إلى عاقب، فإن معقبها فيها يستبقيها بتعقيب
8
تلك الصورة، فتكون الصورة من وجه واسطة بين المادة المستبقاة وبين مستبقيها، |88|[ed. Cairo vol. 1]
9
والواسطة فى التقويم، فإنه أولا يتقوم ذاته، ثم يقوم به غيره أولية بالذات، وهى العلة
10
القريبة من المستبقى فى البقاء. فإن كانت تقوم بالعلة المبقية للمادة بواسطتها، فالقوام لها
11
من الأوائل أولا، ثم للمادة؛ وإن كانت قائمة لا بتلك العلة، بل بنفسها، ثم تقام المادة بها،
12
فذلك أظهر فيها.
13
[19] وأما الصور التى لا تفارقها المادة فلا يجوز أن تجعل معلولة للمادة حتى تكون
14
المادة تقتضيها وتوجبها بنفسها، فتكون موجبة لوجود ما تستكمل به، فتكون من حيث
15
تستكمل به قابلة، ومن حيث توجبه موجدة، فتكون توجب وجود شىء فى نفسها
16
تتصور به. لكن الشىء من حيث هو قابل، غيره من حيث هو موجب. فتكون المادة
17
ذات أمرين: بأحدهما تستعد، وبالآخر يوجد عنها شىء. فيكون المستعد منهما هو
70
1
جوهر المادة، وذلك الآخر أمرا زائدا على كونه مادة تقارنه وتوجب فيه أثرا كالطبيعة
2
للحركة فى المادة، فيكون ذلك الشىء هو الصورة الأولى، ويعود الكلام جذعا.
3
[20] فإذن الصورة أقدم من الهيولى. ولا يجوز أن يقال إن الصورة بنفسها موجودة
4
بالقوة دائما، وإنما تصير بالفعل بالمادة، لأن جوهر الصورة هو الفعل.
5
[21] وأما طبيعة ما بالقوة فإن محلها المادة، فتكون المادة هى التى يصلح فيها
6
أن يقال لها أنها فى نفسها بالقوة تكون موجودة، وأنها بالفعل بالصورة، |89|[ed. Cairo vol. 1]والصورة
7
وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تتقوم بالهيولى، بل بالعلة المفيدة إياها الهيولى. وكيف
8
تتقوم الصورة بالهيولى وقد بينا أنها علّتها؟ والعلة لا تتقوم بالمعلول، ولا شيئان اثنان يتقوم
9
أحدهما بالآخر بأن كل واحد منهما يفيد الآخر وجوده. فقد بان استحالة هذا، وتبين لك
10
الفرق بين الذى يتقوم به الشىء وبين الذى لا يفارقه.
11
[22] فالصورة لا توجد إلا فى الهيولى، لا أن علة وجودها الهيولى؛ أو كونها فى
12
الهيولى! كما أن العلة لا توجد إلا مع المعلول، لا أن وجود العلة هو المعلول أو كونه مع
13
المعلول؛ كما أن العلة إذا كانت علة بالفعل لزم عنها المعلول وأن [يكون] معها، كذلك
14
الصورة إذا كانت صورة موجودة يلزم عنها أن تقوّم شيئًا؛ ذلك الشىء مقارن لذاتها.
15
فكأن ما يقوّم شيئًا بالفعل، ويفيده الوجود، منه ما يفيده وهو مباين، ومنه ما يفيده وهو
16
ملاق وإن لم يكن جزء منه مثل الجوهر للأعراض التى يلحقها أو يلزمها، والمزاجات.
17
[23] وبيِّن بهذا أن كل صورة توجد فى مادة مجسمة، فبعلة ما توجد؛ أما الحادثة
18
فذلك ظاهر فيها، وأما الملازمة للمادة فلَان الهيولى الجسمانية إنما خصصت بها لعلة.
19
وسنبين هذا أظهر فى مواضع أخرى.
71
1
المقالة الثالثة
2
وفيها عشر فصول
3
[الفصل الأول]
4
ا فصل
5
فى الإشارة إلى ما ينبغى أن يبحث عنه من حال المقولات التسع وفى عرضيتها
6
[1] |93|[ed. Cairo vol. 1]فنقول: قد بينا ماهية الجوهر، وبينا أنها مقولة عن المفارق، وعلى
7
الجسم، وعلى المادة، والصورة. فأما الجسم فإثباته مستغنى عنه، وأما المادة والصورة فقد
8
أثبتناهما، وأما المفارق فقد أثبتناه بالقوة القريبة من الفعل، ونحن مثبتوه من بعد. وعلى
9
أنك إن تذكرت ما قلناه فى النفس، صحَّ لك وجود جوهر مفارق غير جسم، فبالحرn
10
أن تنتقل الآن إلى تحقيق الأعراض وإثباتها.
11
[2] فنقول: أما المقولات العشرة فقد تفهمت ماهياتها فى افتتاح المنطق. ثم لا
12
يشك فى أن المضاف من جملتها ــ من حيث هو مضاف ــ أمر عارض لشىء ضرورةَّ [*]ضرورةَّ corrupt for ضرورةً.
13
وكذلك النسب التى هى فى «أين» و«متى» وفى «الوضع» وفى «الفعل» و«الإنفعال»
14
فإنها أحوال عارضة لأشياء هى فيها، كالموجود فى الموضوع. اللهم إلا أن يقول قائل:
72
1
إن الفعل ليس كذلك، فإن وجود الفعل ليس |94|[ed. Cairo vol. 1]فى الفاعل، بل فى المفعول. فإن
2
قال ذلك، وسلم له، فليس يضر فيما ترومه من أن الفعل موجود فى شىء وجوده فى
3
الموضوع، وإن كان ليس فى الفاعل.
4
[3] فبقى من المقولات ما يقع فيه اشكال، وأنه هل هو عرض أو ليس بعرض،
5
مقولتان: مقولة الكم، ومقولة الكيف.
6
[4] أما مقولة الكم، فكثير من الناس رأى أن يجعل الخط والسطح والمقدار
7
الجسمانى من الجوهر، وأن لا يقتصر على ذلك، بل يجعل هذه الأشياء مبادئ الجواهر.
8
وبعضهم رأى ذلك فى الكميات المنفصلة، أى الأعداد، وجعلها مبادىء الجواهر.
9
[5] وأما الكيف فقد رأى آخرون من الطبيعيين أنها ليست محمولة البتة، بل اللون
10
جوهر بنفسه، والطعم جوهر آخر، والرائحة جوهر آخر، وأن من هذه قوام الجواهر
11
المحسوسة، وأكثر أصحاب الكمون ذاهبون إلى هذا.
12
[6] فأما شكوك أصحاب القول بجوهرية الكيف، فالأحرى بها أن تورد فى العلم
13
الطبيعى، وكأنا قد فعلنا ذلك.
14
[7] وأما أصحاب القول بجوهرية الكم، فمن ذهب إلى أن المتصلات هى جواهر
15
ومبادى [*]ومبادى Middle Arabic for ومبادئ للجواهر فقد قال: إن هذه هى الأبعاد المقومة للجوهر الجسمانى، وما هو مقوم
16
للشىء فهو أقدم، وما أقدم من الجواهر فهو أولى بالجوهرية، وجعل النقطة أولى الثلاثة
17
بالجوهرية. |95|[ed. Cairo vol. 1]
18
[8] وأما أصحاب العدد، فإنهم جعلوا هذه مبادئ الجواهر، إلا أنهم جعلوها مؤلفة
19
من الوحدات حتى صارت الوحدات مبادئ للمبادئ، ثم قالوا:
73
1
[9] إن الوحدة طبيعة غير متعلقة فى ذاتها بشىء من الأشياء، وذلك لأن الوحدة
2
تكون فى كل شىء، وتكون الوحدة فى ذلك الشىء غير ماهية ذلك الشىء، فإن الوحدة
3
فى الماء غير الماء، وفى الناس غير الناس، ثم هى بما هى وحدة مستغنية عن أن تكون
4
شيئا من الأشياء، وكل شىء فإنما يصير هو ما هو بأن يكون واحدا متعينا، فتكون
5
الوحدة مبدأ للخط وللسطح ولكل شىء، فإن السطح لا يكون سطحا إلا بوحدة اتصالها
6
الخاص، وكذلك الخط والنقطة أيضا وحدة صار لها وضع. فالوحدة علة كل شىء. وأول
7
ما يكون ويحدث عن الوحدة العدد. فالعدد هو علة متوسطة بين الوحدة وبين كل شىء،
8
فالنقطة وحدة وضعية، والخط اثنوية وضعية، والسطح ثلاثية وضعية، والجسم رباعية
9
وضعية؛ ثم تدرجوا إلى أن جعلوا كل شىء حادثا عن العدد.
10
[10] فيجب علينا أولا أن نبين: أن المقادير والأعداد أعراض، ثم نشتغل بعد ذلك
11
بحل الشكوك التى لهؤلاء. وقبل ذلك يجب أن نعرف حقيقة أنواع الكمية، والأولى بنا
12
أن نُعَرِّف طبيعة [الوحد]، فإنه يحق علينا أن نعرف طبيعة الواحد فى هذا المواضع
13
بشيئين: أحدهما، أن الواحد شديد المناسبة للموجود الذى هو موضوع هذا العلم؛
14
والثانى، أن الواحد مبدأ ما بوجه ما للكمية. |96|[ed. Cairo vol. 1]أما كونه مبدأ للعدد، فأمر قريب من
15
المتأمل. وأما للمتصل فلأن الإتصال وحدة ما، وكأنه علة صورية للمتصل، ولأن المقدار
16
كونه مقدارا هو أنه بحيث يقدر، وكونه بحيث يقدر هو كونه بحيث يعد، وكونه بحيث
17
يعد كونه بحيث أن له واحدا. |97|[ed. Cairo vol. 1]
74
1
[الفصل الثانى]
2
ب فصل
3
فى الكلام فى الواحد
4
[1] فنقول: إن الواحد يقال بالتشكيك على معان تتفق فى أنها لا قسمة فيها
5
بالفعل من حيث كل واحد هو هو، لكن هذا المعنى يوجد فيها بتقدم وتأخر، وذلك بعد
6
الواحد بالعرض.
7
[2] والواحد بالعرض هو أن يقال فى شىء يقارن شيئا آخر، أنه هو الاخر، وأنهما
8
واحد. وذلك إما موضوع ومحمول عرضى، كقولنا: إن زيدا وابن عبد الله واحد،
9
وإن زيدا والطبيب واحد؛ وإما محمولان موضوع، كقولنا: الطبيب هو وابن عبد الله
10
واحد، إذ عرض أن كان شىء واحد طبيبا وابن عبد الله؛ أو موضوعان فى محمول
11
واحد عرضى، كقولنا: الثلج والجص واحد، أى فى البياض، إذ قد عرض أن حمل
12
عليهما عرض واحد.
13
[3] لكن الواحد الذى بالذات، منه واحد بالجنس، ومنه واحد بالنوع وهو الواحد
14
بالفصل، ومنه واحد بالمناسبة، ومنه واحد بالموضوع، ومنه واحد بالعدد. |98|[ed. Cairo vol. 1]
15
والواحد بالعدد قد يكون بالإتصال، وقد يكون بالتَّماس، وقد يكون لأجل نوعه، وقد
16
يكون لأجل ذاته. والواحد بالجنس قد يكون بالجنس القريب، وقد يكون بالجنس البعيد.
17
والواحد بالنوع كذلك قد يكون بنوع قريب لا يتجزأ إلى أنواع، وقد يكون بنوع بعيد فيوافق
18
أحد قسمى الباب الأول، وإن كان هناك اختلاف فى الاعتبار.
75
1
[4] وإذا كان واحد بالنوع فهو لا محالة واحد بالفصل، ومعلوم أن الواحد بالجنس
2
كثير بالنوع، وأن الواحد بالنوع قد يجوز أن يكون كثيرا بالعدد، وقد يجوز أن لا يكون
3
إذا كانت طبيعة النوع كلها فى شخص واحد، فيكون من جهة نوعا ومن جهة لا يكون
4
نوعا، إذ هو من جهة كلى ومن جهة ليس بكلى. وتأمل فى هذا [الموضع] الذى نتكلم
5
فيه على الكلى، أو تذكر مواضع سلفت لك.
6
[5] وأما الواحد بالإتصال فهو الذى يكون واحدا بالفعل من جهة، وفيه كثرة
7
أيضا من جهة.
8
[6] أما الحقيقى فهو الذى تكون فيه الكثرة بالقوة فقط، وهو إما فى الخطوط:
9
فالذى لا زاوية له، وفى السطوح أيضا: البسيط المسطح، وفى المجسمات: الجسم الذى
10
يحيط به سطح ليس فيه انفراج على زاوية.
11
[7] ويليه ما يكون فيه كثرة بالفعل إلا أن أطرافها تلتقى عد حد مشترك مثل جملة
12
الخطين المحيطين بالزاوية، |99|[ed. Cairo vol. 1]ويليه أن تكون الأطراف متماسة تماسا يشبه المتصل فى
13
تلازم حركة بعضها لبعض فتكون وحدتها كأنها تابعة لوحدة الحركة لأن هناك التحاما، وذلك
14
كالأعضاء المؤلفة من أعضاء، وأولى ذلك ما كان التحامه طبيعيا لا صناعيا. والوحدة
15
بالجملة فى هذه أضعف، وتخرج عن الوحدة الإتصالية إلى الوحدة الاجتماعية. فالوحدة
16
الإتصالية أولى من الاجتماعية بمعنى الوحدة، وذلك أن الوحدة الاتصالية لا كثرة فيها بالفعل،
17
والوحدة الاجتماعية فيها كثرة بالفعل. فهناك كثرة غشيتها وحدة لا تزيل عنها الكثرية.
18
[8] والوحدة بالإتصال إما معتبرة مع المقدار فقط وإما أن تكون مع طبيعة أخرى
19
مثل أن تكون ماء أو هواء. ويعرض للواحد بالإتصال أن يكون واحدا فى الموضوع،
76
1
فإن الموضوع المتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق الطبع، وقد علمت هذا فى الطبيعيات.
2
فيكون موضوع وحدة الإتصال واحدا أيضا فى الطبيعة من حيث أن طبيعته لا تنقسم إلى
3
صور مختلفة؛ بل نقول: إن الواحد بالعدد لا شك أنه غير منقسم بالعدد من حيث هو
4
واحد، بل ولا غيره مما هو واحد منقسم من حيث هو واحد، لكنه يجب أن ينظر فيه من
5
حيث الطبيعة التى عرض لها الوحدة، فيكون الواحد بالعدد منه ما ليس من طبيعته التى
6
عرض لها الوحدة أن يتكثر مثل: الإنسان الواحد، ومنه ما من طبيعته ذلك كالماء الواحد
7
والخط الواحد فإنه قد يصير الماء مياها والخط خطوطا. |100|[ed. Cairo vol. 1]
8
[9] والذى ليس من طبيعته ذلك فإما أن يكون قد يتكثر من وجه آخر، وإما أن
9
لا يكون. مثال الأول: الواحد بالعدد من الناس، فإنه لا يتكثر من حيث طبيعته، أى
10
من حيث هو إنسان إذا قسم، لكنه قد يتكثر من جهة أخرى إذا قسم إلى نفس وبدن،
11
فيكون له نفس وبدن وليس واحد منهما بإنسان. وأما الذى لا يكون فهو على قسمين: إما
12
أن يكون موجودا له ــ مع أنه شىء ليس بمنقسم ــ طبيعة أخرى، وإما أن لا يكون.
13
[10] فإن كان موجودا له مع ذلك طبيعة أخرى فإما أن تكون تلك الطبيعة هى
14
الوضع وما يناسب الوضع، فتكون نقطة والنقطة لا منقسمة من حيث هى نقطة ولا من
15
جهة أخرى، وهناك طبيعة غير الوحدة المذكورة؛ وإما أن لا يكون الوضع وما يناسبه،
16
فيكون مثل العقل والنفس؛ فإن العقل له وجود غير الذى يفهم من أنه لا ينقسم، وليس
17
ذلك الوجود بوضع، وليس ينقسم فى طبيعته ولا فى جهة أخرى.
18
[11] وأما الذى لا يكون هناك طبيعة أخرى فكنفس الوحدة التى هى مبدأ العدد،
19
أعنى التى إذا أضيف إليها غيرها صار مجموعهما عددا.
77
1
[12] فمن هذه الأصناف من الوحدة ما لا ينقسم مفهومه فى الذهن، فضلا عن
2
قسمة مادية أو مكانية أو زمانية.
3
[13] ولنعد القسم الذى يتكثر أيضا من حيث الطبيعة الواحدة بالوحدة ومن حيث
4
الاتصال، فمن ذلك أن يكون تكثره فى الطبيعة التى هى لذاتها معدة لكثرة عن الوحدة،
5
وهذا هو المقدار؛ ومن ذلك أن يكون تكثره فى طبيعة |101|[ed. Cairo vol. 1] إنما لها الوحدة المعدة
6
للتكثر بسبب غير نفسها، وذلك هو الجسم البسيط مثل الماء. فإن هذا الماء واحد بالعدد
7
وهو ماء وفى قوته أن يصير مياهًا كثيرة بالعدد لا لأجل المائية، بل لمقارنة السبب الذى
8
هو المقدار. فتكون تلك المياه الكثيرة بالعدد واحدة بالنوع وواحدة أيضا بالموضوع، لأن
9
من طبع موضوعها أن تتحد بالفعل واحدا بالعدد.
10
[14] ولا كذلك أشخاص الناس، فإنها ليس من شأن عدة موضوعات منها أن
11
يتحد موضوع إنسان واحد. نعم، كل واحد منهما واحد بموضوعه الواحد، ولكن ليس
12
المجتمع من الكثرة واحدا بالموضوع، وليس حاله حال كل قطعة من الماء، فإنها واحدة
13
فى نفسها بموضوعها. والجملة يقال إنها واحدة فى الموضوع، إذ من شأن موضوعاتها أن
14
تتحد موضوعا واحدا بالإتصال، فيكون جملتها حينئذ ماء واحدا.
15
[15] لكن كل واحد من هذين القسمين إما أن يكون حاصلا فيه جميع ما يمكن أن
16
يكون له أو لا يكون، فإن كان فهو تام وواحد بالتمام، وإن لم يكن فهو كثير، ومن عادة
17
الناس أن يجعلوا الكثير غير الواحد. وهذه الوحدة التمامية إما أن تكون بالفرض والوهم
18
والوضع كدرهم تام ودينار تام، وإما أن تكون بالحقيقة. وذلك إما بالصناعة كالبيت
78
1
التام، فإن البيت الناقص لا يقال له بيت واحد. وإما بالطبيعة كشخص إنسان واحد
2
تام الأعضاء. |102|[ed. Cairo vol. 1]
3
[16] ولأن الخط المستقيم قد يقبل زيادة فى استقامته ليس موجودة له، فليس
4
بواحد من جهة التمام. وأما المستدير فإذ ليس يقبلها، بل حصلت له بالطبع الإحاطة
5
بالمركز من كل جهة، فهو تام وواحد بالتمام، ويشبه أن يكون أيضا كل شخص من الناس
6
واحدا من هذه الجهة، فيكون بعض الأشياء يلزمه التمام كالأشخاص والخط المستدير،
7
وبعضها لا يلزمه التمام كالماء والخط المستقيم.
8
[17] وأما الواحد بالمساواة فهو بمناسبة ما، مثل أن حال [السفينة] عند الربان
9
وحال المدينة عند الملك واحدة، فإن هاتين حالتان متفقتان، وليس وحدتهما بالعرض، بل
10
وحدة ما يتحد بهما بالعرض، أعنى وحدة السفينة والمدينة بهما هى وحدة بالعرض. وأما
11
وحدة الحالتين فليست الوحدة التى جعلناها وحدة بالعرض.
12
[18] فتقول من رأس: إنه إذا كانت الوحدة إما أن تقال على أشياء كثيرة بالعدد،
13
أو تقال على شىء واحد بالعدد، وقد بينا أنا حصرنا أقسام الواحد بالعدد.
14
[19] فلنمل إلى الحيثية الأخرى، فنقول: وأما الأشياء الكثيرة بالعدد فإنما يقال
15
لها من جهة أخرى واحدة لإتفاق بينها فى معنى. فإما أن يكون اتفاقها فى نسبة أو فى
16
محمول غير النسبة، وأما فى موضوع. والمحمول إما جنس، وإما نوع، |103|[ed. Cairo vol. 1] وإما
17
فصل، وإما عرض، فيكون سهلا عليك من هذا الموضوع أن تعرف أنا حققنا أقسام
18
الواحد، وأنت تعرف مما قد عرفت أيها أولى بالوحدة واسبق استحقاقا لها، فتعرف أن
19
الواحد بالجنس أولى بالوحدة من الواحد بالمناسبة، وأن الواحد بالنوع أولى من الواحد
79
1
بالجنس، والواحد بالعدد أولى من الواحد بالنوع، والبسيط الذى لا ينقسم بوجه أولى من
2
المركب، والتام من الذى ينقسم أولى من الناقص.
3
[20] والواحد قد يطابق الموجود فى أن الواحد يقال على كل واحد من المقولات
4
كالموجود، لكن مفهومهما ــ على ما علمت ــ مختلف، ويتفقان فى أنه لا يدل واحد
5
منهما على جوهر بشىء من الأشياء، وقد علمت ذلك. |104|[ed. Cairo vol. 1]
6
[الفصل الثالث]
7
ج فصل
8
فى تحقيق الواحد والكثير وإبانة أن العدد عرض
9
[1] والذى يصعب علينا تحقيقه الآن ماهية الواحد. وذلك أنا إذا قلنا: إن الواحد
10
هو الذى لاينقسم، فقد قلنا أنَ الواحد هو الذى لا يتكثر ضرورة، فأخذنا فى بيان
11
الواحد الكثرة.
12
[2] وأما الكثرة فمن الضرورى أن تُحد بالواحد، لأن الواحد مبدأ الكثرة، ومنه
13
وجودها وماهيتها، ثم أى حد حددنا به الكثرة استعملنا فيه الواحد بالضرورة. فمن ذلك
14
ما تقول: إن الكثرة هى المجتمع من وحدات، فقد أخذنا الوحدة فى حد الكثرة، ثم عملنا
15
شيئًا آخر وهو أنا أخذنا المجتمع فى حدها، والمجتمع يشبه أن يكون هو الكثرة نفسها.
16
وإذا قلنا من الوحدات أو الواحدات أو الآحاد فقد أوردنا بدل لفظ الجمع هذا اللفظ، ولا
17
يفهم معناه ولا يعرف إلا بالكثرة. وإذا قلنا: إن الكثرة هى التى تعد بالواحد، فنكون قد
18
أخذنا فى حد الكثرة الوحدة، ونكون أيضا قد أخذنا فى حدها العد والتقدير، وذلك إنما
19
يفهم بالكثرة أيضا. |105|[ed. Cairo vol. 1]
80
1
[3] فما أعسر علينا أن نقول فى هذا الباب شيئًا يعتد به.
2
[4] لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضا أعرف عند تخيلنا، والوحدة أعرف عند
3
عقولنا، ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التى نتصورها بديًا، لكن الكثرة
4
نتخيلها أولا، والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها عقلى، بل أن كان ولا بد فخيالى.
5
ثم يكون تعريفنا الكثرة بالوحدة تعريفا عقليا، وهنالك تؤخذ الوحدة متصورة بذاتها ومن
6
أوائل التصور، ويكون تعريفنا الوحدة بالكثيرة تنبيهًا يستعمل فيه المذهب الخيالى لنومئ إلى
7
معقول عندنا لا نتصوره حاضرا فى الذهن. فإذا قالوا: إن الوحدة هى الشىء الذى ليس
8
فيه كثرة دلّوا على أن المراد بهذه اللفظة الشىء المعقول عندنا بديا [*]بديا Middle Arabic for بديئا الذى يقابل هذا الآخر أو
9
ليس هو فينبه عليه بسلب هذا عنه.
10
[5] والعجب ممن يحد العدد فيقول: إن العدد كثرة مؤلفة من
11
وحدات أو من آحاد، والكثرة نفس العدد، ليس كالجنس للعدد، وحقيقة
12
الكثرة أنها مؤلفة من وحدات. فقولهم: إن الكثرة مؤلفة من وحدات،
13
كقولهم: إن الكثرة كثرة. فإن الكثرة ليست إلا إسما للمؤلف من الوحدات.
14
[6] فإن قال قائل: إن الكثرة قد تؤلف من أشياء غير الوحدات مثل الناس،
15
والدواب. فنقول:
16
[7] إنه كما أن هذه الأشياء ليست وحدات، بل أشياء موضوعة للوحدات،
17
كذلك أيضا ليست هى بكثرة، بل أشياء موضوعة للكثرة، وكما أن تلك الأشياء هى
18
وحدات لا وحدات، فكذلك هى كثيرة لا كثرة. |106|[ed. Cairo vol. 1]
81
1
[8] والذين يحسبون أنهم إذا قالوا: إن العدد كمية منفصلة ذات ترتيب، فقد
2
تخلّصوا من هذا، فما تخلّصوا. فإن الكمية يحوج تصورها للنفس إلى أن تعرف بالجزء
3
والقسمة أو المساواة. أما الجزء والقسمة فإنما يمكن تصورها بالكمية، وأما المساواة فإن
4
الكمية أعرف منها عند العقل الصريح لأن المساواة من الأعراض الخاصة بالكمية التى يجب
5
أن توجد فى حدها الكمية.
6
[9] فيقال: إن المساواة هى اتحاد فى الكمية والترتيب الذى أخذ فى حد العدد
7
أيضا، هو مما لا يفهم إلا بعد فهم العدد. فيجب أن يعلم أن هذه كلها تنبيهات مثل التنبيهات
8
بالأمثلة والأسماء المترادفة، وأن هذه المعانى متصورة كلها أو بعضها لذواتها، وإنما يدل
9
عليها بهذه الأشياء لينبه عليها وتميز فقط.
10
[10] فنقول الآن: إن الوحدة إما أن تقال على الأعراض، وإما أن تقال على
11
الجواهر. فإذا قيلت على الأعراض فلا تكون جوهرًا، ولا شك فى ذلك، وإذا قيلت على
12
الجواهر فليست تقال عليها كفصل ولا جنس البتة، إذ لا دخول لها فى تحقيق ماهية جوهر
13
من الجواهر، بل هو أمر لازم للجوهر، كما قد علمت. فلا يكون إذن قولها عليها قول
14
الجنس والفصل، بل قول «عرضي». فيكون الواحد جوهرا، والوحدة هى المعنى الذى
15
هو العرض، فإن العرض الذى هو أحد الخمسة ــ وإن كان كونه عرضا بذلك المعنى ــ
16
قد يجوز عليه أن يكون جوهرًا، وإنما يجوز ذلك إذا أخذ مركبا، كالأبيض. وأما طبيعة
17
المعنى البسيط منه |107|[ed. Cairo vol. 1]فهى لا محالة عرض بالمعنى الآخر، إذ هو موجود فى الجوهر
18
وليس كجزء منه ولا يصح قوامه مفارقًا له.
82
1
[11] فلننظر الآن فى الوحدة الموجودة فى كل جوهر التى ليست بجزء منه مقومة
2
له، هل يصح قوامها مفارقة للجوهر؟
3
[12] فنقول: إن هذا مستحيل، وذلك لأنها إن قامت وحدة مجردة لم يخل إما أن
4
تكون مجرد أن لا تنقسم وليس هناك طبيعة هى المحمول عليها أن لا تنقسم، وأن تكون
5
هناك طبيعة أخرى. والقسم الأول محال، فإنه لا أقل من [أن] يكون هناك وجود، ذلك
6
الوجود لا ينقسم، فإن كان ذلك الوجود لا محالة معنى غير الوحدة وأنه لا ينقسم،
7
فأما أن يكون ذلك الوجود جوهرا أو يكون عرضا، فإن كان عرضا فالوحدة فى عرض لا
8
محالة ثم فى الجوهر، وإن كان جوهرا ــ والوحدة لا تفارقه ــ فهى موجودة فيه وجود ما
9
فى الموضوع؛ وإن كانت مفارقة، تكون الوحدة ــ إذا فارقت ذلك الجوهر ــ يكون لها
10
جوهر آخر تصير إليه وتقارنه إذا فرض وجودها مقارنة لجوهرية، ويكون ذلك الجوهر ــ
11
لو لم تصر إليه هذه الوحدة ــ لم تكن له وحدة، وهذا محال؛ أو تكون له وحدة كانت
12
ووحدة لحقت، فتكون له وحدتان لا وحدة، فيكون جوهران لا جوهر واحد، لأن
13
ذلك الجوهر واحدان، وهذا محال. وأيضا فإن كانت كل وحدة فى جوهر آخر، فأحد
14
الجوهرين لم ينتقل إليه الوحدة |108|[ed. Cairo vol. 1]وعاد الكلام جذعا فيما انتقل إليه الوحدة وصار
15
أيضا جوهرين؛ وإن كانت كل وحدة فى الجوهرين جميعا فتكون الوحدة اثنوية، هذا
16
خلف. فقد بان أن الوحدة ليس من شأنها أن تفارق الجوهر الذى هى فيه.
17
[13] ونبتدئ فنقول: إنه إن كانت الوحدة ليست مجرد أنها لا تنقسم، بل كانت
18
وجودًا لا ينقسم حتى يكون الوجود داخلا فى الوحدة لا موضوعا لها، فإذا فرضنا انه
19
قد فارقت هذه الوحدة الجوهر إن كانت يمكن أن توجد بذاتها كانت وجودًا لا ينقسم
83
1
مجردًا ولم تكن وجودًا لا ينقسم فقط، بل تكون الوحدة وجودًا جوهريا لا ينقسم إذا
2
قام ذلك الوجود لا فى موضوع. فلا تكون للأعراض وحدة بوجه من الوجوه. وإن كان
3
للأعراض وحدة تكون وحدتها غير وحدة الجوهر؛ وتكون الوحدة تقال عليها بالشتراك
4
الاسم. فيكون أيضا من الأعداد ما تأليفه من وحدة الأعراض، ومن الأعداد ما تأليفه من
5
وحدة الجواهر. فلننظر هل يشتركان فى معنى الوجود الذى لا ينقسم أو لا يشتركان.
6
[14] فان لم يشتركا فتكون الوحدة فى أحَدَيهما [*]أحَدَيهما corrupt for أحدهما وجودًا منقسمًا وفى الآخر ليس
7
كذلك. ولسنا نعنى بوحدة الأعراض أو الجواهر ذلك، حتى نعنى فى أحَدَيهما بالوحدة
8
شيئًا غير أنه وجود غير منقسم. وإن اشتركا فى ذلك المعنى، فذلك المعنى هو الوجود
9
الغير المنقسم الذى إياه نعنى بالوحدة؛ وذلك المعنى أعمّ من المعنى الذى ذكرناه قبيل الآن،
10
فإن ذلك كان يلزمه |109|[ed. Cairo vol. 1]مع كونه وجودًا لا ينقسم، أن يكون وجودًا جوهريا، إذ قد
11
كان يمكن فرضه مجردا، وذلك المعنى لا محالة إن كان جوهرًا لم يعرض للعرض، وليس
12
يلزم أن نقول إنه إن كان عرضا لم يعرض للجوهر، فإن الجوهر يعرض له العرض ويقوم به
13
العرض، والعرض لا يعرض له الجوهر حتى يكون قائما فيه.
14
[15] فإذن الوحدة الجامعة أعم من ذلك المعنى وكلامنا فيها، ومن حيث هى
15
وجود لا ينقسم فقط بلا زيادة أخرى، وذلك لا يفارق موضوعاته وإلا صار ذلك المعنى
16
الأخصّ. فإنه من المحال أن تكون الوحدة وجودًا غير منقسم فى الأعراض والجواهر ويجوز
17
مع ذلك أن تفارق، فيكون جوهرا عرض لعرض، أو أن تكون الوحدة مختلفة فى الجواهر
18
والأعراض. فبين أن الوحدة حقيقتها معنى عرضى ومن جملة اللوازم للأشياء.
84
1
[16] وليس لقائل أن يقول: إن هذه الوحدة إنما لا تفارق على سبيل ما لا
2
تفارق المعانى العامة قائمة دون فصولها، كما لا تفارق الإنسانية الحيوانية. وامتناع
3
هذه المفارقة لا يوجب العرضية، بل إنما يوجب العرضية امتناع مفارقة يكون للمعنى
4
المحصّل الموجود المشخّص.
5
[17] فنقول: ليس الأمر كذلك، فإن نسبة ما فرضناه أعم إلى ما فرضناه أخص
6
ليس نسبة المنقسم إليه بفصل مقوم. فقد بيّنا أن الوحدة غير داخلة فى حد جوهر أو
7
عرض، بل نسبة لازم عام. وإذا أشرنا إلى بسيط واحد منه كان |110|[ed. Cairo vol. 1]متميز الذات
8
عن التخصيص الذى يقارنه، لا كاللونية التى فى البياض، فإذا صح أنه غير مفارق صح أن
9
المحمول الذى هو معنى لازم عام مشتق الإسم من إسم معنى بسيط هو معنى الوحدة، وذلك
10
البسيط عرض. وإذا كانت الوحدة عرضا، فالعدد المؤلف من الوحدة عرض. |111|[ed. Cairo vol. 1]
11
[الفصل الرابع]
12
د فصل
13
فى أن المقادير أعراض
14
[1] وأما الكميات المتصلة فهى مقادير المتصلات، أما الجسم الذى هو الكم فهو
15
مقدار المتصل الذى هو الجسم بمعنى الصورة، على ما عرفته فى عدة مواضع، وأما الجسم
16
بالمعنى الآخر الداخل فى مقولة الجوهر فقد فرغنا منه.
17
[2] وهذا المقدار فقد بان أنه فى مادة، وأنه يزيد وينقص والجوهر باق، فهو عرض
18
لا محالة، ولكنه من الأعراض التى تتعلق بالمادة وبشىء من المادة، لأن هذا المقدار لا
19
يفارق المادة إلا بالتوهم، ولا يفارق الصورة التى للمادة، لأنه مقدار الشىء المتصل الذى
85
1
يقبل أبعاد كذا، وهذا لا يمكن أن يكون بلا هذا الشىء المتصل كما أن الزمان لا يكون إلا
2
بالمتصل الذى هو المسافة وهذا المقدار هو كون المتصل بحيث يمسح بكذا [وكذا] مرة،
3
أو لا ينتهى المسح إن توهم غير متناه توهمًا. وهذا مخالف لكون الشىء بحيث يقبل فرض
4
الأبعاد المذكورة، فإن ذلك لا يختلف فيه جسم وجسم. وأما أنه يمسح بكذا [وكذا]
5
مرة، أنه لا يغنى مسحه بكذا البتة، فقد يختلف فيه جسم وجسم. |112|[ed. Cairo vol. 1] فهذا
6
المعنى هو كمية الجسم، وذلك صورته. وهذه الكمية لا تفارق تلك الصورة فى الوهم
7
البتة، لكن هى والصورة تفارقان المادة فى الوهم.
8
[3] وأما السطح والخط فبالحرى أن يكون له اعتبار أنه نهاية، واعتبار له مقدار؛
9
وأيضا للسطح اعتبار أنه يقبل فرض بعدين فيه على صفة الأبعاد المذكورة، أعنى بُعْدين
10
فقط يتقاطعان على زاوية قائمة؛ وأيضا أنه يقدر ويمسح، ويكون أعظم وأصغر، وأنه
11
يفرض فيه أيضا أبعاد بحسب اختلاف الأشكال. فلنتأمل هذه الأحوال فيه فنقول:
12
[4] أما قبوله بفرض بُعْدين فإنما ذلك له لأنه نهاية الجسم الذى هو قابل لفرض الأبعاد
13
الثلاثة؛ فإن كون الشىء نهاية لقابل الثلاثة من حيث هو نهاية لمثل ذلك لا أنه نهاية مطلقا،
14
[مقتضاه] أن يكون قابلًا لفرض بُعْدين، وليس هو بهذه الجهة مقدار، بل هو بهذه الجهة
15
مضاف. وإن كان مضافًا لا يكون إلا مقدارًا، وقد عرفت الفرق بين المضاف مطلقا وبين
16
المضاف الذى هو المقولة التى لا تجوز، على ما بينا، أن يكون مقدارًا أو كيفًا. وأما أنه
17
مقدار فهو بالجهة الأخرى التى بها يمكن أن يخالف غيره من السطوح فى القدر والمساحة.
18
ولا يمكن أن يخالفها بالمعنى الأول بوجه؛ لكنه من الجهتين جميعًا عرض، فإنه من حيث
19
هو نهاية عارض للمتناهى، لأنه موجود فيه كجزء منه ولا يقوم دونه، وقد قلنا إنه ليس
86
1
من شرط الموجود فى شىء أن يطابق ذاته، وأما أين قلنا هذا ففى الطبيعيات، فليتأمل
2
هناك إن عرضت من هذه الجهة شبهة. |113|[ed. Cairo vol. 1]
3
[5] وأيضا من حيث هو مقدار هو عرض، ولو كان كون السطح بحيث يفرض فيه
4
بعدان أمرا له فى نفسه لم تكن نسبة المقدارية فى السطح إلى ذلك الأمر نسبة المقدارية
5
إلى الصورة الجسمية، بل تكون نسبة ذلك المعنى إلى المقدارية فى السطح نسبة فصل إلى
6
جنس، والنسبة الأخرى نسبة عارض إلى صورة. وأنت تعلم هذا بتأمل الأصول.
7
[6] وأعلم أن السطح لعرضيته ما يحدث ويبطل فى الجسم بالاتصال والانفصال
8
واختلاف الأشكال والتقاطيع، وقد يكون سطح الجسم مسطحا، فيبطل من حيث هو
9
مسطح، فيحدث مستدير. وقد علمت فيما سلف من الأقاويل أن السطح الواحد بالحقيقة
10
لا يكون موضوعا للكرية والتسطيح فى الوجود، ولذلك ليس كما أن الجسم الواحد يكون
11
موضوعا لاختلاف أبعاد بالفعل تترادف عليه فكذلك السطح إذا أزيل عن شكله حتى
12
تبطل أبعاده فلا يمكن ذلك إلا بقطعه. وفى القطع إبطال صورة السطح الواحدة التى
13
بالفعل؛ وقد علمت هذا من أقوال أخرى، وعلمت أن هذا لا يلزم فى الهيولى حتى تكون
14
الهيولى للإتصال غيرها للإنفصال، وقد علمت أنه إذا ألفت سطوح ووصل بعضها ببعض
15
تأليفًا يبطل الحدود المشتركة كان الكائن سطحا آخر بالعدد، ولو أعيد إلى تأليفه الأول لم
16
يكن ذلك السطح الأول بالعدد بل آخر مثله بالعدد، وذلك لأن المعدوم لا يعاد. |114|[ed. Cairo vol. 1]
17
[7] وإذا قد عرفت صورة الحال فى السطح فقد عرفت فى الخط فاجعله قياسًا
18
عليه. فقد تبين لك أن هذه أعراض لا تفارق المادة وجودًا، وعرفت أيضا أنها لا تفارق
87
1
الصورة التى هى فى طباعها مادية توهمًا أيضا. فقد بقى أن تعلم كيف ينبغى أن يفهم
2
قولنا: إن السطح يفارق الجسم توهمًا، وإن الخط يفارق السطح توهما.
3
[8] فنقول: إن هذه المفارقة تفهم فى هذا الموضوع على وجهين: أحدهما أن نفرض
4
فى الوهم سطح ولا جسم، وخط ولا سطح، والآخر أن يلتفت إلى السطح ولا يلتفت إلى
5
الجسم أصلًا أنه معه أو ليس معه. وأنت تعرف أن الفرق بين الأمرين ظاهر، فإنه فرق بين أن
6
ينظر إلى الشىء وحده وإن كان معتقدا أنه مع غيره لا يفارقه، وبين أن ينظر إليه وحده مع
7
شرط مفارقته ما هو معه، محكوما عليه بأنه كما التفت إليه وحده حتى يكون هو فى وهمك
8
قائم وحده. فهو مع ذلك يفرق بينه وبين الشىء الآخر محكومًا بأن ذلك الشىء ليس معه.
9
[9] فمن ظن أن السطح والخط والنقطة قد يمكن أن يتوهم سطحا وخطا ونقطة
10
مع فرض أن لا جسم مع السطح ولا مع الخط ولا مع النقطة فقد ظن باطلا، وذلك لأنه
11
لا يمكن أن يفرض السطح فى الوهم مفردًا ليس نهاية لشىء إلا أن يتوهم مع وضع خاص
12
ويتوهم له جهتان توصلان الصائر إليه إيصالا يلقى جانبين غيرين، كما علمت. فيكون
13
حينئذ ما توهم سطحا غير سطح. |115|[ed. Cairo vol. 1]
14
[10] فإن السطح هو نفس الحد لا ذو حدين، وإن توهم السطح نفس النهاية التى
15
تلى جهة واحدة فقط من حيث هو كذلك أو نفس الجهة، والحد ــ على أن لا انفصال له
16
من جهة أخرى ــ كان ما هو نهايته متوهما معه بوجه ما، وكذلك الحال فى الخط والنقطة.
17
[11] والذى يقال أن النقطة ترسم بحركتها الخط فإنه أمر يقال للتخيل، ولا إمكان
18
وجود له، لا لأن النقطة لا يمكن أن تفرض لها مماسة متنقلة، فإنا قد بينا أن ذلك ممكن
88
1
فيها بوجه، لكن المماسة لما كانت لا تثبت وكان لا يبقى الشىء بعد المماسة إلا كما كان
2
قبل المماسة، فلا تكون هناك نقطة بقيت مبدأ خط بعد المماسة ولا يبقى امتدادٌ بينها
3
وبين أجزاء المماسة، لأن تلك النقطة إنما صارت نقطة واحدة على ما علمت فى الطبيعيات
4
بالمماسة لا غير. فإذا بطلت المماسة بالحركة فكيف تبقى هى نقطة؟ وكذلك كيف يبقى
5
ما هى مبدأ له رسما ثابتا؟ بل إنما ذلك فى الوهم والتخيل فقط. وأيضا فإن حركتها تكون
6
لا محالة، وهناك شىء موجود تكون الحركة عليه أو فيه، وذلك الشىء قابل لأن يتحرك
7
فيه. فهو جسم أو سطح أو بُعْد فى سطح أو بُعْد هو خط، فتكون هذه الأشياء موجودة
8
قبل حركة النقطة، فلا تكون حركة النقطة علة لأن توجد هى. |116|[ed. Cairo vol. 1]
9
[12] فأما وجود المقدار الجسمانى فظاهر، وأما وجود السطح فلوجوب تناهى
10
المقدار الجسمانى، وأما وجود الخط فبسبب جواز قطع السطوح وافتراض الحدود لها. وأما
11
الزاوية فقد ظن بها أنها كمية متصلة غير السطح والجسم، فينبغى أن ينظر فى أمرها، فنقول:
12
[13] إن المقدار جسمًا كان أو سطحًا فقد يعرض له أن يكون محاطًا بين نهايات تلتقى
13
عند نقطة وَاحدة؛ فيكون من حيث هو بين هذه النهايات شيئًا ذا زاوية من غير أن ينظر
14
إلى حال نهاياته من جهة فكأنه مقدار أكثر من بُعْد ينتهى عند نقطة؛ فإن شئت سميت
15
نفس هذا المقدار من حيث هو كذلك زاوية، وإن شئت سميت الكيفية التى له من حيث
16
هو هكذا زاوية؛ فيكون الأول كالمربع والثانى كالتربيع. فإن أو قعت الاسم على المعنى الأول
17
قلت: زاوية مساوية وناقصة وزائدة لنفسها، لأن جوهرها مقدار، وإن أوقعت على المعنى
18
الثانى قلت لها بسبب المقدار الذى هى فيه كّما للتربيع، ولأن هذا الذى هو الزاوية
19
بالمعنى الأول يمكن أن يفرض فيه إما أبعاد ثلاثة أو بعدان، فهو مقدار جسم أو سطح.
89
1
[14] والذى يظنه من يقول: إنه إنما يكون سطحًا إذا تحرك الخط الفاعل إياه فى
2
الوهم بكلتى نقطتيه حتى أحدثه، حتى كان قد يحرك الطول عرضا بالحقيقة فحدث
3
عرض بعد الطول فكان طول وعرض؛ بل لم يتحرك الخط المحدث للزاوية لا فى الطول وحده
4
كما هو ولا العرض حتى يحدث سطح، وإنما تحرك بأحد رأسيه فحدثت الزاوية.
5
فجعل الزاوية جنسًا رابعًا من المقادير. |117|[ed. Cairo vol. 1]
6
[15] والسبب فى هذا جهله بمعنى قولنا: إن للشىء ثلاثة أبعاد أو بُعْدين حتى
7
يكون مجسما أو مسطحا. فإذ قد عرفت ذلك عرفت أن هذا الذى قاله لا يلزم، ولا
8
ينبغى أن يكون للعاقل إليه إصغاء، وإنما هو شروع من ذلك الإنسان قيما لا يعنيه. وهذا
9
الغافل الحيران قد يذهب إلى أن السطح بالحقيقة هو المربع أو المستطيل لا غير. وليس
10
كلامه مما يفهم فضل شغل به.
11
[16] فقد عرفت وجود الأقدار وأنها أعراض وأنها ليست مبادئ للأجسام، إذ
12
الغلط فى ذلك إنما عرض لما عرفت.
13
[17] وأما الزمان فقد كان تحقق لك عرضيته وتعلقه بالحركة فيما سلف، فبقى أن
14
تعلم أنه لا مقدار خارجًا عن هذه المقادير، فنقول:
15
[18] إن الكم المتصل لا يخلو إما أن يكون قارًا حاصل الوجود بجميع أجزائه،
16
أو لا يكون؛ فإن لم يكن، بل كان متجدد الوجود شيئا بعد شىء فهو الزمان. وإن كان
17
قارًا وهو المقدار، فإما أن يكون أتم المقادير وهو الذى يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة، إذ ليس
90
1
يمكن أن يفرض فيه فوق ذلك، وهذا هو المقدار المجسم، وإما أن يفرض فيه بُعْدان فقط،
2
وإما أن يكون ذا بُعْدٍ واحد فقط، إذ كان متصل فله بعد مّا بالفعل أو بالقوة، ولما كان لا
3
أكثر من ثلاثة ولا أقل من واحد فالمقادير ثلاثة والكميات المتصلة لذاتها أربعة. وقد يقال
4
لأشياء أخر أنها كميات متصلة وليست كذلك. |118|[ed. Cairo vol. 1]
5
[19] أما المكان فهو السطح، وأما الثقل والخفة فإنها توجب بحركاتها مقادير فى
6
الأزمنة والأمكنة، وليس لها فى نفسها أن تجزأ بجزء يعدها، وأن تقابل بالمساواة والمفاوتة
7
بأن يفرض لها حد ينطبق على حد ما يجانسه، حتى ينطبق ما يليه منه على ما يليه مما
8
يجانسه، فينطبق عليه الحد الآخر فيساوى أو يختلف فلا يساوى، بل يفاوت، فإنا نعنى
9
بالمساواة والمفاوتة المعرّفتين للمقدار هذا المعنى. وأما التجزئة التى تعرض للخفة والثقل
10
بأن يكون ثقل نصف ثقل فإن ذلك لأنه يتحرك فى الزمان نصف المسافة، أو فى المسافة
11
ضعف الزمان، أو تحرك الأعظم إلى أسفل فى آلة حركة يلزم معها أن يتحرك الأصغر ألى[*]ألى corrupt for إلى
12
العلوّ أو أمرا مما يجرى هذا الجرى.
13
[20] فهو كالحرارة التى تكون ضعف الحرارة لأجل أنها تفعل فى الضعف أو
14
لأنها فى ضعف الجسم الحار المتشابه فى الحرارة. وكذلك حال الصغير والكبير والكثير
15
والقليل. فإن هذه أعراض أيضا تلحق بالكميات من باب المضاف، وأنت قد حصلت الكلام
16
فى جميع هذه فى موضع آخر.
17
[21] فالكمية بالجملة حدها هى أنها التى يمكن أن يوجد فيها شىء منها يصح أن
18
يكون واحدا عادًّا، وبكون ذلك لذاته سواء كانت الصحة وجودية أو فرضية. |119|[ed. Cairo vol. 1]
91
1
[الفصل الخامس]
2
ه فصل
3
فى تحقيق ماهية العدد، وتحديد أنواعه، وبيان أوائله
4
[1] وبالحرى أن نحقق ههنا طبيعة الأعداد، وخاصياتها، وكيف يجب أن يتصور حالها
5
ووجودها، فقد انتقلنا عنها إلى الكميات المتصلة مستعجلين، لأن غرضنا كان يوجب ذلك.
6
[2] فنقول: إن العدد له وجود فى الأشياء، ووجود فى النفس. وليس قول من
7
قال: إن العدد لا وجود له إلا فى النفس بشىء يعتد به، أما إن قال: إن العدد لا وجود
8
له مجردا عن المعدودات التى فى الأعيان إلا فى النفس، فهو حق. فإنا قد بينا أن
9
الواحد لا يتجرد عن الأعيان قائما بنفسه إلا فى الذهن؛ فكذلك ما يترتب وجوده على
10
وجود الواحد. وأما أن يكون فى الموجودات أعداد فذلك أمر لا شك فيه [إذ] كان فى
11
الموجودات وحدات فوق واحدة.
12
[3] وكل واحد من الأعداد فإنه نوع بنفسه، هو واحد فى نفسه من حيث هو
13
ذلك النوع، وله من حيث هو ذلك النوع خواص. والشىء الذى لا حقيقة له محال أن
14
تكون له خاصية الأولية أو التركيبية أو التمامية أو الزايدية أو الناقصية أو المربعية أو
15
المكعبية أو الصمم وسائر الأشكال التى لها. |120|[ed. Cairo vol. 1]
16
[4] فإذن لكل واحد من الأعداد حقيقة تخصه وصورة يتصور منها فى النفس،
17
وتلك الحقيقة وحدته التى بها هو ما هو. وليس العدد كثرة لا تجتمع فى وحدة حتى يقال:
18
أنه مجموع آحاد. فإنه من حيث هو مجموع هو واحد يحتمل خواص ليس لغيره.
92
1
وليس بعجيب أن يكون الشىء واحدا من حيث له صورة ما كالعشرية مثلا أو الثلاثية
2
وله كثرة، فمن حيث العشرية ما هو بالخواص التى للعشرة، وأما لكثرته فليس له فيها إلا
3
الخواص التى للكثرة المقابلة للوحدة، ولذلك فإن العشرة لا تنقسم فى العشرية إلى عشرتين
4
لكل واحدة منها خواص العشرية.
5
[5] وليس يجب أن يقال: إن العشرة ليس هى إلا تسعة وواحد، أو خمسة
6
وخمسة، أو واحد وواحد وواحد كذلك إلى أن تنتهى إلى العشرة. فإن قولك: العشرة
7
تسعة وواحد، قول حملت فيه التسعة على العشرة وعطفت عليه الواحد، فتكون كأنك
8
قلت: إن العشرة أسود وحلو، فيجب أن تصدق عليه الصفتان المعطوفة إحداهما على
9
الأخرى، فتكون العشرة تسعة وأيضا واحدا. فإن لم ترد بالعطف تعريفا، بل عنيت ما
10
يقال: إن الإنسان حيوان وناطق، أى حيوان ذلك الحيوان الذى هو ناطق، تكون كأنك
11
قلت: إن العشرة تسعة، تلك التسعة التى هو واحد، وهذا أيضا مستحيل. وإن عنيت
12
|121|[ed. Cairo vol. 1]أن العشرة تسعة مع واحد، وكان مرادك أن العشرة هى التسعة التى تكون مع
13
واحد، حتى إن كانت التسعة وحدها لم تكن عشرة، فإذا كانت مع الواحد كانت تلك
14
التسعة عشرة، فقد أخطأت أيضا. فإن التسعة إذا كانت وحدها أو مع أى شىء كان معها
15
فإنها تكون تسعة ولا تكون عشرة البتة. فإن لم تجعل «مع» صفةً للتسعة، بل للموصوف
16
بها، فتكون كأنك قلت: إن العشرة تسعة، ومع كونها تسعة هى أيضا واحد، فذلك أيضا
17
خطأ، بل هذا كله مجاز من اللفظ مغلط، بل العشرة مجموع التسعة والواحد إذا أخذا
18
جميعا فصار منهما شىء غيرهما.
93
1
[6] وحد كل واحد من الأعداد ــ إن أردت التحقيق ــ هو أن يقال: إنه عدد
2
من اجتماع واحد وواحد وواحد، وتذكر الآحاد كلها. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يحد
3
بالعدد من غير أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه، بل بخاصية من خواصه، فذلك يكون
4
رسم ذلك العدد لا وحده من جوهره، وإما أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه. فإن أشير
5
إلى تركيبه من عددين دون الآخر مثلا أن تجعل العشرةمن تركيب خمسة وخمسة لم يكن
6
ذلك أولى من تركيب ستة مع أربعة، وليس تعلق هوتيه بأحدهما أولى من الآخر. وهو بما
7
هو عشرة ماهية واحدة، ومحال أن تكون ماهية واحدة، وما يدل على ماهية من حيث
8
هى واحدة حدود مختلفة. |122|[ed. Cairo vol. 1]
9
[7] فإذا كان كذلك فحده ليس بهذا ولا بذاك، بل بما قلنا. ويكون ــ إذا كان ذلك
10
كذلك ــ وقد كان له التركيب من خمسة وخمسة، ومن ستة وأربعة، ومن ثلاثة وسبعة،
11
لازمًا لذلك وتابعا، فتكون هذه رسوما له.على أن تحديدك بالخمسة يحوج إلى تحديد
12
الخمسة فينحل ذلك كله إلى الآحاد وحينئذ يكون مفهوم قولك: إن العشرة من خمسة
13
وخمسة، هو مفهوم قولك: من ثلاثة وسبعة، وثمانية واثنين، أعنى إذا كنت تلحظ تلك
14
الآحاد. فأما إذ الحظت[*]إذ الحظت corrupt for إذا لحظت صورة الخمسة والخمسة، والثلاثة والسبعة، كان كل اعتبار غير
15
الآخر. وليس للذات الواحدة حقائق مختلفة المفهومات، بل إنما تتكثر لوازمها وعوارضها،
16
ولهذا ما قال الفيلسوف المقدم: لا تحسبن أن الستة ثلاثة وثلاثة، بل هو ستة مرة واحدة.
17
[8] ولكن اعتبار العدد من حيث آحاده مما يصعب على التخيل وعلى العبارة
18
فيصار إلى الرسوم.
94
1
[9] ومن الواجب، ومما يجب أن يبحث عنه من حال العدد حال الاثنوة. فقد
2
قال بعضهم: إن الاثنوة ليست من العدد، وذلك لأن الاثنوة هى الزوج الأول، والوحدة هى
3
الفرد الأول، وكما أن الوحدة التى هى الفرد الأول ليس |123|[ed. Cairo vol. 1]بعدد، فكذلك الاثنوة
4
التى هى الزوج الأول ليس بعدد. وقال: ولأن العدد كثرة مركبة من الآحاد، والآحاد أقلها
5
ثلاثة، ولأن الاثنوة لا تخلو إن كانت عددا إما أن تكون مركبة أو لا تكون، فإن كانت
6
مركبة [فيعدها] غير الواحد، وإن كانت عددا أولًا فلا يكون لها نصف.
7
[10] وأما أصحاب الحقيقة فلا يشتغلون بأمثال هذه الأشياء بوجه من الوجوه، فإنه
8
لم تكن الوحدة غير عدد لأجل أنها فرد أو زوج، بل لأنها لا انفصال فيها إلى وحدات. ولا
9
إذا قالوا: مركبة من وحدات، يعنون بها ما يعنيه النحويون من لفظ الجمع وأن أقله ثلاثة،
10
بعد الإختلاف فيه، بل يعنون بذلك أكثر وأزيد من واحد. وقد جرت عادتهم بذلك، ولا
11
يبالون أن لا يوجد زوج ليس بعدد، وإن وجد فرد ليس بعدد؛ فما فرض عليهم أن يدأبوا
12
فى طلب زوج ليس بعدد. وليسوا يشترطون فى العدد الأول أن يكون لا نصف له مطلقا،
13
بل لا نصف له عددا من حيث هو أول، وإنما يعنون بالأول أنه غير مركب من عدد.
14
[11] وإنما يعنى بالعدد ما فيه من انفصال ويوجد فيه واحد، فالاثنوة أول العدد، وهو
15
الغاية فى القلة فى العدد. وأما الكثرة فى العدد فلا تنتهى إلى حد، وقلة الاثنوة ليست مما
16
تقال بذاتها، بل بالقياس إلى العدد. |124|[ed. Cairo vol. 1]
17
[12] وليس إذا لم تكن الاثنوة أكثر من شىء يجب من ذلك أن لا تكون قلتها
18
بالقياس إلى غيرها، فليس يجب أن يكون ما يعرض له إضافة إلى شىء يلزم أن تكون
95
1
له إضافة أخرى إلى شىء آخر يقارن تلك الإضافة، فإنه ليس يجب إذا كان شىء من
2
الأشياء تعرض له إضافتان إضافة قلة وإضافة كثرة معًا ــ حتى يكون كما أنه قليل
3
بالقياس إلى شىء فهو كثير بالقياس إلى شىء آخر ــ فيلزم من ذلك أن تكون كل قلة
4
تعرض لشىء يعرض له معها الكثرة؛ كما أنه ليس إذا كان شىء هو مالكا ومملوكا يجب
5
أن لا يكون شىء مالكا وحده، أو شىء هو جنس ونوع يلزم أن لا يكون شىء هو جنس
6
وحده؛ فإنه ليس إنما صار القليل قليلا لأجل أن له شيئا هو أيضا عنده كثير، بل لأجل
7
الشىء الذى ذلك الشىء بالقياس إليه كثير.
8
[13] فالاثنوة هى القلة الأقلة، أما قلة فبالقياس إلى كل عدد لأنها تنقص عن كل عدد؛
9
وأما الأقلة فلأنها ليست بكثير عند عدد، وإذا لم تقس الاثنوة إلى شىء آخر ولا تكون قليلة.
10
[14] والكثرة يفهمون منها معنيان: أحدهما أن يكون الشىء فيه من الآحاد فوق
11
واحد، وهذا ليس بالقياس إلى شىء آخر البتة، والآخر أن يكون الشىء فيه ما فى شىء
12
آخر وزيادة؛ وهذا هو الذى بالقياس. |125|[ed. Cairo vol. 1]
13
[15] وكذلك العظم والطول والعرض. فالكثرة مطلقة تقابل الوحدة مقابلة الشىء مع
14
مبدئه الذى يكيله، والكثرة الأخرى تقابل القلة مقابلة المضاف. ولا تضاد بين الوحدة والكثرة
15
بوجه من الوجوه، وكيف والوحدةتقوم الكثرة؟ ويجب أن نحقق القول فى هذا. |126|[ed. Cairo vol. 1]
96
1
[الفصل السادس]
2
و فصل
3
فى تقابل الواحد والكثير
4
[1] وبالحرى أن نتأمل كيف تجرى المقابلة بين الكثير والواحد، فقد كان التقابل
5
عندنا على أصناف أربعة، وقد تحقق ذلك. وسنحقق بعد أيضا أن صورة التقابل توجب
6
أن تكون أصنافه على هذه الجملة، وكان من ذلك تقابل التضاد. وليس يمكن أن يكون
7
التقابل بين الوحدة والكثرة على هذه الجملة، وذلك أن الوحدة مقوّمة للكثرة ولا شىء من
8
الأضداد يقوم ضده، بل يبطله وينفيه.
9
[2] لكن لقائل أن يقول: إن الوحدة والكثرة هذا شأنهما، فإنه ليس يجب أن يقال:
10
إن الضد يبطل الضد كيف كان، بل إن قال: إن الضد يبطل الضد بأن يحل فى موضوعه،
11
فالوحدة أيضا من شأنها أن تبطل الكثرة بأن تحل الموضوع الذى للكثرة، على ما جوزت أن
12
يكون الموضوع تعرض له الوحدة والكثرة. فنقول فى جواب هذا الإنسان:
13
[3] أن الكثرة كما أنها إنما تحصل بالوحدة فكذلك الكثرة إنما تبطل ببطلان وحداتها،
14
ولا تبطل الكثرة البتة لذاتها بطلانا أوليا، بل يعرض لوحداتها أولا أن تبطل، ثم يعرض لها أن
15
تبطل معها لبطلان وحداتها. فتكون الوحدة إذا أبطلت الكثرة فليس بالقصد الأول تبطلها،
16
بل إنما تبطل أولا الوحدات التى للكثرة عن حالها بالفعل إلى أن |127|[ed. Cairo vol. 1]تصير بالقوة، فيلزم
17
أن لا تكون كثرة. فإذن الوحدة إنما تبطل أولا الوحدة على أنها ليست تبطل الوحدة كما
18
تبطل الحرارة البرودة. فإن الوحدة لا تضاد الوحدة، بل على أن تلك الوحدات يعرض لها
19
سبب مبطل بأن تحدث عنه هذه الوحدة وذلك [كبطلان] سطوح.
97
1
[4] فإن كان لأجل هذه المعاقبة التى على الموضوع يجب أن تكون الوحدة ضد
2
الكثرة، فالأولى أن تكون الوحدة ضد الوحدة وعلى أن تكون الوحدة ليست تبطل الوحدة
3
ابطال الحرارة للبرودة، لأن الوحدة الطارئة إذا أبطلت الوحدة الأولى أبطلتها عما ليس هو
4
بعينه موضوع الوحدة الأخرى، بل الأحرى أن يظن أنه جزء موضوعه. وأما الكثرة فليست
5
تبطل عن هذه الوحدة بطلانا أوليا، بل ليس يكفى فى شرط المتضادين أن يكون الموضوع
6
واحد يتعاقبان فيه بل يجب أن تكون ــ مع هذا التعاقب ــ الطبائع متنافية متباعدة،
7
ليس من شأن أحدهما أن يتقوم بالآخر للخلاف الذاتى فيهما وأن يكون تنافيهما أوليا.
8
[5] وأيضا فلقائل أن يقول: إنه ليس موضوع الواحد والكثير واحدا، فإن شرط
9
المتضادين أن يكون للاثنين منهما بالعدد موضوع واحد، وليس لوحدة بعينها وكثرة بعينها
10
موضوع واحد بالعدد، بل فى [موضوع] واحد بالنوع. وكيف يكون موضوع الوحدة والكثرة
11
واحد بالعدد؟ ثم لا يخفى عليك أن تعلم مما سلف لك حقيقة هذا وما فيه وعليه وله.
12
[6] فقد ظهر وبان أن التقابل الذى بين الواحد والكثير ليس بتقابل التضاد. فلننظر
13
هل التقابل بينهما تقابل الصورة والعدم؟ |128|[ed. Cairo vol. 1]
14
[7] فنقول: إنه يلزم أول ذلك أن يكون العدم منهما عدم شىء من شأنه أن يكون
15
للموضوع أو لنوعه أو لجنسه، على ما قد مضى لك من أمر العدم. ولك أن تتمحل وجها
16
تجعل به الوحدة عدم الكثرة فيما من شأنه بنوعه أن يتكثر، وأن تتمحل وجها آخر تجعل به
17
الكثر عدم للوحدة فى أشياء فى طبيعتها أن تتوحد. لكن الحق لا يجوز أن يكون شيئان
18
كل واحد منهما عدم وملكة بالقياس إلى الآخر، بل الملكة منهما هو المعقول بنفسه الثابت
98
1
بذاته، وأما العدم فهو أن لا يكون ذلك الشىء الذى هو المعقول بنفسه الثابت بذاته فيما
2
من شأنه أن يكون، فيكون إنما يعقل ويحد بالملكة.
3
[8] وأما القدماء فقوم جعلوا هذا التقابل من العدم والملكة، وجعلوها هى المضادة
4
الأولى، ورتبوا تحت الملكة والصورة، الخير والفرد والواحد والنهاية و اليمين والنور
5
والساكن والمستقيم والمربع والعلم والذكر؛ وفى حيز العدم مقابلات هذه كالشر والزوج
6
والكثرة واللانهاية واليسار والظلمة والمتحرك والمنحنى والمستطيل والظن والأنثى.
7
[9] وأما نحن فقد يصعب علينا أن نجعل الملكة هى الوحدة ونجعل الكثرة هى
8
العدم. أما أولا، فإنا هو ذا نحد الوحدة بعدم الإنقسام أو عدم الجزء بالفعل، |129|[ed. Cairo vol. 1]
9
ونأخذ الإنقسام والتجزئة فى حد الكثرة، وقد ذكرنا ما فى هذا. وأما ثانيا، فإن الوحدة
10
موجودة فى الكثرة مقومة لها، وكيف تكون ماهية الملكة موجودة فى العدم حتى يكون
11
العدم يتألف من ملكات تجتمع؟ وكذلك إن كانت الملكة هى الكثرة فكيف يكون تركيب
12
الملكة من أعدامها؟ فليس يجوز أن تجعل المقابلة بينهما مقابلة العدم والملكة.
13
[10] وإذ لا يجوز هذا فليس يجوز أن يقال: إن المقابلة بينهما هى مقابلة التناقض،
14
لأن ما كان من ذلك فى الألفاظ فهو خارج عن موافقة هذا الاعتبار، وما كان منه فى الأمور
15
العامة فهو من جنس تقابل العدم والملكة، بل هو جنس هذا التقابل. فإن بإزاء الموجبة
16
الثبوت، وبإزاء السالبة العدم، ويعرض فى ذلك من المحال ما يعرض فيما قلنا. فلننظر أنه:
17
هل التقابل بينهما تقابل المضاف؟
18
[11] فنقول: ليس يمكن أن يقال: إن بين الوحدة والكثرة فى ذاتيهما تقابل المضاف،
19
وذلك لأن الكثرة ليس إنما تعقل ماهيتها بالقياس إلى الوحدة حتى تكون إنما هى كثرة لأجل
99
1
أن هناك وحدة، وإن كان إنما هى كثرة بسبب الوحدة. وقد علمت فى كتب المنطق الفرق
2
بين ما لا يكون إلا بشىء وبين ما لا تقال ماهيته إلا بالقياس إلى شىء. بل إنما تحتاج الكثرة
3
إلى أن يفهم لها أنها من الوحدة، لأنها معلولة للوحدة فى ذاتها، ومعنى أنها معلولة غير معنى
4
أنها كثيرة، والإضافة لها إنما هى من حيث هى معلولة، والمعلولية لازمة |130|[ed. Cairo vol. 1] للكثرة،
5
لا نفس الكثرة. ثم لو كانت من المضاف لكان كما تقال ماهيتها بالقياس إلى الوحدة لكان
6
يقال ماهية الوحدة من حيث هى وحدة بالقياس إلى الكثرة على شرط انعكاس المضافين،
7
ولكانا متكافئين فى الوجود من حيث هذه وحدة وتلك كثرة، وليس الأمر كذلك.
8
[12] فإذا قد بان لك جميع هذا، فبالحرى أن تجزم أن لا تقابل بينهما فى ذاتيهما ولكن
9
يلحقهما تقابل وهو: أن الوحدة من حيث هى مكيال تقابل الكثرة من حيث هى مكيل.
10
وليس كون الشىء وحدة، وكونه مكيالا، شيئا واحدا بل بينهما فرق. والوحدة يعرض
11
لها أن تكون مكيالا، كما أنها يعرض لها أن تكون علة. ثم الأشياء يعرض لها ــ بسبب
12
الوحدة التى توجد لها ــ أن تكون مكاييل، ولكن واحد كل شىء ومكياله هو من جنسه.
13
فالواحد فى الأطوال طول، وفى العروض عرض، وفى المجسمات مجسم، وفى الأزمنة
14
زمان، وفى الحركات حركة، وفى الأوزان وزن، وفى الألفاظ لفظ، وفى الحروف حرف.
15
[13] وقد يجتهد أن يجعل الواحد فى كل شىء أضغر مما يمكن ليكون التفاوت
16
فيه أقل ما يكون، فبعض الأشياء يكون واحده مفترضا بالطبع مثل: جوزة وبطيخة،
17
وبعضها يفرض فيه واحد بالوضع. فما زاد على ذلك الواحد أخذ أكثر من الواحد، وما
100
1
نقص منه لم يؤخذ واحدا، بل يكون الواحد هذا المفروض بتمامه، ويجعل هذا الواحد
2
أيضا من أظهر الأشياء فى ذلك الجنس. |131|[ed. Cairo vol. 1] فالواحد مثلا فى الأطوال: شبر، وفى
3
العروض مثلا: شبر فى شبر، وفى المجسمات: شبر فى شبر فى شبر، وفى الحركات:
4
حركة مقدرة معلومة، ولا توجد حركة بهذه الصفة عامة للجميع إلا الحركات المتقدرة
5
بالطبيعة، وخصوصًا التى لا تختلف، بل تمتد متفقة حتى تبقى واحدة فى كل تقدير،
6
وخصوصا التى هى أقل مقدار حركة.
7
[14] فالأقل مقدار حركة هو الأقل زمانا، وهذا هو الحركة الفلكية السريعة جدا
8
المضبوط قدرها، لأن الدور لا يزاد عليه، ولا ينقص المعلوم صغر مقدارها بسرعة
9
العود ليس مما ينتظر تجدده إلى حين، بل فى كل يوم وليلة نتم [*]نتم corrupt for تتم دورة قريبة إلى الموجود
10
والتجديد [*]والتجديد corrupt for والتحديد [according to Bertolacci 2006, 502] وإلى التجزئة أيضا بحركات الساعات. فتكون حركة ساعة واحدة مثلا هى
11
مكيال الحركات، وكذلك زمانها مكيال الأزمنة، وقد يفرض فى الحركات حركة واحدة
12
بحسب المسافات، إلا أن ذلك غير مستعمل وغير واقع موقع الفرض الأول.
13
[15] وأما فى الأثقال فنفرض أيضا ثقل درهم ودينار واحد أيضا. وفى أبعاد
14
الموسيقى [أرخاء] النغمة التى هى ربع طنينى أو ما يجرى مجراها من الأبعاد الصغار،
15
ومن الأصوات الحرف المصوت المقصور، أو الحرف الساكن، أو مقطع مقصور. |132|[ed. Cairo vol. 1]
16
[16] وليس يجب أن يكون كل واحد من هذه الأوضاع واقعا بالضرورة، بل يقع
17
بالفرض. ويمكن أن يفرض الواحد من كل باب ما هو أنقص وأزيد مما فرض، ومع هذا
18
فليس يجب إذا كان فى هذه الأشياء واحد منه مفروض أن يكال به جميع ما هو من ذلك
19
الجنس؛ فإنه يجوز أن يكون الآخر مباينا لكل ما كيل به أولا. فههنا خط مباين لخط،
101
1
وسطح مباين لسطح، وجسم مباين لجسم. وإذا كان الخط والسطح والجسم تُباين جسما
2
وسطحا وخطا، فكذلك الحركة قد تُباين الحركة. وإذا كان كذلك فالزمان والثقل أيضا
3
يباين الزمان والثقل أيضا، ويجوز أن يكون لهذا الذى يباين ذلك مباين غير ذلك، وقد
4
علمت جميع هذا فى صناعة التعاليم.
5
[17] وإذا كان كذلك فستكون إذن الوحدات التى تفرض لكل جنس من هذه
6
كثيرة وتكاد أن لا تتناهى. وإذا كان هناك واحد يصلح لكيل شىء فستكون أشياء تكاد
7
أن لا تناهى لأن تكال به. ولما كان المكيال يعرف به المكيل، عد العلم والحس كالمكاييل
8
للأشياء، فإنها تعلم بهما. فقال بعضهم: إن الإنسان يكيل كل شىء، لأنه بالعلم والحس،
9
وبهما يدرك كل شىء. وبالحرى أن كون[*]كون corrupt for يكون [according to Bertolacci 2006, 502] العلم والحس مكيلين بالمعلوم والمحسوس، وأن
10
يكون ذلك أصلاله[*]أصلاله corrupt for أصلا له، لكنه قد يقع أن يكال المكيال أيضا بالمكيل.
11
[18] فهكذا يجب أن يتصور الحال فى مقابلة الوحدة والكثرة. |133|[ed. Cairo vol. 1]
12
[19] وقد يشكل من حال الأعظم والأصغر أنهما كيف يتقابلان وكيف يقابلان
13
المساواة. فإن المساوى يقابل كل واحد منهما؛ فإنه لا يجوز أن يكون المساوى والأعظم إلا
14
متخالفين، وكذلك المساوى والأصغر، أما الأعظم والأصغر فإنهما إن تقابلا فمن المضاف،
15
فكان هذا أعظم بالقياس إلى ما هو أصغر، فليس المساوى مضايفا لأحدهما، بل لما هو
16
مساو له. ويظن أنه ليس يجب حيث كان أعظم وأصغر أن يكون بينهما مساوٍ موجودٌ.
17
فإن هذا قد علمته فى موضع آخر.
18
[20] فإذا كان الأمر على هذا، فبالحرى أن يكون المساوى ليست مقابلته الأولى
19
للأعظم و الأصغر، بل لغير المساوى، وهو عدمه، مما شأنه أن تكون فيه المساواة.
102
1
وليس عدمه فى النقطة والوحدة واللون والعقل [وأشياء] لا تقدير لها، بل فى أشياء
2
لها تقدير وكمية.
3
[21] فالمساوى إنما يقابل عدمه وهو اللا مساواة، لكن اللا مساواة تلزم هذين أعنى
4
الأعظم والأصغر كالجنس؛ لست أعنى أنه جنس، بل أعنى أنه يلزم كل واحد منهما،
5
فإن واحد منهما هو عظيم، والعظيمية معنى وجودى يلزمه هذا العدم، والآخر صغير،
6
والصغيرية من تلك الحيثية كذلك. |134|[ed. Cairo vol. 1]
7
[الفصل السابع]
8
ز فصل
9
فى أن الكيفيات أعراض
10
[1] فنتكلم الآن فى الكيفيات. أما الكيفيات المحسوسة والجسمانية فلا يقع شك
11
فى وجودها، وقد تكلمنا أيضا فى وجودها فى مواضع أخر، ونقضنا مشاغبات من
12
تمارى فى ذلك. لكنه إنما يقع الشك فى أمرها، أنها هل هى أعراض أو ليست بأعراض.
13
فإن من الناس من يرى أن تلك جواهر تخالط الأجسام وتسرى فيها، فاللون بذاته جوهر،
14
والحرارة كذلك، وكل واحد من هذه الأخر، فهى عنده بهذه المترلة[*]المترلة corrupt for المنزلة. وليس يقنعه أن هذه
15
الأشياء توجد تارة وتعدم تارة، والشىء المشار إليه قائم موجود.
16
[2] فإنهم يقولون: إنه ليس يعدم ذلك، بل يأخذ يفارق قليلا قليلا، مثل الماء الذى
17
يبتل به ثوب، فإنه بعد ساعة لا يوجد هناك ماء، ويكون الثوب موجودا بحاله، ولا
18
يصير الماء بذلك عرضا، بل الماء جوهر له أن يفارق جوهرا آخر لاقاه. فربما فارق مفارقة
103
1
لا يحس فيها بالأجزاء المفارقة منه، لأنها فارقت وهى أصغر مما يدركه الحس مفارقة
2
مفترقة؛ ويقول بعضهم: إنها قد تكمن.
3
[3] فبالحرى أن نبين أن ما يقولونه باطل، فنقول: لا يخلو إن كانت هذه جواهر
4
إما أن تكون جواهر هى أجسام، أو تكون |135|[ed. Cairo vol. 1] جواهر ليس بأجسام. فإن كانت
5
هذه جواهر غير جسمانية، فإما أن تكون بحيث يمكن أن تؤلف منها أجسام، وهذا
6
محال، إذ ما [لايتجزأ] فى أبعاد جسمانية فليس بالممكن أن يؤلف منه جسم؛ وإما
7
أن لا يمكن، إنما يكون وجوده بالمقارنة للأجسام والسريان فيها. فأول ذلك لأنه يكون لهذه
8
الجواهر وضع، وكل جوهر ذى وضع فإنه منقسم، وقد بين ذلك. وثانيا، أنه لا يخلو إما
9
أن يكون كل واحد من هذه الجواهر من شأنه أن يوجد مفارقا للجسم الذى يكون فيه،
10
أو لا يكون؛ فإن لم يكن يوجد مفارقا، وكان وجوده فى الأجسام على أنها موضوعات
11
له، إذ ليست فيه كالأجزاء، ولا هى مفارقته، والجسم الموصوف بها مستكمل الجوهرية
12
بنفسه، فليست إلا أعراضا، وإنما لها اسم الجوهرية فقط. وإن كانت تفارق أجسامها
13
فإما أن تكون مفارقة تنتقل بها من جسم إلى جسم من غير أن يصح لها قوام مجرد، أو
14
تكون لها مفارقة قوام مجرد.
15
[4] فإن كانت إذا لم توجد فى جسم وكانت فيه، فإنما يكون ذلك بأن ينتقل إلى
16
الآخر، فيجب من ذلك أن يكون كل جسم فسد بياضه فقد انتقل بياضه إلى جسم يماسه،
17
أو بقى مجردا إلى أن يحصل فى جسم بعيد، وهو غير مقارن جسما فى مدة قطع المسافة،
18
وليس الأمر كذلك. وأما الكمون فقد فرغنا منه وبينا استحالته، فإنه يجب من ذلك أن يكون
19
كل جسم يسخن جسما فإنه ينقل إليه حرارة من نفسه، فيبرد هذا الذى يسخّن. |136|[ed. Cairo vol. 1]
104
1
[5] ثم هذا النوع من الانتقال لا تبطل عرضيته، إذ كثير من الناس جوز فى
2
الأعراض أنفسها هذا الانتقال، أعنى: الانتقال فى أجزاء الموضوع، والانتقال من موضوع
3
إلى موضوع؛ وإنما كان لا يكون عرضا لو صح قوامه لا فى موضوع. أما القائم فى
4
الموضوع إذا نظر فيه أنه هل يصح له أن ينتقل إلى موضوع آخر من غير أن يجرد عنهما،
5
فهذا الاعتبار ليس يصح إلا بعد القوام فى الموضوع. ثم هذا لا يصح البتة، لأنه يخلو
6
إما أن يكون الذى وجد فى موضوع ما تتعلق ذاته الشخصية بذلك الموضوع الشخصيّ،
7
أو لا تتعلق؛ فإن كان تتعلق ذاته الشخصية بذلك الموضوع الشخصى فمعلوم أنه لا يجوز
8
أن يبقى شخصه إلا فى ذلك الموضوع الشخصى، وإن كان إنما أوجده فى ذلك الموضوع
9
سبب من الأسباب وليس ذلك السبب مقوّما له من حيث هو ذلك الشخص، فقد يمكن
10
أن يزال عنه ذلك السبب وسائر الأسباب حتى لا يحتاج قوامه إلى ذلك الموضوع.
11
وزوال ذلك السبب ليس يكون سبب احتياجه إلى موضوع آخر، لأن السبب فى أن لا
12
يحتاج شىء إلى موضوع آخر، هو عدم السبب فى أن كان يحتاج، وهو فى ذاته ليس
13
يحتاج. فزوال ذلك السبب ليس هو نفس وجود السبب الآخر إلا أن يكون مستحيلا
14
زوال ذلك السبب إلا لوجود هذا السبب الآخر لا غير.
15
[6] فإذا عرضنا هذا السبب زال ذلك السبب، فيكون الشىء قد فارقته الحاجة
16
إلى الموضوع الأول واحتاج إلى الموضوع الآخر لأمرين: أما الأول، فزوال |137|[ed. Cairo vol. 1] السبب
17
الأول؛ وأما الثانى، فوجود السبب الثانى. لكن جملة هذه الأسباب تكون أمورا خارجة
18
عن طباعه ليس يحتاج إليها فى تحقيق ذاته موجودا ذلك اللون مثلا، بل إنما يحتاج
19
إليها فى أن تتخصص بموضوع. فكونه لونا، وكونه هذا اللون بعينه، إن كان يغنيه عن
20
الموضوع، فليس يحوجه إلى أن يجعله محتاجا إلى الموضوع. فإن الغنى بوجوده عن
105
1
الموضوع لا يعرض له ما يحوجه إلى الموضوع إلا بانقلاب عينه. وإن كان لا يغنيه، بل
2
يعلقه بموضوع فيكون ذلك الموضوع متعينا له، لأنه يقتضى أمرا متعينا بعينه. فإن المتعين لا
3
يقتضى أى شىء اتفق مما لا نهاية له بالقوة مما ليس بعضه يخالف الآخر فى حكمه.
4
[7] فإن قيل: فكيف يقتضى الواحد المعين؟ فيقال: يقتضى الذى تعلق به صحة
5
وجوده أوَّلًا فيتعينَّ له بذلك. فهذا اللون من حيث هو هذا اللون إما غنى عن الموضوع،
6
وإما مقتصر على موضوع واحد.
7
[8] وأما انقلاب العين فقد تلزمنا من ذكره عهدة يجب أن نخرج منها. فإن انقلاب
8
العين يعنى به أن يعدم هذا ويوجد ذلك من غير أن يدخل من الأول شىء فى الثانى، فإنه
9
إن كان هكذا فيكون الأول قد عدم والآخر قد حصل، ولا يكون الأول هو الذى انتقل إلى
10
الثانى. بل إنما نعنى بالانقلاب أن الموصوف بالأول صار موصوفا بالثانى، وذلك أنه يبقى
11
من الأول شىء فى الثانى، فيكون |138|[ed. Cairo vol. 1] مركبا من مادة وشىء فيها. فإن كان هذا صفة
12
اللونية مثلا فى مسألتنا فيكون فى اللونية شىء يبطل وشىء يبقى، فيكون هذا الذى بطل
13
هو الذى صار به الشىء لونا، بل هو اللونية وهو الصورة المادية أو العرض وكلامنا فيها.
14
[9] ونرجع فنقول: وأما إن كان يجوز له أن يفارق هذه الجواهر ويقوم مثلا بياضا
15
أو شيئا آخر بذاته، فلا يخلو:
16
[10] إما أن يكون حينئذ إليه إشارة ويكون البياض الذى من شأنه أن يدرك إلا أن
17
يعجز عن إدراكه للقلة الفاحشة، ويكون على الجملة التى تعرف البياض عليها. فإن كان
18
كذلك فيلزم أن يكون خلاء موجودا حتى يكون فيه مشار إليه وليس فى الأجسام، ويلزم
19
أن يكون له وضع ما وتقدير ما، فيكون له فى ذاته مقدار يكون إلا القليل منه محسوسًا،
106
1
فإنا لا نتخيل بياضا لا وضع له ولا مقدار، فضلا عن أن نراه. وإذا كان له مقدار ووضع
2
وزيادة هى هيئة البياضية كان جسما أبيض لا مجرد البياض، فإنا نعنى بالبياض هذه الهيئة
3
الزائدة على المقدار والحجم.
4
[11] وإن كان لا يبقى على الجملة التى كان يعرف البياض عليها، بل قد انتقل
5
عن هذه الصورة وصار شيئا آخر روحانيا. فيكون البياض مثلا له موضوع يعرض له
6
أن تكون فيه البياضية التى على النحو المعروف، ويعرض لع أن يصير مرة أخرى بصورة
7
أخرى روحانية فيكون أولا ما تعرفه بياضا قد فسد وزالت صورته. وأما المفارق العقلى
8
فقد أشرنا ــ فيما سلف ــ إلى أنه لا يجوز أن ينتقل مثل هذا الشىء مرة أخرى ذا وضع
9
ومخالطا للأجسام. |139|[ed. Cairo vol. 1]
10
[12] وأما إن جاعلٌ البياضَ شيئًا فى نفسه ذا مقدار، فيكون له وجودان:
11
وجود أنه بياض، ووجود أنه مقدار. فإن كان مقداره بالعدد غير مقدار الجسم الذى هو
12
فيه بالعدد، فإذا كان فى الأجسام وساريا فيها فيكون قد دخل بُعْدٌ فى بُعْدٌ، وإن كان
13
هو نفس الجسم منحازا فيكون الأمر قد عاد إلى أن الشىء الذى هو البياض جسم وله
14
بياضية. فتكون البياضية موجودة فى ذلك الجسم إلا أنها لا تفارق، ولا يكون البياض
15
مجموع ذلك الجسم والكيفية، بل شىء فى ذلك الجسم؛ إذ حد البياض وماهيته ليس
16
ماهية الطويل العريض العميق، بل تكون ماهية الطويل العريض العميق للحرارة أيضا على
17
هذا الرأى، فيكون البياض مقارنًا لهذا الشىء ناعتًا له. وهذا معنى قولنا: الصفة فى
107
1
الموصوف، وتكون مع ذلك لا تفارقه وليست جزءا من ذلك الشىء الذى هو الطويل
2
العريض، فيكون البياض والحرارة عرضا إلا أنه لازم.
3
[13] فيبقى الكلام فى أن من طبيعته أن يفارق أيضا، فقد تبين أن الكيفيات التى
4
هى المحسوسة أعراض، وهذا مبدأ للطبيعيات. وأما الاستعدادات فأمرها أوضح؛ وأما
5
التى تتعلق بالنفس وذوات الأنفس فقد تبين فى الطبيعايات أنها أعراض تقوم فى أجسام.
6
وذلك حين تكلمنا فى أحوال النقس [*]النقس corrupt for النفس. |140|[ed. Cairo vol. 1]
7
[الفصل الثامن]
8
ح فصل
9
فى العلم وأنه عرض
10
[1] وأما العلم فإن فيه شبهة، وذلك لأن لقائل أن يقول: إن العلم هو المكتسب
11
من صور الموجودات مجردة عن موادها، وهى صور جواهر وأعراض. فإن كانت صور
12
الأعراض أعراضًا، فصور الجواهر كيف تكون أعراضا؟ فإن الجوهر لذاته جوهر فماهيته
13
جوهر لا تكون فى موضوع البتة وماهيته محفوظة سواء نسبت إلى إدراك العقل لها أو
14
نسبت إلى الوجود الخارجى.
15
[2] فنقول: إن ماهية الجوهر جوهر بمعنى أنه الموجود فى الأعيان لا فى موضوع،
16
وهذه الصفة موجود لماهية الجواهر المعقولة، فإنها ماهية شأنها أن تكون موجود فى
17
الأعيان لا فى موضوع، أى أن هذه الماهية هى معقولة عن أمر وجوده فى الأعيان أن
18
يكون لا فى موضوع. وأما وجوده فى العقل بهذه الصفة فليس ذلك فى حده من حيث
108
1
هو جوهر، أى ليس حد الجوهر أنه فى العقل لا فى موضوع، بل حده أنه سواء كان فى
2
العقل أو لم يكن فإن وجوده فى الأعيان ليس فى موضوع.
3
[3] فإن قيل: فالعقل أيضا من الأعيان، قيل: يراد بالعين التى إذا حصل فيها
4
الجوهر صدرت عنه أفاعيله وأحكامه. والحركة كذلك ماهيتها أنها كمال ما بالقوة،
5
وليست فى العقل حركة بهذه الصفة حتى يكون فى العقل كمال |141|[ed. Cairo vol. 1]ما بالقوة من
6
جهة كذا حتى تصير ماهيتها محركة للعقل، لأن معنى كون ماهيتها على هذه الصورة
7
هو أنها ماهية تكون فى الأعيان كمالا لما بالقوة؛ وإذا عقلت فإن هذه الماهية تكون أيضا
8
بهذه الصفة، فإنها فى العقل ماهية تكون فى الأعيان كمال ما بالقوة، فليس يختلف كونها
9
فى الأعيان وكونها فى العقل. فإنه فى كليهما على حكم واحد فإنه فى كليهما ماهية
10
توجد فى الأعيان كمالا لما بالقوة.
11
[4] فلو كنا قلنا: إن الحركة ماهية تكون كمالا لما بالقوة فى الأبدان مثلا لكل شىء
12
توجد فيه، ثم وجدت فى النفس لا كذلك، لكانت الحقيقة تختلف. وهذا كقول القائل:
13
إن حجر المغناطيس حقيقته أنه حجر يجذب الحديد، فإذا وجد مقارنا لجسمية كف
14
الإنسان ولم يجذبه، ووجد مقارنا لجسمية حديد ما فجذبه، فلم يجب أن يقال: إنه
15
مختلف بالحقيقة فى الكف وفى الحديد، بل هو فى كل واحد منهما بصفة واحدة وهو:
16
أنه حجر من شأنه أن يجذب الحديد، فإنه إذا كان فى الكف أيضا كان بهذه الصورة، وإذا
17
كان عند الحديد أيضا كان بتلك الصفة. فكذلك حال ماهيات الأشياء فى العقل، والحركة
18
فى العقل أيضا بهذه الصفة، وليس إذا كانت فى العقل فى موضوع بطل أن تكون فى العقل
ليست ماهية ما فى الأعيان ليست فى موضوع. |142|[ed. Cairo vol. 1]
109
1
[5] فإن قيل، قد قلتم: إن الجوهر هو ما ماهيته لا تكون فى موضوع أصلا، وقد
2
صيرتم ماهية المعلومات فى موضوع. فنقول، قد قلنا: إنه لا يكون فى موضوع فى الأعيان
3
أصلا. فإن قيل: قد جعلتم ماهية الجوهر أنها تارة تكون عرضا وتارة جوهرا، وقد منعتم
4
هذا. فنقول: إنا منعنا أيضا أن تكون ماهية شىء توجد فى الأعيان مرة عرضا ومرة
5
جوهرا حتى تكون فى الأعيان تحتاج إلى موضوع ما وفيها لا تحتاج إلى موضوع البتة، ولم
6
نمنع أن يكون معقول تلك الماهيات يصير عرضا، أى تكون موجودة فى النفس لا كجزء.
7
[6] ولقائل أن يقول: فماهية العقل الفعال والجواهر المفارقة أيضا كذا يكون حالها،
8
حتى يكون المعقول منها عرضا، لكن المعقول منها لا يخالفها لأنها لذاتها معقولة. فنقول:
9
ليس الأمر كذلك، فإن معنى قولنا: إنها لذاتها معقولة هو أنها تعقل ذاتها، وإن لم يعقلها
10
غيرها، وأنها أيضا مجردة عن المادة وعلائقها لذاتها لا بتجريد يحتاج أن يتولاه العقل. وأما
11
إن قلنا: إن هذا المعقول منها يكون من كل وجه هى أو مثلها، أو قلنا: إنه ليس يحتاج فى
12
وجود المعقول منها إلا أن توجد ذاتها فى النفس، فقد أحلنا. فإن ذاتها مفارقة، ولا تصير
13
نفسها صورة لنفس إنسان، ولو صارت لكانت تلك النفس قد حصلت فيها صورة الكل
14
وعلمت كل شىء بالفعل، ولكانت تصير كذلك لنفس واحدة، وتبقى النفوس الأخرى
15
ليس لها الشىء الذى تعقله، إذ قد استبد بها نفس ما. |143|[ed. Cairo vol. 1]
16
[7] والذى يقال: إن شيئا واحدا بالعدد يكون صورة لمواد كثيرة، لا بأن يؤثر
17
فيها، بل بأن يكون هو بعينه منطبعا فى تلك المادة وفى أخرى وأخرى، فهو محال يعلم
110
1
بأدنى تأمل. وقد أشرنا إلى الحال فى ذلك عند كلامنا فى النفس، وسنخرج من بعد إلى
2
خوض فى إبانة ذلك.
3
[8] فإذن تلك الأشياء إنما تحصل فى العقول البشرية معانى ماهياتها لا ذواتها،
4
ويكون حكمها حكم سائر المعقولات من الجواهر إلا فى شىء واحد وهو أن تلك تحتاج
5
إلى تفسيرات [*]تفسيرات corrupt for تقشيرات [according to Bertolacci 2006, 504] حتى يتجرد منها معنى يعقل، وهذا لا يحتاج إلى شىء غير أن يوجد المعنى
6
كما هو فتنطبع به النفس.
7
[9] فهذا الذى قلناه إنما هو نقض حجة المحتج، وليس فيه إثبات ما [نذهب] إليه،
8
فنقول: إن هذه المعقولات سنبين أمرها بعدُ، أن ما كان من الصور الطبيعية والتعليميات
9
فليس يجوز أن يقوم مفارقًا بذاته، بل يجب أن يكون فى عقل أو نفس. وما كان من
10
أشياء مفارقة، فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا، ليس هو علمنا لها، بل يجب أن
11
نتأثر عنها فيكون ما يتأثر عنها هو علمنا بها؛ وكذلك إن كانت صورا مفارقة وتعليميات
12
مفارقة فإنما يكون علمنا بها ما يحصل لنا منها، ولا تكون أنفسها توجد لنا منتقلة إلينا،
13
فقد بينا |144|[ed. Cairo vol. 1] بطلان هذا فى مواضع. بل الموجود منها لنا هى الآثار المحاكية لها لا
14
محالة وهى علمنا. وذلك يكون إما أن يحصل لنا فى أبداننا أو فى نفوسنا. وقد بينا
15
استحالة حصول ذلك فى أبداننا، فيبقى أنها تحصل فى نفوسنا. ولأنها آثار فى النفس، لا
16
ذوات تلك الأشياء، ولا أمثال لتلك الأشياء قائمة لا فى مواد بدنية أو نفسانية، فيكون
17
ما لا موضوع له يتكثر نُوعه بلا سببٍ يتعلق به بوجه؛ فهى أعراض فى النفس. |145|[ed. Cairo vol. 1]
111
1
[الفصل التاسع]
2
ط فصل
3
فى الكيفيات التى فى الكميات وإثباتها
4
[1] هذا الفصل يليق بالطبيعيات، وقد بقى جنس واحد من الكيفيات يحتاج إلى
5
إثبات وجوده وإلى التنبيه على كونه كيفية، وهذه هى الكيفيات التى فى الكميات.
6
[2] أما التى فى العدد كالزوجية والفردية غير ذلك، فقد علم وجود بعضها
7
وأثبت وجود الباقى فى صناعة الحساب. وأما أنها أعراض، فلأنها متعلقة بالعدد،
8
وخواص له، والعدد من الكم، والكم عرض.
9
[3] وأما التى تعرض للمقادير فليس وجودها ببيّن، فإن الدائرة والخط المنحنى
10
والكرة والاسطوانة والمخروط ليس شىء منها ببين الوجود، ولا يمكن للمهندس أن يبرهن
11
على وجودها. [ذلك] لأن سائر الأشياء إنما تبين له بوضع وجود الدائرة، ولأن ذلك
12
المثلث يصح وجوده إن صحت الدائرة، وكذلك المربع، وكذلك سائر الأشكال. |146|[ed. Cairo vol. 1]
13
[4] وأما الكرة، فإنما يصح وجودها على طريقة المهندس إذا أراد دائرة فى دائرة على
14
نحو ما علمت؛ والاسطوانة إذا حركت دائرة حركة يلزم فيها مركزها خطًا مستقيما طرفه
15
مركزها فى أول الوضع لزومًا على الاستقامة. والمخروط إذا حركت مثلثا قائم الزاوية على
16
أحد ضلعى القائمة حافظًا بطرف ذلك الضلع مركز الدائرء [*]الدائرء corrupt for الدائرة ودائرا بالضلع الثانى على محيط
17
الدائرة. ثم الدائرة مما ينكر وجودها من يرى تأليف الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، فيجب أن
18
يبين وجود الدائرة. وأما عرضيتها فتظهر لنا لتعلقها بالمقادير التى هى أعراض.
19
[5] فنقول: أما على مذهب من يركب المقادير من أجزاء لا تتجزأ فقد يمكن أن
20
يثبت عليه أيضا وجود الدائرة من أصوله، ثم ينقص بوجود الدائرة جزءه الذى لا يتجزأ.
112
1
[6] وذلك لأنه إذا فرضت دائرة على النحو المحسوس، وكانت على ما يقولون غير
2
دائرة فى الحقيقة، بل كان المحيط مضرسا. وكذلك إذا فرض فيها جزء على أنه المركز، وإن
3
لم يكن ذلك الجزء مركزا بالحقيقة، فقد يكون عندهم مركزا فى الحس، ويجعل المفروض
4
مركزا فى الحس طرف خط، مؤلف من أجزاء لا تتجزأ، مستقيم، فإن ذلك صحيح
5
الوجود مع فرض ما لا يتجزأ؛ فإن طوبق بطرفه الآخر جزء من الذى عند المحيط، ثم أزيل
6
وضعه، وأخذ الجزء الذى يلى الجزء الذى من المحيط الذى اعتبرناه وطابقنا به الخط أولا
7
فطوبق به رأس الخط المستقيم مطابقة مماسة أو موازاة إلى جهة المركز. فإن طابق المركز
8
فذلك الغرض. |147|[ed. Cairo vol. 1]
9
[7] وإن زاد أو نقص فيمكن أن يتم ذلك بالأجزا [*]بالأجزا Middle Arabic for بالأجزاء حتى لا يكون هناك جزء يزيد،
10
لأنه إن زاد أزيل، وإن نقص تمم وإن نقص بإزالته وزاد بالحاقه، فهو منقسم لا محالة وقد
11
فرض غير منقسم. فإذا جعل كذلك بجزء جزء تمت الدائرة.
12
[8] ثم إن كان فى سطحها تضريس أيضا من أجزاء، فإن كانت موضوعة فى
13
فرج، أدخلت تلك الأجزاء الفرج ليسد بها الخلل من السطح كلها، وإن كانت لا تدخل
14
الفرج فالفرج أقل منها فى القدر فهى إذن منقسمة، إذ الذى يملأ الفرج أقل حجمًا منها،
15
وما هو كذلك، فهو نفسه منقسم وإن لم يمكن فصله. وإن لم تكن موضوعة فى فرج،
16
أزيلت من وجه السطح من غير حاجة إليها.
113
1
[9] فان قال قائل: إنه إذا طوبق بين الجزء المركزى وبين المحيطى مرة، فليس يمكن
2
التطبيق لا بمماسة ولا بموازاة مع المركزى، والذى بلى ذلك الجزء من المحيط. فإنا نقول له:
3
[10] أرأيت لو أعدمت هذه الأجزاء كلها وبقى الذى فى المركز والمحيط، أَهَل كان
4
بينهما استقامة يمكن أن يطبق عليه هذا الخط؟ فإن لم يجوزوا ذلك فقد خرجوا عن البين
5
بنفسه، وأوقعوا أنفسهم فى شغل آخر وهو أنه يمكن أن تفرض مواضع مخصوصة فيها
6
تتم هذه الاستقامة فى الخلاء الذى لهم، حتى يكون بين جزئين فى الخلاء استقامة، وبين
7
جزئين آخرين لا يكون. وهذا شطط ممن يتكلفه ويجوز القول به، فلا ضير، فإنما يبيع
8
عقله بثمن بخس. فإن البديهة أيضا تشهد أن بين كل جزئين تتفق محاذاة لا محالة يملأها
9
الملأ أقصر الملأ، أو أقصر بعد |148|[ed. Cairo vol. 1] فى الملأ.
10
[11] وإن قالوا: إن ذلك يكون، ولكن ما دامت هذه الأجزاء موجودة فلا يكون
11
بينهما هذه المحاذاة، ولا يجوز أن يوازى طرفيها طرفا مستقيم، فهذا أيضا من ذلك. فتكون
12
كأن تلك الأجزاء إن وجدت تغير حكم المحاذاة عن حكمه لو كانت معدومة، وجميع هذا
13
مما لا يشكل على البديهة بطلانه ولا الوهم ــ الذى هو القانون فى الأمور المحسوسة وما
14
يتعلق بها، كما علمت ــ يتصوره. على أن الأجزاء التى لا تتجزأ لا تتألف منها بالحقيقة لا
15
دائرة ولا غير دائرة، وإنما هذا على قانون [القائلين] به.
16
[12] وإذا صحت دائرة، صحت الأشكال الهندسية. فيبطل الجزء ويعلم ذلك من
17
أن كل خط ينقسم بقسمين متساويين وأن قطرًا لا يشارك ضلعا وما أشبه ذلك؛ فإن الخط
18
الفرد الأجزاء لا ينقسم بقسمين متساويين، وكل خط مؤلف من أجزاء لا تتجزأ يشارك كل
19
خط، وهذا خلاف ما يبرهن عليه بعد وضع الدائرة، وكذلك أشياء أخرى غير هذا.
114
1
[13] وأما إثبات الدائرة على أصل المذهب الحق فيجب أن نتكلم فيه، وأما
2
الاستقامة وجوب محاذاة بين طرفى خط إذا لزمه المتحرك لم يكن حايدا، وإن [فارقه]
3
كان حايدا عادلا، فذلك أمر لا يمكن دفعه. |149|[ed. Cairo vol. 1]
4
[14] فنقول: قد تبين فى الطبيعيات من وجه وجود الدائرة، وذلك لأنه تبين لنا أن
5
جسما [بسيطا]، وتبين أن كل جسم بسيط فله شكل طبيعى، وتبين أن شكله الطبيعى
6
هو الذى لا يختلف البتة فى أجزائه، ولا شىء من الأشكال الغير المستديرة كذلك. فقد
7
صح وجود الكرة وقطعها بالمستقيم هو الدائرة فقد صح وجود الدائرة.
8
[15] وأيضا يمكننا أن نصحح ذلك فنقول: من البين أنه إذا كان خط أو سطح على
9
وضع ما فليس من المستحيل أن يفرض لسطح آخر أو خط آخر أن يكون وضعه بحيث
10
يلاقيه من أحد طرفيه على زاوية. ومن البيّن أنه يمكننا أن ننقل هذا الجسم أو هذا الخط
11
نقلًا كيف شئنا إلى أن يصير ملاقيًا لذلك الآخر أو موضوعا فى موضعه، كأنه يحاذيه
12
بجميع امتداده ملاقيا له، أو موضوعا فى موضعه أو موازٍ [*]موازٍ corrupt for موازيًا. ويمكن لجسم واحد بعينه
13
أن يوضع على وضع ثم يوضع على وضع آخر يقاطعه والكلام فى الجسمين والجسم الواحد
14
واحد. فإن كانت الاستقامة ولم تكن استدارة لم يمكن هذا البتة، لأنه إن كانت الحركة إلى
15
الإنطباق على الاستقامة ذاهبة فى الطول ثم راجعة أى الرجوعات كانت، أو ذاهبة فى
16
السمك راجعة كيف كانت، أو ذاهبة عرضا من الجهتين أو كيف فرضت، فإنه إذا كان
17
يحفظ النقطة التى تفرض على واسطة السطح أو الخط فى تحركها خطا مستقيما، فإنه لا
18
يلقى البتة ذلك الجسم، بل يقاطعه كيف كان.
115
1
[16] وأنت يمكنك أن تفرض |150|[ed. Cairo vol. 1] كل واحد من هذه الأقسام بالفعل وتعتبره، بل
2
يجب آخر الأمر أن تتفق حركته على صفة أذكرها. إما أن يكوت أحد الطرفين فيها من الخط
3
أوالسطح أو الجسم لازمًا موضعه، والآخر ينتقل، وذلك على الدور؛ أو كلاهما ينتقلان،
4
ولكن على صفة أن يكون أحدهما أبطأ والآخر أسرع؛ فيكون الطرفان أو المتحرك وحده
5
على كل حال يقع قوس دائرة. وإذا صح وجود قوس دائرة صح أن يضعف إلى التمام،
6
وهذا على الأصول الصحيحة. وأما إن قال أحد بالتفكيك، فالطريقة الأولى تناقضه.
7
[17] وأيضا لنفرض جسمًا ثقيلًا ونجعل أحد طرفيه أثقل من الآخر، ونجعله قائما
8
على سطح مسطح مماسا له بطرفه الأخف حتى يقوم قائما عليه بحيلة، وأنت تعلم أن
9
قيامه إذا عدل ميله إلى الجهات مما يستمر، وأنه إذا أميل إلى جهة وزال الداعم حتى سقط
10
فتحدث دائرة لا محالة أو منحنٍ.
11
[18] أما كيف تكون، فلنفرض نقطة فى الرأس المماس للسطح، وهى أيضا تلقى
12
نقطة من السطح، فحينئذ لا يخلو إما أن تثبت النقطة فى موضعها، فتكون كل نقطة
13
نفرضها فى رأس ذلك الجسم قد فعلت دائرة؛ وأما أن يكون ــ مع حركة هذا الطرف
14
إلى أسفل ــ يتحرك الطرف الآخر إلى فوق، فيكون قد فعل كل واحد من الطرفين دائرة،
15
ومركزها النقطة المتحددة بين الجزء الصاعد والجزء الهابط، وإما أن تتحرك النقطة منجرة
16
على طول السطح، فيفعل الطرف الآخر |151|[ed. Cairo vol. 1]قطعا أو خطا أو منحنيا.
17
[19] ولأن الميل إلى المركز إنما هو على المحاذاة، فمحال أن تنجز النقطة على
18
السطح. لأن تلك الحركة إما أن تكون بالقسر أو بالطبع، وليست بالطبع وليست بالقسر،
19
لأن ذلك القسر لا يتصور إلا عن الأجزاء التى هى أثقل، وتلك ليست تدفعها إلى تلك
116
1
الجهة، بل إن دفعتها على حفظ الاتصال دفعتها على خلاف حركتها ونقلتها ليمكن أن تنزل
2
هى، كأن العالية منها إذ هى أثقل تطلب حركة أسرع، والمتوسطة أبطًا[*]أبطًا corrupt for أبطأ. وهناك اتصال
3
يمنع ميلًا من أن ينعطف فيضطر العالى إلى أن يشيل السافل حتى ينحدر، فيكون حينئذ
4
الجسم منقسما إلى جزءين: جزء يميل إلى العلو قسرا، وجزء يميل إلى السفل طبعا،
5
وبينهما حد هو مركز للحركتين، وقد خرج منه خط مستقيم ما فيفعل الدائرة.
6
[20] فبين أنه إن لزم عن انحدار الجسم زوال فهو ألى فوق، وإن لم يزل عنه
7
فموجود الدائرة أصح.
8
[21] فإذا ثبتت الدائرة ثبت المنحنى، لأنه إذا ثبتت الدائرة ثبتت المثلثات والقائم
9
الزاوية أيضا، وثبت جواز دور أحد ضلعى القائمة على الزاوية فصح مخروط، فإن فصل
10
مخروط بسطح محارف صح قطع، فصح منحن. |152|[ed. Cairo vol. 1]
11
[الفصل العاشر]
12
ى فصل
13
فى المضاف
14
[1] وأما القول فى المضاف، وبيان أنه كيف يجب أن تتحقق ماهية المضاف
15
والإضافة وحدهما، فالذى قدمناه فى المنطق كاف لمن فهمه. وأما أنه إذا فرض للإضافة
16
وجود كان عرضًا، فلذلك أمر لا شك فيه، إذ كان أمرًا لا يعقل بذاته، إنما يعقل دائما لشىء
17
إلى شىء؛ فإنه لا إضافة إلا وهى عارضة.
117
1
[2] أول عروضها للجوهر مثل: الأب والابن، أو للكم. فمنه ما هو مختلف فى
2
الطرفين، ومنه ما هو متفق [فالمختلف] مثل: الضعف والنصف، فالمختلق مثل:
3
المساوى والمساوى والموازى والموازى والمطابق والمطابق والمماس والمماس.
4
[3] ومن المختلف ما اختلافه محدود ومحقق كالنصف والضعف، ومنه ما هو
5
غير محقق إلا أنه مبنى على محقق كالكثير الأضعاف والكل والجزء، ومنه ما ليس بمحقق
6
بوجه مثل الزائد والناقص والبعض والجملة. وكذلك إذا وقع مضاف فى مضاف كالأزيد
7
والأنقص؛ فإن الأزيد إنما هو زائد بالقياس إلى زائد أيضا مقيس إلى ناقص. |153|[ed. Cairo vol. 1]
8
[4] ومن المضاف ما هو فى الكيف. فمنه متفق كالمشابهة، ومنه مختلف كالسريع
9
والبطىء فى الحركة، والثقيل والخفيف فى الأوزان، والحاد والثقيل فى الأصوات وكذلك
10
قد تقع فيها كلها إضافة فى إضافة، وفى الإين كالأعلى والأسفل، وفى المتى كالمتقدم
11
والمتأخر، وعلى هذه الصفات.
12
[5] وتكاد تكون المضافات منحصرة فى أقسام المعادلة، والتى بازيادة والنقصان،
13
والتى بالفعل والإنفعال ومصدرها من القوة، والتى بالمحاكاة. فإما التى بالزيادة فإما من الكم
14
كما تعلم، وإما فى القوة مثل الغالب والقاهر والمانع وغير ذلك. والتى بالفعل والانفعال
15
كالأب والابن والقاطع والمنقطع وما أشبه ذلك، والتى بالمحاكاة فكالعلم والمعلوم والحس
16
والمحسوس؛ فإن بينهما محاكاة، فإن العلم يحاكى هيئة المعلوم، والحس يحاكى هيئة
17
المحسوس، على أن هذا لا يضبط تقديره وتحديده.
18
[6] لكن المضافات قد تنحصر من جهة، فقد يكون المضافان شيئين لا يحتاجان
19
إلى شىء آخر من الأشياء التى لها استقرار فى المضاف حتى تعرض لأجله لهما إضافة،
118
1
مثل المتيامن والمتياسر؛ فليس فى المتيامن كيفية أو أمر من الأمور مستقر صار به مضافا
2
بالتيامن إلا نفس التيامن. وربما احتيج إلى أن يكون فى كل واحد من الأمرين شىء حتى
3
يصير به منقاسا إلى الآخر، مثل العاشق |154|[ed. Cairo vol. 1] والمعشوق. فإن فى العاشق هيئة
4
إدراكيه [*]إدراكيه corrupt for إدراكية [according to Bertolacci 2006, 506] هى مبدأ الإضافة، وفى المعشوق هيئة مدركة هى التى جعلته معشوقا لعاشقه.
5
وربما كان هذا الشىء فى إحدى الجهتين دون الأخرى مثل العالم والمعلوم. فإن العالم قد
6
حصل فى ذاته كيفية هى العلم، صار بها مضافًا إلى الآخر. والمعلوم لم يحصل فى ذاته
7
شىء آخر، إنما صار مضافًا لأنه قد حصل فى ذلك الآخر شىء هو العلم.
8
[7] والذى بقى لنا ههنا من أمر المضاف أن نعرف هل الإضافة معنّى واحدٌ بالعدد
9
وبالموضوع، موجود بين شيئين وله اعتباران كما ظنه بعض الناس، بل أكثرهم؟ أو لكل
10
واحد من المضافين خاصية فى إضافته؟ فنقول:
11
[8] إن كل واحد من المضافين فإن له معنى فى نفسه بالقياس إلى الآخر، ليس هو
12
المعنى الذى للآخر فى نفسه بالقياس إليه. وهذا بيّن فى الأمور المختلفة الإضافة كالأب.
13
فإن إضافته للأبوة ــ وهى وصف وجوده ــ فى الأب وحده، ولكن إنما هو للأب بالقياس
14
إلى شىء آخر فى الأب، وليس كونه بالقياس إلى الآخر هو كونه فى الآخر، فإن الأبوة
15
ليست فى الابن وإلا لكانت وصفا له يشتق له منه الإسم [*]الإسم corrupt for الاسم، بل الأبوة فى الأب. وكذلك
16
أيضا حال الابن بالقياس إلى الأب. فليس ههنا شىء واحد البتة هو فى كليهما، فليس
17
ههنا إلا أبوة أو بنوة. وأما حالة موضوعة للأبوة والبنوة فلسنا نعرفها ولا لها إسم. |155|[ed. Cairo vol. 1]
18
[9] فإن كان ذلك كون كل واحد منهما بحال بالقياس إلى الآخر، فهذا ككون
19
كل واحد من الققنس والثلج أبيض، فإنه ليس يجب أن يكون شيئا واحدا، وليس كونه
119
1
بالقياس إلى الآخر يجعله واحدا. لأن ما لكل واحد بالقياس إلى الآخر فهو لذلك الواحد
2
لا للآخر، لكنه بالقياس إلى الآخر.
3
[10] فإذا فهمت ذلك فيما مثلناه لك، فاعرف الحال فى سائر المضافات التى لا
4
اختلاف فيها. وإنما يقع أكثر الإشكال فى هذا الموضع، فإنه لما كان لأحد الأخوين حالة
5
بالقياس إلى الآخر، وكان للآخر أيضا حالة بالقياس إلى الأول، وكانت الحالتان من نوع
6
واحد حُسِبَتا شخص واحدا، وليس كذلك. فإن الأول أخوة الثانى أى له وصف أنه
7
أخو الثانى، ذلك الوصف له ولكن بالقياس إلى الثانى. وليس ذلك وصف الثانى بالعدد،
8
بل بالنوع، كما لو كان الثانى أبيض والأول أبيض، بل الثانى أيضا أنه أخو هذا الأول لأن له
9
[حالة] فى ذاته مقولة بالقياس إلى الأول.
10
[11] وكذلك المماسة فى المتماسين، فإن كل واحد منهما مماس لصاحبه بأن له
11
مماسته التى لا تكون إلا بالقياس إلى الآخر إن كان الآخر مثله. فلا تظنن البتة أن عرضا
12
واحدا بالعدد يكون فى محلين حتى يحتاج أن تعتذر من ذلك فى جعلك العرض اسما
13
مشكّكا كما فعله ضعفاء التمييز. |156|[ed. Cairo vol. 1]
14
[12] لكن الأشد اهتمامًا من هذا، معرفتنا هل الإضافة فى نفسها موجودة فى
15
الأعيان أو أمر إنما يتصور فى العقل، ويكون ككثير من الأحوال التى تلزم الأشياء إذا
16
عقلت بعد أن تحصل فى العقل؛ فإن الأشياء إذا عقلت تحدث لها فى العقل أمور لم يكن
17
لها من خارج، فتصير كلية وجزئية وذاتية وعرضية وتكون جنس وفصل وتكون محمول
18
وموضوع وأشياء من هذا القبيل.
120
1
[13] فقوم ذهبوا إلى أن حقيقة الإضافات إنما تحدث أيضا فى النفس إذا عقلت
2
الأشياء. وقوم قالوا: بل بالإضافة شىء موجود فى الأعيان، واحتجوا وقالوا نحن نعلم
3
أن هذا فى الوجود أب ذلك، وأن ذلك فى الوجود ابن هذا، عقل أو لم يعقل، ونحن نعلم
4
أن النبات يطلب الغذاء، وأن الطلب مع إضافة ما، وليس للنبات عقل بوجه من الوجوه ولا
5
إدراك؛ ونحن نعلم أن السماء فى نفسها فوق الأرض، والأرض تحتها، أدركت أو لم تدرك،
6
وليست الإضافة إلا أمثال هذه الأشياء التى أومأنا إليها وهى [تكون] للأشياء وإن لم تدرك.
7
[14] وقالت الفرقة الثانية: إنه لو كانت الإضافة موجودة فى الأشياء لوجب من
8
ذلك أن لا تنتهى الأضافاب؛ فإنه كان يكون بين الأب والابن إضافة، وكانت تلك الإضافة
9
موجودة لهما أو لأحدهما أو لكل واحد منهما. فمن حيث الأبوة للأب وهى عارضة له،
10
والأب معروض لها، فهى مضافة، وكذلك البنوة. فههنا إذن علاقة للأبوة مع الأب والبنوة
11
مع الابن خارجة عن العلاقة التى بين الأب والابن. فيجب أن تكون للإضافة إضافة أخرى
12
وأن تذهب إلى غير النهاية، وأن تكون |157|[ed. Cairo vol. 1] أيضا من الإضافات ما هى علاقة بين
13
موجود ومعدوم؛ كما نحن متقدمون بالقياس إلى القرون التى تخلفنا وعالمون بالقيامة.
14
[15] والذى تنحل به الشبهة من الطرفين جميعا أن نرجع إلى حد المضاف المطلق
15
فنقول: إن المضاف هو الذى ماهيته إنما تقال بالقياس إلى غيره، فكل شىء فى الأعيان
16
يكون بحيث ماهيته إنما تقال بالقياس إلى غيره فذلك الشىء من المضاف. لكن فى الأعيان
17
أشياء كثيرة بهذه الصفة، فالمضاف فى الأعيان موجود. فإن كان للمضاف ماهية أخرى
18
فينبغى أن يجرد ماله من المعنى المعقول بالقياس إلى غيره وغيره، إنما هو معقول بالقياس
121
1
إلى غيره بسبب هذا المعنى، وهذا المعنى ليس معقولا بالقياس إلى غيره بسبب شىء غير
2
نفسه، بل هو مضاف لذاته على ما علمت. فليس هناك ذات وشىء هو الإضافة، بل
3
هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فتنتهى من هذا الطريق الإضافات.
4
[16] وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته فى هذا الموضوع، فهو من حيث إنه[*]إنه corrupt for انه
5
فى هذا الموضوع ماهيته معقولة بالقياس إلى هذا الموضوع، وله وجود آخر مثلا وهو:
6
وجود الأبوة، وذلك الوجود أيضا مضاف. ولكن ليس ذلك هذا، فليكن هذا عارضا من
7
المضاف لزم المضاف، وكل واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة
8
أخرى. فالكون محمولًا مضاف |158|[ed. Cairo vol. 1] لذاته، والكون أبوة صارت مضافة لذاته. فإن
9
نفس هذا الكون مضاف بذاته ليس يحتاج إلى إضافة أخرى يصير بها مضافا، بل هو
10
لذاته ماهية معقولة بالقياس إلى الموضوع، أى هو بحيث إذا عقلت ماهيته كانت محتاجة
11
إلى أن يحضر فى الذهن شىء آخر يعقل هذا بالقياس إليه.
12
[17] بل إذا أخذ هذا مضافا فى الأعيان فهو موجود مع شىء آخر لذاته لا لمعيّة
13
أخرى تتبعه، بل نفسه نفس المع أو المعية المخصصة بنوع تلك الإضافة. فإذا عقل، احتيج
14
إلى أن يعقل مع احضار شىء آخر، كما كانت ماهية الأبوة من حيث هى أبوة، فذاتها
15
مضافة بذاتها لا بإضافة أخرى رابطة، وللعقل أن يخترع أمرا بينها كأنه معية خارجة منهما
16
لا يضطر إليه نفس التصور، بل اعتبار آخر من الاعتبارات اللاحقة التى يفعلها العقل.
17
فإن العقل قد يقرن أشياء بأشياء لأنواع من الاعتبارات لا للضرورة؛ فأما فى نفسها فهى
18
إضافة، لا بإضافة، لأنها ماهية لذاتها تعقل بالقياس إلى الغير.
122
1
[18] وههنا إضافات كثيرة تلحق بعض الذوات لذاتها لا لإضافة أخرى عارضة،
2
بل مثل ما يجرى عليه الأمر من لحوق هذه الإضافة للإضافة الأبوية. وذلك |159|[ed. Cairo vol. 1]مثل
3
لحوق الإضافة لهيئة العلم فإنها لا تكون لاحقة بإضافة أخرى فى نفس الأمور، بل تلحقها
4
لذاتها، وإن كان العقل ربما أخترع هناك إضافة أخرى.
5
[19] وإذ قد عرفت هذا فقد عرفت أن المضاف فى الوجود موجود بمعنى أن
6
له هذا الحد، وهذا الحد لا يوجب أن يكون المضاف فى الوجود إلا عرضًا إذا عقل كان
7
بالصفة المذكورة، ولا يوجب أن يكون أمرًا قائم الذات واحدا واصلا بين الشيئين.
8
[20] وأما القول بالقياس فإنما يحدث فى العقل، فيكون ذلك هو بالإضافة العقلية
9
والإضافة الوجودية ما بيناه، وهو بحيث إذا عقل كان معقول الماهية بالقياس؛ وأما
10
كونه فى العقل فإن يكون عُقِلَ بالقياس إلى غيره، فله فى الوجود حكم، وله فى العقل
11
حكم، من حيث هو فى العقل لا من حيث الإضافة. وبحوز [*]وبحوز corrupt for ويجوز فى العقل إضافات مخترعة
12
إنما يفعلها العقل بسبب الخاصية التى للعقل منها.
13
[21] فالمضاف إذن موجود فى الأعيان وبان أن وجوده لا يوجب أن يكون هناك
14
إضافة إلى إضافة بغير نهاية. وليس يلزم من هذا أن يكون كل ما يعقل مضافا يكون له
15
فى الوجود إضافة.
16
[22] وأما المتقدم المتأخر فى الزمان، وأحدهما معدوم وما أشبه ذلك، فإن التقدم
17
والتأخر متضايفان بين الوجود إذا عُقِلَ، وبين المعقول الذى ليس مأخوذا عن الوجود
18
الخاص؛ فاعلمه. |160|[ed. Cairo vol. 1]
123
1
[23] فإن الشىء فى نفسه ليس بمتقدم إلا بشىء موجود معه؛ وهذا النوع من
2
المتقدم والمتأخر موجود للطرفين معًا فى الذهن؛ فإنه إذا أحضرت فى الذهن صورة المتقدم
3
وصورة المتأخر عقلت فى النفس هذه المقايسة واقعة بين موجودين فيه، إذ كانت هذه المقايسة
4
بين موجودين فى العقل. وأما قبل ذلك فلا يكون الشىء فى نفسه متقدما، فكيف يتقدم
5
على لا شىء موجود؟ فما كان من المضافات على هذه السبل فإنما تضايفها فى العقل
6
وحده؛ وليس فى الوجود لها معنى قائم من حيث هذا التقدم والتاخر، بل هذا التقدم
7
والتأخر بالحقيقة معنى من المعانى العقلية ومن المناسبات التى يفرضها العقل والاعتبارات
8
التى تحصل للأشياء إذا قايس بينها العقل وأشار إليها.
124
1
المقالة الرابعة
2
وفيها ثلاثة فصول
3
[الفصل الأول]
4
ا فصل
5
فى المتقدم والمتأخر، وفى الحدوث
6
[1] |163|[ed. Cairo vol. 1]لما تكلمنا عن الأمور التى تقع من الوجود والوحدة موقع الأنواع،
7
فبالحرى أن نتكلم فى الأشياء التى تقع منهما موقع الخواص والعوارض اللازمة؛ ونبدأ أولا
8
بالتى تكون للوجود ومنها بالتقدم والتأخر.
9
[2] فنقول: إن التقدم والتأخر وإن كان مقولًا على وجوه كثيرة فإنها تكاد أن تجتمع
10
على سبيل التشكيك فى شىء، وهو أن يكون للمتقدم، من حيث هو متقدم، شىء ليس
11
للمتأخر، ويكون لا شىء للمتأخر إلا وهو موجود للمتقدم. والمشهور عند الجمهور هو
12
المتقدم فى المكان والزمان. وكان التقدم والقبل فى أشياء لها ترتيب؛ فما هو فى المكان
13
فهو الذى أقرب من ابتداء محدود، فيكون له أن يلى ذلك المبدأ حيث ليس يلى ما هو
125
1
بعده، والذى بعده يلى ذلك المبدأ وقد وَليَه هو. وفى الزمان كذلك أيضا بالنسبة إلى الآن
2
الحاضر أو أن يفرض مبدأ وإن كان مبدأ مختلفا فى الماضى والمستقبل كما تعلم.
3
[3] ثم نقل اسم القبل والبعد من ذلك إلى كل ما هو أقرب من مبدأ محدود. وقد
4
يكون هذا التقدم المرتبى فى أمور بالطبع، كما أن الجسم قبل الحيوان |164|[ed. Cairo vol. 1] بالقياس
5
إلى الجواهر ووضع الجوهر مبدأ، ثم إن جعل المبدأ الشخص اختلف، وكذلك الأقرب من
6
المحرك الأول، كالصبى يكون قبل الرجل. وقد يكون فى أمور لا من الطبع، بل إما بصناعة
7
كنغم الموسيقى، فإنك إن أخذت من الحدة كان المتقدم غير الذى يكون إذا أخذت من
8
الثقل؛ وإما ببحث واتفاق كيف كان.
9
[4] ثم نقل إلى أشياء أخرى فجعل الفائق والفاضل والسابق أيضًا ولو فى غير
10
الفضل متقدما، فجعل نفس المعنى كالمبدأ المحدود. فما كان له منه ما ليس للاخر، وأما
11
الاخر فليس له إلا ما لذلك الأول، فإنه جعل متقدّما. فإن السابق فى باب ما له ما ليس
12
للثانى، وما للثانى منه فهو للسابق وزيادة. ومن هذا القبيل ما جعلوا المخدوم والرئيس
13
قبل؛ فإن الإختيار يقع للرئيس وليس للمرؤوس، وإنما يقع للمرؤوس حين وقع للرئيس
14
فيتحرك باختيار الرئيس.
15
[5] ثم نقلوا ذلك إلى ما يكون هذا الاعتبار له بالقياس إلى الوجود، فجعلوا الشىء
16
الذى يكون له الوجود أولا وإن لم يكن للثانى والثانى لا يكون له إلا وقد كان للأول [وجود
17
متقدم] على الآخر مثل الواحد. فإنه ليس من شرط الوجود للواحد أن تكون الكثرة
18
موجودة، ومن شرط الوجود للكثرة أن يكون الواحد موجودا. وليس فى هذا أن الواحد
19
يفيد الوجود للكثرة أو لا يفيد، بل إنه يحتاج إليه حتى يفاد للكثرة وجود بالتركيب منه.
126
1
[6] ثم نقل بعد ذلك إلى حصول الوجود من جهة أخرى. فإنه إذا كان شيئان
2
وليس وجود أحدهما من الآخر، بل وجوده له من نفسه أو من شىء ثالث، |165|[ed. Cairo vol. 1]لكن
3
وجود الثانى من هذا الأول، فله من الأول وجوب الوجود الذى ليس له لذاته من ذاته، بل
4
له من ذاته الإمكان على تجويز من أن يكون ذلك الأول مهما وجد لزم وجوده أن يكون علة
5
لوجوب وجود هذا الثانى، فإن الأول يكون متقدمًا بالوجود لهذا الثانى.
6
[7] ولذلك لا يستنكر العقل البتة أن نقول: لما حرك زيد يده تحرك المفتاح، أو نقول:
7
حرك زيد يده ثم تحرك المفتاح. ويستنكر أن نقول: لما تحرك المفتاح حرك زيد يده، وإن
8
كان يقول: لما تحرك المفتاح علمنا أنه قد حرك زيد يده. فالعقل مع وجود الحركتين معا فى
9
الزمان يفرض لأحدهما تقدمًا والآخر تأخرًا إذ كانت الحركة الأولى ليس سبب وجودها
10
الحركة الثانية، والحركة الثانية سبب وجودها الحركة الأولى.
11
[8] ولا يبعد أن يكون الشىء مهما وجد وجب ضرورةً أن يكون علة لشىء.
12
وبالحقيقة فإن الشىء لا يجوز أن يكون بحيث يصح أن يكون علةً للشىء إلا ويكون معه
13
الشىء. فإن كان من شرط كونه علة نفس ذاته، فما دام ذاته موجودًا يكون علة وسببا
14
لوجود الثانى؛ وإن لم يكن شرط كونه علة نفس ذاته، فذاته بذاته ممكن أن يكون عنه
15
الشىء وممكن أن لا يكون وليس أحد الطرفين أولى من الآخر.
16
[9] وكذلك المتكون هو كذلك ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون. فلا من حيث
17
هو ممكن أن يكون هو بموجود، ولا من حيث ذلك ممكن أن يكوَنّه فذلك معطٍ للوجود.
127
1
وذلك لأن كون الشىء عن الممكن أن يكونه ليس لذات أنه ممكن أن يكوّنه، |166|[ed. Cairo vol. 1]فنفس
2
كونه ممكنا ليس كافيًا فى أن يكون الشىء عنه. فإن كان نفس كونه ممكنا أن يكونه، وإن
3
لم يكن كافيا، فقد يكون معه الشىء موجودًا مرة، ومرة لا يكون؛ ونسبته إلى الذى يكون
4
والذى لا يكون، فى الحالتين، نسبة واحدة. وليس فى الحالة التى تتميز فيها أن يكون
5
من أن لا يكون تميّز أمرٍ بسببه يوجد المعلول مع إمكان كونه عن العلة تميزًا يخالف به
6
حال لا وجود المعلول عن العلة مع إمكان كونه عن العلة. فتكون نسبة كونه عن العلة إلى
7
وجود الشىء عنه ولا وجود عنه واحدة، وما نسبته إلى وجود الشىء عنه ونسبته إلى
8
لا وجوده عنه واحدة. فليس كونه علة أولى من لا كونه علة؛ بل العقل الصحيح يوجب
9
أن يكون هناك حال يتميز بها وجوده عنه عن لا وجوده.
10
[10] فإن كانت تلك الحال أيضا توجب هذا التمييز، فهذه الحال إذا حصلت
11
للعلة ووجدت، تكون جملة الذات وما اقترن إليها هو العلة؛ وقبل ذلك فإن الذات كانت
12
موضوع العلية وكان الشىء الذى يصح أن يصير علة ولم يكن ذلك الوجود وجود العلة،
13
بل وجودًا إذا انضاف إليه وجود آخر كان مجموعهما العلة، وكان حينئذ يجب عنه
14
المعلول سواء كان ذلك الشىء إرادة أو شهوة أو غضبا أو طبعا حادثا أو غير ذلك، أو
15
أمرا خارجًا منتظرا لوجود العلة. فإنه إذا صار بحيث يصلح أن يصدر عنه المعلول من
16
غير نقصان شرط باق وجب وجود المعلول. |167|[ed. Cairo vol. 1]
17
[11] فإذن وجود كل معلول واجب مع وجود علته، ووجود علته واجب عنه
18
وجود المعلول. وهما معًا فى الزمان أو الدهر أو غير ذلك، ولكن ليسا معًا فى القياس
19
إلى حصول الوجود. وذلك لأن وجود ذلك لك يحصل من وجود هذا، فذلك له حصول
128
1
وجود ليس من حصول وجود هذا، ولهذا حصول وجود هو من حصول وجود ذلك،
2
فذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود.
3
[12] ولقائل أن يقول: إنه إذا كان كل واحد منهما إذا وجد وجد الآخر، وإذا
4
ارتفع ارتفع الآخر، فليس أحدهما علة والآخر معلولا، إذ ليس أحدهما أولى أن يكون
5
علة فى الوجود دون الآخر.
6
[13] ونحن نجيب عن ذلك دون أن ننظر فيما يتضمنه مفهوم هذه القضية، وذلك
7
لأنه ليس إذا وجد كل واحد منهما فقد وجد الآخر بلا تفصيل واختلاف. وذلك لأن معنى
8
«إذا» لا يخلو إما أن يعنى به أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه فى الوجود
9
نفسه أن يحصل الآخر، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه فى الوجود
10
أن يكون قد حصل وجود الآخر، أو أن وجود كل منهما إذا حصل فى العقل يجب عنه
11
أن يحصل الآخر فى العقل، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه فى العقل
12
أن يكون قد حصل الآخر فى الوجود أو حصل فى العقل. فإن لفظة «إذا» فى مثل هذه
13
المواضع مشتركة مغلطة. |168|[ed. Cairo vol. 1]
14
[14] فنقول: إن الأول كاذب غير مسلم، فإن أحدهما هو الذى إذا حصل يجب
15
عنه حصول الآخر بعد إمكانه وهو العلة. وأما المعلول فليس حصوله يجب عنه حصول
16
العلة، بل العلة تكون قد حصلت حتى حصل المعلول.
17
[15] وأما القسم الثانى فلا يصدق فى جانب العلة، فإنه ليس إذا وجدت العلة
18
وجب فى الوجود إن كان المعلول قد حصل من تلقاء نفسه أو بغير العلة، وذلك لأنه إن
19
كان قد حصل فلم يجب فى الوجود من حصول العلة إذا وجدت العلة وكانت تلك قد
129
1
حصلت مستغنية الوجود، إلا أن لا يعنى «بحصلت» ما مضى، ولكن تغنى المقارنة.
2
ولا تصدق من جانب المعلول من وجهين: وذلك لأن العلة وإن كانت حاصلة الذات فليس
3
ذلك واجب من حصول المعلول. والوجه الثانى أن الشىء الذى قد حصل يستحيل أن
4
يجب وجوده بحصول شىء يفرض حاصلًا إلا أن لا يعنى بلفظ «حصل» مفهومه.
5
[16] وأما القسمان الآخران فالأول منهما صحيح، فإنه يجوز أن يقال: إذا وجدت
6
العلة فى العقل وجب عند العقل أن يحصل المعلول الذى تلك العلة علته بالذات فى العقل؛
7
وأيضا إذا وجد المعلول فى العقل وجب أن يحصل أيضا وجود العلة فى العقل.
8
[17] وأما الثانى منهما وهو القسم الرابع فيصدق منه قولك: إنه إذا وجد المعلول
9
شهد العقل بأن العلة قد حصل لها وجود لا محالة مفروغ عنه حتى يحصل |169|[ed. Cairo vol. 1]
10
المعلول، وربما كانت فى العقل بعد المعلول لا فى الزمان فقط. ولا يلزم أن يصدق القسم
11
الآخر من هذين القسمين الداخلين فى الرابع لما قد عرفت.
12
[18] وكذلك فى جانب الرفع، فإنه إذا رفعنا العلة رفعنا المعلول بالحقيقة، وإذا
13
رفعنا المعلول لم نرفع العلة، بل عرفنا أن العلة تكون قد ارتفعت فى ذاتها أولا حتى أمكن
14
رفع المعلول. فإنا لما فرضنا المعلول مرفوعا فقد فرضنا ما لا بد من فرضه معه بالقوة، وهو
15
أنه كان ممكنا رفعه. وإذا كان ممكنًا رفعه فإنما أمكن بأن رفع العلة أولا، فرفع العلة وإثباته
16
سبب رفع المعلول وإثباته، ورفع المعلول دليل رفع ذلك، وإثباته دليل إثباته.
17
[19] فنرجع إلى حيث فارقناه، فنقول فى حل الشبهة: إنه ليست المعية هى
18
التى أوجبت لأحدهما العلية، حتى يكون ليس أحدهما أولى بالعلية من الآخر، لأنهما
19
فى المعية سواء، بل إنما اختلفا لأن أحدهما فرضناه أنه لم يجب وجوده بالآخر، بل مع
130
1
الآخر؛ والثانى فرضناه أنه كما أن وجوده مع الآخر فكذلك هو بالآخر. فهكذا
2
يجب أن تتحقق هذه المسألة.
3
[20] ومما يشكل ههنا أمر القوة والفعل، وأنه أيهما أقدم وأيهما أشد تأخرا، فإن معرفة
4
ذلك من المهمات فى أمر معرفة التقدم والتأخر، وعلى أن القوة والفعل نفسه من عوارض
5
الوجود ولواحقه، والأشياء التى يجب أن تعلم حيث تعلم أحوال الموجود المطلق. |170|[ed. Cairo vol. 1]
6
[الفصل الثاني]
7
ب فصل
8
فى القوة والفعل والقدرة والعجز وإثبات المادة لكل متكوّن
9
[1] إن لفظة القوة وما يرادفها قد وضعت أول شىء للمعنى الموجود فى الحيوان،
10
الذى يمكنه بها أن تصدر عنه أفعال شاقة من باب الحركات ليست بأكثرية الوجود عن
11
الناس فى كميتها وكيفيتها، ويسمى ضدها الضعف؛ وكأنها زيادة وشدة من المعنى الذى
12
هو القدرة، وهو أن يكون الحيوان بحيث يصدر عنه الفعل إذا شاء، ولا يصدر عنه إذا
13
لم يشأ، التى ضدها العجز.
14
[2] ثم نقلت عنه فجعلت للمعنى الذى لا ينفعل له وبسببه الشىء بسهولة، وذلك
15
لأنه كان يعرض لمن يزاول الأفعال والتحريكات الشاقة أن ينفعل أيضا منها، وكان انفعاله
16
والألم الذى يعرض له منه يصده عن إتمام فعله. فكان إن انفعل انفعالا محسوسا قيل له:
17
ضعف وليست له قوة، وإن لم ينفعل قيل: إن له قوة. فكان أن «ينفعل» دليلا على
18
المعنى الذى سميناه أولًا قوة.
131
1
[3] ثم جعلوه اسم هذا المعنى حتى صار كونه بحيث لا ينفعل إلا يسيرًا يسمى
2
قوة، وإن لم يفعل شيئا. ثم جعلوا الشىء الذى لا ينفعل البتة أولى بهذا |171|[ed. Cairo vol. 1] الاسم،
3
فسموا حالته من حيث هو كذلك قوة. ثم صيروا القدرة نفسها ــ وهى الحال التى
4
للحيوان، وبها يكون له أن يفعل، وأن لا يفعل، بحسب المشيئة، وعدم المشيئة، وزوال
5
العوائق ــ قوة، إذ هو مبدأ الفعل.
6
[4] ثم أن الفلاسفة نقلوا اسم القوة، فأطلقوا لفظ القوة على كل حال تكون فى
7
شىء هو مبدأ تغيير يكون منه فى آخر من حيث ذلك آخر، وإن لم يكن هناك إرادة،
8
حتى سموا الحرارة قوة لأنها مبدأ التغيير من آخر فى آخر بأنه آخر. حتى أن الطبيب إذا
9
حرك نفسه أو عالج نفسه وكان مبدأ التغيير منه فيه، فليس ذلك فيه من حيث هو قابل
10
للعلاج أو الحركة، بل من حيث هو آخر، بل كأنه شيئان: شىء له قوة أن يفعل، وشىء
11
له قوة أن ينفعل، ويشبه أن يكون الأمران منه مفترقين فى جزئين. فيكون مثلا المحرك فى
12
نفسه، والمتحرك فى بدنه، وهو المحرك بصورته والمتحرك فى مادته. فهو من حيث يقبل
13
العلاج غيرٌ لذاته من حيث يعالج.
14
[5] ثم بعد ذلك لما وجدوا الشىء الذى له قوة بالمعنى المشهور ــ قدرة كانت أو
15
شدة قوة ــ ليس من شرط تلك القوة أن يكون بها فاعلا بالفعل، بل له من حيث القوة
16
إمكان «أن يفعل» وإمكان أن «لا يفعل» نقلوا اسم القوة إلى الإمكان. فسموا الشىء
17
الذى وجوده فى حد الإمكان موجودًا بالقوة، وسموا إمكان قبول الشىء وانفعاله قوة
18
انفعالية، ثم سموا تمام هذه القوة فعلًا وإن لم يكن فعلًا، بل انفعالًا، مثل تحريك أو تشكل
19
أو غير ذلك. فإنه لما |172|[ed. Cairo vol. 1] كان هناك المبدأ الذى يسمى قوة، وكان الأصل الأول فى
132
1
المسمى بهذا الاسم إنما هو على ما هو بالحقيقة فعل، سموا هذا الذى قياسه إلى ما سموه
2
الآن قوة، كقياس الفعل إلى المسمى قديما باسم الفعل، ويعنون بالفعل حصول الوجود،
3
وإن كان ذلك الأمر انفعالًا، أو شيئًا ليس هو فعلًا ولا انفعالا. فهذه هى القوة الانفعالية،
4
وربما قالوا قوة لجودة هذه وشدتها.
5
[6] والمهندسون لما وجدوا بعض الخطوط من شأنه أن يكون ضلع مربع، وبعضها
6
ليس ممكنا له أن يكون ضلع ذلك مربع، جعلوا ذلك المربع قوة ذلك الخط كأنه أمر ممكن فيه.
7
وخصوصا إذا تخيل بعضهم أن حدوث هذا المربع هو بحركة ذلك الضلع على مثل نفسه.
8
[7] وإذ قد عرفت القوة، فقد عرفت القوى، وعرفت أن غير القوى إما الضعيف
9
وإما العاجز وإما السهل الانفعال وإما الضرورى، وإما أن لا يكون المقدار الخطى ضلعا
10
لمقدار سطحى مفروض.
11
[8] وقد يشكل من هذه الجملة أمر القوة التى بمعنى القدرة، فإنها يظن أنها لا تكون
12
موجودة إلا لما من شأنه أن يفعل، ومن شأنه أن لا يفعل. فإن كان لما من شأنه أن يفعل
13
فقط فلا يرون أن له قدرة، وهذا ليس بصادق. فإنه إن كان هذا الشىء الذى يفعل فقط
14
يفعل من غير أن يشأ ويريد، فذلك ليس له قدرة ولا قوة بهذا المعنى؛ وإن كان يفعل بإرادة
15
واختيار إلا أنه دائم الإرادة |173|[ed. Cairo vol. 1] ولا يتغير، وإرادته وجودا اتفاقيا أو يستحيل تغيرها
16
استحالة ذاتية، فإنه يفعل بقدرة.
17
[9] وذلك لأن حد القدرة التى يؤثرون هؤلاء أن يحدوها به موجود ههنا؛ وذلك
18
لأن هذا يصح عنه أن يفعل إذا شاء وأن لا يفعل إذا لم يشأ، وكلا هذين شرطيان، أى
19
أنه إذا شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل.وإنما هما داخلان فى تحديد القدرة على ما هما
133
1
شرطيان، وليس من صدق الشرطى أن يكون هناك استثناء بوجه من الوجوه، أو صدق
2
حملى، فإنه ليس إذا صدق قولنا: إذا لم يشاء أن يفعل، يلزم أن يصدق: لكنه لم يشأ وقتا
3
ما؛ وإذا كذب: أنه لم يشأ البتة، يوجب ذلك كذب قولنا: وإذا لم يشأ لم يفعل. فإن
4
هذا يقتضى أنه لو كان لا يشاء لما كان يفعل، كما أنه إذا يشاء فيفعل. وإذا صح أنه إذا
5
شاء فعل، صح أنه إذا فعل فقد شاء أى إذا فعل فعل من حيث هو قادر. فيصح أنه إذا
6
لم يشأ لم يفعل، وإذا لم يفعل لم يشأ، وليس فى هذا أنه يلزم أن لا يشأ وقتا ما. وهذا
7
بين لمن عرف المنطق.
8
[10] وهذه القًوَى التى هى مبادئ للحركات والأفعال، بعضها قوى تقارن النطق
9
والتخيل، وبعضها قوى لا تقارن ذلك. والتى تقارن النطق والتخيل تجانس النطق
10
والتخيل؛ فإنه يكاد أن يعلم بقوة واحدة الإنسان واللا إنسان، ويكون لقوة واحدة أن
11
تتوهم أمر اللذة والألم، وأن تتوهم بالجملة الشىء وضده. |174|[ed. Cairo vol. 1] وكذلك هذه القوى
12
أنفسها أو حادها تكون قوة على الشىء وعلى ضده، لكنها بالحقيقة لا تكون قوة تامة أى
13
مبدأ تغير من أمر آخر فى آخر بأنه آخر بالتمام وبالفعل، إلا إذا اقترن بها الإرادة منبعثة
14
عن اعتقاد وهمى تابع لتخيل شهوانى أو غضبى، أو عن رأى عقلى تابع لفكرة عقلية أو
15
تصور صورة عقلية. فتكون إذا اقترن بها تلك الإرادة ولم تكن إرادة مميلة بعد، بل إرادة
16
جازمة، وهى التى هى الإجماع الموجب لتحريك الأعضاء، صارت لا محالة مبدأ للفعل
17
بالوجوب، إذ قد بينا أن العلة ما لم تصر علة بالوجوب حتى يجب عنها الشىء لم يوجد
18
عنها المعلول، وقبل هذه الحالة فإنما تكون الإرادة ضعيفة لم يقع إجماع. فهذه القوى المقارنة
19
للنطق ــ بانفرادها ــ لا يجب من حضور منفعلها ووقوعه منها بالنسبة التى إذا فعلت
20
فيه فعلا، فعلت بها، أن يكون يفعل بها وهى بعد قوة.
134
1
[11] وبالجملة لا يلزم من ملاقاتها للقوة المنفعلة أن تفعل ذلك، وذلك لأنه لو كان
2
يجب عنها وحدها أن تفعل لكان يجب من ذلك أن يصدر عنها الفعلان المتضادان
3
والمتوسطان بينهما، وهذه محال؛ بل إذا صارت كما قلنا فإنها تفعل بالضرورة.
4
[12] وأما القوى التى فى غير ذوات النطق والتخيل فإنها إذا لاقت القوة المنفعلة
5
وجب هناك الفعل، إذ ليس هناك إرادة واختيار تنتظر؛ فإن انتظر هناك، فيكون طبع
6
ينتظر. فإذا كان يحتاج إلى طبع فذلك هو إما المبدأ للأمر، |175|[ed. Cairo vol. 1] وإما جزء من
7
المبدأ. والمبدأ مجموع ما كان قبل وما حصل ويكون حينئذ نظيرا للإرادة المنتظرة. لكن
8
الإرادة تفارق هذا من حيث تعلم، والقوة الإنفعالية أيضا التى يجب إذا لاقت الفاعل أن
9
يحدث الإنفعال فى هذه الأشياء هى القوة الإنفعالية التامة. فإن القوة الإنفعالية قد تكون
10
تامة وقد تكون ناقصة، لأنها قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة. فإن فى المنى قوة أن يصير
11
رجلا، وفى الصبى أيضا قوة أن يصير رجلا، لكن القوة التى فى المنى تحتاج إلى أن تلقاها
12
أيضا قوة محركة قبل المحرك إلى الرجلية، لأنها تحتاج أن تخرج إلى الفعل شيئا ما غير
13
الرجل، ثم بعد ذلك يهيأ أن تخرج إلى الفعل رجلا. وبالحقيقة فإن القوة الإنفعالية الحقيقية
14
هى هذه. وأما المنى فبالحقيقة ليست فيه بعد قوة انفعالية، فإنه يستحيل أن يكون المنى
15
وهو منى أن ينفعل رجلا، لكنه كما كان فى قوته أن يصير شيئا من قبل غير المنى ثم ينتقل
16
بعد ذلك إلى شىء آخر، كان هو بالقوة أيضا ذلك الشىء، بل المادة الأولى هى بالقوة كل
17
شىء. فبعض ما يحصل فيها يعوقها عن بعض، فيحتاج المعوق عنه إلى زواله؛ وبعض
18
ما فيه لا يعوق عن بعض آخر ولكنه يحتاج إلى قرينة أخرى حتى يتم الاستعداد، وهذه
19
القوة هى قوة بعيدة.
135
1
[13] وأما القوة القريبة فهى التى لا تحتاج إلى أن تقارنها قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية
2
التى تنفعل عنها. فإن الشجرة ليست بالقوة مفتاحا لأنها تحتاج إلى أن |176|[ed. Cairo vol. 1] تلقاها أولا
3
قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية للمفتاحية وهى القوة القالعة والناشرة والناحتة، ثم بعد ذلك
4
تتهيأ لأن تفعل من ملاقاة القوه [*]القوه corrupt for القوة الفاعلية للمفتاحية.
5
[14] والقوى بعضها يحصل بالطباع وبعضها يحصل بالعادة وبعضها يحصل بالصناعة
6
وبعضها يحصل بالاتفاق. والفرق بين الذى يحصل بالصناعة والذى يحصل بالعادة أن الذى
7
يحصل بالصناعة هو الذى يقصد فيه استعمال مواد والآت [*]والآت corrupt for وآلات وحركات فتكتسب النفس
8
بذلك ملكة كأنها صورة تلك الصناعة؛ وأما الذى بالعادة فهو ما يحصل من أفاعيل ليست
9
مقصورة فيها ذلك فقط، بل إنما تصدر عن شهوة أو غضب أو رأى يتوجه فيها القصد
10
إلى غير هذه الغاية. ثم قد تتبعها غاية هى العادة، ولم تقصد، ولا تكون العادة نفس
11
ثبوت تلك الأفاعيل فى النفس؛ وربما لم يكن للعادة الآت ومواد معينة، فإنه لا سواء أن
12
يعتاد إنسان المشى وأن يعتاد التجارة من الجهة التى قلنا؛ وبينهما تفاوت شديد. ومع ذلك
13
فإنك إذا دققت النظر عاد حصول العادة والصناعة إلى جهة واحدة. والقُوى التى تكون
14
بالطبع منها ما يكون فى الأجسام الغير الحيوانية ومنها ما يكون فى الأجسام الحيوانية.
15
[15] وقد قال بعض الأوائل، وغاريقوا منهم: إن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدمه،
16
وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده |177|[ed. Cairo vol. 1] بحين كثير. فالقائل بهذا القول كأنه يقول:
17
إن القاعد ليس يقوى على القيام، أى لا يمكن فى جبلته أن يقوم ما لم يقم، فكيف يقوم؟
18
وأن الخشب ليس فى جبلته أن ينحت منه باب، فكيف ينحت؟
136
1
[16] وهذا القائل لا محالة غير قوى على أن يرى وعلى أن يبصر فى اليوم الواحد
2
مرارا، فيكون بالحقيقة أعمى، بل كل ما ليس موجودًا ولا قوة على أن يوجد فإنه مستحيل
3
الوجود. والشىء الذى هو ممكن أن يكون فهو ممكن أن لا يكون وإلا كان واجبا أن يكون؛
4
والممكن أن يكون لا يخلو إما أن يكون ممكنا أن يكون شيئا آخر، وأن لا يكون، وهذا
5
هو الموضوع للشىء الذى من شأنه أن تحله صورته، وإما أن يكون كذلك باعتبار نفسه،
6
كالبياض إذ كان يمكن أن يكون وممكن أن لا يكون فى نفسه. فهذا لا يخلو إما أن يكون
7
شيئا إذا وجد كان قائما بنفسه، حتى يكون إمكان وجوده هو أنه يمكن أن يكون قائما
8
مجردًا أو يكون إذا كان موجودا وجد فى غيره.
9
[17] فإن كان الممكن، بمعنى أنه يمكن أن يكون شيئًا فى غيره، فإن إمكان
10
وجوده أيضا فى ذلك الغير. فيجب أن يكون ذلك الغير موجودا مع إمكان وجوده وهو
11
موضوعه. وإن كان إذا كان قائما بنفسه لا فى غيره ولا من غيره بوجه من الوجوه، ولا
12
علاقة له مع مادة من المواد علاقة ما يقوم فيها أو يحتاج فى أمر ما إليها، فيكون إمكان
13
وجوده سابقًا عليه غير متعلق بمادة دون مادة ولا جوهر دون جوهر. غذ ذلك الشىء
14
لا علاقة له مع شىء، فيكون إمكان وجوده جوهرًا لأنه شىء موجود بذاته. وبالجملة إن
15
لم يكن إمكان وجوده حاصلا كان غير ممكن الوجود ممتنعا، وإذ هو حاصل موجود
16
قائم بذاته ــ كما فرض ــ |178|[ed. Cairo vol. 1]فهو موجود جوهرًا، وإذ له جوهر فله ماهية ليس
17
لها من المضاف إذ كان الجوهر ليس بمضاف الذات، بل يعرض له المضاف. فيكون لهذا القائم
18
بذاته وجود أكثر من إمكان وجوده الذى هو به مضاف. وكلامنا فى نفس إمكان وجوده،
19
وعليه حكمنا أنه ليس فى موضوع، والآن فقد صار أيضا فى موضوع، هذا خلف.
137
1
[18] فإذ لا يجوز أن يكون لما يبقى قائمًا بنفسه لا فى موضوع ولا من موضوع
2
بوجه من الوجوه وجود بعد ما لم يكن، بل يجب أن يكون له علاقة ما مع الموضوع حتى
3
يكون. وأما إذا كان الشىء الذى يوجد قائما بنفسه لكنه يوجد من شىء غيره أو مع
4
وجود شىء غيره، أما الأول فكالجسم من هيولى وصورة، وأما الثانى فكالأنفس الناطقة
5
مع تكون الأبدان، فإن إمكان وجوده يكون متعلقا بذلك الشىء لا على أن ذلك الشىء
6
بالقوة هو كون الجسم أبيض بالقوة ولا أن فيه قوة أن يوجد هو منطبعا فيه كون إمكان
7
البياض فى الموضوع الذى ينطبع فيه البياض، بل على أن يوجد معه أو عند حال له.
8
[19] فالجسم الذى يحدث كنار حادثة إنما إمكان وجوده هو أن يحدث من المادة
9
والصورة، فلا يكون لإمكان وجوده محل بوجه ما وهو مادته، فيكون الشىء الذى يحدث
10
منه أولًا وهو الصورة يحدث فى المادة ويحدث الجسم لاجتماعهما من المادة بوجه ومن
11
الصورة بوجه. وأما النفس فإنها لا تحدث أيضا إلا بوجود موضوع بدنى. وحينئذ يكون
12
إمكان وجوده فى ذلك قائما به لاختصاص تلك المادة به، فإن النفس إنما يمكن وجودها
13
بعد ما لم تكن، |179|[ed. Cairo vol. 1]وهو إمكان حدوثها عند وجود أجسام على نحو من الامتزاج
14
تصلح أن تكون آلة لها، ويتميز بها استحقاق حدوثها من الأوائل من لا استحقاقه عنها.
15
فإذا كان فيها إمكان هذا الإمتزاج فهو إمكان لوجود النفس.
16
[20] وكل جسم فإنه إذا صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر من جسم آخر
17
فإنه يفعل بقوة ما فيه؛ أما الذى بالإرادة والاختيار فلأن ذلك ظاهر. وأما الذى ليس
18
بالإرادة والاختيار فلأن ذلك الفعل إما أن يصدر عن ذاته أو يصدر عن شىء مباين له
19
جسمانى أو عن شىء مباين له غير جسمانى. فإن صدر عن ذاته وذاته تشارك الأجسام
138
1
الأخرى فى الجسمية وتخالفها فى صدور ذلك الفعل عنها فإذن فى ذاته معنى زائد على
2
الجسمية هو مبدأ صدور ذلك الفعل عنه، وهذا هو الذى يسمى قوة؛ وإن كان ذلك عن
3
جسم آخر، فيكون هذا الفعل عن هذا الجسم بِقَسر أو عرض، وقد فرض لا بقسر من
4
جسم آخر ولا عرض. وإن كان عن شىء مفارق فلا يخلو إما أن يكون اختصاص هذا
5
الجسم بهذا التوسط عن ذلك المفارق هو بما هو جسم، أو لقوة فيه، أو لقوة فى ذلك
6
المفارق. فإن كان بما هو جسم، فكل جسم يشاركه فيه، لكن ليس يشاركَهُ فيه. وإن
7
كان لقوة فيه فتلك القوة مبدأ صدور ذلك الفعل عنه، وأيضا إن كان قد يفيض من المفارق
8
وبمعاونته، أو لكونه المبدأ الأول فيه. |180|[ed. Cairo vol. 1]
9
[21] وأما إن كان لقوة فى ذلك المفارق فإما أن تكون نفس تلك القوة توجب ذلك،
10
أو اختصاص إرادة. فإن كان نفس القوة توجب ذلك، فلا يخلو أن يكون إيجاب ذلك،
11
عن هذا الجسم بعينه لأحد الأمور المذكورة، ويرجع الكلام من رأس، وإما أن يكون على
12
سبيل الإرادة، فلا يخلو إما أن تكون تلك الإرادة ميزت هذا الجسم بخاصية يختص بها
13
من سائر الأجسام، أو جزافا وكيف اتفق. فإن كان جزافا كيف اتفق لم يستمر على هذا
14
النظام الأبدى [أو] أكثرى، فإن الأمور الاتفاقية هى التى ليست دائمة ولا أكثرية، لكن
15
الأمور طبيعية دائمة وأكثرية فليست باتفاقية.
16
[22] فيبقى أن يكون بخاصية بها يختص من سائر الأجسام، وتكون تلك الخاصية
17
مرادا منها صدور ذلك الفعل؛ ثم لا يخلو إما أن يراد ذلك لأن تلك الخاصية توجب ذلك
18
الفعل، أو تكون منه فى الأكثر، أو لا توجب ولا تكون منه فى الأكثر. فإن كان يوجب
19
فهو مبدأ ذلك. وإن كان فى الأكثر، والذى فى الأكثر ــ كما علمت فى الطبيعيات ــ هو
139
1
بعينه الذى يوجب لكن له عائق لأن اختصاصه بأن يكون الأمر أكثر يكون بميل من طبيعته
2
إلى جهة ما يكون منه، فإن لم يكن فيكون لعائق، فيكون الأكثرى أيضا فى نفسه موجبًا
3
إن لم يكن عائق، ويكون الموجب هو الذى يسلم له الأمر بلا عائق وإن كانت تلك الخاصية
4
لا توجبه ولا تكون منه فى الأكثر، فكونه عنه وعن غيره واحد، فاختصاصه به جزاف؛
5
وقيل إنه ليس بجزاف. |181|[ed. Cairo vol. 1]
6
[23] وكذلك إذا قيل: إن كونه صاحب تلك الخاصية أولى، فمعناه أن صدوره
7
عنها أوفق. فهو إذن موجب له أو ميسّر لوجوبه. والميسّر إما علة بالذات وإما بالعرض؛
8
فإذا لم تكن أخرى بالذات غيره فليس هو بالعرض، لأن الذى بالعرض هو على أحد
9
النحوين المذكورين؛ فبقى أن تلك الخاصية بنفسها موجبة. فالخاصية الموجبة تسمى قوة،
10
وهذه القوة عنها تصدر الأفاعيل الجسمانية وإن كان بمعونة من مبدأ أبعد.
11
[24] ولنؤكد بيان أن لكل حادث مبدأ ماديًا، فنقول بالجملة: إن كل حادث بعد
12
ما لم يكن فله لا محالة مادة، لأن كل كائن يحتاج إلى أن يكون ــ قبل كونه ــ ممكن
13
الوجود فى نفسه، فإنه إن كان ممتنع الوجود فى نفسه لم يكن البتة. وليس إمكان وجوده
14
هو أن الفاعل قادر عليه، بل الفاعل لا يقدر عليه إذا لم يكن هو فى نفسه ممكنا. ألا
15
ترى أنا نقول: إن المحال لا قدرة عليه، ولكن القدرة هى على ما يمكن أن يكون؟ فلو
16
كان إمكان كون الشىء هو نفس القدرة عليه، كان هذا القول كأنا نقول: إن القدرة إنما
17
تكون على ما عليه القدرة، وكأنا نقول: إن المحال ليس عليه قدرة لأنه ليس عليه قدرة،
18
وما كنا نعرف أن هذا الشىء مقدور عليه أو غير مقدور عليه بنظرنا فى نفس الشىء،
19
بل بنظرنا فى حال قدرة القادر هل عليه قدرة أم لا. فإن أشكل علينا أنه مقدور عليه أو
140
1
غير مقدور |182|[ed. Cairo vol. 1]عليه، لم يمكننا أن نعرف ذلك البتة؛ لأنا إن عرفنا ذلك من جهة
2
أن الشىء محال أو ممكن وكان معنى المحال هو أنه غير مقدور عليه ومعنى الممكن أنه
3
مقدور عليه، كنا عرفنا المجهول بالمجهول. فبين واضح أن معنى كون الشىء ممكنًا فى
4
نفسه هو غير معنى كونه مقدورًا عليه وإن كانا بالموضوع واحدا، وكونه مقدورا عليه
5
لازم لكونه ممكنا فى نفسه، وكونه ممكنا فى نفسه هو باعتبار ذاته وكونه مقدورا عليه
6
هو باعتبار إضافته إلى موجده.
7
[25] وإذا قد تقرّر هذا، فإنا نقول: إن كل حادث فإنه قبل حدوثه إما أن يكون فى
8
نفسه ممكنًا أن يوجد أو محالًا أن يوجد. والمحال أن يوجد لا يوجد. والممكن أن يوجد
9
قد سبقه إمكان وجوده، وأنه ممكن الوجود، فلا يخلو إمكان وجوده من أن يكون معنى
10
معدومًا أو معنى موجودًا. ومحال أن يكون معنى معدوما وإلا فلم يسبقه إمكان وجوده،
11
فهو إذن معنى موجود. وكل معنى موجود فإما قائم فى موضوع أو قائم لا فى موضوع،
12
وكل ما هو قائم لا فى موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافا. وإمكان
13
الوجود إنما هو بالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له. فليس إمكان الوجود جوهرا لا فى
14
موضوع؛ فهو إذن معنى فى موضوع وعارض لموضوع.
15
[26] ونحن نسمى إمكان الوجود قوة الوجود؛ ونسمى حامل قوة الوجود الذى
16
فيه وجود الشىء موضوعًا وهيولى ومادة وغير ذلك بحسب اعتبارات مختلفة،
17
فإذن كل حادث فقد تقدمته المادة، فنقول:
18
[27] إن هذه الفصول التى أوردناها |183|[ed. Cairo vol. 1]توهم أن القوة ــ على الاطلاق ــ
19
قبل الفعل ومتقدمة عليه لا فى الزمان وحده؛ وهذا شىء قد مال إليه عامة من القدماء،
141
1
فبعضهم جعل للهيولى وجودا قبل الصورة، وأن الفاعل ألبسها الصورة بعد ذلك إما ابتداءً
2
من نفسه وإما لداع دعاه إليه، كما ظنه بعض الشارعين فيما لا يعنيه ولا له درجة الخوض
3
فى مثله. فقال: إن شيئًا كالنفس وقع له فلتةً أن اشتغل بتدبير الهيولى وتصويرها فلم يحسن
4
التدبير ولا كمل لحسن التصوير، فتداركها البارى [*]البارى Middle Arabic for البارئ تعالى وأحسن تقويمها. ومنهم من قال:
5
إن هذه الأشياء كانت فى الأزل تتحرك بطباعها حركات غير منتظمة، فأعان البارى [*]البارى Middle Arabic for البارئ تعالى
6
طبيعتها ونظمها. ومنهم من قال: إن القديم هو الظلمة أو الهاوية أو شىء لا يتناهى لم يزل
7
ساكنا، ثم حرك، أو الخليط الذى يقول به أنكساغورس. وذلك لأنهم قالوا: إن القوة تكون
8
قبل الفعل، كما فى البذور والمنى وفى جميع ما يصنع. فبالحرى أن نتأمل هذا ونتكلم فيه.
9
[28] فنقول: أما الأمر فى الأشياء الجزئية الكائنة الفاسدة فهو على ما قالوا، فإن
10
القوة فيها قبل الفعل قبلية فى الزمان؛ وأما الأمور الكلية أو المؤبدة التى لا تفسد وإن كانت
11
جزئية فإنها لا تتقدمها التى بالقوة البتة. ثم القوة متأخرة بعد هذه الشرائط من كل وجه؛
12
وذلك لأن القوة إذ ليست تقوم بذاتها فلابد لها من أن تقوم بجوهر يحتاج أن يكون بالفعل.
13
فإنه إن لم يكن صار بالفعل فلا يكون مستعدًا لقبول شىء، فإن ما هو ليس مطلقا فليس
14
ممكنا أن يقبل شيئا. |184|[ed. Cairo vol. 1]
15
[29] ثم قد يكون الشىء بالفعل ولا يحتاج إلى أن يكون بالقوة شيئًا كالأبديات
16
فإنها دائما بالفعل. فمن هذه الجهة حقيقة ما بالفعل قبل حقيقة القوة بالذات، ومن وجه
17
آخر أيضا فإن القوة تحتاج أن تخرج إلى الفعل بشىء موجود بالفعل وقت كون الشىء
18
بالقوة، ليس إنما يحدث ذلك الشىء حدوثا مع الفعل. فإن ذلك أيضا يحتاج إلى مخرج
142
1
آخر وينتهى إلى شىء موجود بالفعل لم يحدث. وفى أكثر الأمر فإنما يخرج القوة إلى
2
الفعل شىء مجانس لذلك الفعل موجود قبل الفعل بالفعل كالحار يسخن والبارد يبرد.
3
وأيضًا فكثيرا ما يوجد ما هو بالقوة، من هو حامل القوة، عن الشىء الذى هو
4
بالفعل، حتى يكون الفعل بالزمان قبل القوة لا مع القوة. فإن المنى كان عن الإنسان والبذر
5
عن الشجرة حتى كان عن ذلك إنسان وعن هذا شجرة. فليس أن يفرض الفعل فى هذه
6
الأشياء قبل القوة أولى من أن تفرض القوة قبل الفعل.
7
[30] وأيضا فإن الفعل فى التصور والتحديد قبل القوة، لأنك لا يمكنك أن تحد
8
القوة إلا أنها للفعل. وأما الفعل فإنك لا تحتاج فى تحديده وتصويره أنه للقوة. فإنك تحد المربع
9
وتعقله من غير أن يخطر ببالك قوة قبوله، ولا يمكنك أن تحد القوة على التربيع إلا أن تذكر
10
المربع لفظا أو عقلا وتجعله جزء حده.
11
[31] وأيضا فإن العقل قبل القوة بالكمال والغاية. فإن القوة نقصان والفعل كمال.
12
والخير فى كل شىء إنما هو مع الكون بالفعل؛ وحيث الشر فهناك ما بالقوة |185|[ed. Cairo vol. 1] بوجه
13
ما، فإن الشىء إذا كان شرًا فإما أن يكون لذاته شرًا ومن كل وجه، وهذا محال. فإنه
14
إن كان موجودًا فمن حيث هو موجود ليس بشر، وإنما يكون شرا من حيث هو فيه عدم
15
كمال مثل الجهل للجاهل، أو لأنه يوجب فى غيره ذلك مثل الظلم للظالم. فالظلم إنما هو
16
شر لأنه ينتقص من الذى فيه الظلم طبيعة الخير، ومن الذى عليه الظلم السلامة أو الغنى،
17
أو غير ذلك، فيكون من حيث هو شر مشوبا بعدم وبشىء بالقوة. ولو أنه لم يكن معه ولا
18
منه ما بالقوة لكانت الكمالات التى تجب للأشياء حاضرة فما كان شرًا بوجه من الوجوه.
143
1
[32] فبيّن أن الذى بالفعل هو الخير من حيث هو كذلك، والذى بالقوة هو الشر أو
2
منه الشر. واعلم أن القوة على الشر خير من الفعل، والكون بالفعل خيرًا خير من القوة
3
على الخير، ولا يكون الشرير شريرا بقوة الشر، بل بملكة الشر.
4
[33] ونرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: قد علمت حال تقدم القوة مطلقا؛ وأما
5
القوة الجزئية فيتقدم الفعل الذى هو قوة عليه؛ وقد يتقدمها فعل مثل فعلها حتى تكون
6
القوة منه؛ ولا يجب لكن يكون معها شىء آخر به تخرج القوة إلى الفعل وإلا لم
7
يكن الفعل البتة بموجود، إذ القوة وحدها لا تكفى فى أن تكون فعل، بل تحتاج إلى
8
مخرج للقوة إلى الفعل.
9
[34] فقد علمت أن الفعل بالحقيقة أقدم من القوة، وأنه هو المتقدم بالشرف
10
والتمام. |186|[ed. Cairo vol. 1]
11
[الفصل الثالث]
12
ج فصل
13
فى التام، والناقص وما فوق التمام، وفى الكل، وفى الجميع.
14
[1] التام أول ما عرف عرف فى الأشياء ذوات العدد، إذ كان جميع ما ينبغى أن
15
يكون حاصلا للشىء قد حصل بالعدد، فلم يبقى شىء من ذلك غير موجود. ثم نقل ذلك
16
إلى الأشياء ذوات الكم المتصل، فقيل: تام فى القامة إذا كانت تلك أيضا عند الجمهور
17
معدودة لأنها إنما تعرف عند الجمهور من حيث تقدر، وإذا قدرت لم يكن بد من أن تعدّ.
18
ثم نقلوا ذلك إلى الكيفيات والقوى، فقالوا: كذا تام القوة وتام البياض وتام الحسن وتام
19
الخير، كأن جميع ما يجب أن يكون له الخير قد حصل له ولم يبق شىء من خارج.
144
1
[2] ثم إذا كان من جنس الشىء شىء، وكان لا يحتاج إليه فى ضرورة أو منفعة
2
أو نحو ذلك، [رأوه] زائدا ورأوا الشىء تاما دونه. ثم إن كان ذلك الذى يحتاج إليه
3
الشىء فى نفسه قد حصل وحصل معه شىء آخر من جنسه ليس يحتاج إليه فى أصل
4
ذات الشىء إلا أنه وإن كان ليس يحتاج إليه فى ذلك الشىء فهو نافع فى بابه، قيل لجملة
5
ذلك: إنه فوق التمام ووراء الغاية.
6
[3] [فهذا] هو التام والتمام. فكأنه اسم للنهاية، وهو أولا للعدد، ثم لغيره على
7
الترتيب. |187|[ed. Cairo vol. 1]
8
[4] وكان الجمهور لا يقولون لذى العدد إنه تام أيضا إذا كان أقلّ من ثلاثة، وكذلك
9
كأنهم لا يقولون له كل وجميع. وكأن الثلاثة إنما صارت تامة لأن لها مبدأ وواسطة ونهاية،
10
وإنما كان كون الشىء له مبدأ وواسطة ونهاية تجعله تاما لأن أصل التمام كان فى العدد.
11
[5] ثم لم يكن هذا فى طبيعة عدد من الأعداد من حيث هو عدد أن يكون تاما
12
على الاطلاق، فإن كل عدد فمن جنس وحدانياته ما ليس موجودا فيه؛ بل إنما يكون
13
تاما فى العشرية والتسعية، وأما من حيث هو عدد فليس يجوز أن يكون تامًا من حيث
14
هو عدد. وأما من حيث له مبدأ ومنتهى وواسطة فهو تام، لأنه من حيث يكون له مبدأ
15
ومنتهى يكون ناقصا من جهة ما ليس فيما بينهما شىء من شأنه أن يكون بينهما وهو
16
الواسطة. وقس عليه سائر الأقسام أى أن يكون واسطة وليس منتهى، أو واسطة ومنتهى
17
وقد فقد مايجب أن يكون له مبدأ. ثم من المحال أن يكون مبدآن فى الأعداد ليس أحدهما
18
واسطة بوجه إلا لعددين ولا منتهيان ليس أحدهما واسطة بوجه إلا لعددين.
145
1
[6] وأما الوسائط فقد يجوز أن تكثر إلا أنها تكون جملتها فى أنها واسطة كشىءٍ
2
واحد؛ ثم لا يكون للتكثر حد يوقف عليه. فإذن حصول المبدئية والنهاية |188|[ed. Cairo vol. 1]
3
والتوسط هو أتم ما يمكن أن يقع فى ترتيب مثله، ولا يكون ذلك إلا للعدد ولا يكون
4
منحصرًا إلا فى الثلاثية.
5
[7] وإذا اشرنا إلى هذا المبلغ فلنعرض عنه، فليس من عادتنا أن نتكلم فى مثل هذه
6
الأشياء التى تبنى على تخمينات إقناعية وليست من طرق القياسات العلمية. بل نقول:
7
[8] إن الحكماء ايضًا قد نقلوا التام إلى حقيقة الوجود، فقالوا من وجه: إن التام
8
هو الذى ليس شىء من شأنه أن يكمل به وجوده بما ليس له بل كل ما هو كذلك فهو
9
حاصل له، وقالوا من وجه آخر: إن التام هو الذى بهذه الصفة مع شرط أن وجوده بنفسه
10
على أكمل ما يكون له هو وحده حاصل له وليس منه إلا ما له، وليس ينسب إليه من جنس
11
الوجود شىء فضل على ذلك الشىء نسبة أولية لا بسبب غيره.
12
[9] وفوق التمام ما له الوجود الذى ينبغى له، ويفضل عنه الوجود لسائر الأشياء
13
كأن له وجوده الذى ينبغى له، وله الوجود الزائد الذى ليس ينبغى له، ولكن يفضل عنه
14
للأشياء، وذلك من ذاته. ثم جعلوا هذا مرتبة المبدأ الأول الذى هو فوق التمام، ومن وجوده
15
فى ذاته لا بسبب غير يفيض الوجود فاضلا عن وجوده على الأشياء كلها. |189|[ed. Cairo vol. 1]
16
[10] وجعلوا مرتبة التمام لعقل من العقول المفارقة الذى هو فى أول وجوده بالفعل
17
لا يخالطه ما بالقوة، ولا ينتظر وجودا آخر، يوجد عنه، فإن كل شىء آخر [يوجد عنه]، فذلك
18
أيضا من الوجود الفائض من الأول.
146
1
[11] وجعلوا دون التمام شيئين: المكتفى والناقص. والمكتفى هو الذى أعطى
2
ما به يحصل كمال نفسه فى ذاته، والناقص المطلق هو الذى يحتاج إلى آخر يمده الكمال
3
بعد الكمال. مثل المكتفى: النفس النطقية التى للكل، أعنى السموات، فإنها بذاتها تفعل
4
الأفعال التى لها وتوجد الكمالات التى يجب أن يكون لها شىء بعد شىء لا تجتمع كلها
5
دفعة واحدة، ولا تبقى أيضا دائما إلا ما كان من كمالاتها التى فى جوهرها وصورتها،
6
فهو لا يفارق ما بالقوة وإن كان فيه مبدأ يخرج قوته إلى الفعل، كما تعلم هذا بعد. وأما
7
الناقص فهو مثل هذه الأشياء التى فى الكون والفساد.
8
[12] ولفظ التمام ولفظ الكل ولفظ الجميع تكاد تكون متقاربة الدلالة. لكن
9
التمام ليس من شرطه أن يحيط بكثرة بالقوة أو بالفعل. وأما الكل فيجب أن يكون
10
لكثرة بالقوة أو بالفعل، بل الوحدة فى كثير من الأشياء هو الوجود الذى ينبغى له. وأما
11
التمام فى الأشياء ذوات المقادير والأعداد فيشبه أن يكون هو بعينه الكل فى الموضوع.
12
فالشىء «تام» من حيث أنه لم يبق شىء خارجًا عنه وهو «كل» لأن ما يحتاج إليه
13
حاصل فيه. فهو بالقياس إلى الكثرة الموجودة المحصورة فيه «كل» وبالقياس إلى ما لم يبق
14
خارجا [عنه] «تام». |190|[ed. Cairo vol. 1]
15
[13] ثم قد اختلف فى لفظى الكل والجميع على اعتباريهما، فتارةً يقولون: إن
16
الكل يقال للمتصل والمنفصل، والجميع لا يقال إلا للمنفصل، وتارة يقولون: إن الجميع يقال
17
خاصة لما ليس لوضعه اختلاف والكل لما لوضعه اختلاف، ويقال: «كل» «وجميع»
18
معًا لما يكون له الحالان جميعا.
147
1
[14] وأنت تعلم هذه الألفاظ يجب أن تستعمل على ما يقع عليه الإصطلاح،
2
والأحرى من وجه أن يقال: «كل» لما كان فيه انفصال حتى يكون له جزء. فإن الكل يقال
3
بالقياس إلى الجزء، والجميع أيضا يجب أن يكون كذلك. فإن الجميع من الجمع، والجمع إنما
4
يكون الآحاد بالفعل أو وحدات بالفعل، لكن الاستعمال قد أطلقه على ما كان أيضا جزؤه
5
وواحده بالقوة. [فكان] الكل يعتبر فيه أن يكون فى الأصل بإزاء الجزء، والجميع بإزاء
6
الواحد، كأن الكل يعتبر فيه أن يكون له ما [يعدّه]، وإن لم يلتفت إلى وحدته، وكأن
7
الجميع يعتبر فيه أن يكون فيه آحاد وإن لم يلتفت إلى عده.
8
[15] وكأن هذا القول كله من الفضل؛ فإن الإصطلاح أجراهما بعد ذلك مجرى
9
واحدًا حتى صار أيضا يقال الكل والجميع فى غير ذوات الكمية، إذ كان لها أن تتكمم
10
بالعرض كالبياض كله والسواد كله، أو كان لها أن تشتد وتضعف كالحرارة كلها والقوة كلها.
11
ويقال للمركب من أشياء تختلف كالحيوان «كل» إذ هو من نفس وبدن. |191|[ed. Cairo vol. 1]
12
[16] وأما الجزء فإنه تارة يقال لما يُعَدّ وتارة لما يكون شيئا من الشىء و له غيره معه
13
وإن كان لا يَعُدّه، وربما خُصّ هذا بإسم البعض. ومن الجزء ما ينقسم إليه الشىء لا فى
14
الكم، بل فى الوجود، مثل النفس والبدن للحيوان، والهيولى والصورة للمركب؛ وبالجملة
15
ما يتركب منه المركب [المختلف] المبادئ.
148
1
المقالة الخامسة
2
وفيها تسعة فصول
3
[الفصل الأول]
4
ا فصل
5
فى الأمور العامة وكيفية وجودها
6
[1] |195|[ed. Cairo vol. 1]وبالحرى أن نتكلم الآن فى الكلى والجزئى، فأنه مناسب أيضا لما
7
فرغنا منه، وهو من الأعراض الخاصة بالوجود، فنقول:
8
[2] إن الكلى قد يقال على وجوه ثلاثة: فيقال كلى للمعنى من جهة أنه مقول بالفعل
9
على كثيرين، مثل الإنسان. ويقال كلى للمعنى إذا كان جائزا أن يحمل على كثيرين وإن لم
10
يشترط أنهم موجودون بالفعل، مثل معنى البيت المسبع؛ فإنه كلى من حيث أن من طبيعته
11
أن يقال على كثيرين، ولكن ليس يجب أن يكون أولئك الكثيرين لا محالة موجودين بل ولا
12
الواحد منهم. ويقال كلى للمعنى الذى لا مانع من تصوره أن يقال على كثيرين؛ إنما يمنع منه
13
إن مَنَع سَبَبٌ ويدل عليه دليل، مثل الشمس والأرض، فإنها من حيث تعقل شمسا وأرضا
149
1
لا يمنع الذهن عن أن يجوز أن معناه يوجد فى كثير، إلا أن يأتيه دليل أو حجة يعرف به أن
2
هذا ممتنع. ويكون ذلك ممتنعا بسبب من خارج لا لنفس تصوره. |196|[ed. Cairo vol. 1]
3
[3] وقد يمكن أنيجمع هذا كله فى أن هذا الكلى هو الذى لا يمنع نفس تصوره عن
4
أنيقال على كثيرين. ويجب أن يكون الكلى المستعمل فى المنطق وما أشبهه هو هذا.
5
وأما الجزئى المفرد فهو الذى نفس تصوره يمنع أن يقال معناه على كثيرين، كذات زيد هذا
6
المشار إليه، فإنه يستحيل أن تتوهم إلا له وحده.
7
[4] فالكلى من حيث هو كلى شىء، ومن حيث هو شىء تلحقه الكلية
8
شىء. فالكلى من حيث هو كلى هو ما يدل عليه أحد هذه الحدود؛ فإذا كان ذلك
9
إنسانا أو فرسا فهناك معنى آخر غير معنى الكلية وهو الفرسية. فإن حد الفرسية
10
ليس حد الكلية، ولا الكلية داخلة فى حد الفرسية؛ فإن الفرسية لها حد لا يفتقر
11
إلى حد الكلية لكن تعرض له الكلية. فإنه فى نفسه ليس شىء من الأشياء البتة
12
إلا الفرسية؛ فإنه فى نفسه لا واحد ولا كثير ولا موجود فى الأعيان ولا فى النفس
13
ولا فى شىء من ذلك بالقوة ولا بالفعل على أن يكون داخلا فى الفرسية، بل من
14
حيث هو فرسية فقط. بل الواحدية صفة تقترن إلى الفرسية؛ فتكون الفرسية مع
15
تلك الصفة واحدة. كذلك للفرسية مع تلك الصفة صفات أخرى كثيرة داخلة عليها،
16
فالفرسية ــ بشرط أنها تطابق بحدها أشياء كثيرة ــ تكون عامة، ولأنها مأخوذة
17
بخواص وأعراض مشار إليها تكون خاصة. فالفرسية فى نفسها فرسية فقط. |197|[ed. Cairo vol. 1]
18
[5] فإن سألنا عن الفرسية لطرفى النقيض، مثلا: هل الفرسية ألف أم ليس بألف؟
19
لم يكن الجواب إلا بالسلب لأى شىء كان. ليس على أن السلب بعد «من حيث»، بل
150
1
على أنه قبل «من حيث». أى ليس يجب أن يقال: إن الفرسية من حيث هى فرسية
2
ليست بألف، بل ليست من حيث هى فرسية بألف ولا شىء من الأشياء.
3
[6] فإن طرفا المسألة عن موجبتين لا يخلو منهما شىء، لم يلزم أن نجيب
4
عنهما البتة. وبهذا يفترق حكم الموجبة والسالبة والموجبتين اللتين فى قوة النقيضين.
5
وذلك لأن الموجب منهما الذى هو لازم للسالبة معناه أنه إذا لم يكن الشىء موصوفا
6
بذلك الموجب الآخر كان موصوفًا بهذا الموجب، وليس إذا كان موصوفًا به كان ماهيته
7
هو. فإنه ليس إذا كان الإنسان واحدا أو أبيض كانت هوية الإنسانية هى هوية الوحدة أو
8
البياض، أو كانت هوية الإنسانية هى هوية الواحد أو الأبيض.
9
[7] فإذا جعلنا الموضوع فى المسألة هوية الإنسانية من حيث هى إنسانية كشىء
10
واحد، وسئل عن طرفى نقيض، فقيل: أواحد هو أم كثير؟ لم يلزم أن يجاب، |198|[ed. Cairo vol. 1]
11
لأنها من حيث هى هوية الإنسانية شىء غير كل واحد منهما، ولا يوجد فى حد ذلك
12
الشىء إلا الإنسانية فقط.
13
[8] وأما أنه هل يوصف بأنه واحد أو كثير على أنه وصف يلحقه من خارج، فلا
14
محالة أنه يوصف بذلك، ولكن لا يكون هو ذلك الموصوف من حيث هو إنسانية فقط،
15
فلا يكون من حيث هو إنسانية هو كثيرا بل إنما يكون كأن ذلك شىء يلحقه من خارج.
16
[9] فإذا كان نظرنا إليه من حيث هو إنسانية فقط، فلا يجب أن نشوبه بنظر إلى
17
شىء من خارج يجعل النظر نظرين: نظر إليه بما هو هو، ونظر إلى لواحقه. ومن حيث
18
النظر الواحد الأول لا يكون إلا الإنسانية فقط، فلهذا إن قال قائل: إن الانسانية التى فى
19
زيد من حيث هى إنسانية هل هى غير التى فى عمرو؟ فيلزم أن يقول: لا. وليس يلزم من
151
1
تسليمه هذا أن يقول: فإذن تلك وهى واحدة بالعدد، لأن هذا كان سلبًا مطلقًا، وعنينا
2
بهذا السلب أن تلك الإنسانية من حيث هى إنسانية هى إنسانية فقط، وكونها غير التى فى
3
عمرو شىء من خارج. فإنه إن لم يكن ذلك خارجا عن الإنسانية لزم أن تكون الإنسانية
4
من حيث هى إنسانية ألفا مثلا أو ليست بألف. وقد أبطلنا ذلك. وإنما أخذنا الإنسانية
5
من حيث هى إنسانية فقط. |199|[ed. Cairo vol. 1]
6
[10] على أنه إذا قيل: الإنسانية التى فى زيد من حيث هى إنسانية يكون قد
7
[جعلنا لها] اعتبارا من حيث هى إنسانية، ساقطًا عنها أنها فى زيد وأنها التى فى زيد،
8
وإلا [فيكون] قد أخذنا الإنسانية على أنها فى زيد، فإنا قد جردناها وتكلمنا على أنا
9
نلتفت إليها وهى إنسانية. ثم لا يخلو إما أن نرجع الكناية التى فى أنها إلى الإنسانية التى
10
فى زيد، فيكون هذامحالًا من القول، فإنه لا تجتمع أن تكون إنسانية فى زيد وهى باعتبار
11
أنها إنسانية فقط. وإن رجعت إلى الإنسانية فقط فَذِكْرُ زيدٍ لغوا إلا أن تعنى أن الإنسانية
12
التى عرض لها من خارج أن كانت فى زيد وقد أسقطنا عنها أنها فى زيد، فهل هى هكذا؟
13
وهذا أيضا فيه اعتبار غير الإنسانية.
14
[11] فإن سألنا سائل وقال: ألستم تجيبون وتقولون: إنها ليست كذا وكذا، وكونها ليست
15
كذا وكذا غير كونها إنسانية بما هى إنسانية؟ فنقول: إنا لا نجيب بأنها من، حيث هى إنسانية،
16
ليست كذا، بل نجيب أنها ليست من حيث إنسانية كذا، وقد علم الفرق بينهما فى المنطق.
17
[12] وههنا شىء آخر وهو أن الموضوع فى مثل هذه المسائل يكاد يرجع إلى
18
الإهمال إذا لم تَعْلق بحصر ولا يكون عنها جواب، اللهم إلا أن تجعل تلك |200|[ed. Cairo vol. 1]
152
1
الإنسانية كأنها مشار إليها أو لا كثرة فيها. فحينئذ لا يكون قولنا: «من حيث هى
2
إنسانية» جزءا من الموضوع، لأنه لا يصلح أن يقال: إن الإنسانية التى هى من حيث هى
3
إنسانية إلا وقد عادت مهملة. فإن قيل: تلك الإنسانية التى هى من حيث هى إنسانية،
4
يكون قد وقع إليها الإشارة فزادت على الإنسانية.
5
[13] ثم إن ساهلنا فى ذلك فيكون الطرفان من المسألة مسلوبين عنها، ولم يجب
6
أن يكون واحدا أو كثيرا هو هو أو غيره إلا على معنى أنه لابد له أن يكون هو هو أو
7
غير. فحينئذ نقول:
8
[14] لابد لها من أن تصير غيرًا بالأعراض التى معها، إذ لا توجد البتة إلا مع
9
الأعراض. وحينئذ لا تكون مأخوذة من حيث هى إنسانية فقط، فإذا ليست إنسانية
10
عمرو فهى غير إنسانية بالأعراض، فيكون لهذه الأعراض تأثير فى شخص زيد بأنه
11
مجموع الإنسان أو الإنسانية فأعراض لازمة كأنها أجزاء منه، وتأثير الإنسان أو
12
الإنسانية بأنها منسوبة إليه.
13
[15] ونعود من رأس ونجمع هذا ونخبر عنه بعبارة أخرى كالمذكر لما سلف
14
من قولنا، فنقول:
15
[16] إن ههنا شيئا محسوسا هو الحيوان أو الإنسان مع مادة وعوارض، وهذا
16
هو الإنسان الطبيعى. وههنا شىء هو الحيوان أو الإنسان منظورا إلى ذاته بما هو هو،
17
غير مأخوذ معه ما خالطه، وغير مشترط فيه شرط أنه عام أو خاص |201|[ed. Cairo vol. 1] أو واحد
18
أو كثير بالفعل ولا باعتبار القوة أيضا من حيث هو بالقوة، إذ الحيوان بما هو حيوان،
153
1
والإنسان بما هو إنسان أى باعتبار حده ومعناه، غير ملتفت إلى أمور أخرى تقارنه، ليس
2
إلا حيوانا أو إنسانا.
3
[17] وأما الحيوان العام، والحيوان الشخصى، والحيوان من جهة اعتبار أنه بالقوة
4
عام أو خاص، والحيوان باعتبار أنه موجود فى الأعيان، أو معقول فى النفس، هو حيوان
5
وشىء وليس هو حيوانا منظور إليه وحده. ومعلوم أنه إذا كان حيوان وشىء كان فيهما
6
الحيوان كالجزء منهما. وكذلك فى جانب الإنسان.
7
[18] ويكون اعتبار الحيوان بذاته جائزًا وإن كان مع غيره، لأن ذاته مع غيره ذاته.
8
فذاته له بذاته؛ وكونه مع غيره أمر عارض له أو لازم ما لطبيعته كالحيوانية والإنسانية. فهذا
9
الاعتبار متقدم فى الوجود على الحيوان الذى هو شخصى بعوارضه، أو كلى، وجودى،
10
أو عقلى، تقدم البسيط على المركب، والجزء على الكل. وبهذا الوجود لا هو جنس
11
ولا نوع ولا شخص ولا واحد ولا كثير، بل هو بهذا الوجود حيوان فقط وإنسان فقط.
12
[19] لكنه يلزمه لا محالة أن يكون واحدا أو كثيرا، إذ لا يخلو عنهما شىء
13
موجود، على أن ذلك لازم له من خارج. وهذا الحيوان بهذا الشرط، وإن كان موجودا
14
|202|[ed. Cairo vol. 1]فى كل شخص فليس هو بهذا الشرط حيوانا ما، وإن كان يلزمه أن يصير
15
حيوانا ما لأنه فى حقيقته وماهيته بهذا الاعتبار حيوان ما.
16
[20] وليس يمنع كون الحيوان الموجود فى الشخص حيوانا ما أن يكون الحيوان
17
بما هو حيوان لا باعتبار أنه حيوان بحالٍ ما، موجود فيه، لأنه إذا كان هذا الشخص
18
حيوانا ما، فحيوان ما موجود؛ فالحيوان الذى هو جزء من حيوان ما موجود، كالبياض؛
154
1
فإنه وإن كان غير المفارق للمادة فهو ببياضيته موجود فى المادة على أنه شىء آخر معتبر
2
بذاته وذو حقيقة بذاته، وإن كان عرض تلك الحقيقة أن تقارن فى الوجود أمرا آخر.
3
[21] ولقائل أن يقول: إن الحيوان بما هو حيوان غير موجود فى الأشخاص،
4
لأن الموجود فى الأشخاص هو حيوان ما لا الحيوان بما هو حيوان. ثم الحيوان بما هو
5
حيوان موجود، فهو إذن مفارق للأشخاص. ولو كان الحيوان بما هو حيوان موجودا
6
لهذا الشخص، لم يخل إما أن يكون خاصا له أو غير خاص؛ فإذا كان خاصا له لم يكن
7
الحيوان بما هو حيوان هو الموجود فيه أو هو، بل حيوان ما؛ وإن كان غير خاص كان
8
شىء واحد بعينه بالعدد موجودا فى الكثرة، وهذه محال.
9
[22] وهذا الشك وإن كان ركيكا سخيفا فقد أوردناه بسبب أنه قد وقعت منه
10
الشبهة فى زماننا هذا لطائفة ممت تتشحط فى التفلسف. فنقول:
11
[23] إن هذا الشك قد وقع |203|[ed. Cairo vol. 1]فيه الغلط من وجوه عدة. أحدها الظن بأن
12
الموجود من الحيوان إذا كان حيوانا ما، فإن طبيعة الحيوانية معتبرة بذاتها لا بشرط آخر
13
لا تكون موجودة فيه. وبيان غلط هذا الظن قد تقدم. والثانى، الظن بأن الحيوان بما هو
14
حيوان يجب أن يكون خاصًا أو غير خاص بمعنى العدول؛ وليس كذلك. بل الحيوان إذا
15
نظر إليه بما هو حيوان ومن جهة حيوانيته لم يكن خاصا ولا غير خاص الذى هو العام،
16
بل كلاهما يسلبان عنه، لأنه من جهة حيوانيته فقط؛ ومعنى الحيوان فى أنه حيوان
17
غير معنى الخاص والعام، وليسا داخلين أيضا فى ماهيته. وإذا كان كذلك لم يكن الحيوان
18
بما هو حيوان خاصا ولا عاما فى حيوانيته، بل هو حيوان لا غيره من الأمور والأحوال،
19
لكنه يلزمه أن يكون خاصا أو عاما.
155
1
[24] فقوله لم يخلو إما أن يكون خاصًا أو يكون عامًا: إن عنى بقوله إنه لا يخلو
2
عنهما فى حيوانيته فهو خال عنهما فى حيوانيته، وإن عنى أنه لا يخلو عنهما فى الوجود،
3
أى لا يخلو عن لزوم أحدهما فهو صادق. فإن الحيوان يلزمه ضرورة أن يكون خاصا أو
4
عاما وأيهما عرض له لم يبطل عنه الحيوانية التى باعتبار ما ليس بخاص ولا عام، بل
5
يصير خاصا أو عاما بعدها بما يعرض لها من الأحوال.
6
[25] وههنا شىء يجب أن نفهمه وهو أنه حق أن يقال: إن الحيوان بما هو حيوان
7
لا يجب أن لا يقال عليه خصوص أو عموم، وليس بحق أن يقال: الحيوان بما هو حيوان
8
يجب أن [لا] يقال عليه خصوص أو عموم، وذلك أنه لو كانت الحيوانية توجب
9
|204|[ed. Cairo vol. 1]أن لا يقال عليها خصوص أو عموم لم يكن حيوان خاص أو حيوان عام.
10
[26] ولهذا المعنى يجب أن يكون فرق قائم بين أن نقول: إن الحيوان بما هو حيوان
11
مجرد بلا شرط شىء آخر، وبين أن نقول: إن الحيوان بما هو حيوان مجرد بشرط لا
12
شىء آخر. ولو كان يجوز أن يكون الحيوان بما هو حيوان مجردا بشرط أن لا يكون
13
شىء آخر موجود فى الأعيان، لكان يجوز أن يكون للمثل الأفلاطونية وجود فى الأعيان؛
14
بل الحيوان بشرط لاشىء آخر وجوده فى الذهن فقط. وأما الحيوان مجردا لا بشرط
15
شىء آخر فله وجود فى الأعيان، فإنه فى نفسه وفى حقيقته بلا شرط شىء آخر، وإن
16
كان مع ألف شرط يقارنه من خارج.
17
[27] فالحيوان بمجرد الحيوانية موجود فى الأعيان، وليس يوجب ذلك عليه أن
18
يكون مفارقا. بل هو الذى هو فى نفسه خال عن الشرائط اللاحقة موجودٌ فى الأعيان،
19
وقد اكتنفه من خارج شرائط وأحوال. فهو فى حد وحدته التى بها هو واحد من تلك
156
1
الجملة حيوان مجرد بلا شرط شىء آخر، وإن كانت تلك الوحدة زائدة على حيوانيته
2
ولكن غير اللواحق الأخرى. ولو كان ههنا حيوان مفارق كما يظنون، لم يكن هو الحيوان
3
الذى نتطلبه ونتكلم عليه، لأنا نطلب حيوانا مقولا على كثيرين بأن يكون كل واحد من
4
الكثيرين هو هو. وأما المباين الذى ليس محمولا على هؤلاء إذ ليس شىء منها هو هو،
5
فلا حاجة بنا إليه فيما نحن بسبيله.
6
[28] فالحيوان مأخوذا بعوارضه هو الشىء الطبيعى، والمأخوذ بذاته هو الطبيعة
7
التى يقال إن |205|[ed. Cairo vol. 1]وجودها أقدم من الوجود الطبيعى بقدم البسيط على المركب، وهو
8
الذى يخص وجوده بأنه الوجود الإلهى لأن سبب وجوده بما هو حيوان عناية الله تعالى.
9
وأما كونه مع مادة وعوارض وهذا الشخص وإن كان بعناية الله تعالى فهو بسبب الطبيعة
10
الجزئية؛ فكما أن للحيوان فى الوجود أنحاء فوق واحد، كذلك له فى العقل. فإن فى
11
العقل صورة الحيوان المجرد على النحو الذى ذكرناه من التجريد؛ وهو بهذا الوجه يسمى
12
صورة عقلية؛ وفى العقل أيضا صورة الحيوان من جهة ما يطابق فى العقل بحد واحد بعينه
13
أعيانا كثيرة، فتكون الصورة الواحدة مضافة عند العقل إلى كثرة، وهو بهذا الاعتبار كلى،
14
وهو معنى واحد فى العقل لا تختلف نسبته إلى أى واحد أخذته من الحيوانات، أى أى
15
واحد منها أحضرت صورته فى الخيال بحال، ثم انتزع العقل مجرد معناه عن العوارض
16
حصل فى العقل هذه الصورة بعينها. وكانت هذه الصورة هى ما يحصل عن تجريد الحيوانية
17
عن أى خيال شخصى مأخوذ عن موجود من خارج أو جار مجرى الموجود من خارج
18
وإن لم يوجد هو بعينه من خارج، بل اخترعه الخيال.
157
1
[29] وهذه الصورة وإن كانت بالقياس إلى الأشخاص كلية، فهى بالقياس إلى
2
النفس الجزئية التى انطبعت فيها شخصية، وهى واحدة من الصور التى فى العقل. ولأن
3
الأنفس الشخصية كثيرة بالعدد، فيجوز إذن أن تكون هذه الصورة الكلية كثيرة بالعدد من
4
الجهة التى هى بها شخصية، ويكون لها معقول |206|[ed. Cairo vol. 1] كلى آخر هو بالقياس إليها مثلها
5
بالقياس إلى خارج، ويتميز فى النفس عن هذه الصورة التى هى كلية بالقياس إلى خارج
6
بأن تكون مقولة عليها وعلى غيرها. وسنعيد الكلام فى هذا عن قريب بعبارة أخرى.
7
[30] فالأمور العامة من جهة موجودة من خارج، ومن جهة ليست، وأما شىء
8
واحد بعينه بالعدد محمول على كثير، يكون هو محمولًا على هذا الشخص بأن ذلك
9
الشخص هو، وعلى شخص آخر كذلك، فامتناعه بيّن، وسيزداد بيانا. بل الأمور العامة،
10
من جهة ما هى عامة بالفعل، موجودة فى العقل فقط. |207|[ed. Cairo vol. 1]
11
[الفصل الثاني]
12
ب فصل
13
فى كيفية كون الكلية للطبائع الكلية وإتمام القول فى ذلك،
14
وفى الفرق بى الكل والجزء، والكلى والجزئى
15
[1] فقد تحققت إذن أن الكلى من الموجودات ما هو، وهو هذه الطبيعة عارضا
16
لها أحد المعانى التى سميناها كلية. وذلك المعنى ليس له وجود مفرد فى الأعيان البتة،
17
فإنه ليس الكلى بما هو موجودا مفردا بنفسه، إنما يتشكك من أمره أنه هل له وجود
18
على أنه عارض لشىء من الأشياء، حتى يكون فى الأعيان مثلا شىء هو إنسان وهو
19
ذاته بعينه موجودا لزيد وعمرو وخالد.
158
1
[2] فنقول: أما طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان فيلحقها أن تكون موجودة
2
وإن لم يكن أنها موجودة هو إنها إنسان ولا داخلا فيه، وقد لحقها مع الوجود هذه الكلية
3
ولا وجود لهذه الكلية إلا فى النفس. وأما الكلية خارج فعلى اعتبار آخر شرحناه
4
فى الفنون السابقة. بل هذه الطبائع ما كان منها غير محتاج إلى مادة فى أن يبقى، ولا
5
فى أن يبتدئ لها وجود. فيكون من المستحيل أن يتكثر، بل إنما يكون النوع منه قائما
6
واحدا بالعدد. لأن مثل هذه الطبيعة ليست تتكثر بالفصول ولا بالمواد ولا بالأعراض. أما
7
بالفصول فلنوعيته، وأما |208|[ed. Cairo vol. 1]بالمواد فلتجرده، وأما بالأعراض فلأن الأعراض إما أن
8
تكون لازمة للطبيعة فلا تختلف فيها الكثرة بحسب النوع، وإما أن تكون عارضة غير
9
لازمة للطبيعة، فيكون عروضها بسبب يتعلق بالماد [*]بالماد corrupt for بالمادة. فيكون حق مثل هذا إذا كان نوعا
10
موجودا، أن يكون واحدا بالعدد.
11
[3] وما كان منها محتاجًا إلى المادة فإنما يوجد مع أن توجد المادة مهيأة فيكون
12
وجوده مستلحقا به أعراضا وأحوالا خارجة يتشخص بها، وليس يجوز أن تكون طبيعة
13
واحدة مادية وغير مادية، وقد عرفت هذا فى خلال ما علمت. وأما إن كانت هذه
14
الطبيعة جنسية فسنبين أن طبيعة الجنس محال أن تقوم إلا فى الأنواع ثم يقوم قوام الأنواع.
15
فهذه حال وجود الكليات.
16
[4] وليس يمكن أن يكون معنى هو بعينه موجودا فى كثيرين. فإن الإنسانية التى
17
فى عمرو إن كانت بذاتها لا بمعنى الحد موجودة فى زيد، كان ما يعرض لهذه الإنسانية فى
18
زيد لامحالة يعرض لها وهى فى عمرو، إلا ما كان من العوارض ماهيته [مقولة] بالقياس
19
إلى زيد. وأما ما كان يستقر فى ذات الإنسان ليس استقراره فيه محوجا إلى أن يصير
159
1
مضافًا مثل أن يبيض أو يسود أو يعلم، فإنه إذا علم لم يكن به مضافًا إلا إلى المعلوم. ويلزم
2
من هذا أن تكون ذات واحدة قد اجتمع فيها الأضداد وخصوصًا إن كان حال الجنس
3
عند الأنواع حال النوع عند الأشخاص. فتكون ذات واحدة هى موصوفة بأنها ناطقة
4
وغير ناطقة. وليس يمكن أن يعقل من له جبلة سليمة أن إنسانية واحدة اكتنفتها أعراض
5
عمرو وإياها بعينها اكتنفت |209|[ed. Cairo vol. 1] أعراض زيد. فإن نظرت إلى الإنسانية بلا شرط آخر
6
فلا تنظرن إلى هذه الإضافات، فهى على ما علمناك.
7
[5] فقد بان أنه ليس بمكن أن تكون الطبيعة توجد فى الأعيان وتكون بالفعل كلية،
8
أى هى وحدها مشتركة للجميع. وإنما تعرض الكلية لطبيعة ما إذا وقعت فى التصور
9
الذهنى، وأما كيفية وقوع ذلك فيجب أن نتأمل ما قلناه فى كتاب النفس. فالمعقول فى
10
النفس من الإنسان هو الذى هو كلى، وكليته لا لأجل أنه فى النفس، بل لأجل أنه مقيس
11
إلى أعيان كثيرة موجودة أو متوهمة حكمها عنده حكم واحد.
12
[6] وأما من حيث أن هذه الصورة هيئة فى نفس جزئية فهى أحد أشخاص العلوم
13
أو التصورات. وكما أن الشىء باعتبارات مختلفة يكون جنسًا ونوعًا، فكذلك بحسب
14
اعتبارات مختلفة يكون كليًا وجزئيًا. فمن حيث أن هذه الصورة صورة ما فى النفس ما من
15
صور النفس فهى جزئية، ومن حيث أنها يشترك فيها كثيرون على أحد الوجوه الثلاثة التى
16
بينا فيما مضى فهى كلية. ولا تتناقض بين هذين الأمرين. لأنه ليس بممتنع اجتماع أن تكون
17
الذات الواحدة تعرض لها شركة بالإضافة إلى كثيرين. فإن الشركة فى الكثرة لا تمكن إلا
18
بالأضافة فقط، وإذا كانت الإضافة لذوات كثيرة لم تكن شركة، فيجب أن تكون إضافات
19
كثيرة لذات واحدة بالعدد. |210|[ed. Cairo vol. 1]والذات الواحدة بالعدد من حيث هى كذلك فهى
160
1
شخصية لا محالة. والنفس نفسها تتصور أيضا كليا آخر يجمع هذه الصورة وأخرى فى تلك
2
النفس أو فى نفس غيرها؛ فإنها كلها من حيث هى فى النفس تحد بحد واحد.
3
[7] وكذلك قد توجد اشتراكات أخرى، فيكون الكلى الآخر يمايز هذه الصورة
4
بحكم له خاص وهو نسبته إلى أمور فى النفس، وهذه إنما كانت نسبتها الجاعلة إياها كلية
5
هى إلى أمور من خارج على وجه أن أى تلك الخارجات سبقت إلى الذهن فجائز أن يقع
6
عنها هذه الصورة بعينها. وإذا سبق واحد فتأثرت النفس منه بهذه الصفة لم يكن لما خلاة [*]خلاة corrupt for خلاه
7
تأثير جديد إلا بحكم هذا الجواز المعتبر؛ فإن هذا الأثر هو مثل صورة السابق قد جرد
8
عن العوارض؛ وهذا هو المطابقة. ولو كان بدل أحد هذه المؤثرات أو المؤثر بها شىء غير
9
تلك الأمور المعروفة وغير مجانس لها لكان الأثر، غير هذا الأثر، فلا يكون مطابقة. وأما
10
الكلى الذى فى النفس بالقياس إلى هذه الصورة التى فى النفس، فهذا الاعتبار له بحسب
11
القياس إلى أى صورة سبقت من هذه الصور التى فى النفس إلى النفس. ثم هذه أيضا
12
تكون صورة شخصية من حيث هى على ما قلناه.
13
[8] ولأن فى قوة النفس أن تعقل، وتعقل لأنها عقلت، وتعقل أنها عقلت أنها
14
عقلت، وأن تركب إضافات فى إضافات، وتجعل للشىء الواحد أحوالا مختلفة من
15
المناسبات إلى غير النهاية بالقوة، فيجب أن لا تكون لهذه الصور العقلية المترتب بعضها
16
على بعض وقوف، ويلزم أن تذهب إلى غير النهاية، لكن تكون بالقوة لا بالفعل، |211|[ed. Cairo vol. 1]
17
لأنه يلزم النفس إذا عقلت شيئا أن تكون بالفعل تعقل معه الأمور التى تلزمه لزوما
18
قريبا، وأن تخطرها بالبال فضلا عما يمعن فى البعد. فإن ههنا مناسبات فى الجذور الصم
19
وفى إضافات الأعداد كلها قريبة المنال من النفس، وليس يلزم أن تكون النفس فى حال
161
1
واحدة تعقل تلك كلها أو أن تكون مشتغلة على الدوام بذلك، بل فى قوتها القريبة أن تعقل
2
ذلك مثل إخطار المضلعات التى لا نهاية لها بالبال، ومزاوجة عدد بأعداد لا نهاية لها بالبال،
3
بل بوقوع مناسبة عدد مع مثله مرارًا لا نهاية لها بالتضعيف. فإن هذا أشبه شىء بما نحن
4
فى ذكره. فإما أنه هل يجوز أن تقوم المعانى العامة للكثرة مجردة عن الكثرة وعن التصورات
5
العقلية، فأمر سنتكلم فيه من بعد.
6
[9] فإذا قلنا: إن الطبيعة الكلية موجودة فى الأعيان فلسنا نعنى، من حيث
7
هى كلية بهذه الجهة من الكلية، بل نعنى أن الطبيعة التى تعرض لها الكلية موجود فى
8
الأعيان. فهى من حيث هى طبيعة شىء، ومن حيث هى محتملة لأن تعقل عنها صورة
9
كلية شىء؛ وأيضا من حيث عقلت بالفعل كذلك شىء، ومن حيث هى صادق عليها
10
أنها لو قارنت بعينها لا هذه المادة والأعراض، بل تلك المادة والأعراض، لكان ذلك
11
الشخص الآخر شىء. وهذه الطبيعة موجودة فى الأعيان بالاعتبار الأول، وليست فيه
12
كلية موجودة بالاعتبار الثانى والثالث والرابع أيضا فى الأعيان. |212|[ed. Cairo vol. 1]فإن جعل هذا
13
الاعتبار بمعنى الكلية كانت هذه الطبيعة مع الكلية فى الأعيان، وأما الكلية التى نحن فى
14
ذكرها فليست إلا فى النفس.
15
[10] وإذ قد عرفنا هذه الأشياء، فقد سهل لنا الفرق بين الكل والجزء وبين الكلى
16
والجزئى؛ وذلك أن الكل من حيث هو كل يكون موجودًا فى الأشياء، وأما الكلى من
17
حيث هو كلى فليس موجودا إلا فى التصور. وأيضا الكل يُعَدّ بأجزائه ويكون كل جزء
18
داخلا فى قوامه؛ وأما الكلى فإنه لا يعد بأجزائه، ولا أيضا الجزئيات داخلة فى قوامه.
19
وأيضا فإن طبيعة الكل لا تقوم الأجزاء التى فيه، بل يتقوم منها، وأما طبيعة الكلى فإنها تقوم
162
1
الأجزاء التى قيه وكذلك فإنّ طبيعة الله لا تصير جزءا من أجزائه البتة، وأمّا طبيعة الكلى
2
جزء من طبيعة الجزئيات لأنها إما الأنواع فتقوم من طبائع الكليّين أعنى الجنس والفصل، وإما
3
الأشخاص فتتقوم من طبيعة الكليات كلها ومن طبيعة الأعراض التى تكتنفها مع المادة.
4
وأيضا فإن الكل لا يكون كلا لكل جزء وحده ولو انفرد، والكلى يكون كليا محمولا على
5
كل جزئى. وأيضا فإن أجزاء كل كل متناهية، وليس أجزاء كل كلى متناهية. وأيضا الكل
6
يحتاج، إلى أن تحضره أجزاؤه معا، والكلى لا يحتاج إلى أن تحضره أجزاؤه معا. وقد يمكنك
7
أن تجد فروقا أيضا غير هذه فتعلم أن الكل غير الكلى. |213|[ed. Cairo vol. 1]
8
[الفصل الثالث]
9
ج فصل
10
فى الفصل بين الجنس والمادة
11
[1] والذى يلزمنا الآن هو أن نعرف طبيعة الجنس والنوع. فأما أن الجنس على كم
12
شىء يدل فقد كان يدل فى زمان اليونانيين على معان كثيرة، وقد ذهب استعمالها فى
13
زماننا. فالجنس فى صناعتنا لا يدل إلا على المعنى المنطقى المعلوم، وعلى الموضوع،
14
وربما استعملنا لفظ الجنس مكان النوع فقلنا: ليس كذا من جنس كذا أى من نوعه أو
15
من جملة ما يشاركه فى حدّه. والنوع أيضًا ليس يدل عندنا الآن فى زماننا وعادتنا فى
16
الكتب العلمية إلا على النوع المنطقى، وعلى صور الأشياء.
17
[2] وغرضنا الآن فيما يستعمله المنطقيون من ذلك فنقول: إن المعنى الذى يدل
18
عليه بلفظة الجنس ليس يكون جنسًا إلا على نحوٍ من التصوّر، إذا تغير عنه ولو بأدنى
163
1
اعتبار لم يكن جنسا. وكذلك كل واحد من الكليات المشهورة. ولنجعل بياننا فى الجنس
2
وفى مثال إشكاله على المتوسطين فى النظر فنقول:
3
[3] إن الجسم قد يقال له إنه جنس الإنسان وقد يقال له إنه مادة الإنسان. فإن كان
4
مادة الإنسان كان لا محالة جزء من وجوده واستحال أن يحمل ذلك الجزء |214|[ed. Cairo vol. 1]على
5
الكل. فلننظر كيف يكون الفرق بين الجسم وقد اعتبر مادةً، وبينه وقد اعتبر جنسًا؛
6
فهنالك يصير لنا سبيل إلى معرفة ما نريد بيانه.
7
[4] فإذا أخذنا الجسم جوهرًا ذا طول وعرض وعمق من جهة ما له هذا، وبشرط أنه
8
ليس داخلا فيه معنى غير هذا، وبحيث لو انضم إليه معنى غير هذا، مثل حس أو تغذٍّ أو
9
غير ذلك، كان معنى خارجا عن الجسمية، محمولًا فى الجسمية، مضافًا إليها. فالجسم
10
مادة. وإن أخذنا الجسم جوهرا ذا طول وعرض وعمق بشرط ألا يتعرض بشرط آخر
11
البتة ولا يوجب أن تكون جسميته لجوهرية متصورة بهذه الأقطار فقط، بل جوهرية كيف
12
كانت ولو مع ألف معنى مقوم لخاصية تلك الجوهرية وصوره، ولكن معها أو فيها الأقطار،
13
فللجملة أقطار ثلاثة على ما هى للجسم، وبالجملة أى مجتمعات تكون بعد أن تكون
14
جملتها جوهرا ذا أقطار ثلاثة، وتكون تلك المجتمعات ــ إن كانت هناك مجتمعات ــ
15
داخلة فى هوية ذلك الجوهر، لا أن تكون تلك الجوهرية تمت بالأقطار ثم لحقت تلك
16
المعانى خارجة عن الشىء الذى قد تم، كان هذا المأخوذ هو الجسم الذى هو الجنس.
17
[5] فالجسم بالمعنى الأول إذ هو جزء من الجوهر المركب من الجسم والصورة التى
18
بعد الجسمية بمعنى المادة فليس بمحمول؛ لأن تلك الجملة ليست بمجرد جوهر ذى طول
164
1
وعرض وعمق فقط. وأما هذا الثانى فإنه محمول على كل مجتمع من مادة وصورة، واحدة
2
كانت أو الفا، وفيها الأقطار الثلاثة، فهو إذن محمول |215|[ed. Cairo vol. 1]على المجتمع من الجسمية
3
التى كالمادة ومن النفس، لأن جملة ذلك جوهر وإن اجتمع من معان كثيرة. فإن تلك الجملة
4
موجودة لا فى موضوع، وتلك الجملة جسم لأنها جوهر، وهو جوهر له طول وعرض وعمق.
5
[6] وكذلك فإن الحيوان إذا أُخذ حيوانا بشرط أن لا يكون فى حيوانيته إلا جسمية
6
وتغذٍ وحسٌ، وأن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه، فربما كان لا يبعد أن يكون مادة
7
للإنسان أو موضوعا وصورته النفس الناطقة. وإن أخذ بشرط أن يكون جسما بالمعنى
8
الذى يكون به الجسم جنسا، وفى معانى ذلك الجسم على سبيل تجويز الحس لا غير ذلك
9
من الصور، ولو كان النطق أو فصل يقابل النطق غير متعرض لرفع شىء منها أو وضعه،
10
بل مجوزا وجود أى ذلك كان فى هويته، ولكن هناك معها بالضرورة قوة تغذية وحس
11
وحركة ضرورة ولا ضرورة فى أن لا يكون غيرها أو يكون، كان حيوانا بمعنى الجنس.
12
[7] وكذلك فافهم الحال فى الحساس والناطق؛ فإن أخذ الحساس جسما أو شيئا له
13
حس بشرط أن لا يكون زيادة أخرى لم يكن فصلا، وإن كان جزءا من الإنسان. وكذلك
14
فإن الحيوان غير محمول عليه. وإن أخذ جسما أو شيئا مجوزا له وفيه ومعه، أى الصور
15
والشرائط كانت بعد أنيكون فيها حس، كان فصلا وكان الحيوان محمولا عليه.
16
[8] فإذن أى معنى أخذته مما يشكل الحال فى جنسيته أو ماديته من هذه فوجدته
17
قد يجوز انضمام الفصول إليه أيها كان على أنها فيه ومنه، كان جنسا. وإن |216|[ed. Cairo vol. 1] أخذته
165
1
من جهة بعض الفصول وتممت به المعنى وختمته حتى لو دخل شىء آخر لم يكن من تلك
2
الجملة، بل مضافًا من خارج، لم يكن جنسا، بل مادة. وإن أوجبت لها تمام المعنى حتى
3
دخل فيه ما يمكن أن يدخل، صار نوعا. وإن كنت فى الإشارة إلى ذلك المعنى لا تتعرض
4
لذلك، كان جنسا. فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة تكون مادة، وباشتراط أن تكون
5
زيادة يكون نوعا. وبأن لا تتعرض لذلك، بل يجوز أن يكون كل واحد من الزيادات على
6
أنها داخلة فى جملة معناه، يكون جنسا. وهذا إنما يشكل فى ذاته مركبة، وأما فيما ذاته
7
بسيطة فعسى أن العقل يفرض فيه هذه الاعتبارات فى نفسه على النحو الذى ذكرنا قبل هذا
8
الفصل. وأما فى الوجود فلا يكون منه شىء متميز هو جنس وشىء هو مادة، فنقول:
9
[9] إنما يوجد للإنسان الجسمية قبل الحيوانية فى بعض وجوه التصور إذا أخذت
10
الجسمية بمعنى المادة لا بمعنى الجنس، وكذلك إنما يوجد له الجسم قبل الحيوانية إذا كان
11
الجسم بمعنى لا يحمل عليه، لا بمعنى يحمل عليه. وأما الجسمية التى تفرض مع جواز أن
12
توضع متضمنة لكل معنى مقرونا بها وجوبٌ أن يتضمن الأقطار الثلاثة، فإنها لم توجد
13
للشىء الذى هو نوع الحيوان إلا وقد تضمن الحيوانية. فيكون معنى الحيوانية جزءًا
14
ما من وجود ذلك الجسم بالفعل بعد أن كان مجوزا فى نفسها تضمنها إياه، فيكون معنى
15
الحيوانية جزءًا ما من وجود ذلك |217|[ed. Cairo vol. 1] الجسم بعكس حال الجسم إذا حصل؛ كما
16
أن الجسم الذى هو بمعنى المادة جزء من وجود الحيوان ثم الجسم المطلق الذى ليس بمعنى
17
المادة إنما وجوده واجتماعه من وجود أنواعه، وما توضع تحته فهى أسباب لوجوده،
18
وليس هو سببا لوجودها. ولو كان للجسمية التى بمعنى الجنس وجود محصل قبل وجود
166
1
النوعية، وإن كانت قبليته قبلية لا بالزمان بل بالذات، لكان سببا لوجود النوعية، مثل
2
الجسم الذى بمعنى المادة، وإن كانت قبليته لا بالزمان. بل وجود تلك الجسمية فى هذا
3
النوع هو وجود ذلك النوع لا غير.
4
[10] وفى العقل أيضًا فإن الحكم فيه كذلك. فإن العقل لا يمكنه أن يضع فى شىء
5
من الأشياء الجسميه التى لطبيعة الجنس وجودًا يحصل هو أولا وينضم إليه شىء آخر
6
حتى يحدث الحيوان النوعى فى العقل. فإنه لو فعل ذلك لكان ذلك المعنى الذى للجنس
7
فى العقل غير محمول على طبيعة النوع، بل كان جزءا منه فى العقل أيضا. بل إنما يحدث
8
للشىء الذى هو النوع طبيعة الجنسية فى الوجود وفى العقل معًا إذا حدث النوع بتمامه.
9
ولا يكون الفصل خارجًا عن معنى ذلك الجنس ومضافًا إليه، بل متضمنًا فيه وجزء منه
10
من الجهة التى أومأنا إليها. وليس هذا حكم الجنس وحده من حيث هو كلى، بل حكم
11
كل كلى من حيث هو كلى. |218|[ed. Cairo vol. 1]
12
[11] فبيّن من هذا أن الجسم إذا أخذ على الجهة التى يكون جنسا يكون كالمجهول
13
بعد، لا يدرى أنه على أى صورة، وكم صورة يشتمل، وتطلب النفس تحصيل ذلك،
14
لأنه لم يتقرر بعد بالفعل شىء هو جسم محصل. وكذلك إذا أخذنا اللون وأخطرناه ببال
15
النفس؛ فإن النفس لا تقنع بتحصيل شىء متقرر لا بالفعل، بل تطلب فى معنى اللون زيادة
16
حتى يتقرر بالفعل لون.
17
[12] وأما طبيعة النوع فليس يطلب فيها تحصيل معناها، بل تحصيل الإشارة.
18
وأما طبيعة الجنس فإنها وإن كانت النفس إذا طلبت فيها تحصيل الإشارة كانت قد فعلت
19
الواجب وما يجب أن يقنع معه، فإن النفس قد تطلب أيضا مع ذلك تحصيل معناه قبل هذا
167
1
الطلب، حتى إنما يبقى له أن يستعد لهذا الطلب أكثر ويكون إلى النفس أن يفرضه اى مشار
2
إليه شاء. فلا يمكن النفس أن تجعله بحيث يجوز أن يكون أى مشار إليه شاء إلا بعد أن
3
تضيف إليه معانى أخرى بعد اللونية قبل الإشارة. فإنه ليس يمكنه أن يجعل اللون وهو لون
4
بعد بلا زيادة شىء مشار إليه أنه لون فى هذه المادة، وذلك الشىء ليس إلا لونا فقط. وقد
5
يخصص بأمور عرضية عرضت من خارج يجوز أن يتوهم هو بعينه باقيا مع زوال واحد
6
واحد منها، كما يكون فى مخصصات طبيعة النوعية. وكذلك فى المقدار أو الكيفية أو
7
غيرها؛ كذلك فى الجسم الذى نحن بسبيله، ليس يمكن أن يجعله |219|[ed. Cairo vol. 1] الذهن مشارًا
8
إليه مقتصرا على أنه جوهر يتضمن أى شىء اتفق بعد أن تكون الجملة طويلة عريضة
9
عميقة على جملته [ما] لم يتحدد الأشياء التى يتضمنها أو لا يتضمنها فيصير نوعًا.
10
[13] فإن قال قائل: فيمكننا أن نجمع مثل هذا الجمع أى الأشياء شيئًا، فنقول:
11
[14] إن كلامنا فى نحو من الاجتماع مخصوص، يكون اجتماع الأشياء فيه
12
على نحو الاجتماع فى طبيعة الجنس من حيث هو جنس؛ وذلك النحو هو أن تكون
13
المجتمعات فصولًا تنضم إليه، إلا أنه ليس كلامنا ههنا فى الدلالة على طبيعة الجنس أنه
14
كيف تحوى الفصول وغير الفصول، وأى الأشياء يجتمع فيه على نحو الفصول، بل كلامنا
15
فيها على النحو المؤدى إلى الفرق بين الجنس والمادة. وليس إذا أردنا أن نفرق بين شيئين
16
يلزمنا أن نتعدى التفريق إلى بيانات أحوال أخرى، وإنما غرضنا أن نعرف أن طبيعة الجنس
17
الذى هو الجسم هو أنه جوهر يجوز فيه اجتماع أشياء من شأنها أن تجتمع فيه. فتكون
168
1
الجملة طويلة عريضة عميقة، وتكون وإن كانت لا تكون إلا أشياء معلومة الشروط
2
مجهولة بعد. وإلى هذا الحد ما نتكلم فى هذا الفصل. |220|[ed. Cairo vol. 1]
3
[الفصل الرابع]
4
د فصل
5
فى كيفية دخول المعانى الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس
6
[1] فلنتكلم الآن فى الأشياء التى يجوز اجتماعها فى الجنس، ويكون التوقف فى
7
إثبات طبيعته وماهيته محصلة بالفعل إنما يقع لأجلها. فنقول: إن هذا المطلب ينقسم إلى
8
قسمين: أحدهما، أنه أى الأشياء هى الأشياء التى يجب أن يحصرها الجنس فى نفسه
9
وتجتمع، فتكون تلك الأشياء جاعلة إياه نوعا؟ والثانى، أنه أى الأشياء يكون واقعا فى
10
حصره مما ليس كذلك؟
11
[2] وذلك أن الجسم إذا انحصر فيه البياض على النحو المذكور لم يجعله نوعًا،
12
والحيوان إذا قسم إلى ذكر وأنثى لم يتنوع بذلك، وهو مع ذلك يتنوع بأشياء أخرى. ثم
13
الحيوان يجوز أن يقع على شخص فيه أعراض كثيرة تكون تلك الجملة حيوانا مشارا إليه.
14
[3] فنقول أولًا: ليس يلزمنا أن نتكلف إثبات خاصية فصل كل جنس عند كل نوع
15
ولا أيضا فصول أنواع جنس واحد، فإن ذلك ليس فى مقدورنا، بل الذى فى مقدورنا هو
16
معرفة القانون فى ذلك، وأنه كيف ينبغى أن يكون الأمر فى نفسه. وأما إذا نظرنا فى معنى
17
من المعانى المعقولة الواقعة فى تخصيص الجنس أنه هل هذا المعنى للجنس على شرط ذلك
18
القانون أو ليس، فربما جهلناه فى كثير من الأشياء، وربما علمناه فى بعضها، فنقول:
169
1
[4] إن المعنى العام إذا |221|[ed. Cairo vol. 1]انضافت إليه طبيعة فيجب أول شىء أن يكون
2
انضيافها إليه على سبيل القسمة حتى ترده إلى النوعية، وان تكون القسمة مستحيلة أن
3
تنقلب وذلك المشار إليه باقى الجوهر، حتى يصير مثلا المتحرك منهما غير متحرك وهو
4
واحد بالشخص، وغير المتحرك متحركا وهو واحد بالشخص، وغير المتحرك والمتحرك
5
قسما التقسيم الذاتى؛ بل يجب أن تكون القسمة لازمة فيكون المعنى الخاص لا يفارق
6
قسطه الخاص من الجنس، وبعد ذلك فيجب أن يكون الموجب من القسمين أو كلاهما
7
ليسا عارضين له بسبب شىء قبلهما وتتضمن طبيعة الجنس أن يكون له ذلك المعنى
8
أولًا. فإنه إن كان ثانيًا جاز أن لا يكون ذلك المعنى فصلا البتة، بل كان أمرا لازما للأمر
9
الذى هو الفصل، مثل أن يكون قاسم قد غير حكمه فلم يقسم الجوهر إلى جسم وإلى غير
10
جسم، بل يقسم إلى قابل الحركة وإلى غير قابل للحركة. فإن القابل للحركة لا يلحق الجوهر
11
أول اللحوق، بل بعد أن يصير مكانيا جسمانيا. فقابل الحركة يلزم الجسم، ويلزم الجسم
12
أشياء كثيرة كل واحد منها يذكر الجسم، لكنها ليست فصولًا بل أمورًا لزمت الفصول.
13
لأن الجوهر [بتوسط] الجسمية [مما] تعرض له تلك المعانى، وانقسامه إلى أن يكون ذا
14
جسمية أو غير ذى جسمية فهو لما هو جوهر لا لتوسط شىء آخر.
15
[5] وقد يجوز أن يكون بعض ما لا يعرض أولا فصلا، ولكن لا يكون فصلا قريبا
16
لذلك الجنس، بل فصلًا بعد فصل، مثل أن يقال؛ إن الجسم منه ناطق |222|[ed. Cairo vol. 1] ومنه غير
17
ناطق، لأن الجسم بما هو جسم فقط ليس مستعدا لأن يكون ناطقا وغير ناطق؛ بل يحتاج
18
إلى أن يكون أولا ذا نفس حتى يكون ناطقا. وإذا وجد الجنس فصلا فيجب أن تكون
19
تلك الفصول التى بعده فصولا تُعرّف تخصيص ذلك الفصل، فإن ذا النطق وعديم النطق
170
1
تعرف حال فصل كونه ذا نفس، فإنه ذو نطق وعديم النطق من جهة ما هو ذو نفس،
2
لا من جهة أنه أبيض أو أسود أو شىء آخر البتة بالفعل. وكذلك كون الجسم ذا نفس أو
3
غير ذى نفس ليس له هذا بسبب شىء البتة من الأجناس المتوسطة، فإذا عرض لطبيعة
4
الجنس أيضًا عوارض ينفصل بها لم يخل إما أن يكون الاستعداد للإنفصال بها إنما هو
5
لطبيعة الجنس، أو لطبيعة أعم منها، كما كان من قبل لطبيعة أخص منها. فإن كان لطبيعة
6
أعم منها، مثل أن الحيوان منه أبيض وأسود، والإنسان منه ذكر وأنثى، فليس ذلك من
7
فصوله؛ بل الحيوان إنما صار أبيض وأسود لأجل أنه جسم طبيعى، وقد صار ذلك الجسم
8
الطبيعى قائما بالفعل ثم وضع بهذه العوارض، وهو يقبلها، وإن لم يكن حيوانا. والانسان
9
إنما صار مستعدا للذكر والأنثى لأجل أنه حيوان، فهذا لا يكون فصلا للجنس.
10
[6] وأيضًا قد تكون أشياء خاصة بالجنس تقسمه كالذكر والأنثى بالحيوان، ولا
11
تكون فصولا بوجه من الوجوه؛ وذلك لأنها إنما كانت تكون فصولا لو كانت عارضة
12
للحيوان من جهة صورته حتى انقسمت بها صورته انقساما أوليا، ولم تكن |223|[ed. Cairo vol. 1]
13
لازمة لشىء يقومه فصل أولا؛ فأما إذا لم تكن كذلك بل إنما عرضت للحيوان لأن مادته
14
التى يكون منها عرض لها عارض فصارت بحال من الأحوال لا تمنع حصول صورة الجنس
15
وماهيته ولا طرفا القسمة فى المادة، ولا أيضا تمنع أن يقع للجنس افتراق آخر من حيث
16
صورته بالفصول، فليس طرفا القسمة من الفصول، بل من العوارض اللازمة فيه، أعنى
17
مثل الذكورة والأنوثة. فإن المعنى الذى كان صالحا لصورة الحيوان وكان متعينا لفصل خاص
18
من الحيوان الكلى عرض له انفعال حار فصار ذكرا، وكان يجوز أن يعرض له بعينه انفعال
19
مبرد فى المزاج فيكون أنثى، وذلك الانفعال وحده لا يمنعه من حيث نفسه أن يقبل أى
171
1
فصل يعرض للحيوان من جهة صورته، أى من جهة كونه ذا نفس داركا متحركا بالإرادة،
2
فكان يجوز أن يقبل النطق وغير النطق فلم يكن ذلك مؤثرا فى تنويعه. وحتى لو توهمناه لا
3
أنثى ولا ذكرا ولم نلتفت إلى ذلك البتة لقام نوعا بما ينوعه، فلا ذلك يمنع عن التنوع دون
4
الالتفات إليه ولا يفيد التنوع بالالتفات إليه. وليس كذلك إذا توهمناه لا ناطقا ولا أعجم أو
5
توهمنا اللون لا أبيض ولا أسود بوجه.
6
[7] وليس يكفى إذا أردنا أن نفرق بين الفصول والخواص القاسمة أن نقول: إن الذى
7
عرض من جهة المادة فليس بفصل. فإن كونه غاذيا أو غير غاذ إنما يعرض من جهة المادة،
8
لكن يجب أن تراعى الشرائط الأخرى التى وصفناها. |224|[ed. Cairo vol. 1]ولهذا لا نجد شيئا من
9
جملة ما هو مغتذ من أنواع الجسم يدخل فى جملة ما هو غير مغتذ، ونجد الإنسان وهو
10
نوع لا محالة من الحيوان يدخل فى جملة الذكر والأنثى جميعا، وكذلك الفرس وغيره.
11
والذكر والأنثى قد تدخل أيضا فى الإنسان والفرس. على أنهذا المثنى وهو ملازم ما
12
به تقع القسمة للمقسوم ــ وإن كان من شرائط الفصل ــ فقد يكون فى غير الفصل. فربما
13
لزم ما ليس بفصل نوعا واحدا لا يتعداه؛ وذلك إذا كان من لوازم الفصل.
14
[8] ونرجع فنقول: وأنت تعلم أن المادة إذا كانت تتحرك إلى قبول حقيقة صورة
15
ليحدث نوع، فقد يعرض لها عوارض من الأمزجة وغيرها تختلف بها حالها فى أفعال
16
تصدر عنها لا من حيث تقبل صورة الجنس أو صورة الفصل، إذ ليس كل ما تقبله من
17
الأحوال وما يعرض لها إنما يكون من جملة ما هو داخل فى الغاية التى إليها تتحرك فى
18
التكون. فقد علمت مصادمات الأمور الطبيعية، ومعارضة بعضها لبعض، والانفعالات
19
التى تقع بينها، فربما كانت الانفعالات المعترضة صارفة عن الغاية المقصودة، وربما كانت
172
1
موقعة لاختلافات لا فى نفس الغاية المقصودة، بل فى أمور تناسب الغاية مناسبة ما،
2
وربما كانت فى أمور خارجة عنها جدا. فما يعرض للمادة من هذه الجهة وتبقى معه المادة
3
مستمرة إلى الصورة فذلك خارج عن معنى الغاية، والذكورة والأنوثة إنما تؤثر فى كيفية
4
حال الآلات التى بها يكون التناسل، والتناسل |225|[ed. Cairo vol. 1] لا محالة أمر عارض بعد الحياة
5
وبعد تنوع الحياة شيئا محصلا بعينه. فيكون ذانك وأمثالهما من جملة الأحوال اللاحقة
6
بعد تنوع النوع نوعا، وإن كانت مناسبة للغاية. فما كان من الانفعالات واللوازم بهذه الصفة
7
فليعلم أنها ليست من الفصول للأجناس.
8
[9] قد عرّفنا طبيعة الكلى وأنه كيف يوجد وأن الجنس منها كيف يفارق المادة
9
تعريفًا من وجه يمكن أن يتفرع منه وجوه سنوردها بعد، وعرفنا أى الأشياء يتضمنها
10
الجنس مما يتنوع بها. وبقى بحثان متصلان بما نحن بسبيله. أحدهما، أى الأشياء يتضمنها
11
الجنس مما ليس بمنوع إياه؟ والثانى، أن هذا التأحيد كيف يكون وكيف يكون عن الجنس
12
وعن الفصل، وهما شيئان، شىء واحد متحصل بالفعل؟
13
[10] فأما البحث الأول فنقول فيه: إن تلك الأشياء إذ لا تكون فصولا فهى
14
لا محالة عوارض. والعوارض إما لازمة وإما غير لازمة. واللازمة إما لازمة لأجناس
15
الجنس ــ إن كان له أجناس ــ وإما لفصول أجناسه، وإما للجنس نفسه من فصله،
16
وإما لفصول تحته، وإما لمادة شىء منها. وأما ما كان منها من فوق فإن اللازمات
17
للأجناس الفوقانية والفصول التى لها الفصل المقوم الذى للجنس نفسه واللازمات لمواد هذه
18
ولأعراضها ــ إذ قد يلزم الأعراض أعراض ــ فجميع ذلك يكون لازما للجنس ولما تحته.
173
1
|226|[ed. Cairo vol. 1]وأما التى تلزم الفصول التى تحت الجنس فلا يلزم الجنس شىء منها، إذ يلزم من
2
ذلك أن يلزمه النقيضان، بل قد يجوز أن يقع فيه كلاهما.
3
[11] وأما البحث الثانى فلنفرض مشارا إليه وهو مجموع محصل من فصول
4
الأجسام وأعراض كثيرة. فإذا قلنا له جسم، فلسنا نعنى بذلك مجرد مجموع الصورة
5
الجسمية مع المادة التى هذه الأشياء كلها عارضة لها خارجة، بل نعنى شيئا لا فى موضوع
6
له طول وعرض وعمق سواء كان هذا الحمل عليه أوليا أو غير أولى. فتكون هذه الجملة
7
من حيث هى جملة معينة يقع عليها حمل الجسم بهذا المعنى، ولا يحمل عليها الجسم
8
بالمعنى الآخر الذى هو مادته. فإذا قيل له جسم، لم يكن ذلك الجسم إلا هو نفسه، لا
9
الجزء منه ولا شىء خارج عنه.
10
[12] ولكن لقائل أن يقول: قد جعلتم طبيعة الجنس ليست غير طبيعة الشخص، وقد
11
أجمع الحكماء على أن للشخص أعراضًا وخواص خارجة عن طبيعة الجنس. فنقول:
12
[13] معنى قولهم أن للشخص أعراضا وخواص خارجة عن طبيعة الجنس هو
13
أن طبيعة الجنس المقولة على الشخص لا تحتاج فى أن تكون لها طبيعة الجنس من حيث
14
تعم إلى تلك الأعراض بالفعل، لا أن طبيعة الجنس لا تقال على الجملة.فإنه لو كان لا يقال
15
على الجملة لم يكن محمولا على الشخص، بل كان يكون جزءا من الشخص. لكنه لو
16
لم تكن هذه الأعراض والخواص، لكان يكون أيضا هذه الطبيعة التى قلناها موجودة بهذا
17
المعنى المذكور، |227|[ed. Cairo vol. 1]وهو أنها طبيعة جوهر كيف كانت جوهريته يتقوم بكذا وكذا
18
مما يجب له فى أنه جسم.
174
1
[14] فهذه الأعراض والخواص خارجة عن أن يحتاج إليها الجسم من الأجناس مثلا
2
فى أن يكون جسما على ما قيل، إلا أن يكون مخصصًا. وليس فى ذلك إذا كانت هذه،
3
فليس يقال عليها الجسم. ففرق بين أن يقال: إن طبيعة لا يحتاج فى معناها إلى شىء،
4
وبين أن يقال: لا يحمل عليه. فقد يحمل على ما لا يحتاج إلى معناه. وأما إذا حمل فقد
5
تخصص به الفعل بعد أن كان يجوز أن يتخصص بغيره. وكذلك حاله مع الفصول. لو لا
6
هذا الوجه من الاعتبار فى حمل الجنس لكان طبيعة الجنس جزءا لا محمولا. |228|[ed. Cairo vol. 1]
7
[الفصل الخامس]
8
ه فصل
9
فى النوع
10
[1] وأما النوع فإنه الطبيعة المتحصلة فى الوجود وفى العقل جميعا؛ وذلك لأن
11
الجنس إذا تحصل [ماهيه] بأمور تحصله يكون العقل إنما ينبغى له بعد ذلك أن يحصلها
12
بالإشارة فقط، ولا يطلب شيئا فى تحصيلها إلا الإشارة فقط بعد أن تحصلت الطبيعة
13
نوع الأنواع. ويكون حينئذ تعرض له لوازم من الخواص والأعراض تتعين بها الطبيعة
14
المشار إليها. وتكون تلك الخواص والأعراض إما إضافات فقط من غير أن تكون معنى
15
فى الذات البتة، وهى ما يعرض لشخصيات الأمور البسيطة والأعراض، لأن تشخصها
16
بكونها محمولة على موصوفاتها، وتشخصها بالموضوع يكون بالعرض كالصور الطبيعية
17
مثل صورة النار؛ وإما أن تكون أحوالا زائدة على المضافات، لكن بعضها بحيث لو توهم
18
مرفوعا عن هذا المشار إليه لوجب أن لا يكون هذا المشار إليه الذى هو مغاير الآخرين
175
1
موجودا، بل يكون قد فسد نحو مغايرته اللازمة. |229|[ed. Cairo vol. 1] وبعضها بحيث لو توهم
2
مرفوعا لم يجب به لا بطلان ماهيته بعد وجودها ولا فساد ذاته بعد تخصصها، ولكن
3
بطلت مغايرته ومخالفته الآخرين إلى مغايرة أخرى من غير فساد.
4
[2] لكنا ربما أشكل علينا ذلك فلم يتحصل، وليس كلامنا فيما نعلمه نحن، بل
5
فيما الأمر فى نفسه عليه. |230|[ed. Cairo vol. 1]
6
[الفصل السادس]
7
و فصل
8
فى تعريف الفصل وتحقيقه
9
[1] والفصل أيضا يجب أن نتكلم فيه ونعرف حاله. فنقول: إن الفصل بالحقيقة
10
ليس هو مثل النطق والحسّ. فإن ذلك غير محمول على شىء إلا على ما ليس فصلا له،
11
بل نوعا مثل اللمس للحس على ما علمت فى موضع آخر، أو شخصا مثل حمل النطق
12
على نطق زيد وعمرو. فإن أشخاص الناس لا يحمل عليها النطق ولا الحس فلا يقال لشىء
13
منها أنه نطق أو حس، لكن يشتق له من أسمائها اسم. فإن كانت هذه فصولا فهى فصول
14
من جهة أخرى، وليست من الجهة التى هى أقسام المقول على كثيرين بالتواطؤ. فالأولى
15
أن تكون هذه مبادئ الفصول لا الفصول، فإنها إنما تحمل بالتواطؤ على غير أشخاص
16
النوع التى يقال إنها فصولها. وذلك لأن النطق يحمل على نطق زيد ونطق عمرو بالتواطؤ،
17
والحس يحمل على البصر والسمع بالتواطؤ.
18
[2] فالفصل الذى هو كالنطق والحس ليس هو بحيث يقال على شىء من الجنس،
19
فليس الحس ولا النطق حيوانا البتة. وأما الفصل الذى هو الناطق والحساس فالجنس بالقوة
176
1
هو، وإذا صار بالفعل صار نوعا. وأما كيف ذلك فقد |231|[ed. Cairo vol. 1] تكلمنا فيه وبينا أنه
2
كيف يكون الجنس هو الفصل وهو النوع فى الوجود بالفعل وكيف تفترق هذه بعضها من
3
بعض، وان النوع بالحقيقة شىء هو الجنس إذا صار موصوفًا بالفعل، وأن ذلك التميز
4
والتفريق هو عند العقل. فإذا احتيل وفصل وتميز فى الوجود فى المركبات صار الجنس
5
مادةً والفصل صورة، ولم يكن الجنس ولا الفصل مقولا على النوع.
6
[3] ثم من الشكوك التى تعرض على هذا الكلام، بل على وجود طبيعة الفصل ما أقوله:
7
[4] إنه من البين أن كل نوع منفصل عن شركائه فى الجنس بفصل. ثم ذلك الفصل
8
معنى أيضا من المعانى، فإما أن يكون أعم المحمولات، وإما أن يكون معنى واقعًا تحت أعم
9
المحمولات. ومحال أن يقال: إن كل فصل هو أعم المحمولات. فإن الناطق وأشياء كثيرة مما
10
يجرى مجراه ليس مقولة ولا فى حكم مقولة؛ فيبقى أن يكون واقعا تحت أعم المحمولات.
11
وكل ما هو واقع تحت معنى أعم منه فهو منفصل عما يشاركه فيه بفصل يختص به، فيكون
12
إذن لكل فصل فصل، ويذهب هذا إلى غير النهاية.
13
[5] والذى يجب أن يعلم حتى ينحل به هذا الشك أن من الحمل ما يكون المحمول
14
فيه مقومًا لماهية الموضوع، ومنه ما يكون أمرا لازما له غير مقوم لماهيته كالوجود؛ وأنه
15
ليس يجب أن يكون كل معنى يكون أخص ويقع تحت معنى أعم، إنما ينفصل عن شركائه
16
فيه بفصل فى العقل، هو معنى يغاير ذاته وماهيته. |232|[ed. Cairo vol. 1] وإنما يجب ذلك إذا كان ما
17
يحمل عليه مقوما لماهيته فيكون كالجزء فى العقل والذهن لماهيته. فما يشاركه عند العقل
18
والذهن والتحديد فى ذلك المعنى شاركه فى شىء هو جزء ماهيته؛ فإنه إذا خالفه يجب أن
177
1
يخالفه فى شىء لا يتشاركان فيه، ويكون ذلك جزءا آخر عند العقل والذهن والتحديد من
2
ماهيته. فتكون مخالفته الأولية له بشىء من جملة ماهيته، ليس بجميع ما يدخل فى ماهيته،
3
أعنى عند الذهن والتحديد. والجزء غير الكل فتكون مخالفته له بشىء غيره وهو الفصل.
4
[6] وأما إذا كانت المشاركة فى أمر لازم وكان لا يشاركه فى أجزاء حد الماهية أصلا
5
وكانت الماهية بنفسها منفصلة لا بجزء منها، مثل انفصال اللون عن العدد، فإنهما وإن اشتركا
6
فى الوجود، فالوجود ــ كما اتضح فى سائر ما تعلمت من الفلسفة ــ لازم غير داخل فى
7
الماهية. فلا يحتاج اللون فى انفصاله من العدد عند التحديد والذهن إلى شىء آخر غير
8
ماهيته وطبيعته. ولو شاركه العدد فى معنى آخر داخل فى ماهيته لكان يحتاج إلى أن ينفصل
9
عنه بمعنى آخر غير جملة ماهيته. لكن جملة ماهية اللون غير مشاركة البتة لماهية العدد،
10
وإنما تشاركها بشىء خارج عن الماهية. فلا يحتاج إذن اللون إلى فصل يخالف به العدد.
11
[7] ونقول أيضًا إن الجنس يحمل على النوع على أنه جزء من ماهيته، ويحمل على
12
الفصل على أنه لازم له لا على أنه جزء من ماهيته، مثاله الحيوان يحمل على |233|[ed. Cairo vol. 1]
13
الإنسان على أنه جزء من ماهيته، ويحمل على الناطق على أنه لازم له على أنه جزء
14
من ماهيته. فإنما يعنى بالناطق شىء له نطق وشىء له نفس ناطقة من غير أن يتضمن
15
نفس قولنا الناطق بيانًا لذلك الشىء أنه جوهر أو غير جوهر. إلا أنه يلزم أن لا يكون هذا
16
الشىء إلا جوهرًا وإلا جسمًا وإلا أحساسا ً، فتكون هذه الأمور مقولة عليه قول اللازم
17
على الملزوم لأنها غير داخلة فى مفهوم الناطق أى الشىء ذى النطق.
178
1
[8] فنقول الآن: أما الفصل فإنه لا يشارك الجنس الذى يحمل عليه فى الماهية
2
فيكون إذن انفصاله عنه بذاته. ويشارك النوع على أنه جزء منه فيكون انفصاله عنه
3
لطبيعة الجنس التى هى ماهية النوع وليست ماهية الفصل. وأما حاله مع
4
سائر الأشياء، فإن الفصل إن شاركها فى الماهية وجب أن ينفصل عنها بفصل،
5
وإن لم يشاركها فى الماهية لم يجب أن ينفصل عنها بفصل. وليس يجب أن يكون
6
كل فصل يشارك شيئا فى ماهية، فليس يجب لا محالة إذا وقع الفصل تحت ما هو
7
أعم منه أن يكون وقوعه تحته هو وقوعه تحت الجنس، بل قد يمكن أن يقع تحت ما
8
هو أعم منه ويكون الأعم داخلا فى ماهيته. ويمكن أن لا يقع تحت ما هو أعم منه
9
إلا وقوع المعنى اللازم له دون الداخل فى ماهيته، مثل الناطق مثلا؛ فإنه يقع
10
تحت المدرك على أنالمدرك جنس له، والمدرك يقع تحت الجوهر على أنه ــ أعنى
11
الجوهر ــ لازم له لا جنس على الوجه الذى أومأنا إليه. ويقع أيضا تحت المضاف ــ
12
لا على أن الإضافة جوهره أو داخلة فى ماهيته ــ بل على أنها لازمة له. |234|[ed. Cairo vol. 1]
13
[9] فالفصل ليس يحتاج فى انفصاله عن النوع إلى فصل آخر، وليس يحتاج فى
14
انفصاله عن الأشياء المشاركة له فى الوجود وسائر اللوازم إلى معنى غير نفس ماهيته،
15
وليس يجب أن يقع لا محالة تحت ما هو أعم منه وقوع النوع تحت الجنس، بل قد يقع
16
وقوع الملزوم الأخص تحت اللازم الذى لا يدخل فى الماهية.
17
[10] وأما إذا أخذت الفصل كالنطق مثلا، فإنما يجب أمثاله فى فصول الأشياء
18
المركبة. فإن عنيت بالنطق كونه ذا نفس ناطقة كان من المعانى المؤلفة من نسبة وجوهر،
19
على ما علمت من حكمه فى مواضع أخرى. وإن عنيت نفس النفس الناطقة كانت
179
1
جوهرا وكانت جزء جوهر مركب تخالفه بالفصل الواقع بين البسيط والمركب فى الجواهر،
2
على نحو ما تحققت كثيرا.
3
[11] ولنرجع الآن إلى المقدمات التى فى الشك، فنقول:
4
[12] أما المقدمة القائلة إن الفصل لأنه معنى من المعانى فإما أن يكون أعم
5
المحمولات، وإما أن يكون معنى واقعا تحت أعم المحمولات، فمسلّمة. وأما الأخرى
6
وهى القائلة إن كل ما هو أعم المحمولات فهو مقولة كذب؛ وإنما المقولة أعم المحمولات
7
الجنسية المقومة للماهية لا التى هى أعم المحمولات، وليس تقوم ماهية كل ما تحتها، بل
8
تلزم الأشياء. والقائلة الأخرى إن كل ما هو واقع تحت معنى أعم منه فهو مفصل عما
9
يشاركه فيه بفصل يختص به، كاذبة. لأن المشاركات إذا كانت مشاركة فى اللازم دون
10
المعنى الداخل فى الماهية، لم يكن الانفصال عنها بفصل بل بمجرد الماهية. |235|[ed. Cairo vol. 1]فتعين
11
بعد هذا أنه لا يجب أن يكون لكل فصل فصل.
12
[13] ويجب أن يعلم أن الذى يقال من أن فصول الجوهر جوهر، وفصول الكيف
13
كيف، معنى ذلك، أن فصول الجوهر يلزم أن تكون جوهرا، وفصول الكيف يلزم أن
14
تكون كيفا، لا أن فصول الجوهر يوجد فى مفهوم ماهياتها حد الجوهر على أنها جواهر
15
فى أنفسها، وفصول الكيف يوجد فى ماهياتها حد الكيف على أنها كيفية. إلا أن
16
نعنى بفصول الجواهر مثلًا لا الفصل المقول على الجوهر بالتواطؤ، بل الفصل المقول عليه
17
بالإشتقاق؛ أعنى لا الناطق بل النطق، فيكون حينئذ ما علمت ويكون فصلا بالإشتقاق لا
18
بالتواطؤ، والفصل الحقيقى الذى يقال بالتواطؤ. وليس يجب إذا كان الفصل الذى بالتواطؤ
19
موجودا، أن يكون أيضًا الفصل الذى بالإشتقاق موجودا؛ إنما يكون هكذا لا فى كل ما
180
1
هو نوع، بل فيما هو نوع جوهرى دون الأنواع العرضية، وليس أيضا فى كل نوع جوهرى،
2
بل فيما كان مركبا ولم يكن جوهرا بسيطا.
3
[14] فالفصل الذى يقال بالتواطؤ معناه شىء بصفة كذا مطلقا، ثم بعد ذلك على
4
سبيل النظر والتأمل يعلم أنه يجب أن يكون هذا الشىء الذى بصفة كذا جوهرا أو كيفا.
5
مثاله أن الناطق هو شىء له نطق. فليس فى كونه شيئا له نطق هو أنه جوهر أو عرض،
6
إلا أنه يعرف من خارج أنه لا يمكن أن يكون هذا الشىء إلا جوهرا أو جسما. |236|[ed. Cairo vol. 1]
7
[الفصل السابع]
8
ز فصل
9
فى تعريف مناسبة الحد المحدود
10
[1] ولقائل أن يقول:
11
[2] إن الحد كما وقع عليه الإتفاق من أهل الصناعة مؤلف من جنس وفصل،
12
وكل واحد منهما مفارق للآخر، ومجموعهما هو [جزءا] الحد، وليس الحد إلا ماهية
13
المحدود، فتكون نسبة المعانى المدلول عليها بالجنس والفصل إلى طبيعة النوع كنسبتها فى
14
الحد إلى المحدود. وكما أن الجنس والفصل جزءا الحد، فكذلك معنياهما جزءا المحدود.
15
وإذا كان كذلك لم يصح حمل طبيعة الجنس على طبيعة النوع لأنه جزء منه.
16
[3] فنقول:
17
[4] إنا إذا حددنا فقلنا: الإنسان ــ مثلا ــ حيوان ناطق، فليس مرادنا بذلك
18
أن الإنسان هو مجموع الحيوان والناطق، بل مرادنا بذلك أنه الحيوان الذى ذلك الحيوان
181
1
ناطق، بل الذى هو بعينه الناطق. كأن الحيوان فى نفسه أمر لايتحصل وجوده على النحو
2
الذى قلنا قبل. فإذا كان ذلك الحيوان ناطقًا حتى يكون هذا الذى نقول له: إنه ذو نفس
3
درّاكة مجملا الذى هو غير محصل، أى أنه ذو نفس هو قد صار محصلا من حاله أن
4
نفسه حساسة ناطقة، فيكون هذا تحصيلا لكونه ذا نفس دزاكة. فليس يكون الجسم ذو
5
النفس الدراكة شيئا، وكونه ذا نفس ناطقة شيئا ينضم إليه خارجا عنه، بل |237|[ed. Cairo vol. 1]
6
يكون هذا الذى هو حيوان هو الجسم ذو النفس الدراكة. ثم كون نفسه دراكة أمر مبهم،
7
ولا يكون بالفعل فى الوجود مبهما البتة كما علمت، بل يكون فيه محصلا؛ وإنما يكون
8
هذا الإبهام فى الذهن، إذ يكون مشكلا عليه حقيقة النفس الدراكة حتى يفصل، فيقال
9
دراكة بالحس والتخيل والنطق.
10
[5] وإذا أخذ الحس فى حد الحيوان فليس هو بالحقيقة الفصل، بل هو دليل على
11
الفصل. فإن فصل الحيوان أنه ذو نفس دراكة متحركة بالإرادة وليس هوية نفس الحيوان أن
12
يحس، ولا هويته أن يتخيل، ولا هويته أن يتحرك بالإرادة، بل هو مبدأ لجميع ذلك، وهذه
13
كلها قواه، ليس أن ينسب إلى بعضها أولى من أن ينسب إلى الآخر، لكنه ليس له فى
14
نفسه اسم، وهذه توابعه، فنضطر إلى أن نخترع له اسما بالنسبة إليها. ولهذا نجمع الحس
15
والتحرك معًا فى حده، ونجعل الحس كأنه معنى يجمع الحس الظاهر والباطن، أو يقتصر
16
على الحس فيكون دالا على جميع ذلك لا بالتضمن بل بالالتزام.
17
[6] وقد سلف لك بيان هذا وما أشبه، فليس الحس بالحقيقة فصل الحيوان، بل
18
أحد شعب فصله وأحد لوازمه. وإنما فصله وجود النفس التى هى مبدأ هذا كله له؛
19
وكذلك الناطق للإنسان. لكن عدم الأسماء وقلة شعورنا بالفصول يضطرنا ــ إما هذا
182
1
وإما ذاك ــ إلى الإنحراف عن حقيقة الفصل إلى لازمه. فربما اشتققنا اسمه من لازمه،
2
فعنينا بالحساس الذى له المبدأ الذى ينبعث منه |238|[ed. Cairo vol. 1]الحس وغيره؛ وربما كان الفصل
3
نفسه مجهولا عندنا، ولم نشعر إلا بلازمه. وليس كلامنا فى هذه الأمور على حسب ما
4
نعقل نحن ونصنع ونتصرف فيها نحن، بل من جهة كيفية وجودها فى أنفسها. ثم لو
5
كان ليس للحيوان نفس إلا الحساسة كان كونه جسما ذا حس ليس جنسا بمعنى مجرد
6
الطبيعة الجسمية والحسية بشرط أن يكون هو فقط، بل على النحو الذى قلنا. فاتحاد
7
الفصل بالجنس ليس إلا على أنه شىء كان يتضمن الجنس بالقوة، لا يلزم الجنس بالقوة،
8
واتحاد المادة بالصورة أو الجزء بالجزء الآخر فى المركب، فإنما هو اتحاد شىء بشىء خارج
9
عنه لازم أو عارض.
10
[7] فتكون الأشياء التى يكون فيها اتحاد على أصناف. أحدها، أن يكون كاتحاد
11
المادة والصورة؛ فتكون المادة شيئا لا وجود له بانفراد ذاته بوجه، وإنما يصير بالفعل
12
بالصورة، على أنيكون الصورة أمرا خارجا عنه، ليس أحدهما الآخر، ويكون المجموع
13
ليس ولا واحد منهما. والثانى، اتحاد أشياء يكون كل واحد منها فى نفسه مستغنيا عن
14
الآخر فى القوام، إلا أنها تتحد فيحصل منها شىء واحد إما بالتركيب وإما بالاستحالة
15
والامتزاج. ومنها، اتحاد أشياء بعضها لا يقوم بالفعل إلا بما انضم إليه، وبعضها يقوم
16
بالفعل؛ فيقوم الذى لا يقوم بالفعل بالذى يقوم بالفعل ويجتمع من ذلك جملة متحدة، مثل
17
اتحاد الجسم والبياض. وهذه الاقسام كلها لا تكون المتحدات منها بعضها |239|[ed. Cairo vol. 1]بعضا،
18
ولا جملتها أجزاؤها، ولا يحمل البتة شىء منها على الآخر حمل التواطؤ.
183
1
[8] ومنها اتحاد شىء بشىء، قوة هذا الشىء منهما أن يكون ذلك الشىء، لا أن
2
ينضم إليه. فإن الذهن قد يعقل معنى يجوز أن يكون ذلك المعنى نفسه أشياء كثيرة كل
3
واحد منها ذلك المعنى فى الوجود، فينضم إليه معنى آخر تعين وجوده بان يكون ذلك المعنى
4
متضمنا فيه، وإنما يكون آخر من حيث التعيين والإبهام لا فى الوجود؛ مثل المقدار. فإنه
5
معنى يجوز أن يكون هو الخط والسطح والعمق، لا على أنه يقارنه شىء فيكون مجموعهما
6
الخط والسطح والعمق، بل على أن يكون نفس الخط ذلك أو نفس السطح ذلك.وذلك
7
لأن معنى المقدار هو شىء يحتمل مثل المساواة، غير مشروط فيه أن يكون هذا المعنى
8
فقط. فإن مثل هذا لا يكون جنسًا كما علمت، بل بلا شرط غير ذلك، حتى يجوز أن
9
يكون هذا الشىء القابل للمساواة هو فى نفسه أى شىء كان، بعد أن يكون وجوده لذاته
10
هو الوجود، أى يكون محمولا عليه لذاته أنه كذا، سواء كان فى بُعْدٍ أو بُعْدْين أو ثلاثة.
11
[9] فهذا المعنى فى الوجود لا يكون إلا أحد هذه، لكن الذهن يخلق له من حيث
12
يعقل وجودًا مفردًا. ثم أن الذهن إذا أضاف إليه الزيادة لم يضف الزيادة على أنها معنى من
13
خارج لاحق بالشىء قابل للمساواة حتى يكون ذلك قابلًا للمساواة فى حد نفسه وهذا
14
شىء آخر مضاف إليه خارجا عن ذلك، بل يكون ذلك تحصيلًا لقبوله للمساواة أنه فى
15
بعد واحد فقط أو فى أكثر منه. |240|[ed. Cairo vol. 1]فيكون القابل للمساواة فى بُعْد واحد فى هذا
16
الشىء هو نفس القابل للمساوة، حتى يجوز لك أن تقول: إن هذا القابل للمساواة هو هذا
17
الذى هو ذو بُعْدٍ واحد وبالعكس، ولا يكون هذا فى الأشياء التى مضت. وههنا وإن
18
كانت كثرة ما لا شك فيها فهى كثرة ليست من الجهة التى تكون من الأجزاء بل كثرة تكون
184
1
من جهة أمر غير محصل وأمر محصل. فإن الأمر المحصل فى نفسه يجوز أن يعتبر من
2
حيث هو غير محصل عند الذهن فتكون هناك غيرية؛ لكن إذا صار محصلا لم يكن ذلك
3
شيئًا آخر بالاعتبار المذكور الذى ذلك للعقل وحده. فإن التحصيل ليس يغيره بل يحققه.
4
[10] فهكذا يجب أن يعقل التوحيد الذى من الجنس والفصل. وإنه وإن كان مختلفا
5
وكان بعض الأنواع فيها تركيب فى طبائعها وتنبعث فصولها من صورها، وأجناسها من
6
المواد التى لصورها، وإن لم يكن لا أجناسها ولا فصولها موادها وصورها من حيث هى
7
مواد وصور، وبعضها ليس فيها تركيب فى طبائعها بل إن كان فيها تركيب فهو على النحو
8
الذى قلنا، فإنما يكون أحد الشيئين منهما فى كل نوع غير الآخر، لأنه قد أخذ مرة لا بحاله
9
من التحصيل، بل على أنه بالقوة محصل، وأخذ مرة وهو محصل بالفعل. وهذه القوة له
10
ليس بحسب الوجود، بل بحسب الذهن. فإنه ليس له فى الوجود حصول طبيعة جنسية
11
هى بعد بالقوة محصلة نوعًا، سواء كان النوع له تركيب فى الطبائع أو لم يكن. |241|[ed. Cairo vol. 1]
12
[11] والجنس والفصل فى الحد أيضا من حيث كل واحد منهما هو جزء للحد من
13
حيث هو حد، فإنه لا يحمل على الحد ولا الحد يحمل عليه. فإنه لا يقال للحد أنه جنس
14
ولا فصل ولا بالعكس، فلا يقال لحد الحيوان إنه جسم ولا أنه ذو حس ولا بالعكس. وأما
15
من حيث الأجناس والفصول طبائع [تنبعث] طبيعة على ما علمت فإنها تحمل على
16
المحدود، بل نقول: إن الحد يفيد بالحقيقة معنى طبيعة واحدة. مثلا إنك إذا قلت: الحيوان
17
الناطق، يحصل من ذلك معنى شىء واحد هو بعينه الحيوان الذى ذلك الحيوان هو بعينه
185
1
الناطق. فإذا نظرت إلى ذلك الشىء الواحد لم يكن كثرة فى الذهن، لكنك إذا نظرت
2
إلى الحد فوجدته مؤلفًا من عدة هذه المعانى واعتبرتها من جهة ما كل واحد منها على
3
الاعتبار المذكور معنى فى نفسه غير الآخر، وجدت هناك كثرة فى الذهن. فإن عنيت
4
بالحد المعنى القائم فى النفس بالاعتبار الأول، وهو الشىء الواحد الذى هو الحيوان الذى
5
ذلك الحيوان هو الناطق، كان الحد بعينه هو المحدود المعقول. وإن عنيت بالحد المعنى
6
القائم فى النفس بالاعتبار الثانى المفصل، لم يكن الحد يعينه [*]يعينه corrupt for بعينه [according to Bertolacci 2006, 516] معناه المحدود، بل كان
7
شيئا مؤديًا إليه كاسبا له.
8
[12] ثم الاعتبار الذى يوجب كون الحد بعينه هو المحدود لا يجعل الناطق والحيوان
9
جزئين [*]جزئين Middle Arabic for جزءين من الحد، بل محمولين عليه بأنه هو لا أنهما شيئان من حقيقة متغايران ومغايران
10
للمجتمع. لكن نعنى به فى مثالنا الشىء الذى هو بعينه الحيوان الذى ذلك الحيوان حيوانيته
11
مستكملة متحصلة بالنطق. والاعتبار الذى يوجب كون الحد غير المحدود يمنع أن يكون
12
الجنس |242|[ed. Cairo vol. 1]والفصل محمولين على الحد، بل جزئين منه. فلذلك ليس الحد بجنس ولا
13
الجنس بحد ولا الفصل واحدا منهما، ولا جملة معنى الحيوان مؤلفا مع الناطق هو معنى
14
الحيوان غير مؤلف ولا معنى الناطق غير مؤلف. ولا يفهم من معنى مجموع حيوان وناطق
15
ما يفهم من أحدهما، ولا يحمل أحدهما عليه؛ فليس مجموع حيوان وناطق هو حيوان
16
وناطق لأن المجموع من شيئين غيرهما، بل ثالث. لأن كل واحد منهما جزء منه، والجزء
17
لا يكون هو الكل، ولا الكل يكون هو الجزء. |243|[ed. Cairo vol. 1]
186
1
[الفصل الثامن]
2
ح فصل
3
فى الحد
4
[1] والذى ينبغى لنا أن نعرفه الآن أن الأشياء كيف تتحدد، وكيف نسبة الحد
5
إليها، وما الفرق بين الماهية للشىء وبين الصورة. فنقول: كما أن الموجود والواحد من
6
الأشياء العامة للمقولات ولكن على سبيل تقديم وتأخير، فكذلك أيضا كون الأشياء
7
ذوات ماهية وحد، فليس ذلك فى الأشياء كلها على مرتبة واحدة.
8
[2] فأما الجوهر فإنه مما يتناوله حده تناولا أوليًا بالحقيقة؛ وأما الأشياء الأخرى
9
فلما كانت ماهيتها متعلقة بالجوهر أو بالصورة الجوهرية على نحو ما حددنا. أما الصورة
10
الطبيعية فقد عرفت حالها، والمقادير والأشكال قد عرفتها أيضا، فيكون تلك الأشياء
11
الأخرى أيضا من وجه لا تتحدد إلا بالجوهر، فيعرض من ذلك أن تكون. أما الأعراض
12
فإن فى حدودها زيادة على ذواتها، لأن ذواتها وإن كانت أشياء لا يدخل الجوهر فيها
13
على أنه جزء لها بوجه من الوجوه، وذلك لأن ما جزؤه جوهر فهو جوهر، فإن حدودها
14
يدخل الجوهر فيها على أنه جزء إذ كانت تتحدد بالجوهر لا محالة.
15
[3] وأما المركبات فإنها يعرض فيها تكرار شىء واحد بعينه مرتين، فإنه إذ فيها
16
جوهر فلا بد من إدخاله |244|[ed. Cairo vol. 1] فى الحد، وإذ فيها عرض يتحدد بالجوهر فلا بد من
17
دخوله فى حد العرض مرة أخرى لتكون جملة الحد مؤلفة من حد الجوهر وحد العرض
18
لا محالة وعائد إلى اثنينية وكثرة. ويتبين إذا حلل حد ذلك العرض ورد إلى مضمناته،
19
فيكون حد هذا المركب قد وجد فيه الجوهر مرتين، وهو فى ذات المركب مرة واحدة،
187
1
فيكون فى هذا الحد زيادة على معنى المحدود فى نفسه. والحدود [الحقيقة] لا يجب
2
أن تكون فيها زيادات. ومثال هذا أنك إذا حددت الأنف الأفطس فيجب أن تأخذ فيه
3
الأنف لا محالة، وتأخذ فيه الأفطس فتكون أخذت فيه حد الأفطس، لكن الأفطس هو
4
أنف عميق، ولا يجوز أن تأخذ عميقا وحده، فإنه لو كان العميق وحده هو الأفطس
5
لكانت الساق المعمقة أيضا فطساء، بل يجب لا محالة أن تأخذ الأنف فى حد الأفطس.
6
فإذا حددت الأنف الأفطس تكون قد أخذت فيه الأنف مرتين؛ فلا يخلو إما أن لا تكون
7
أمثال هذه حدودا وإنما تكون الحدود للبسائط فقط، أو تكون هذه حدودا على جهة
8
أخرى. وليس ينبغى أن نقتصر من الحد على أن يكون شرح الاسم، فنجعل أمثال هذه
9
لذلك حدودا حقيقية، لأن الحد هو ما يدل على الماهية، وقد عرفته. لو كان كل قول
10
يمكن أن يفرض بإزأه اسمٌ حدا لكان جميع كتب الجاحظ حدودا.
11
[4] فإذا كان الأمر على هذا، فبيّن أن هذه المركبات حدودها حدود
12
على جهة أخرى.
13
[5] وكل بسيط فإن ماهيته ذاته لأنه ليس هناك شىء قابل لماهيته، |245|[ed. Cairo vol. 1]
14
ولو كان هناك شىء قابلا لماهيته، لم يكن ذلك الشىء ماهيتة ماهيه[*]ماهيتة ماهيه corrupt for ماهيته ماهية المقبول الذى حصل
15
له، لأن ذلك المقبول كا يكون صورته، وصورته ليس هو الذى يقابله حده، ولا المركبات
16
بالصورة وحدها هى ما هى، فإن الحد للمركبات ليس هو من الصورة وحدها، بل حد
17
الشىء يدل على جميع ما يتقوم به ذاته، فيكون هو أيضا يتضمن المادة بوجه. وبذا يعرف
18
الفرق بين الماهية فى المركبات والصورة. والصورة دائما جزء من الماهية فى المركبات،
19
وكل بسيط فإن صورته أيضا ذاته لأنه لا تركيب فيه؛ وأما المركبات فلا صورتها ذاتها ولا
188
1
ماهيتها ذاتها. أما الصورة فظاهر أنها جزء منها؛ وأما الماهية فهى ما بها هى ما هى، وإنما
2
هى ما هى بكون الصورة مقارنة للمادة، وهو أزيد من معنى الصورة. والمركب ليس هذا
3
المعنى أيضا، بل هو مجموع الصورة والمادة؛ فإن هذا هو ما هو المركب، والماهية هذا
4
التركيب. فالصورة أحد ما يضاف إليه التركيب، والماهية هى نفس هذا التركيب الجامع
5
للصورة والمادة، والوحدة الحادثة منهما لهذا الواحد.
6
[6] فللجنس بما هو جنس ماهية. وللنوع بما هو نوع ماهية، وللمفرد الجزئى أيضا
7
بما هو مفرد جزئى ماهية مما يتقوم به من الأعراض اللازمة. فكأن الماهية إذا قيلت على
8
التى فى الجنس والنوع وعلى التى للمفرد الشخصى كان باشتراك الاسم. وليست هذه
9
الماهية مفارقة لما هو بها ما هو، وإلا لم تكن ماهية.
10
[7] لكنه لا حد للمفرد بوجه من الوجوه، وإن كان للمركب حد ما، وذلك
11
|246|[ed. Cairo vol. 1]لأن الحد مؤلف من أسماء ناعتة لا محالة ليس فيها إشارة إلى شىء معين.
12
ولو كانت إشارة لكانت تسمية فقط، أو دلالة أخرى بحركة وإشارة وما أشبه ذلك، وليس
13
فيها تعريف المجهول بالنعت.
14
[8] وإذا كان كل اسم يحصر فى حد المفرد يدل على نعت، والنعت يحتمل الوقوع
15
على عدة، والتأليف لا يخرجها من هذا الاحتمال، فإنه إذا كان آ معنى كليًا وأضيف
16
إليه ب ــ وهو معنى كلى ــ جاز أن يكون فيه تخصيص ما. ولكن إذا كان تخصيص
17
كلى بكلى يبقى بعده الشىء الذى هو آ و ب كليًا يجوز أن يقع فيه شركة. ومثال ذلك:
18
هذه سقراط؛، إن حددته فقلت: إنه الفيلسوف، ففيه شركة؛ وإن قلت: الفيلسوف
19
الدين، ففيه شركة؛ فإن قلت: الفيلسوف الدين المقتول ظلما، ففيه أيضا شركة؛ فإن
189
1
قلت: ابن فلان، كان فيه احتمال شركة أيضا، وكان فلان شخصا تعريفه كتعريفه. فإن
2
عرف ذلك الشخص بالإشارة أو باللقب عاد الأمر إلأى الإشارة واللقب، وبطل أن يكون
3
بالتحديد. وإن زيد فقيل: هو الذى قتل فى مدينة كذا يوم كذا، فهذا الوصف أيضا مع
4
تشخصه بالحيلة كلى يجوز أن يقال على كثيرين إلا أن يستند إلى شخص.
5
[9] فإن كان المسند إليه شخصا من جملة أشخاص نوع من الأنواع لم يكن
6
السبيل إليه إلا بالمشاهدة ولم يجد العقل عليه وقوفا إلا بالحس. فإن كان المسند إليه من
7
الأشخاص ــ التى |247|[ed. Cairo vol. 1]كل شخص منها مستوف لحقيقة النوع ــ فلا شخص نظيرا
8
له، وكان قد عقل العقل ذلك النوع بشخصه، فإذا جعل الرسم مسندا إليه كان للعقل
9
وقوف عليه ولم يخف العقل تغير الحال لجواز فساد ذلك الشىء، إذ مثل هذا الشىء
10
لا يفسد. ولكن المرسوم لا يوثق بوجوده ودوام قول الرسم عليه، وربما عرف العقل مدة
11
بقائه، فلم يكن هذا أيضا حدًا حقيقيا. فبين أنه لا حد حقيقى للمفرد، إنما يعرف بلقب
12
أو إشارة أو نسبة إلى معروف بلقب أو إشارة.
13
[10] وكل حد فإنه تصور عقلى صادق أن يحمل على المحدود. والجزئى فاسد
14
إذا فسد، لم يكن محدودا بحده. فيكون حمل الحد عليه مدة ما صادقًا وفى غيرها
15
كاذبا، فيكون حمل الحدّ عليه بالظن دائما، أو يكون هناك غير التحديد بالعقل زيادة
16
إشارة ومشاهدة، فيصير بتلك الإشارة محدودًا بحده. وإذا لم يكن ذلك يكون مظنونا
17
به أن له حده. وأما المحدود بالحقيقة فيكون حدّه له يقينا. فمن شاء أن يحد الفاسدات
18
فقد تعرض لإبقائها، ويركب شططا. |248|[ed. Cairo vol. 1]
190
1
[الفصل التاسع]
2
ط فصل
3
فى مناسبة الحد وأجزائه
4
[1] ونقول: إنه كثيرا ما يكون فى الحدود أجزاء هى أجزاء المحدود. وليس إذا
5
قلنا: إن الجنس والفصل لا يتقومان جزئين للنوع فى الوجود، نكون كأنا قلنا: إنه لا يكون
6
للنوع أجزاء. فإن النوع قد يكون له أجزاء، وذلك إذا كان من أحد صنفى الأشياء، أما فى
7
الأعراض فمن الكميات، وأما فى الجواهر فمن المركبات. وظاهر الحال يومئ إلى أن أجزاء
8
الحد أقدم من المحدود، لكنه قد يتفق أن يكون فى بعض المواضع بالخلاف. فإنا إذا أردنا أن
9
نحد قطعة الدائرة حددناها بالدائرة، وإذا أردنا أن نحد أصبع الإنسان حددناها بالإنسان،
10
وإذا أردنا أن نحد الحادة وهى جزء من القائمة حددناها بالقائمة، ولا نحد البتة القائما
11
بالحادة ولا الدائرة [بقطعتها] ولا الإنسان بالأصبع. فيجب أن نعرف العلة فى هذا. فنقول:
12
[2] إن هذه ليس شىء منها أجزاء النوع من جهة ماهيته وصورته؛ ثم إنه ليس
13
من شروط الدائرة أن تكون فيها قطعة بالفعل تتألف عنها صورة الدائرة، كما من شرطها
14
أن يكون لها محيط؛ ولا من شرط الإنسان ــ من حيث هو إنسان ــ أن يكون له أصبع
15
بالفعل، ولا من شرط القائمة أن تكون هناك حادة هى جزء منها. فهذه كلها ليست أجزاء
16
للشىء من حيث ماهيته بل من حيث مادته موضوعه. فإنما يعرض |249|[ed. Cairo vol. 1]للقائمة أن
17
تكون فيها حادة، وللدائرة أن تكون فيها قطعة لانفعال يعرض لمادتها، ليس ذلك مما يتعلق
18
به استكمال مادتها بصورتها ولا استكمال صورتها فى نفسها. واعلم أن السطح مادة
191
1
عقلية لصورة الدائرة وبسببه يقع لها الإنقسام. ولو كان يتعلق بها استكمال مادتها لكان من
2
اللازمات التى لا يخلو الشىء عنها، لا من المقومات كما مضى لك شرحه. وليس ما نحن
3
فيه كذلك، بل يخلو الشىء منها.
4
[3] وما يجرى مجرى الأصبع أيضًا، فإنه ليس يحتاج الإنسان فى أن يكون حيوانا
5
ناطقا إلى أصبع، بل هذا من الأجزاء التى لمادته ليحسن بها حال مادته. فما كان من
6
الأجزاء إنما هو بسبب المادة، وليس تحتاج إليه الصورة، فليست هى من أجزاء الحد البتة.
7
لكنها إذا كانت أجزاء المادة ولم تكن أجزاء للمادة مطلقا، بل إنما تكون أجزاء لتلك المادة
8
لأجل تلك الصورة، وجب أن تؤخذ فى حدها تلك الصورة. وذلك النوع فيكون أيضا مع
9
المادة مثلما أن الأصبع ليس جزئا مناسبا للجسم مطلقا، بل للجسم الذى صار حيوانا أو
10
إنسانا. وكذلك الحادة والقطعة ليس جزءا للسطح مطلقا، بل للسطح الذى صار قائمة أو
11
دائرة. فلذلك تؤخذ صورة هذه الكلات فى حدود هذه الأجزاء.
12
[4] ثم تفترق هذه الأمثلة الثلاثة. فإن الإصبع فى الإنسان جزء بالفعل؛ فإذا حد
13
أو رسم الإنسان |250|[ed. Cairo vol. 1]من حيث هو شخص كامل إنسانى وجب أن يوجد الأصبع
14
حينئذ فى رسمه لأنه يكون له ذلك جزءا ذاتيا فى أن يكون شخصا كامل الأعراض ولا
15
يكون مقوّمًا لطبيعة نوعه. إذا قلنا مرارا: إن ما يتقوم ويتم به الشخص فى شخصه هو
16
غير ما تتقوم به طبيعة النوع. فهذا القسم من الجملة التى الجزء فيها جزء بالفعل، وأما
17
ذانك الآخران فليس الجزء فيهما جزءا بالفعل.
18
[5] ويشبه أن تكون الدائرة إذا قسمت بالفعل إلى قطع بطلت الوحدة لسطحها
19
وبطل عنها أنها دائرة، إذ لا يكون المحيط خطا واحدا بالفعل بل كثيرا، اللهم إلا أن تكون
20
الأقسام بالوهم وبالفرض لا بالفعل وبالقطع. وكذلك حكم القائمة.
192
1
[6] ثم الدائرة والقائمة يختلفان فى شىء وهو أن قطعة الدائرة لا تكون إلا من دائرة
2
بالفعل، والحادة ليس من شرطها فى الوجود أن تكون جزء زاوية أخرى، ولا أنها هى
3
حادة بالقياس إلى المنفرجة والقائمة، بل هى فى نفسها حادة بسبب وضع أحد ضلعيها
4
عند الآخر. ولكنها من جهة أن ذلك الوضع من حيث هو وضع وقعت فيه الإضافة، لأن
5
الميل والقرب بين الخطوط بعضها إلى بعض أو البُعْد فيما بينها مما تتعلق به إضافة ما، عرض
6
أن يتعلق البيان للمادة بالإضافة، وإن لم يدل على هذه الإضافة بالفعل لصعوبتها فقد دل
7
عليها بالقوة فى إدخال إضافة بالفعل.
8
[7] ثم لما كانت الزاوية السطحية إنما تحدث عن قيام خط على خط، [كان]
9
الميل الذى يحدث هو ميل عن |251|[ed. Cairo vol. 1]اعتدال ما وجهة ما؛ لأنا لو أخذنا قرب أحد
10
الخطين من الآخر مطلقًا وأخذنا ميله إليه مطلقًا من غير تعيين الميل عنه، لم يكن إلا ميل
11
مطلق يوجد ذلك للحادة وللقائمة والمنفرجة. فإن خطوطها أيضا فيها ميل لبعضها إلى
12
بعض. فإنك إذا اعتبرت اتصال خطين على الإستقامة لوجدت المنفرجة وفيها ميل لأحد
13
خطيها إلى الآخر. لكن هذا الميل هو ميل مطلق يقتضيه انفراج خطى كل زاوية، فيجب
14
ضرورةً أن يكون هذا الميل حدودًا عن شىء. ولما كان ذلك الشىء يجب أن يكون بُعدًا
15
خطيا، [فلم] يمكن أن تتوهم خطوط يميل عنها هذا إلا الخط المتصل على الاستقامة
16
بالخط الثانى، والذى يفعل زاوية منفرجة أو الذى يفعل زاوية قائمة أو الذى يفعل زاوية
17
حادة. فأما الخط الغير المتصل بهذا الخط فإنه لا يحدد به شىء، وكان اعتبار الميل من
18
الخط المستقيم مطلقا غير صحيح فى هذا الباب، وإلا المنفرجة والقائمة أيضا حادة.
19
[8] وكذلك اعتبار الميل عن الخط الفاعل للمنفرجة، لأن الميل عن الانفراج قد
20
يحفظ الانفراج، إذ تكون منفرجة أصغر من منفرجة. وكذلك حكم الحادة هذه مع أن
193
1
الحادة لا يمكن أن تعرّف بالحادة فيكون تعريف مجهول بمجهول. فبقى ضرورةً أن يكون
2
تعريفها بالقائمة التى ليس يبقى قوامها مع الميل عنها محفوظًا. فكأنه يقول: إن الحادة هى
3
التى عن خطين قام أحدهما على الآخر، ومال أقرب من خط قائمة لو قامت حتى هى
4
أصغر من القائمة لو كانت. وليس نعنى بها أنها بالفعل موجودة مقيسة بقائمة تزيد عليها
5
فحينئذ يكون الحد كاذبًا، ولكن بقائمة |252|[ed. Cairo vol. 1]بهذه الصفة. والقائمة بهذه الصفة من
6
حيث هى بالقوة الموجودة بالفعل قوة هى قائمة بالقوة، فإن القوة من حيث هى قوة وجودٌ
7
بالفعل. وربما كانت القوة أيضا موجودة بالقوة وهى القوة البعيدة من الفعل، ثم يصير بالفعل
8
قوة قريبة. فإن القوة القريبة على تكوّن الإنسان فى الغذاء تكون بالقوة، ثم إذا صار
9
[منيّا] صارت تلك القوة القريبة موجودة بالفعل، وإنما يكون فعلها غير موجود.
10
[9] فإذن الحادة تحد بالقائمة لا بالفعل مطلقا، بل القوة. فلا تحد بنظير لها ولا أيضا بما
11
ليس له حصول. فإن المحدود به قائم بالقوة، وذلك له من حيث هو كذلك حصول بالفعل،
12
وبالحرى إن عرّفت الحادة والمنفرجة بالقائمة؛ فان القائمة تتحقق من المساواة والمماثلة
13
والوحدانية، وتانك تتحققان من الخروج عن المساواة. وأما القائمة فتتحقق بذاتها.
14
[10] ولقد كان يمكن أن يقال: إن الحادة أصغر زاويتين مختلفتين تحدثان من قيام
15
خط على خط، والمنفرجة أعظمهما؛ وكان حينئذ إذا حقق فقد أشير إلى القائمة، لأن
16
الأكبر هو الذى يكون مِثْلًا وزيادة، والأصغر هو الذى ينقص عن المِثْل. فبالمثل تتحقق
17
معرفة الصغر والكبر، وبالواحد المتشابه يتحقق المتكثر الغير المتشابه المختلف.
18
[11] فهكذا يجب أن يتصور الحال فى أجزاء المحدودات؛ ثم يجب أن يتذكر
19
ماقلناه قبل أيضا فى حال أجزاء المادة وعلائقها. |257|[ed. Cairo vol. 2]
194
1
المقالة السادسة
2
وفيها خمسة فصول
3
[الفصل الأول]
4
ا فصل
5
فى أقسام العلل وأحوالها
6
[1] قد تكلمنا فى أمر الجوهر والأعراض، وفى اعتبار التقدم والتأخر
7
فيها، وفى معرفة مطابقة الحدود للمحدودات الكلية والجزئية. فبالحرى أن نتكلم الآن فى
8
العلة والمعلول، فإنهما أيضا من اللواحق التى تلحق الموجود بما هو موجود.
9
[2] والعلل كما سمعت، صورة وعنصر وفاعل وغاية. فنقول: إنا نعنى بالعلة
10
الصورية، العلة التى هى جزء من قوام الشىء، يكون الشىء بها هو ما هو بالفعل؛
11
وبالعنصرية العلة التى هى جزء من قوام الشىء، يكون بها الشىء هو ما هو بالقوة،
12
وتستقر فيها قوة وجوده؛ وبالفاعل، العلة التى تفيد وجودا مباينا لذاتها، أى لا تكون
13
ذاتها بالقصد الأول محلا لما يستفيد منها وجود شىء يتصور بها، حتى يكون فى ذاتها
14
قوة وجوده إلا بالعرض، ومع ذلك فيجب ألا يكون ذلك الوجود من أجله من جهة ما هو
195
1
فاعل، بل إن كان ولا بد فباعتبار آخر، وذلك لأن الفلاسفة الإلهيين ليسوا يعنون بالفاعل
2
مبدأ التحريك فقط، كما يعنيه الطبيعيون، بل مبدأ الوجود ومفيده، مثل البارى [*]البارى Middle Arabic for البارئ للعالم؛
3
وأما العلة الفاعلية الطبيعية فلا تفيد وجودا غير التحريك بأحد أنحاء التحريكات؛
4
فيكون مفيد الوجود فى الطبيعيات مبدأ حركة؛ ونعنى بالغاية، العلة التى لأجلها يحصل
5
وجود شىء مباين لها. |258|[ed. Cairo vol. 2]
6
[3] وقد يظهر أنه لا علة خارجة عن هذه، فنقول: إن السبب للشىء لا يخلو
7
إما أن يكون داخلا فى قوامه وجزءا من وجوده، أو لا يكون. فإن كان داخلا فى
8
قوامه وجزءا من وجوده فإما أن يكون الجزء الذى ليس يجب من وجوده وحده له أن
9
يكون بالفعل، بل أن يكون بالقوة فقط، ويسمى هيولى؛ أو يكون الجزء الذى وجوده هو
10
صيرورته بالفعل، وهو الصورة. وأما إن لم يكن جزءا من وجوده فإما أن يكون ما هو
11
لأجله، أو لا يكون. فإن كان ما هو لأجله، فهو الغاية؛ وإن لم يكن ما هو لأجله، فلا
12
يخلو إما أن يكون وجوده منه بألا يكون هو فيه إلا بالعرض، وهو فاعله، أو يكون وجوده
13
منه بأن يكون هو فيه، وهو أيضا عنصره أو موضوعه.
14
[4] فتكون المبادئ إذن كلها من جهة خمسة، ومن جهة أربعة. لأنك إن أخذت
15
العنصر الذى هو قابل، وليس جزءا من الشىء، غير العنصر الذى هو جزء، كانت
16
خمسة. وإن أخذت كليهما شيئا واحدا، لاشتراكهما فى معنى القوة والاستعداد، كانت
17
أربعة. ويجب أن لا تأخذ العنصر بمعنى القابل الذى هو جزء، مبدأ للصورة بل للمركب.
18
إنما القابل يكون مبدأ بالعرض، لأنه إنما يتقوم أولا بالصورة وبالفعل، وذاته باعتبار ذاته فقط
19
تكون بالقوة، والشىء الذى هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة، لا يكون مبدأ البتة. ولكنه
20
إنما يكون مبدأ بالعرض، فإن العرض يحتاج إلى أن يكون قد حصل الموضوع له بالفعل، ثم
196
1
صار سببا لقوامه، سواء كان العرض لازما فتكون الأولية بالذات، أو زائلا فتكون الأولية
2
بالذات والزمان. فهذه هى أنواع العلل. وإذا كان الموضوع علة لعرض يقيمه، فليس ذلك
3
على النوع الذى يكون فيه الموضوع علة للمركب، بل هو نوع آخر. |259|[ed. Cairo vol. 2]
4
[5] وإذا كانت الصورة علة للمادة تقيمها، فليست على الجهة التى تكون الصورة
5
علة للمركب، وإن كانا يتفقان من جهة أن كل واحد منهما علة لشىء لا تباينه ذاته.
6
فإنهما وإن اتفقا فى ذلك، فإن أحد الوجهين ليس تفيد العلة للآخر وجوده، بل إنما يفيد
7
الوجود شىء آخر ولكن فيه؛ والثانى يكون العلة فيه هو المبدأ القريب لإفادة المعلول
8
وجوده بالفعل، ولكن ليس وحده، وإنما يكون مع شريك وسبب يوجد هذه العلة،
9
أعنى الصورة فتقيم الآخر به، فتكون واسطة مع شريك فى إفادة ذلك وجوده بالفعل
10
وتكون الصورة للمادة كأنها مبدأ فاعلى لو كان وجودها بالفعل يكون عنه وحده، ويشبه
11
أن تكون الصورة جزءا للعلة الفاعلية، مثل أحد محركى السفينة على ما سيتضح بعد.
12
وإنما الصورة، علة صورية للمركب منها ومن المادة، فالصورة إنما هى صورة للمادة ولكن
13
ليست علة صورية المادة.
14
[6] والفاعل يفيد شيئا آخر وجودا ليس للآخر عن ذاته، يكون صدور ذلك
15
الوجود عن هذا الذى هو فاعل، من حيث لا تكون ذات هذا الفاعل قابلة لصورة ذلك
16
الوجود، ولا مقارنة له مقارنة داخلة فيه، بل يكون كل واحد من الذاتين خارجا عن
17
الآخر، ولا يكون فى أحدهما قوة أن يقبل الآخر. وليس يبعد أن يكون الفاعل يوجد
18
المفعول حيث هو، وملاقيا لذاته؛ فإن الطبيعة التى فى الخشب هى مبدأ فاعل للحركة،
19
وإنما تحدث الحركة فى المادة التى الطبيعة فيها وحيث ذاته، ولكن ليس مقارنتهما على
197
1
سبيل أن أحدهما جزء من وجود الآخر أو مادة له، بل الذاتان متباينتان فى الحقائق،
2
ولهما محل مشترك.
3
[7] فمن الفاعل ما يتفق وقتا أن لا يكون فاعلا، ولا مفعوله مفعولا، بل يكون
4
مفعوله معدوما، ثم يعرض الفاعل الأسباب التى يصير بها فاعلا بالفعل. |260|[ed. Cairo vol. 2] وقد
5
تكلمنا فى هذا فيما سلف، فحينئذ يصير فاعلا، فيكون عنه وجود الشىء بعد ما لم
6
يكن، فيكون لذلك الشىء وجود، ولذلك الشىء أنه لم يكن، وليس له من الفاعل أنه لم
7
يكن، ولا أنه كان بعد ما لم يكن، إنما له من الفاعل وجوده. وإذن فإن كان له من ذاته
8
اللا وجود، لزم أن صار وجوده بعد ما لم يكن، فصار كائنا بعد ما لم يكن.
9
[8] فالذى له بالذات من الفاعل الوجود، وأن الوجود الذى له، إنما هو لأن الشىء
10
الآخر على جملة يجب عنها أن يكون لغيره وجود عن وجوده الذى له بالذات. وأما
11
أنه لم يكن موجودا فليس عن علة فعلته، فإن كونه غير موجود قد ينسب إلى علة ما،
12
وهو عدم علته، فأما كون وجوده بعد العدم فأمر لم يصر لعلة، فإنه لا يمكن البتة أن يكون
13
وجوده إلا بعد عدم. وما لا يمكن فلا علة له، نعم وجوده يمكن أن يكون، وأن لا يكون؛
14
فلوجوده علة، وعدمه قد يكون وقد لا يكون، فيجوز أن يكون لعدمه علة، وأما كون
15
وجوده بعد ما لم يكن فلا علة له.
16
[9] فإن قال قائل: كذلك وجوده بعد عدمه، يجوز أن يكون، ويجوز أن
17
لا يكون، فنقول:
18
[10] إن عنيت وجوده من حيث هو وجوده، فلا مدخل للعدم فيه؛ فإ نفس
19
وجوده يكون غير ضرورى، أى ممكن، وليس هو غير ضرورى من حيث هو بعد عدم.
198
1
ولكن الغير الضرورى، وجوده هذا الذى اتفق الآن، وقد كان معدوما. وأما من حيث
2
أخذ وجوده وجودا بعد عدم، فليحفظ كونه بعد عدم، لا كونه موجودا فقط، الذى
3
كان بعد عدم، واتفق بعد عدم، وذلك لا سبب له، فلا سبب لكون وجوده بعد العدم،
4
|261|[ed. Cairo vol. 2]وإن كان سببا لوجود الذى كان بعد عدم من حيث وجوده. فحق أن وجوده
5
جائز أن يكون وأن لا يكون بعد العدم الحاصل، وليس بحق أن يكون وجوده بعد العدم
6
من حيث هو وجود بعد العدم جائز أن يكون وجودا بعد العدم وأن لا يكون بعد العدم،
7
اللهم إلا أن لا يكون وجودا أصلا فيكون الاعتبار للوجود.
8
[11] وربما ظن ظان أن الفاعل والعلة إنما يحتاج إليه ليكون للشىء وجود بعد ما
9
لم يكن، وإذا وجد الشىء، فلو فقدت العلة، لوجد الشىء مستغنيا بنفسه، فظن من
10
ظن أن الشىء إنما يحتاج إلى العلة فى حدوثه، فإذا حدث ووجد فقد استغنى عن العلة،
11
فتكون عنده العلل علل الحدوث فقط وهى متقدمة لا معا، وهو ظن باطل:
12
[12] لأن الوجود بعد الحدوث لا يخلو إما أن يكون وجودا واجبا أو وجودا غير
13
واجب؛ فإن كان وجودا واجبا، فإما أن يكون وجوبه لتلك الماهية لذات تلك الماهية حتى
14
تقتضى تلك الماهية وجوب الوجود فيستحيل حينئذ أن تكون حادثة، وإما أن يجب لها
15
بشرط، وذلك الشرط إما الحدوث، وإما صفة من صفات تلك الماهية، وإما شىء مباين،
16
ولا يجوز أن يكون وجوب وجوده بالحدوث؛ فإن الحدوث نفسه ليس وجوده واجبا بذاته،
17
فكيف يجب به وجود غيره؟ والحدوث قد بطل فكيف يكون عند عدمه علة لوجوب
18
غيره؟ إلا أن يقال إن العلة ليست هى الحدوث، بل يكون الشىء قد حصل له الحدوث،
19
فيكون هذا من الصفات التى للشىء الحادث فيدخل فى الجملة الثانية من القسمين.
199
1
[13] فنقول: إن هذه الصفات لا تخلو إما أن تكون للماهية بماهى ماهية، لا بما
2
هى قد وجدت، فيجب أن يكون ما قد يلزمها يلزم الماهية، فتكون الماهية يلزمها وجوب
3
الوجود؛ أو تكون هذه الصفات حادثة مع الوجود؛ فيكون الكلام فى وجوب وجودها
4
|262|[ed. Cairo vol. 2]كالكلام فى الأول. فإما أن يكون هناك صفات بلا نهاية كلها بهذه الصفة، فتكون
5
كلها ممكنة الوجود، غير واجبة بذاتها، وإما أن تنتهى إلى صفة تجب بشىء خارج.
6
والقسم الأول يجعل الصفات كلها ممكنة الوجود فى أنفسها، وقد بان أن الممكن الوجود
7
فى نفسه، موجود بغيره، فتكون جميع الصفات تجب بغير خارج عنها. والقسم الثانى
8
يوجب أن الوجود الحادث إنما يبقى وجودا بسبب من خارج وهو العلة.
9
[14] على أنك قد علمت أن الحدوث ليس معناه إلا وجودا بعد ما لم يكن، فهناك
10
وجود، وهناك كون بعد ما لم يكن، وليس للعلة المحدثة تأثير وغناء فى أنه لم يكن، بل إنما
11
تأثيرها وغناؤها فى أن منه الوجود.ث عرض أن كان ذلك، فى ذلك الوقت، بعد ما لم
12
يكن، والعارض الذى عرض بالاتفاق لا دخول له فى تقوم الشىء، فلا دخول للعدم المتقدم
13
فى أن يكون للوجود الحادث علة، بل ذلك النوع من الوجود بما هو لذلك النوع من الماهيات
14
مستحق لأن يكون له علة وإن استمر وبقى. ولهذا لا يمكنك أن تقول: إن شيئا جعل وجود
15
الشىء بحيث يكون بعد أن لم يكن، فهذا غير مقدور عليه، بل بعض ما هو موجود واجب
16
ضرورة أن لا يكون بعد عدم، وبعضه واجب ضرورة أن يكون بعد عدم.
17
[15] فأما الوجود، من حيث هو وجود هذه الماهية، فيجوز أن يكون عن علة؛
18
وأما صفة هذا الوجود، وهى أنه بعد ما لم يكن، فلا يجوز أن تكون عن علة؛ فالشىء من
19
حيث وجوده حادث، أى من حيث أن الوجود الذى له موصوف بأنه بعد العدم، |263|[ed. Cairo vol. 2]
200
1
لا علة له بالحقيقة، بل العلة له من حيث للماهية وجود، فالأمر بعكس ما يظنون، بل العلة
2
للوجود فقط، فإن اتفق أن سبقه عدم كان حادثا، وإن لم يتفق كان غير حادث.
3
[16] والفاعل، الذى تسميته العامة فاعلا، فليس هو بالحقيقة علة من حيث
4
يجعلونه فاعلا. فإنهم يجعلونه فاعلا من حيث يجب أن يعتبر فيه أنه لم يكن فاعلا، فلا
5
يكون فاعلا من حيث هو علة، بل من حيث هو علة وأمر لازم معه. فإنه يكون فاعلا
6
من حيث اعتبار ما له فيه أثر مقرونا باعتبار ما ليس له فيه أثر، كأنه إذا اعتبرت العلة
7
من حيث ما يستفاد منها مقارنا لما لا يستفاد منها سمى فاعلا. فلذلك كل شىء يسمونه
8
فاعلا يكون من شرطه أن يكون بالضرورة وقد كان مرة غير فاعل، ثم أراد أو قسر، أو
9
عرض حال من الأحوال لم يكن، فلما قارنه ذلك المقارن كان ذاته مع ذلك المقارن علة
10
بالفعل، وقد كان خلا عن ذلك، فيكون فاعلا عندهم من حيث هو علة بالفعل بعد كونه
11
علة بالقوة، لا من حيث هو علة بالفعل فقط. فيكون كل ما يسمونه فاعلا يلزم أن يكون
12
أيضا ما يسمونه منفعلا، فإنهم لا يخلونه عن مقارنة ما يقارنه من حال حادثة لأجلها ما
13
صدر عنه وجوده ما لم يكن.
14
[17] فإذا ظهر أن وجود الماهية يتعلق بالغير من حيث هو وجود لتلك الماهية لا من
15
حيث هو بعد ما لم يكن، فذلك الوجود من هذه الجهة معلول ما دام موجودا. كذلك كان
16
معلولا متعلقا بالغير، فقد بان أن المعلول يحتاج إلى مفيده الوجود لنفس الوجود بالذات،
17
لكن الحدوث وما سوى ذلك أمور تعرض له، وأن المعلول يحتاج إلى مفيده الوجود دائما
18
سرمدا ما دام موجودا. |264|[ed. Cairo vol. 2]
201
1
[الفصل الثاني]
2
ب فصل
3
فى حل ما يتشكك به على ما يذهب إليه أهل الحق من أن كل علة
4
هى مع معلولها، وتحقيق الكلام فى العلة الفاعلية
5
[1] والذى يظن من أن الابن يبقى مع الأب، والبناء يبقى بعد البَّناء، والسخونة
6
تبقى بعد النار، فالسبب فيه تخليط واقع من جهة جهل العلة بالحقيقة، فإن البنَّاء والأب
7
والنار ليست عللا بالحقيقة لقوام هذه المعلولات، فإن البانى العامل له المذكور، ليس علة
8
لقوام البناء المذكور، ولا أيضا وجوده.
9
[2] أما البنَّاء فحركته علة لحركة ما، ثم سكونه وتركه الحركة أو عدم حركته ونقله
10
بعد ذلك النقل علة لانتهاء تلك الحركة، وذلك النقل بعينه وانتهاء تلك الحركة علة لاجتماع
11
ما، وذلك الاجتماع علة لتشكل ما، وكل واحد مما هو علة فهو ومعلوله معا.
12
[3] وأما الأب فهو علة لحركة المنى، وحركة المنى إذا انتهت على الجهة المذكورة
13
علة لحصول المنى قى[*]قى corrupt for فى القرار، ثم حصوله فى القرار علة لأمر؛ وأما تصويره حيوانا وبقاؤه
14
حيوانا فله علة أخرى؛ فإذا كان كذلك كان كل علة مع معلولها.
15
[4] وكذلك النار على لتسخين عنصر الماء، والتسخين علة لإبطال استعداد الماء
16
بالفعل لقبول صورة المائية أو حفضها؛ وذلك أن شيئا آخر علة لإحدات [*]لإحدات corrupt for لإحداث الاستعداد التام
17
فى مثل هذه الحال لقبول ضدها وهى الصورة النارية، وعلة الصورة النارية هى العلل التى
18
تكسو العناصر صورها وهى مفارقة. |265|[ed. Cairo vol. 2]
202
1
[5] فتكون العلل الحقيقية موجودة مع المعلول؛ وأما المتقدمات فهى علل، إما
2
بالعرض وإما معينات. فلهذا يجب أن يعتقد أن علة شكل البناء هو الاجتماع، وعلة ذلك
3
طبائع المجتمعات وثباتها على ما [أُلِّفت]، وعلُة ذلك السببُ المفارق الفاعل للطبائع.
4
وعلة الولد اجتماع صورته مع مادته بالسبب المفيد للصور. وعلة النار السبب المفيد
5
للصور وزوال الاستعداد التام لضد تلك الصور معا. فنجد إذن أن العلل مع المعلولات.
6
[6] وإذا قضينا بما يتصل به كلامنا بأن العلل متناهية، فإنما نشير إلى هذه
7
العلل ولا نمنع أن تكون عللا معينة ومُعدة بلا نهاية، بعضها قبل بعض. بل ذلك واجب
8
ضرورة، لأن كل حادث فقد وجب بعد ما لم يجب لوجوب علته حينئذ كما بينا،
9
وعلته ما كان أيضا وجب. فوجب فى المور الجزئية، أن تكون الأمور المتقدمة التى
10
بها تجب فى العلل الموجودة بالفعل، أن تصير عللا لها بالفعل أمورا بلا نهاية، ولذلك لا
11
يقف فيها سؤال لِمَ البتة.
12
[7] ولكن الإشكال ههنا فى شىء، وهو أن هذه التى بلا نهاية لا يخلو إما أن
13
يوجد كل واحد منها آنا فتتوالى آنات متشافعة ليس بينها زمان وهذا محال؛ وإما أن يبقى
14
زمانا فيجب أن يكون إيجابها فى كل ذلك الزمان لا فى طرف منه، ويكون المعنى الموجب
15
لإيجابها ايضا معها فى ذلك الزمان، ويكون الكلام فى إيجاب إيجابها كالكلام فيه، وتحصل
16
علل بلا نهاية معا. وهذه هو الذى نحن فى منعه فنقول:
17
[8] إنه لولا الحركة لوجب هذا الإشكال، إلا أن الحركة تبقى الشىء الواحد لا
18
على حالة واحدة فلا يكون ما يتجدد من حالة بعد حالة فى آن بعد آن يشافعه ويماسه،
19
بل كذلك على الاتصال، فتكون ذات العلة غير موجبة |266|[ed. Cairo vol. 2] لوجود المعلول بل لكونها
203
1
على نسبة ما، وتلك النسبة تكون علتها الحركة أو شريكة علتها. [التى] بها العلة علة
2
بالفعل الحركة، فتكون حينئذ العلة لا ثابتة الوجود على حالة واحدة ولا باطلة الوجود
3
حادثة فى آن واحد، فباضطرار إذن تكون العلة الحافظة أو المشاركة لنظام هذه العلل
4
التى بسببها تنحل الإشكالات هو الحركة. وسنوضح ذلك فى موضعه إيضاحا أشفى من
5
هذا. فقد بان ووضح أن العلل الذاتية للشىء التى بها وجود ذات الشىء بالفعل يجب
6
أن تكون معه لامتقدمة فى الوجود تقدما يكون زواله مع الحدوث المعلول، وأن هذا إنما
7
يجوز فى علل غير ذاتية أو غير قريبة، والعلل غير الذاتية أو الغير القريبة لا يمنع ذهابها
8
إلى غير النهاية بل يوجبه.
9
[9] وإذ قد تقرر هذا، فإذا كان شىء من الأشياء لذاته سببا لوجود شىء آخر
10
دائما كان سببا له دائما ما دامت ذاته موجودة. فإن كان دائم الوجود كان معلوله دائم
11
الوجود، فيكون ميل هذا من العلل أولى بالعلية لأنه يمنع مطلق العدم للشىء فهو الذى
12
يعطى الوجود التام للشىء. فهذا هو المعنى الذى يسمى إبداعا عند الحكماء وهو تأييس
13
الشىء بعد ليس مطلق، فإن للمعلول فى نفسه أن يكون «ليس» ويكون له عن علته أن
14
يكون «أيْس». والذى يكون للشىء فى نفسه أقدم عند الذهن بالذات لا فى الزمان من
15
الذى يكون عن غيره، فيكون كل معلول «أيْسا» بعد «ليْس» بعدية بالذات.
16
[10] فإن أطلق اسم المحدَث على كل ما له «أيس» بعد «ليس» وإن لم تكن
17
بعَدية بالزمان كان كل معلول محدثا؛ وإن لم يطلق، بل كان شرط المحدث أن يوجد زمان
18
ووقت كان قبله |267|[ed. Cairo vol. 2] فبطل لمجيئه بعده، فتكون بَعديته بعَدية لا تكون مع القبلية
19
موجودة، بل تكون ممايزة لها فى الوجود لأنها زمانية. فلا يكون كل معلول محدثا، بل
204
1
المعلول الذى سبق وجوده زمان سبق وجوده لا محالة حركة وتغير كما علمت. ونحن
2
لا نناقش فى الاسماء.
3
[11] ثم المحدث بالمعنى الذى لا يستوجب الزمان لا يخلو إما أن يكون وجوده بعد
4
«ليس» مطلق، أو يكون وجوده بعد «ليس» غير مطلق بل بعد عدم مقابل خاص فى
5
مادة موجودة على ما عرفته. فإن كان وجوده بعد «ليس» مطلق كان صدوره عن العلة،
6
ذلك الصدور إبداعا، ويكون أفضل أنحاء إعطاء الوجود، لأن العدم يكون قد منع البتة،
7
وسُلِّط عليه الوجود، ولو أمكن العدم تمكينا [يسبق] الوجود كان تكوينه ممتنعا إلا عن
8
مادة، وكان سلطان الإيجاد، أعنى وجود الشىء من الشىء ضعيفا قصيرا مستأنفا.
9
[12] ومن الناس من لا يجعل كل ما هذا بصفته مبدعا، بل يقول، إذا توهمنا شيئا
10
وجد عن علة أولى بتوسط علة وسطى فاعلية، وإن لم يكن عن مادة، ولا كان لعدمه
11
سلطان، ولكن كان وجوده عن العلة الأولى الحقيقية بعد وجود آخر انساق إليه، فليس
12
تأييسه عن «ليس» مطلقا، بل عن «أيس» وإن لم يكن ماديا. ومن الناس من يجعل
13
الإبداع لكل وجود صورى كيف كان؛ وأما المادى، وإن لم تكن المادة سبقت فيخص
14
نسبته إلى العلة باسم التكوين.
15
[13] ونحن لا نناقش فى هذه الاسماء البتة بعد أن تحصل المعانى متميزة، فنجد
16
بعضها له وجود عن علة دَوْما بلا مادة، وبعضها بمادة، وبعضها بواسطة، وبعضها بغير
17
واسطة. ويحسن أن يسمى كل ما لم يوجد عن مادة سابقة غير متكون بل مبدعا، وأن
18
نجعل أفضل ما يسمى مبدعا ما لم يكن بواسطة عن علته الأولى، مادية كانت أو فاعلية
19
أو غير ذلك. |268|[ed. Cairo vol. 2]
205
1
[14] ونرجع إلى ما كنا فيه فنقول: أما الفاعل الذى يعرض له أن يكون فاعلا فلا
2
بد له من مادة يفعل فيها، لأن كل حادث، كما علمت، يحتاج إلى مادة فربما فعل دفعة،
3
وربما فعل بالتحريك فيكون مبدأ الحركة؛ وإذا قال الطبيعيون للفاعل، مبدأ الحركة،
4
عنوا به الحركات الأربع، وتساهلوا فى هذا الموضع فجعلوا الكون والفساد حركة. وقد
5
يكون الفاعل بذاته فاعلا، وقد يكون بقوة؛ فالذى بذاته، فمثل الحرارة لو كانت موجودة
6
مجردة تفعل، فكان يصدر عنها ما يصدر لأنها حرارة فقط؛ وأما الفاعل بقوة، فمثل النار
7
بحرارتها وقد عددنا فى موضع آخر أصناف القوى.
8
[الفصل الثالث]
9
(ج) فصل
10
فى مناسبة ما بين العلل الفاعلية ومعلولاتها
11
[1] نقول انه ليس الفاعل كل ما أفاد وجودا أفاده مثل نفسه، فربما أفاد وجودا مثل
12
نفسه وربما أفاد وجودا، لا مثل نفسه، كالنار تسوّد، أو كالحرارة تسخّن؛ والفاعل الذى
13
يفعل وجودا مثل نفسه، فإن المشهور أنه أولى وأقوى فى الطبيعة التى يفيدها من غيره.
14
وليس هذا المشهور ببِّين ولا بحق من كل وجه، إلا أن يكون ما يفيده هو نفس الوجود
15
والحقيقة؛ فحينئذ يكون المفيد أولى بما يفيده من المستفيد.
16
[2] ولْنَعُدْ من رأس فنقول: إن العلل لا تخلو إما أن تكون عللا للمعلولات فى نحو وجود
17
أنفسها، وإما أن تكون عللا للمعلولات فى وجود اخر. مثالُ الأول: تسخين النار؛ ومثال
18
الثانى: تسخين الحركة، وحدوث التخلخل من الحرارة، وأشياء كثيرة مشابهة لذلك. |269|[ed. Cairo vol. 2]
206
1
[3] ولنتكلم عن العلل والمعلولات التى تناسب الوجه الأول. ولنورد الأقسام التى
2
قد يظن فى الظاهر أنها أقسامه، فنقول:
3
[4] قد يظن فى الوجه الأول أنه قد يكون المعلول فى كثير منه أنقص وجودا من
4
العلة فى ذلك المعنى، إن كان ذلك المعنى يقبل الأشد والأنقص مثل الماء إذا تسخن عن
5
النار. وقد يكون فى ظاهر النظر مثله أيضا، قبل ذلك أو لم يقبل، مثل النار فإنها يعتقد
6
فيها، فى الظاهر، أنها تُحيل غيرها مثل نفسها نارا فى الظاهر فيكون مساويا لها فى صورة
7
النارية، لأن تلك الصورة لا تقبل الأزيد والأقل، ومساويا له فى العرض اللازم من السخونة
8
المحسوسة إذا كان صدور ذلك الفعل عن الصورة المساوية لصورته وعنه أيضا، والمادة
9
مساوية فى التهيؤ.
10
[5] وأما كون المعلول أزيد فى المعنى الذى هو من العلة، فهو الذى يرى أنه لا يمكن
11
البتة ولا يوجد فى الأشياء المظنونة عللا ومعلولات، لأن تلك الزيادة لا يجوز أن يكون
12
حدوثها بذاتها، ولا يجوز أن يكون حدوثا لزيادة استعداد المادة، حتى يكون قد أوجب
13
ذلك خروج الشىء إلى الفعل بذاته، فإن الاستعداد ليس سببا للإيجاد، فإن جُعل سببُها
14
العلُة والَأَثُر الذى وجد عن العلة معا، فتلك الزيادة تكون معلولة أمرين لا معلولة أمر واحد؛
15
وهما مجموعتين يكونان أكثر وأزيد من المعلول الذى هو الزيادة.
16
[6] فإن سلمنا هذه الظنون إلى أن نستبين حالها، ساغ لنا أن نقول: إنه إذا كان
17
المعنى فى المعلول والعلة متساويا فى الشدة والضعف فإنه يكون للعلة، بما هى علة، التقدم
18
الذاتى لا محالة فى ذلك المعنى. والتقدم الذاتى، الذى له فى ذلك المعنى معنى من حال
19
ذلك |270|[ed. Cairo vol. 2] المعنى، غير الموجود للثانى، فيكون ذلك المعنى مساويا للأول إذا أخذ
20
بحسب وجوده وأحواله التى له من جهة وجوده أقدم [من الآخر] فيزول إذن مطلق
207
1
المساواة، لأن المساواة تبقى فى الحد، وهما من جهة ما لهما ذلك الحد متساويان، وليس
2
أحدهما علة ولا معلولا. فأما من جهة ما أحدهما علة والآخر معلول فواضح أن اعتبار
3
وجود ذلك الحد لأحدهما أولى، إذ كان له أولا لا من الثانى ولم يكن الثانى إلا منه. فظاهر
4
من هذا أن هذا المعنى إذا كان نفس الوجود لم يمكن أن يتساويا فيه البتة إذ كان إنما يمكن
5
أن يساويه باعتبار الحد ويفضل عليه باعتبار استحقاق الوجود. والآن فإن استحقاق
6
الوجود هو من جنس استحقاق الحد بعينه، إذ قد أخذ هذا المعنى نفس الوجود، فَبَيِّن
7
أنه لا يمكن أن يساويه إذا كان المعنى نفس الوجود فمفيد وجود الشىء من حيث هو
8
وجود أولى بالوجود من الشىء.
9
[7] ولكن ههنا تفصيل آخر بنوع من التحقيق يجب أن لا نغفله، وهو أن العلل
10
والمعلومات تنقسم فى أول النظر عند التفكر إلى قسمين:
11
[8] قسم تكون طباع المعلول فيه ونوعيته وماهيته الذاتية توجب أن يكون معلولا
12
فى وجوده لطبيعة أو لطبائع، فتكون العلل مخالفة لنوعيته، لا محالة، إذ كانت عللا له
13
فى نوعه لا فى شخصه. وإذا كان كذلك لم يكن النوعان واحدا، إذ المطلوب علة ذلك
14
النوع، بل تكون المعلولات تجب عن نوع غير نوعها، والعلل يجب عنها نوع غير نوعها.
15
[تكون] عللا للشىء المعلول ذاتية بالقياس إلى نوع المعلول مطلقا. |271|[ed. Cairo vol. 2]
16
[9] وقسم منه يكون المعلول ليس معلول العلة، والعلة علة المعلول فى نوعه بل فى
17
شخصه. ولنأخذ هذا على ظاهر ما يقتضيه الفكر من التقسيم، وظاهر ما يوجد له من
208
1
الأمثلة وعلى سبيل التوسع، إلى أن نبين حقيقة الحال الواجبة فيه من نظرنا فى السبب
2
المعطى لصورة كل ذى صورة من الأجسام.
3
[10] فمثال الأول كون النفس علة للحركة الاختيارية، ومثال الثانى كون هذه النار
4
علة لتلك النار. والفرق بين الأمرين معلوم. فإن هذه النار ليست علة لتلك النار على أنها
5
علة نوعية النار بل على أنها علة نار ما. فإذا اعتبر من جهة النوعية كانت هذه العلة للنوعية
6
بالعرض؛ وكذلك الأب للابن لا من جهة ما هو أب وذلك ابن، وذاك من جهة وجود الإنسانية.
7
[11] وهذا القسم يتوهم على وجهين: أحدهما أن تكون العلة والمعلول مشتركين
8
فى استعداد المادة كالنار والنار. والآخر أن لا يكونا فيه مشتركين كضوء الشمس الذى
9
فى جوهره الفاعل للضوء ههنا أو فى القمر. وإذ ليس استعداد المادتين فيهما متساويا ولا
10
المادتان من نوع واحد، فبالحرى أن لا يتساوى الشخصان فى ذلك، أعنى هذا الضوء
11
الذى فى الشمس وهذا الضوء الحادث عنه. فيكاد لذلك أن لا يكون الضوءان من نوع
12
واحد عند من يشترط فى تساوى نوعية الكيفيات أن لا يكون أحدهما أنقص والآخر
13
أزيد، على ما علمت فى موضعه من صفته، ويكونان نوعا واحدا عند من يرى المخالفة
14
بالنقص والاشتداد مخالفة بالعوارض والتشخصات.
15
[12] وأما القسم الأول وهو أن يكون الأمران مشتركين فى استعداد المادة، فهو
16
أيضا على قسمين؛ لأن ذلك الاستعداد إما أن يكون استعدادا فى المنفعل تاما، أو يكون
17
استعدادا ناقصا. والاستعداد التام أن لا يكون فى طباع الشىء معاوق ومضاد لما هو
18
|272|[ed. Cairo vol. 2]بالقوة فيه، كاستعداد الماء المسخن للتبرد لأن فى نفسه قوة طبيعية ــ كما
209
1
علمناه فى الطبيعيات ــ تعاوق [*]تعاوق corrupt for تعاون [according to Bertolacci 2006, 519] القوة الخارجة فى التبريد أو لا تعاوقه؛ وأما الاستعداد
2
الناقص فهو كاستعداد الماء للتسخن، لأن فيه قوة تعاوق التسخن الذى يحدث فيه من
3
خارج، وتوجد مع التسخن باقية فيه ولا تبطل.
4
[13] والقسم الأول على أقسام ثلاثة: فإنه إما أن يكون فى المستعد قوة معاونة،
5
تبقى كما فى الماء إذا برد عن سخونه. وإما أن يكون فى المستعد قوة مضادة للأمر،
6
إلا أنها تبطل مع وجود الأمر كما فى الشعر إذا شاب عن سواد. وإما أن لا يكون فى
7
المستعد ولا واحد من الأمرين لا ضد ولا معين، ولكن عدم الأمر والاستعداد له فقط،
8
مثل حال التَّفِه فى قبول الطعم، وعديم الرائحة فى قبول الرائحة. فإن سئلنا عن استعداد
9
الماء لأن يصير نارا أنه من أى الأقسام الخمسة هو، لم يشكل علينا أنه من قسم المشاركة
10
فى استعداد تام للمادة ولكن به فى المادة ضده.
11
[14] ولقائل أن يقول: إنكم قد تركتم اعتبار قسم واحد، وهو أن لا يكون هناك
12
مشاركة فى المادة أصلا إذ لا يكون لها مادة.
13
[15] فالجواب عن هذا أن هناك لا يمكن أن يكون اتفاق فى النوع البتة، فإنه قد
14
استبان أن الأشياء المتفقة فى النوع البريئة عن المادة أصلا يكون وجودها عينا واحدا.
15
ولا يجوز أن يقال معنى الواحد منها على كثيرين.
16
[16] فإذ قد دللنا على هذه الأقسام التى حاصلها خمسة؛ فإنا نرود الحكم فى
17
قسم قسم منها فنقول:
18
[17] أما القسم من هذا الباب الذى لا مشاركة فيه فى استعداد المادة لا القريبة
19
ولا البعيدة، فليس يجب فيه أن يكون ما يحدثه الفاعل من الآثار القابلة للزيادة والنقصان
210
1
|273|[ed. Cairo vol. 2]مساويا لنفسه، لأنه يمكن أن يكون بما افترقا فيه من جوهر المادة افتراقا فى
2
الاستعداد لقبول الأمر فلم يقبلاه بالسوية. وليس أيضا يجب أن لا يتساويا فيه، بل قد
3
يجوز أن يكون الحال فى ذلك مثل الحال فى اتباع سطح فلك الأثير لسطح فلك القمر فى
4
الحركة التى بالعرض. وذلك حيث يمكن أن لا يكون فى هذا مانع من قبول التأثير مساويا
5
لما يؤثره الفاعل وهو فى مثل هذا الموضع إحداث مثل نفسه.
6
[18] وأما القسم من هذا الباب الذى هناك استعداد تام كيف كان، فالأمر ظاهر
7
فى أن المنفعل قد يجوز أن يتشبه بالفاعل تشبها تاما؛ وذلك مثل النار تحيل الماء نارا
8
والملح يحيل العسل ملحا، وما أشبه ذلك. وقد يجوز أن يزيد فيه المنفعل على الفاعل
9
فى الظاهر غير المتحقق، مثل الماء الذى يجمده الهواء ولا يكون برد ذلك الهواء برد ذلك
10
الجمد؛ إلا أنك إذا تحققت لم يكن الفاعل وجده هو البرد الذى فى الهواء، بل والقوة
11
المبردة الصورية التى فى جوهر الماء ــ الذى دللنا عليه فى الطبيعيات ــ إذا عاونها ولم
12
يعاوقها برد الهواء.
13
[19] وأما القسم من هذا الباب الذى يكون استعداد المنفعل فيه ناقصا، فليس
14
يمكن البتة أن يتشبه فيه المنفعل بالفاعل التام القوة ويساويه، فإنه لا يمكن أن يكون الشىء
15
الحاصل من قوة فى الشىء لا مضاد لها والحاصل من قوة أخرى، وهناك مضاد ممانع،
16
متساويين البتة، أو يبطل الممانع. ولهذا لا يمكن أن يكون شىء غير النار يتسخن من
17
النار وتكون سخونته مثل سخونة تلك النار، أو شىء غير الماء يبرد عن الماء وتكون
18
برودته أكثر من برودة ذلك الماء؛ |274|[ed. Cairo vol. 2]لأن استعداد النار للتسخن والماء للتبرد حال
19
غير مضاد فى جوهره، والقوة الفاعلة داخلة فى جوهره غير غريبة منه. فأما ما ينفعل
211
1
منهما ففيه مانع عنه مضاد. والفاعل الأول للانفعال خارج عن جوهره ويفعل فيه بمماسته
2
وبتوسط أمر، كالسخونة المحسوسة فى النار المسخنة، والبرودة المحسوسة فى الماء
3
المبرد، فليس يمكن أن يساويه.
4
[20] فإن قال قائل: إن النار قد تذيب الجواهر فتجعلها أسخن منها، لأنا ندخل
5
أيدينا فى النار ونمرها بعجلة فلا تحترق احتراقها فى المسبوكات لو فعل بها ذلك بعينه،
6
فيعلم من ذلك يقينا أن المسبوكات أسخن من النار ومع ذلك فإنما سخنت من النار. فإنا
7
نجيب ونقول:
8
[21] إن ذلك ليس بسبب أن المسبوكات أسخن، ولكن لمعان ثلاثة، منها ما
9
هو أقرب إلى الظهور: أحدهما فى المسبوك، والآخر فى النار، والثالث فى اللامس،
10
وكلها متعاونة متقاربة. أما الذى فى المسبوك، فلأنه غليظ فيه تشبث ما ولزوجة وبطء
11
انفصال. فإذا لمس ذهب مع اللامس ولم يمكن أن يفارق إلا فى زمان ذى قدر فى نفسه
12
بالقياس إلى زمان مفارقة اللامس النار، وإن كان الحس لا يضبط ذلك الإختلاف، لكن
13
العقل والذهن يوجبه. ومن شأن الفاعل الطبيعى أن يفعل فى المنفعل فى مدة أطول فعلا آكد
14
وأحكم، وأن يفعل الضعيف فى مدة أطول ما لا يفعله القوى فى مدة قصيرة.
15
[22] وأما الذى فى النار، فلأن النار محسوسة إنما هى أجزاء من النار الحقيقية
16
مع أجزاء من الأرض متصعدة متحركة. واجتماعها على سبيل التجاور لا على سبيل
17
الإتصال، بل هى فى أنفسها متفرقة، ويتخللها الهواء تخللا على سبيل التجدد. فيكسر
18
ما بداخله فيها من صرافة حرة، لأنه أبرد منها، ولأنه ليس ينفعل فى تلك العجلة انفعالا
19
لا يصير به نارا محضا. |275|[ed. Cairo vol. 2] ومع ذلك فإنها سريعة الحركة فى نفسها لا يكاد يبقى جزء
212
1
منها مماسا لجزء من اليد زمانا يؤثر فيه تأثيرا محسوسا بل يتجدد. فما لم تجتمع تأثيرات
2
غير محسوسة كثيرة لا يؤدى إلى قدر محسوس وذلك فى مدة لها قدر.
3
[23] وأما المسبوك، فإن جوهره مجتمع متحد ثابت قائم بالإتصال؛ وإذا كان
4
كذلك كان ما يلاقى سطح اليد من المسبوك سطحا واحدا مطابقا بالكلية، وما يلاقيه
5
من النار المحسوسة سطوح صغار مخالطة لما هو بالقياس إليها برد، فيختلف بذلك
6
التأثير، إلا أن يبقى مدة تتوالى فيها المماسات فيكثر ويفعل كل سطح فيما يماسه فعلا،
7
ثم يتسلط الفعل على ما هو عليه الأمر فى الاستحالات الطبيعية. وأما النار المحقونة فى
8
مثل الكيران للحدادين فإنها أعظم تأثيرا فيما يماسه من المسبوكات وغيرها، وأسرع مدة
9
لاجتماعها وصرافتها.
10
[24] وأما الحال التى فى اليد، فلأن اليد قادرة على قطع الهواء والنار والأجسام
11
اللطيفة بأسرع حركة، وليست قادرة على قطع المسبوك الكثيف باسرع حركة، لأن المقاومة
12
للدفع والخرق فى اللطيف قليل، وفى الكثيف كثير. ويكاد أن يكون هذا يسمى كثيفا
13
وذلك لطيفا بسبب اختلافهما فى هذا المعنى. فلو كان المسبوك ليس ألزج وأكثر تشبثا لما
14
يلامسه، وليس أيضا اشد اجتماعا واتحادا، ثم كان قطعه فى مدة أطول لمقاومته، وكان
15
ثابتا لازما غير هارب عن المماسة، لكفاه ذلك فى جواز أن يؤثر تأثيرا أشد من تاثير
16
اللطيف بحسب نسبة الأزمنة إذ كان ذا أثر فى مثل زمان ملاقاة اللطيف أثرا ما، فإذا
17
ضوعف الزمان أمكن أن يساويه فى بعض الأضعاف، وإذا زيد فى الأضعاف أمكن أن
18
يزيد عليه. وربما لم يكن زمانه المضاعف مع عظم نسبته محسوس القدر لما تعرفه.
213
1
[25] ومن حق هذا الموضع أن يبسط بسطا أكثر مما بسطناه، لكنه |276|[ed. Cairo vol. 2] أولى
2
بالصناعة الطبيعية. وإنما يجب أن نذكر ههنا قدر ما تنحل به الشبهة ويظهر وجهها، ثم إن
3
شاء مستقص أن يستقص ذلك استقصاه من الأقوال المستقصاة فى علم الطبيعة وخصوصا
4
ما عسى يجده من جهتنا. فقد ظهر من جملة هذه التفصيلات الموضع الذى نظن فيه أنه
5
يجوز أن يتساوى الفاعل والمنفعل فيه، والموضع الذى يظن فيه أنه يجوز أن يزيد عليه،
6
والموضع الذى لا يجوز إلا أن يقصر عنه. وظهر فى خلال ذلك أنه وإن كان كذلك، فوجود
7
المعنى من جهة نفس الوجود لا يتساوى فيه الفاعل والمنفعل إذا لم يكن فاعلا للمعنى بما
8
هو وجود المعنى بالعرض كما بيناه.
9
[26] ثم الفاعل والمبدأ الذى ليس منفعله مشاركا له فى النوع ولا فى المادة، وإنما
10
يشاركه بوجه ما فى معنى الوجود، وليس يمكن أن يعتبر فيه حال المعنى الذى له الوجود
11
لأنهما ليسا يشتركان فيه، فبقى فيه حال اعتبار الوجود نفسه، وقد كان فى سائر ذلك ما كان
12
من المتساوية والزائدة على مبدأ الفاعل إذا رجع إلى حال اعتبار الوجود كان المبدأ الفاعلى
13
غير مساو له؛ لأن وجوده بنفسه، ووجود المنفعل من حيث ذلك الإنفعال مستفاد منه.
14
[27] ثم الوجود بما هو وجود لا يختلف فى الشدة والضعف، ولا يقبل الأقل
15
والأنقص. وإنما يختلف فى عدة أحكام وهى: التقدم، والتأخر، والاستغناء والحاجة،
16
والوجوب والإمكان. أما فى التقدم والتأخر، فإن الوجود، كما علمت، للعلة أولا،
17
وللمعلول ثانية. وأما الاستغناء والحاجة، فقد علمت أن العلة لا تفتقر فى الوجود إلى
18
المعلول، بل يكون موجودا بذاته أو بعلة أخرى؛ وهذا المعنى قريب من الأول وإن خالفه
214
1
فى الاعتبار. |277|[ed. Cairo vol. 2]وأما الوجوب والإمكان، فإنا نعلم أنه إن كانت علة هى علة لكل
2
ما هو معلول فهى واجبة الوجود بالقياس إلى الكل من كل المعلولات وعلى الإطلاق. وإن
3
كان علة لمعلول ما، فهى واجبة الوجود بالقياس إلى ذلك المعلول، وذلك المعلول كيف كان
4
فهو ممكن الوجود فى نفسه.
5
[28] وتلخيص هذا: هو أن المعلول هو فى ذاته بحيث لا يجب له وجود، وإلا
6
لوجب من دون علته إذا فرض واجبا لذاته وبحيث لا يمتنع له وجود؛ وإلا لما وجد
7
بالعلة، فذاته بذاته بلا شرط كون علة له أو لا كون علة له ممكنة الوجود، وإنما يجب
8
لا محالة بالعلة.
9
[29] ثم العلة كما قد تبين لا يجوز أن يجب بها، بل يكون إما واجبا بذاته وإما
10
واجبا من شىء غيره. فإذا حصل له الوجوب به فحينئذ يصح أن يكون عنه وجوب
11
غيره؛ فيكون المعلول باعتبار ذاته ممكنا. وأما العلة فباعتبار ذاتها إما واجبا وإما ممكنا.
12
فإن كان واجبا فوجوده أحق من وجود الممكن. وإن كان ممكنا، وليس يجب بالمعلول،
13
والمعلول يجب به وبعد وجوبه، فتكون العلة إذا صار ذاتها واجبة لم يكن بالقياس إلى
14
المعلول، والمعلول لا يصير ذاته واجبة إلا بالقياس إليها؛ فيكون إلى ذات العلة نظر قد
15
وجب به لا يتناول ذات المعلول بل يكون به هو واجبا، والمعلول غير ملحوظ بعد، وذات
16
المعلول لا تكون إلا ممكنة، ولا يجب إلا ا، تلاحظ مقيسة بالعلة، فيكون للعلة اختصاص
17
بوجوب، ولا يكون للمعلول إلا الإمكان فقط عند ذاك الإختصاص، ويكون إذا كان
18
للمعلول وجوب كان العلة اولا وإلا لكانت العلة بعد ممكنة لم يجب وجودها ووجب وجود
19
المعلول. فيكون وجب لا عن ذات العلة وهذا محال.
215
1
[30] فيكون للعلة وجوب باعتبار ذاته ومن حيث |278|[ed. Cairo vol. 2] لم تضف إلى المعلول،
2
والمعلول بعد ثابت على مقتضى إمكانه إذ كانت العلة لا تجب عنه بل بذاته أو بإضافة إلى
3
غيره لا إليه، ومن حيث العلة غير مضافة إلى المعلول بعد، فالمعلول ليس يجب وجوده،
4
بل إنما يجب وجوده من حيث العلة مضافة إليه، فتصير العلة، لهذه المعانى الثلاثة، أولى
5
بالوجود من المعلول، فالعلة أحق من المعلول، ولأن الوجود المطلق إذا جعل وجود شىء
6
صار حقيقيا. فبين أن المبدأ المعطى للحقيقة المشارك فيها أولى بالحقية. فإذا صح أن
7
ههنا مبدأ أولا هو المعطى لغيره الحقيقة، صح أنه الحق بذاته، وصح أن العلم به هو العلم
8
بالحق مطلقا؛ وإذا حصل العلم به كان العلم الحق مطلقا بالنحو الذى يقال للعلم حق،
9
وهو الذى بالقياس إلى المعلوم.
10
[الفصل الرابع]
11
د فصل
12
فى العلل الأخرى العنصرية والصورية والغائبة
13
[1] فهذا ما نقوله فى المبدأ الفاعلى، ولنشرح الآن القول فى المبادئ الأخر. فأما
14
العنصر، فهو الذى فيه قوة وجود الشىء، فنقول: إن الشىء تكون له هذه الحالة مع شىء
15
آخر على وجوه:
16
[2] فتارة يكون كما للّوح إلى الكتابة، وهو أنه مستعد لقبول شىء يعرض له من غير
17
تغير فيه ولا زوال أمر كان له عنه. |279|[ed. Cairo vol. 2]وتارة يكون كما للشمعة إلى الصنم، وللصبى
18
إلى الرجل، وهو أنه مستعد لقبول شىء يعرض له من غير أن يتغير من أحواله شىء، إلا
19
حركة فى «أين» أو «كم» أو غير ذلك. وتارة يكون كما للخشبة إلى السرير؛ فإنه يُنقصه
216
1
بالنحت شيئا من جوهره. وتارة يكون مثل ما للأسود إلى الأبيض؛ فإنه يستحيل ويفقد
2
كيفيته من غير فساد جوهره. وتارة يكون كما للماء إلى الهواء؛ فإنه يكون الهواء
3
عنه بأن يفسد. وتارة يكون كما للمنى إلى الحيوان، فإنه يحتاج أن ينسلخ عن صور له
4
انسلاخات حتى يستعد لقبول صورة الحيوان. وكذلك الحصرم للخمر. وتارة يكون كما
5
للمادة الأولى إلى الصورة؛ فإنها مستعدة لقبولها متقومة بالفعل. وتارة يكون مثل الهِليَلَجة
6
إلى المعجون؛ فإنه ليس عنه وحده يكون المعجون، بل عنه وعن غيره فيكون قبل ذلك
7
جزءا من أجزائه بالقوة. وتارة يكون كما للخشب والحجارة إلى البيت؛ فإنه كالأول، إلا
8
أن الأول إنما يكون عنه المعجون بضرب من الاستحالة، وهذا ليس فيه إلا التركيب. ومن
9
هذا الجنس أيضا الآحاد للعدد، وقد يجعل قوم المقدمات كذلك للنّتيجة، وذلك غلط. بل
10
المقدمات كذلك لشكل القياس. وأما النتيجة فليست صورة فى المقدمات، بل شيئا يلزم
11
عنها، كأن المقدمات تفعلها فى النفس. |280|[ed. Cairo vol. 2]
12
[3] فعلى هذه الأنحاء نجد الأشياء الحاملة للقوة؛ فإنها إما أن تكون حاملة للقوة
13
بوحدانيتها أو بشركة غيرها.
14
[4] فإن كانت بوحدانيتها فإما إلا يحتاج فيما يكون منها إلا إلى الخروج بالفعل
15
لذلك فقط، وهذا هو الذى بالحرى أن يسمى موضوعا بالقياس إلى ما هو فيه؛ ويجب
16
أن يكون لمثل هذه بنفسه بالفعل قوام؛ فإنه إن لم يكن له قوام لم يجز أن يكون متهيئا لقبول
17
الحاصل فيه، بل يجب أن يكون قائما بالفعل؛ فإن كان إنما يصير قائما بما يحله فقد كان
18
فيه شىء يحله قبل ما حله ثانيا به يقوم، وإما أن يكون الثانى ليس مما يقومه بل مضافا
19
إليه أو يكون وروده يبطل ما كان يقيمه قبله فيكون قد استحال، وقد فرضناه لم يستحل.
217
1
فهذا قسم وأما إن كان يحتاج إلى زيادة شىء، فإما أن يكون إلى حركة فقط، إما مكانية
2
وإما حركة كيفية أو حركة كمية أو وضعية و جوهرية، وإما إلى فوات أمر آخر من جوهره
3
من كم أو كيف أو غير ذلك.
4
[5] وأما الذى يكون بمشاركة غيره فيكون لا محالة فيه اجتماع وتركيب، فإما
5
أن يكون تركيب من اجتماع فقط، وإما أن يكون مع ذلك استحالة فى الكيف. وكل ما
6
فيه تغير فإما أن ينتهى إلى الغاية وتغير واحد، أو بتغيرات كثيرة. وقد جرت العادة بأن
7
يسمى الذى يكون الكون منه بالتركيب وهو فى الشىء أسطقسا، وهو الذى ينحل إليه
8
أخيرا. فإن كان جسمانيا فهو أصغرما [*]أصغرما corrupt for أصغر ما ينتهى إليه القاسم فى القسمة إلى [مختلفات] [*][مختلفات] corrupt for مختلفات
9
الصور الموجودة فيه وقد حد بأنه الذى منه ومن غيره تركب الشىء؛ وهو فيه بالذات ولا
10
ينقسم بالصورة. |281|[ed. Cairo vol. 2]
11
[6] ومن رأى أن الأشياء إنما تتكون من الأجناس والفصول جعلها الاسطقسات
12
الأولى، وخصوصا الواحد والهوية. فقد جعلوها أولى المبادئ بالمبدئية، لأنها أشدها كلية
13
وجنسية. ولو أنصفوا لعلموا أن القوام بالذات إنما هو للأشخاص، فما يليها أولى بأن يكون
14
جواهر وقائمات بأنفسها، وأنها أولى بالوجود أيضا.
15
[7] ولنعد إلى أمر العنصر فنقول قد جرت العادة فى مواضع بأن يقال: إن الشىء
16
كان عن العنصر فى مواضع، ولم يجر فى مواضع، فإنه يقال: إنه كان من الخشب باب،
17
ولا يقال: كان من الإنسان كاتب. وأن ينسب الكائن إلى الموضوع فى مواضع وأن لا
18
ينسب فى مواضع، فيقال، تارة، إن هذا باب خشبى، ولا يقال: إن هذا كاتب إنسانى.
19
فأما الأول، فإذا وجدوا الموضوع لم يتحرك إليه البتة ولم يتغير فى قبول الشىء، فإنهم
218
1
حينئذ لا يقولون إنه كان عنه، بل إنما يقولوندائما إنه عن العدم، كما يقولون غير
2
الكاتب. وإذا تغير خصوصا فيما لا يجدون للعدم منه اسما، فيقولون: كان عن غير
3
الموضوع. وأما بالنسبة إلى الموضوع فإنما يستعمل فى الأكثر إذا كان الموضوع قد يصلح
4
غيره للصورة. وأما الصورة فلا ينسب إليها، ولا يقال كان منها، إنما يشتق منها الاسم،
5
والموضوع قد يكون مشتركا للكل وقد يكون مشتركا لعدة أمور، مثل العصير للخل والخمر
6
والطلا والرُّبِّ وغير ذلك.
7
[8] وكل عنصر فإنه من حيث هو عنصر، إنما له القبول فقط، وأما حصول
8
الصورة فله من غيره، وما كان من العناصر أو القوابل مبدأ الحركة إلى الأثر موجود فى
9
نفسه |282|[ed. Cairo vol. 2] ظن أنه متحرك إليه بنفسه، وليس كذلك. فقد تبين لنا فى مواضع أخرى
10
أنه لا يجوز أن يكون شىء واحد فاعلا وقابلا لشىء واحد من غير أن يتجزأ ذاته.
11
لكن العنصر إذا كان مبدأ حركته فيه بذاته كان متحركا عن الطبيعة، وكان ما يكون منه
12
طبيعيا، وإذا كان مبدأ الحركة فيه من خارج ولم يكن له أن يتحرك إلى ذلك الكمال من
13
نفسه، كان ما يكون منه صناعيا أو تجاريا مجراه. فهذا جمل ما نقوله فى العنصر.
14
[9] وأما الصورة فنقول: قد يقال صورة لكل معنى بالفعل يصلح أن يفعل حتى
15
تكون الجواهر المفارقة صورا بهذا المعنى. ويقال صورة لكل هيئة وفعل يكون فى قابل
16
وحدانى أو بالتركيب حتى تكون الحركات والأعراض صورا. ويقال صورة لما تتقوم به
17
المادة بالفعل فلا تكون حينئذ الجواهر العقلية والأعراض صورا. ويقال صورة لما تكمل به
18
المادة وإن لم تكن متقومة بها بالفعل، مثل [الصحة] وما يتحرك بها إليها بالطبع. ويقال
19
صورة خاصة لما يحدث فى المواد بالصناعة من الأشكال وغيرها. ويقال صورة لنوع
219
1
الشىء ولجنسه ولفصله ولجميع ذلك. وتكون كلية الكلى صورة للأجزاء أيضا. والصورة
2
قد تكون ناقصة كالحركة وقد تكون تامة كالتربيع والتدوير.
3
[10] وقد علمت أن الشىء الواحد يكون صورة وغاية ومبدأ فاعليا من وجوه
4
مختلفة. وفى الصناعة أيضا، فإن الصناعة هى صورة المصنوع فى النفس. فإن البناء فى
5
نفسه صورة الحركة إلى صورة البيت، وذلك هو المبدأ الذى يصدر عنه حصول الصورة فى
6
مادة البيت. وكذلك الصحة هى صورة البرء، ومعرفة العلاج هى صورة الإبراء. والفاعل
7
الناقص يحتاج إلى حركة وآلات حتى يصدر ما فى نفسه محصلا فى المادة، |283|[ed. Cairo vol. 2]
8
والكامل فإن الصورة التى فى ذاته يتبعها وجود الصورة فى مادتها ويشبه أن تكون الأمور
9
الطبيعية صورها عند العلل المتقدمة للطبيعة بنوع، وعند الطبيعة على طريق التسخير
10
بنوع، وأنت تعلم هذا بعد.
11
[11] وأما الغاية فهى ما لأجله يكون الشىء، وقد علمته فيما سلف. وقد تكون
12
الغاية فى بعض الأشياء فى نفس الفاعل فقط كالفرح بالغلبة. وقد تكون الغاية فى بعض
13
الأشياء فى شىء غير الفاعل، وذلك تارة فى الموضوع مثل غايات الحركات التى تصدر
14
عن رؤية أو طبيعة، وتارة فى شىء ثالث كمن يفعل شيئا ليرضى به فلان. فيكون رضاء
15
فلان غاية خارجة عن الفاعل والقابل، وإن كان الفرح بذلك الرضى أيضا غاية أخرى.
16
ومن الغايات التشبه بشىء آخر، والمتشبه به من حيث هو متشوق إليه غاية، والتشبه
17
نفسه أيضا غاية.
220
1
[الفصل الخامس]
2
ه فصل
3
فى إثبات الغاية وحل شكوك قيلت فى إبطالها،
4
والفرق بين الغاية وبين الضرورى وتعريف الوجه الذى
5
تتقدم به الغاية على سائر العلل والوجه الذى تتأخر به
6
[1] فنقول: إنه قد بان، مما سلف لنا من القول، أن كل معلول فله مبدأ، وكل
7
حادث فله مادة وصورة. ولم يتبين بعد أن كل تحريك فله غاية ما. فإن ههنا ما هو
8
عبث، وههنا ما هو اتفاق. وأيضا ههنا مثل حركة الفلك، فإن لا غاية لها فى ظاهر الأمر؛
9
|284|[ed. Cairo vol. 2]والكون والفساد لا غاية لهما فى ظاهر الظن.
10
[2] ثم لقائل أن يقول: قد يجوز أن يكون لكل غاية غاية، كما يكون لكل ابتداء
11
ابتداء، فلا يكون بالحقيقة غاية وتمام، لأن الغاية بالحقيقة ما يسكن لديه، وقد نجد
12
أشياء هى غايات أخرى إلى غير النهاية. فإن ههنا أشياء يظن أنها غايات
13
ولا تتناهى، كنتائج تترادف عن القياسات ولا تتناهى. ثم لقائل أن يقول: لنترك أن الغاية
14
موجودة لكل فعل، فلم جعلت علة متقدمة وهو بالحقيقة معلولة العلل كلها؟ ومما يليق أن
15
نتكلم فيه بعد حل هذه الشبهة أنه هل الغاية والخير شىء واحد أم يختلف؟ وأيضا ما
16
الفرق بين الجود والخيرية؟ فتقول:
17
[3] أما الشك الأول المنسوب إلى الاتفاق والعبث فنحله ونقول: أما حال الاتفاق
18
وأنه غاية ما فقد فرغ منه فى الطبيعيات. وأما بيان أمر العبث فيجب أن [تعرف]
19
أن كل حركة ارادية فلها مبدأ قريب، ومبدأ بعيد، ومبدأ أبعد. فالمبدأ القريب هو القوة
221
1
المحركة التى فى عضلة العضو، والمبدأ الذى يليه هو الإجماع من القوة الشوقية، والأبعد
2
من ذلك هو التخيل أو التفكر. فغذا ارتسم فى التخيل أو الفكر النطقى صورة ما،
3
فتحركت القوة الشوقية إلى الإجماع، خدمتها القوة المحركة التى فى الاعضاء. فربما
4
كانت الصور المرتسمة فى التخيل أو الفكر هى نفس الغاية التى تنتهى إليها الحركة؛
5
وربما كانت شيئا غير ذلك؛ إلا أنه لا يتوصل إليه إلا بالحركة إلى ما تنتهى إليه الحركة،
6
أو تدوم عليه الحركة.
7
[4] مثال الأول: أن الإنسان ربما ضجر عن المقام فى موضع ما، وتخيل فى نفسه
8
صورة موضع آخر، فاشتاق إلى المقام فيه، فتحرك نحوه، فانتهت حركته إليه، فكان
9
متشوقه نفس ما انتهى إليه تحريك القوى المحركة للعضلة. |285|[ed. Cairo vol. 2]
10
[5] ومثال الثانى: أن الإنسان قد يتخيل فى نفسه صورة لقائه لصديق له، فيشتاقه.
11
فيتحرك إلى المكان الذى يقدر مصادفته فيه، فتنتتهى حركته إلى ذلك المكان. ولا تكون
12
نفس ما انتهت اليه حركته نفس المتشوق الأول الذى نزع إليه بل معنى آخر؛ لكن المتشوق
13
يتبعه، ويحصل بعده، وهو لقاء الصديق.
14
[6] فقد عرفت هذين القسمين، وتبين لك من ذلك بأدنى تأمل أن الغاية التى تنتهى
15
إليها الحركة فى كل حال من حيث هى غاية الحركة، هى غاية أولى حقيقية للقوة الفاعلة
16
المحركة التى فى الأعضاء، وليس للقوة المحركة التى فى الأعضاء غاية غيرها، لكنه ربما
17
كان للقوة التى قبلها غاية غيرها. فليس يجب دائما أن يكون ذلك الأمر غاية أولى للقوة
18
الشوقية: تخييلية كانت أو فكرية، ولا أيضا دائما يجب أن لا يكون؛ بل ربما كان، وربما
222
1
لم يكن، كما تبين لك فى المثالين. أما الأول منهما فكانت الغاية فيهما واحدة؛ وأما
2
الثانى فكانت مختلفة.
3
[7] والقوة المحركة التى فى الأعضاء مبدأ حركة لا محالة، والقوة الشوقية ايضا
4
مبدأ أول لتلك الحركة. فإنه لا يمكن أن تكون حركة نفسانية لا عن شوق البتة، لأن الشىء
5
الذى لا تنبعث إليه القوة ثم تنبعث إليه إنبعاثًا نفسانيًا يكون بتشوق نفسانى لا محالة
6
قد حدث بعد ما لم يكن. فإذن كل حركة نفسانية مبدؤها الأقرب قوة محركة فى عضل
7
الأعضاء، ومبدؤها الذى يليه شوق، والشوق ــ كما علم فى علم كتاب النفس ــ تابع
8
لتخيل أو فكر لا محالة، فيكون المبدأ الأبعد تخيلا أو فكرا.
9
[8] فإذن ههنا مبادئ للحركات النفسانية. منها واجبة بأعيانها ضرورة، |286|[ed. Cairo vol. 2]
10
ومنها غير واجبة بأعيانها ضرورة. والواجبة ضرورة: هى القوى المحركة فى الأعضاء،
11
والقوة الشوقية. وغير الواجبة: هى التخيل والفكر. فإنه ليس يجب لا محالة أن يكون
12
تخيل ولا فكر أو فكر ولا تخيل. ولكل مبدأ حركة غاية لا محالة، والمبدأ الذى لا بد
13
منه فى الحركة الإرادية له غاية لا بد منها. والمبدأ الذى منه بد توجد الحركة خالية
14
عن غايته. فإن اتفق أن يتطابق المبدأ الأقرب ــ وهو القوة المحركة ــ والمبدءان اللذان
15
بعده ــ أعنى الشوقية مع التخيل أو الشوقية مع الفكرية ــ كانت نهاية الحركة هى الغاية
16
للمبادئ كلها، وكان ذلك غير عبث لا محالة.
17
[9] وإن اتفق أن يختلف، أعنى أن لا يكون ما هو الغاية الذاتية للقوة المحركة غاية
18
ذاتية للقوة الشوقية، وجب ضرورة أن يكون للقوة الشوقية غاية أخرى بعد الغاية التى فى
19
القوة المحركة التى للعضو؛ وذلك لأنا قد أوضحنا أن الحركة الإرادية لا تكون بلا شوق
223
1
وكل ما هو شوق فهو شوق لشىء. وإذا لم يكن لمنتهى الحركة كان لشىء آخر غيره لا
2
محالة. وإذا كان ذلك الشىء يراد لأجله الحركة فيجب أن يكون بعد انتهاء الحركة.
3
[10] وكل نهاية تنتهى إليها الحركة أو تحصل بعد نهاية الحركة، ويكون الشوق
4
التخيلى والفكرى قد تطابقا عليها، فبين أنها غاية إرادية، وليست بعبث البتة. وكل نهاية
5
تنتهى إليها الحركة وتكون هى بعينها الغاية المتشوقة المتخيلة ولا تكون المتشوقة بحسب
6
الفكرة، فهى التى تسمى العبث.
7
[11] وكل غاية ليست هى نهاية الحركة ومبدؤها تشوق تخيلى غير فكرى، فلا تخلو:
8
إما أن يكون التخيل وحده هو المبدأ لحركة الشوق، |287|[ed. Cairo vol. 2] أو التخيل مع طبيعة أو مزاج مثل
9
التنفس أو حركة المريض، أو التخيل مع خلق وملكة نفسانية داعية إلى ذلك الفعل بلا روية.
10
[12] فإن كان التخيل وحده هو المبدأ للشوق سمى ذلك الفعل جزافا، ولم يسم
11
عبثا. وإن كان تخيل مع طبيعة مثل التنفس، سمى ذلك الفعل قصدا ضروريا أو طبيعيا.
12
وإن كان تخيل مع خلق وملكة نفسانية سمى ذلك الفعل عادة، لأن الخلق إنما يتقرر
13
باستعمال الأفعال، فما يكون بعد الخلق يكون عادة لا محالة.
14
[13] وإذا كانت الغاية التى للقوة المحركة وهى نهاية الحركة موجودة ولم توجد الغاية
15
الأخرى التى بعدها [وينحوها] التشوق وهى غاية الشوق فيسمى ذلك الفعل باطلا،
16
كمن حصل فى المكان الذى قدَّر فيه مصادفَة الصديق ولم يصادفه هناك. فَسُمِّى فعله باطلا
17
بالقياس إلى القوة المتشوقة دون القوة المحركة وبالقياس إلى الغاية الأولى دون الغاية الثانية.
18
[14] وإذا تقررت هذه المقدمات فنقول:
224
1
[15] قول من يقول إن العبث فعل من غير غاية البتة هو قول كاذب. وقول القائل
2
أيضا إن العبث فعل من غير غاية البتة هى خير أو مظنون خيرا، هو قول كاذب. أما
3
الأول فإن الفعل إنما يكون بلا غاية إذا لم يكن له غاية بالقياس إلى ما هو مبدأ حركته، لا
4
بالقياس إلى ما ليس مبدأ حركته، وإلى أى شىء اتفق. وما مثل به فى الشك من اللعب
5
باللحية، فمبدأ حركته القريبة هو القوة التى فى العضلة، والذى قبله |288|[ed. Cairo vol. 2] تشوق
6
تخيلى بلا فكر. وليس مبدؤه فكرا البتة. فليس فيه غاية فكرية. وقد حصلت فيه الغاية
7
التى للتشوق التخيلى وللقوة المحركة؛ فبيِّن أن هذا الفعل بحسب مبدئه المحرك، منته إلى
8
غاية، وأنه إنما لا يتحرك إلى غاية بحسب ما ليس مبدأه المحرك.
9
[16] ولا يجب أن يظن أن هذا يصدر لا عن شوق تخيلى. فإن كان فعل نفسانى
10
كان بعد ما لم يكن، فهناك شوق ما لا محالة، وطلب نفسانى، وذلك مع تخيل ما،
11
إلا أن ذلك التخيل ربما كان غير ثابت بل سريع البطلان، أو كان ثابتا ولكن لم يشعر
12
به. فليس كل من تخيل شيئا يشعر مع ذلك ويحكم أنه قد تخيل؛ وذلك لأن التخيل
13
غير الشعور بأنه قد تخيل. وهذا ظاهر. ولو كان كل تخيل يتبعه شعور بالتخيل لذهب
14
الأمر إلى غير النهاية.
15
[17] وأما الثانى فلأن لانبعاث هذا الشوق علة ما لا محالة: إما عادة، وإما ضجر
16
عن هيئة وإرادة انتقال إلى هيئة أخرى، وإما حرص من القوى المحركة والمحسة على أن
17
يتجدد لها فعل تحريك وإحساس. والعادة لذيذة، الانتقال من المملول لذيذ، والحرص على
18
الفعل الجديد لذيذ، أعنى بحسب القوة الحيوانية والتخييلية. واللذة هى الخير الحسى،
19
والتخييلى، والحيوانى، بالحقيقة، وهى المظنونة خيرا بحسب الإنسانى. فإذا كان
225
1
المبدأ تخيلا حيوانيا فيكون خيره لا محالة خيرا تخيليا حيوانيا. فليس إذن هذا الفعل
2
خاليا عن خير بحسبه، وإن لم يكن خيرا حقيقيا أى بحسب العقل ثم وراه هذا علل
3
لتخصيص هيئة دون هيئة من الحركات جزئية لا تضبط.
4
[18] وأما الشك الذى يليه فينكشف بأن نعرف الفرق بين الغاية بالذات وبين
5
الضرورى الذى هو أحد الغايات التى بالعرض. والفرق بينهما أن الغاية بالذات هى الغاية
6
التى تطلب لذاتها، والضرورى أحد ثلاثة أمور: |289|[ed. Cairo vol. 2] إما أمر لا بد من وجوده حتى
7
توجد الغاية على أنه علة للغاية بوجه، مثل صلابة الحديد حتى يتم القطع به؛ وإما أمر لا
8
بد من وجوده حتى توجد الغاية لا على أنه علة للغاية، بل على أنه أمر لازم للعلة، مثل
9
أنه لا بد من أن يكون جسم أدكن حتى يتم القطع به، وإنما لم يكن بد من جسم أدكن لا
10
لدكانته، لكن لأنه كان لازما للحديد الذى لا بد منه؛ وإما أمر لا بد من وجوده لازما للعلة
11
الغائية نفسها؛ مثل أن العلة الغائية فى التزويج مثلا التوليد. ثم التوليد يتبعه حب الولد
12
ويلزمه، لأن التزويج كان لأجله.
13
[19] فهذه كلها غايات بالعرض الضرورى، لا بالعرض الاتفاقى. وقد علمت الغايات
14
العرضية الاتفاقية فى موضع آخر.
15
[20] واعلم أن وجود مبادئ الشر فى الطبيعة، هو من القسم الثانى من هذه
16
الأقسام، فإنه مثلا لما كان يجب فى الغاية الآلهية [*]الآلهية corrupt for الإلهية ــ التى هى الجود ــ أن يؤتى كل ممكنِ
17
الوجودِ وجودُه الخيرى، وكان الوجود الذى للمركبات من العناصر، وكان لا يمكن أن
18
تكون المركبات إلا من العناصر وكان يمكن أن تكون العناصر لها إلا الأرض والماء والنار
19
والهواء، وكان لا يمكن أن تكون النار على الجهة المؤدية إلى الغاية الخيرية المقصودة بها إلا
226
1
أن تكون محرقة مفرقة، لزم ذلك ضرورة أن يكون بحيث تضر الصالحين وتفسد كثيرًا
2
من المركبات.
3
[21] وكأنا قد خرجنا عن غرضنا، فلنعد إليه، ولنجب عن الشك المورد فنقول:
4
[22] أما أشخاص الكائنات الغير المتناهية فليست هى بغايات |290|[ed. Cairo vol. 2] ذاتية فى
5
الطبيعة. ولكن الغايات الذاتية هى مثلا أن يوجد الجوهر الذى هو الإنسان أو الفرس أو
6
النخلة، وأن يكون هذا الوجود وجودا دائما ثابتا. وكان هذا ممتنعا فى الشخص الواحد
7
المشار إليه، لأن كل كائن يلزمه ضرورة الفساد، وأعنى الكائنات من الهيولى الجسمانية.
8
ولما امتنع فى الشخص استبقى بالنوع. فالغرض الأول إذن هو بقاء الطبيعة الإنسانية مثلا،
9
أو غيرها، أو الشخص منتشر فى غير معين، وهو العلة التمامية لفعل الطبيعة الكلية؛ وهو
10
واحد. لكن هذا الواحد لا بد له فى حصوله باقيًا من أن يكون أشخاص بعد أشخاص بلا
11
نهاية. فيكون لا تناهى الأشخاص بالعدد غرضا على المعنى الضرورى من القسم الأول، لا
12
على أنه [غرض] بنفسه؛ لأنه لو أمكن أن يبقى الإنسان دائما كما تبقى الشمس والقمر
13
لما احتيج إلى التوالد والتكاثر بالنسل.
14
[23] على أنه وإن سلمنا أن الغرض لا تناهى الأشخاص، كان لا تناهى الأشخاص
15
غير معنى كا شخص. وإنما يذهب بلا نهاية شخص بعد شخص، لا لا تناه بعد لا تناه.
16
فإذن الغاية بالحقيقة ههنا موجودة، وهى وجود شخص منتشر، أو لا تناهى الأشخاص
17
ثم الشخص الذى يؤدى إلى شخص آخر إلى ثالث إلى رابع ليس هو بعينه غاية للطبيعة
18
الكلية، بل للطبيعة الجزئية. فاذ هى غاية للطبيعة الجزئية فليس غيرها بعدها غرضا وغاية
19
لتلك الطبيعة الجزئية التى هى غايتها. |291|[ed. Cairo vol. 2]وأعنى بالطبيعة الجزئية القوة الخاصة
227
1
التدبير بشخص واحد. وأعنى بالطبيعة الكلية القوة [الفابضة] من جواهر السماويات
2
كشىء واحد وهو المدبرة لكلية ما فى الكون. وأنت تعلم هذه كلها بعد هذا.
3
[24] وأما الحركة الذاهبة إلى غير النهاية فإنها واحدة بالإتصال كما علمت فى
4
الطبيعيات. وأيضا فإن الغرض فى تلك الحركة ليس هو نفس الحركة بما هى هذه الحركة،
5
بل الغرض هناك الدوام الذى نصفه بعد. وهذا الدوام معنى واحد إلا أنه متعلق الوجود
6
بأشياء لنسلم أن عددها بغير نهاية.
7
[25] وأما حديث المقدمات والنتيجة، فيجب أن يعلم أن المراد بقولنا: إن العلة
8
الغائية تتناهى وتقف، أن العلة الغائية التى بحسب فاعل واحد فعل واحد تتناهى، ولا
9
يجوز أن يكون فاعل طبيعى أو اختيارى يفعل فعلا يروم به بعينه غاية بعد غاية من غير أن
10
يقف عند نهاية. وأما المبدأ الواحد إذا كان قد يصدر عنه فعل بعد فعل، ويصير بحسب
11
كل فعل فاعلا غير الفاعل الذى كان بحسب الفعل الآخر، وإن لم يكن بالذات والموضوع
12
غيره، فيجوز أن تتكثر غاياته ويكون له بحسب كل كون منه فاعلا غاية أخرى. وإن جاز
13
أن يعتبر له كونه فاعلا بعد كونه فاعلا إلى غير النهاية، كانت غاياته بغير نهاية.
14
[26] ثم النتيجة هى علة غاية تمامية للقياس الذى يكون على مطلوب محدود. وكل
15
تركيب قياس فعل مبتدأ. وللنفس بحسب كل قياس فعل مستأنف يصدر عنه استحقاق أن
16
يقال له فاعل مستأنف. وفى كل واحد من مرات كونه فاعلا غاية محدودة بعينها لا يجوز
17
أن تكون ذاهبة إلى غير النهاية، إذ لكل قياس واحد نتيجة واحدة لا محالة. |292|[ed. Cairo vol. 2]
228
1
[27] وأما الشك الذى يليه فينحل بأن يعلم أن الغاية تفرض شيئا. وتفرض
2
موجودا؛ وفرق بين الشىء والموجود، وإن كان الشىء لا يكون إلا موجودا، كالفرق بين
3
الأمر ولازمه. وقد علمت هذا وتحققته فاستأنف تأمله من الإنسان، فإن للإنسان حقيقة
4
هى حده وماهيته من غير شرط وجود خاص أو عام فى الأعيان أو فى النفس بالقوة
5
شىء من ذلك أو بالفعل.
6
[28] وكل علة فإنها من حيث هى تلك العلة لها حقيقة وشيئية. فالعلة الغائية هى
7
فى شيئيتها سبب لأن تكون سائر العلل موجودة بالفعل عللا، والعلة الغائية فى وجودها
8
مسببة لوجود سائر العلل عللا بالفعل. فكأن الشيئية من العلة الغائية علة علة وجودها،
9
وكأن وجودها معلول معلول شيئيتها، لكن شيئيتها لا تكون علة ما لم تحصل متصورة فى
10
النفس أو ما يجرى مجراها. ولا علة للعلة الغائية فى شيئيتها إلا علة أخرى غير العلة
11
التى تحرك إليها أو يتحرك إلها.
12
[29] واعلم أن الشىء: يكون معلولا فى شيئيته، ويكون معلولا فى وجوده.
13
فالمعلول فى شيئيته مثل الاثنينية؛ فإنها فى حد تكونها اثنينية معلولة للوحدة. والمعلول فى
14
وجوده ظاهر لا يخفى. وكذلك قد يكون للشىء أمر حاصل موجود فى شيئيته مثل
15
العددية للاثنينية. |293|[ed. Cairo vol. 2]وقد يكون الأمر زائدا لأمر زائد على شيئيته مثل كون التربيع فى
16
الخشب أو الحجر. والأجسام الطبيعية علة لشيئية كثير من الصور والأعراض، أعنى التى لا
17
يتجدد إلا بها، وعلة لوجود بعضها دون شيئية كما يظن أن الحكم فى التعليمات كذلك.
18
[30] فقد سهل لك أن تفهم أن العلة الغائية فى الشيئية قبل العلل الفاعلة والقابلة،
19
وكذلك قبل الصورة من جهة ما الصورة علة صورية مؤدية أليها[*]أليها corrupt for إليها. وكذلك أيضا العلة الغائية
229
1
فى وجودها فى النفس قبل العلل الأخرى. أما فى نفس الفاعل فلأنها توجد أولا ثم يتصور
2
عنده الفاعلية، وطلب القابل، وكيفية الصورة. وأما فى نفس غير الفاعل فليس لبعضها
3
ترتيب على الآخر ضرورى، فإذن فى اعتبارالشيئية واعتبار الوجود فى العقل ليست
4
علة أقدم من الغائية. بل هى علة لصيرورة سائر العلل عللا؛ ولكن وجود العلل الأخرى
5
بالفعل عللا، علة لوجودها. وليست العلة الغائية علة على أنها موجودة، بل على أنها
6
شىء. فبالجهة التى هى علة، هى علة العلل، وبالجهة الأخرى هى معلولة العلل.
7
[31] هذا إذا كانت العلة الغائية فى الكون، وأما إذا كانت العلة الغائية ليست فى
8
الكون ولكن وجودها أعلى من الكون على ما سيتضح فى موضعه، فلا يكون شىء من
9
العلل الأخرى علة لها ولا فى الواحد الذى هو الحصول والوجود. فتكون إذن العلة الغائية
10
ليست معلولة لسائر العلل لا لأنها علة غائية ولكن لأنها ذات كون. ولو كانت ليست ذات
11
كون، لما كانت معلولة البتة. وأما إذا اعتبرت كونها علة غائية فتجدها علة لسائر العلل
12
فى أن تكون عللا مثل أن تكون علة فاعلية وعلة قابلية وعلة صورية، لا فى أن تكون
13
كائنة |294|[ed. Cairo vol. 2]وموجودة فى أنفسها. فإذن الذى بالذات للعلة الغائية بما هى علة غائية، أن
14
تكون علة لسائر العلل ويعرض لها من جهة أن معناها قد يكون واقعا فى الكون أن يكون
15
معلولا من جهة الكون.
16
[32] فقد تبين لك أنه كيف يكون الشىء علة ومعلولا، على أنه فاعل وغاية،
17
وهذا من المبادئ للطبيعيين.
18
[33] وأما البحث الذى بعد هذا فينكشف بما نقوله: إن الغاية التى تحصل فى
19
فعل الفاعل تنقسم إلى قسمين: غاية تكون صورة أو عرضا فى منفعل قابل للفعل، وغاية
230
1
لا تكون صورة ولا عرضا فى منفعل قابل البتة، فتكون فى الفاعل لا محالة؛ لأنها إن لم
2
تكن فى الفاعل ولا فى المنفعل، وليس يجوز أن يكون ما يقوم بنفسه جوهرا حدث لا من
3
مادة ولا من مادة، فلا يكون لها وجود البتة.
4
[34] فمثال الأول صورة الإنسانية فى المادة الإنسانية؛ فإنها غاية للقوة الفاعلة
5
للتصوير فى مادة الإنسان، وإليها يتوجه فعلها وتحريكها.
6
[35] ومثال الثانى الاستكان[*]الاستكان probably corrupt for الاستكنان؛ فإنه غاية لمستبنى البيت الذى هو مبدأ لحركة كونه،
7
وليس هو البتة صورة فى البيت.
8
[36] ويشبه أن تكون غاية الفاعل القريب الملاصق لتحريك المادة صورة فى المادة،
9
وأن يكون ما ليس غايته صورة فى المادة ليس مبدأ قريبا للحركة بما هو كذلك. فإن عرض
10
أن يكون ما غايته صورة فى المادة المتعاطاة وما غايته معنى ليس صورة فى تلك المادة شيئًا
11
واحدًا، فإن وحدته تكون بالعرض؛ مثل أن يكون |295|[ed. Cairo vol. 2]الإنسان يبنى بيتا ليسكن فيه.
12
فإنه من جهة ما هو طالب الكنِّ داع إلى البناء وعلة أولى للبناء. ومن جهة ما هو بناء معلول
13
لما هو مستكن، فيكون الغاية لما هو مستكن، غير الغاية لما هو بان. وإذا كان كذلك فيكون
14
أيضا فى الإنسان الواحد المستكن البانى غايته بما هو مستكن غير غايته بما هو بان.
15
[37] وإذ قد تقرر هذا فنقول: أما القسم الأول فإن للغاية نسبة إلى أمور كثيرة هى
16
قبلها فى الحصول بالفعل والوجود؛ لأنها لها نسبة إلى الفاعل، ونسبة إلى القابل، [وهو]
17
بالقوة، ونسبة إلى القابل، وهى بالفعل قابل، ونسبة إلى الحركة. فهى بقياسها إلى
18
الفاعل غاية وبقياسها إلى الحركة نهاية وليست بغاية، لأن الغاية التى لأجلها الشىء ويؤمها
19
الشىء لا يبطل مع وجودها الشىء، بل يستكمل بها الشىء والحركة تبطل مع انتهائها.
231
1
وهى بقياسها إلى القابل المستكمل به وهو بالقوة خير يصلحه، لأن الشر هو العدم لكماله.
2
والخير الذى يقابله هو الوجود والحصول بالفعل. وبالقياس إلى القابل وهو بالفعل صورة.
3
[38] وأما الغاية التى بحسب القسم الثانى فبِّين أنها ليست صورة للمادة المنفعلة،
4
ولا هى نفس نهاية الحركة. وقد بان أنها تكون صورة أو عرضا فى الفاعل، ويكون لا
5
محالة قد خرج بها الفاعل من الذى بالقوة إلى الذى بالفعل، والذى بالقوة هو لأجل العدم
6
الذى يقارنه شر، والذى بالفعل هو الخير الذى يقابله. فتكون إذن هذه الغاية خيرا بالقياس
7
إلى ذات الفاعل، لا غلى ذات القابل؛ فإذا نسبت إلى الفاعل من جهة ما هو مبدأ حركة
8
وفاعل، كانت غاية، وإذا نسبت إليه من جهة ما هو خارج بها من قوة إلى |296|[ed. Cairo vol. 2]الفعل
9
ومستكمل، كانت خيرا إذا كان ذلك الخروج من القوة إلى الفعل فى معنى نافع فى الوجود
10
أو بقاء الوجود، وكانت الحركة طبيعية أو اختيارية عقلية. وأما إن كانت تخيلية فليس
11
يجب أن يكون خيرا حقيقيا، بل قد يكون خيرا مظنونا. فيكون إذن كل غاية فهى باعتبار
12
غاية، وباعتبار آخر خير إما مظنون وإما حقيقى. فهذا هو حال الخير والعلة التمامية.
13
[39] وأما الحال الجود والخير فيجب أن يعلم أن شيئا واحدا له قياس إلى القابل المستكمل
14
به، وقياس إلى الفاعل الذى يصدر عنه. وإذا كان قياسه إلى الفاعل الذى يصدر عنه،
15
بحيث لا يوجب أن يكون الفاعل منفعلا به أو بشىء يتبعه كان قياسه إلى الفاعل جودا وإلى
16
الفعل خيرا؛ ولفظة الجود وما يقوم مقامها موضوعها الأول فى اللغات إفادة المفيد لغيره فائدة لا
17
يستعيض منها بدلا، وأنه إذا استعاض منها بدلا قيل له مبايع أو معاوض، وبالجملة معامل.
18
[40] ولأن الشكر والثناء والصيت وسائر الأحوال المستحسنة لا تعد عند الجمهور
19
من الأعواض، بل إما جواهر وإما أعراض يقررونها فى موضوعات يظن أن المفيد غيره
232
1
فائدة يربح منها شكرا هو أيضا جواد وليس مبايعا ولا معاوضا، وهو فى الحقيقة معاوض؛
2
لأنه أفاد واستفاد سواء استفاد عوضا ماليا، إما من جنسه، وإما من غير جنسه، أو
3
شكرا، أو ثناء يفرح به، أو استفاد أن صار فاضلا محمودا، بأن فعل ما هو أولى وأحرى
4
الذى لو لم يفعله لم يكن جميل الحال فى فضيلته.
5
[41] لكن الجمهور لا يعدون هذه المعانى فى الأعواض، فلا يمتنعون عن تسمية من
6
يحسن إلى غيره بشىء من هذه الخيرات المظنونة أو الحقيقية التى يحصل له بذلك ثناء،
7
جوادًا. |297|[ed. Cairo vol. 2]ولو فطنوا لهذا المعنى لم يسموه جوادا؛ إذ الواحد منهم إذا أحسن إليه
8
لعوض وإن كان شيئا غير المال، ففطن له، استخف المنة أو أنكرها وأبى أن يكون المحسن
9
إليه جوادا إذ كان فعله لعلة.
10
[42] فإذا حقق وحصل معنى الجود كان إفادة الغير كمالا فى جوهره أو فى أحواله
11
من غير أنيكون بإزائه، عوض بوجه من الوجوه. فكل فاعل يفعل فعلا لغرض يؤدى إلى
12
شبه عوض فليس بجواد، وكل مفيد للقابل صورة أو عرضًا وله غاية أخرى يحصل بالخير
13
الذى أفادة [*]أفادة corrupt for أفاده إياه فليس بجواد.
14
[43] بل نقول: إن الغرض والمراد فى المقصود لا يقع إلا للشىء الناقص الذات.
15
وذلك لأن الغرض إما أن يكون بحسب نفسه فى ذاته، أو بحسب مصالح ذاته، أو
16
بحسب شىء آخر فى ذاته، أو فى مصالحه. ومعلوم أنه إن كان بحسب ذاته أو بحسب
17
مصالح ذاته أو بحسب شىء آخر فى مصالحه، وبالجملة بحسب أمر يعود إلى ذاته بعائدة
18
ما، فذاته ناقصة فى وجودها، أو فى كمالاتها. وإن كان بحسب شىء آخر فلا يخلو:
19
[44] إما أن يكون صدور ذلك المعنى عنه إلى غيره بحيث كونه عنه له ولا كونه
20
عنه بمنزلة، حتى إنه لو لم يصدر عنه ذلك الخير الذى هو خير بحسب غيره كانت حاله
233
1
من كل جهة كحالة لو صدر عنه ذلك. فلم يكن ذلك أجمل به وأحسن به وأجلب إليه
2
لمحمدة أو غيرها من الأغراض الخاصة فى ذاته، ولا ضده غير الأجمل به وغير الجالب
3
إليه محمدة أو غيرها من الأغراض المأثورة والنافعة. حتى لو لم يفعل ذلك لما ترك ما هو
4
الأولى والأحسن به، فيكون لا داعى له إلى ذلك ولا مرجح لأن يصدر عنه ذلك الخير
5
إلى غيره على [مقابلة]. |298|[ed. Cairo vol. 2]ومثل هذا إن لم يكن شيئًا يصدر عن طبع وعن إرادة
6
ليست على سبيل إجابة داع بل على وجه آخر سيوقف عليه، فلا يكون مصدرًا لأمر
7
من الأمور عن علة من العلل.
8
[45] بل يجب أن يكون الأولى بالفاعل القاصد بالقصد المذكور أن يكون إنما يفيض
9
خيرًا على غيره؛ لأنه أولى به، وضده غير الأولى به؛ ويرجع آخر الأمر إلى غرض يتصل
10
بذاته ويعود على ذاته ويرجع إلى ذاته، وحينئذ لا يكون وجود ذلك الغرض ولا وجوده
11
بمنزلة واحدة بالقياس إلى ذاته وكمالات ذاته ومصالحها، بل يكون كونه عن ذاته كون
12
الأغراض التى تختص بذاته. فيعود إلى أن ذاته تنال بذلك كمالا وحظا خاصا.
13
[46] وكذلك فإن سؤال اللم لا يزال يتكرر إلى أن يبلغ المبلغ الراجع إلى الذات.
14
مثاله إذا قيل للفاعل: لم فعلت كذا؟ فقال، لينال فلان غرضًا؛ فيقال له: ولم طلبت أن ينال
15
فلان غرضًا؟ فقال: لأن الإحسان حسن، لم يقف السؤال؛ بل قيل: ولم تطلب ما هو
16
حسن؟ فإذا أجيب حينئذ بخير يعود إليه أو شر ينتفى عنه، وقف السؤال، فإن حصول
17
الخير لكل شىء وزوال الشر عنه هو المطلوب لذاته مطلقا.
234
1
[47] وأما الشفقة والرحمة والعطف على الغير والفرح بما يحسن إلى الغير، والغم بما يقع
2
من التقصير وغير ذلك، فهى اغراض خاصة للفاعل، ودواع يذم عاملها أو تنحط به منزلة كماله.
3
[48] فالجود إفادة الغنى فى جميع الجهات عن الإفادة كمالا. فيكون ذلك المعنى
4
بالقياس إلى القابل خيرا، وبالقياس إلى الفاعل جودا، وكل إفادة كمال فإنه يكون بالقياس
5
إلى القابل خيرا، سواء كان بعوض أو لا بعوض ولا يكون بالقياس إلى الفاعل جودا إلا أن
6
يكون لا بعوض. فهكذا هو البيان لحقيقة الخير والجود.
7
[49] وقد تكلمنا عن العلل وأحوالها، وبقى أن نكمل فيها القول فنقول:
8
[50] إن هذه العلل الأربع، وإن كان يظن يظن بها أنها تجتمع فى كثير من الأمور
9
الموجودة فى العلوم، فإن الأمور |299|[ed. Cairo vol. 2]التى [لا] تتحرك والتعليميات لا يظن أن
10
فيها فاعلا أى مبدأ حركة، ولا أيضًا يظن أن فيها غاية لأن الغاية يظن أنها للحركة، ولا
11
أيضا لها مادة بل إنما يبحث عن صورها، فلذلك استخف بها من استخف، قائلا: إنها
12
لا تدل على علة تمامية.
13
[51] فالنظر فيها لهذا العلم لا أن علمًا واحدًا يتناولها، كما للمتقابلات فليست
14
متقابلة، ولكن لأن علمًا واحدًا بالوجه الذى به هذا العلم واحد يشرح أمرها. وذلك لأنا
15
وإن سلمنا أن هذه العلل لا تجتمع فى العلوم كلها حتى تكون من الأمور العامة الواقعة فى
16
موضوعات للعلوم مختلفة، فإنها أيضا قد توجد فى علوم متفرقة مختلفة. ولو كانت أيضا
17
فى علم واحد لم يكن فى منّة صاحب ذلك العلم الواحد كالطبيعى مثلا الذى فى صناعته
18
هذه المبادئ كلها، أن يبينها؛ لأنها مبادئ للعلم الطبيعى ويتكلم فيما يعرض لها.
235
1
[52] على أنه ليس الأمر كذلك. فليس كل فاعل مبدأ حركة على ما قيل، فالأمور
2
التعليمية فى طبائعها إنما يجب وجودها بغيرها، وطبائعها لا تفارق المادة وإن جردت عن
3
المادة فى الوهم فقد يلزمها فى الوهم من القسمة ومن التشكل ما يكون بسبب المادة،
4
ويكاد أن تكون المقادير هيولات قريبة الأشكال المقدارية والوحدات أيضا للعدد، والعدد
5
لخواص العدد، فهذه يوجد لها مبدأ فاعلى ومبدأ قابلى وحيث كانا، كان تمام، والتمام هو
6
الاعتدال، والتحديد والترتيب التى بها يكون لها ما يكون من الخواص. وإنما هى لأجل أن
7
يكون على ما هى عليه من الترتيب والاعتدال والتحديد. فإن منع أن يكون هذا تماما أى
8
غاية حركة فلا يمنع أن يكون خيرا ويكون علة لأنه خير. وهناك أيضا إنما كان علة لأنه
9
خير ثم كان اتفق لذلك الخير إن كان تماما لحركة، إذ كان السبيل إليه بحركة. |300|[ed. Cairo vol. 2]
10
[53] ولولا أن الخواص واللواحق التى لهذه هى غايات تتأدى إليها هيئآتها، لما كان
11
الطالب يطلبها فى المواد لتلك الغايات؛ فإن الصانع يحرك المادة إلى أن تكون مستديرة، ولا
12
تكون الغاية هى الاستدارة نفسها بل شىء من خواصها ولواحقها، فتطلب الدائرة لها.
13
[54] فقد صارت هذه العلل أيضا مشتركة فيجب أن ينظر فيها صاحب هذا العلم.
14
وليس ينظر فى المشترك فقط، بل ينظر فيما يخص علما علما، لكنه مبدأ لذلك العلم
15
وعارض للمشترك. فإن هذا العلم قد ينظر فى العوارض المخصصة للجزئيات إذا كانت
16
لذاتها أولا وكانت لم تتأدى بعد إلى أن تكون أعراضا ذاتية لموضوعات العلوم الجزئية.
17
ولو كانت هذه علوما مفردة لكان أفضلها علم الغاية وكان يكون ذلك هو الحكمة. والآن
18
فذلك أيضا أفضل أجزاء هذا العلم، أعنى العلم الناظر فى العلل الغائية للأشياء.
236
1
المقالة السابعة
2
وفيها ثلاثة فصول
3
[الفصل الأول]
4
أ فصل
5
فى لواحق الوحدة من الهوية وأقسامها ولواحق الكثرة من الغيرية
6
والخلاف وأصناف التقابل المعروفة
7
[1] |303|[ed. Cairo vol. 2]يشبه أن يكون قد استوفينا الكلام بحسب غرضنا هذا فى الأمور
8
التى تختص بالهوية من حيث هى هوية أو تلحقها؛ ثم الواحد والموجود قد يتساويان
9
فى الحمل على الأشياء حتى أن كل ما يقال إنه موجود باعتبار يصح أن يقال له أنه
10
واحد باعتبار. وكل شىء فله وجود واحد. ولذلك ربما ظن أن المفهوم منهما واحد.
11
وليس كذلك، بل هما واحد بالموضوع، أى كل ما يوصف بهذا يوصف بذاك. ولو كان
12
المفهوم من الواحد من كل جهة مفهوم الموجود، لما كان الكثير من حيث هو كثير موجودا،
13
كما ليس واحدا، وإن كان يعرض له الواحد أيضا، فيقال للكثرة إنها كثرة واحدة ولكن
14
لا من حيث هى كثرة.
237
1
[2] فحرى بنا أن نتكلم أيضا فى الأمور التى تختص بالوحدة ومقابلاتها أى الكثرة
2
مثل الهوية والمجانسة والموافقة والمساواة والمشابهة ومقابلاتها؛ بل الكلام فى الجانب المقابل
3
لها أكثر. فإن الوحدة متشابهة وما يضادها متفنن متغير متشعب. فالهوية هو أن يحصل
4
للكثرة وجه وحدة من وجه آخر؛ فمن ذلك ما بالعرض وهو على قياس الواحد |304|[ed. Cairo vol. 2]
5
بالعرض. فكما يقال هناك واحد يقال ههنا هو هو. وما كان هو هو فى الكيف فهو شبيه،
6
وما كان هو هو فى الكم فهو مساو، وما كان هو هو فى الإضافة يقال له مناسب. وأما
7
الذى بالذات فيكون فى الأمور التى تقِّوم الذات. فما كان هو هو فى الجنس قيل مجانس،
8
وما كان هو هو فى النوع قيل مماثل. وأيضا ما كان هو هو فى الخواص يقال له مشاكل.
9
ومقابلات هذه معروفة من المعرفة بهذه.
10
[3] ومقابل الهو هو على الاطلاق الغيرُ. والغيرُ منه غيرٌ فى الجنس ومنه غير فى
11
النوع، وهو بعينه الغير بالفصل، ومنه غير بالعرض. ويجوز أن يكون الغير بالعرض شيئا
12
واحدا وهو غير لنفسه من وجهين. وأما الآخر فاسم خاص فى الاصطلاح للمخالف
13
بالعدد. والغير يفارق المخالف بأن المخالف مخالف بشىء، والغير قد يغاير بالذات.
14
والمخالف أخص من الغير وكذلك الآخر.
15
[4] والأشياء المتغايرة بالجنس الأعلى إذا كانت مما يحل المواد. فنفس تغايرها
16
بالجنس الأعلى لا يوجب أن لا يجتمع فى مادة واحدة. وأما المغايرات التى تختلف بالأنواع
17
تحت الأجناس القريبة التى دون الأعلى، فيستحيل البتة أن تجتمع فى موضع واحد.
18
[5] وكل الأشياء التى لا تجتمع فى موضع واحد من جهةٍ واحدةٍ فى زمانٍ واحد
19
فإنها تسمى متقابلات وقد علمت فى المنطق عددها وخاصياتها. والقنية، والعدم منها،
238
1
تدخل بوجه تحت التناقض، والأضداد تدخل بوجه تحت العدد والقنية. ووجه دخول
2
العدم تحت السالبة، غير وجه دخول الضد تحت العدم.
3
[6] ولكن يجب أن تعلم أن العدم يقال على وجوه: فيقال لما من شأنه أن يكون
4
لموجود ما وليس له، لأنه ليس من شأنه أن يكون له، وإن كان من شأنه أن يوجد لأمر
5
ما، |305|[ed. Cairo vol. 2]كالبصر. فإنه من شأنه أن يكون لشىء ما، لكن الحائط ليس من شأنه أن
6
يكون البصر له.
7
[7] ويقال لما من شأنه أن يكون لجنس الشىء وليس للشىء ولا من شأنه أن يكون
8
له جنسا قريبا أو بعيدا. ويقال لما من شانه أن يكون لنوع الشىء وليس من شأنه أن يكون
9
لشخصه كالأنوثة. ويقال لما من شأنه أن يكون للشىء وليس له مطلقا أو فى وقته أو لأن
10
وقته لم يجيء كالمرد أو لأن وقته قد فات كالدرد؛ والضرب الأول يطابق السالبة مطابقة
11
شديدة وأما الوجوه الأخرى فيخالفها.
12
[8] ويقال عدم لكل فقد بالقسر. ويقال عدم لما يكون قد فقد الشىء لا بتمامه.
13
فإن الأعور لا يقال له أعمى ولا هو أيضا بصير مطلق. لكن هذا إنما يكون بالقياس إلى
14
الموضوع البعيد أعنى الإنسان لا العين.
15
[9] ثم إن العدم يحمل عليه السلب، ولا ينعكس. وأما العدم فلا يحمل على
16
الضد، لأنه ليس المرارة عدم الحلاوة، بل هى شىء آخر مع عدم الحلاوة؛ فإن العدم
17
وحدة قد يكون فى المادة وقد يكون مصاحبا لذات توجب فى المادة عدم ذات أخرى
18
أولا يكون إلا مع العدم.
239
1
[10] وهذه هى الأضداد، وليس السبب فى تقابلها تغاير الأجناس، وقد بينا
2
ذلك؛ بل السبب فى ذلك أن ذواتها فى حد أنفسها وحد فصولها تتمانع عن الاجتماع
3
وتتفاسد. |306|[ed. Cairo vol. 2]وإذ ليس شىء من الأجناس العالية بمتضادة، فيجب أن تكون
4
الأضداد الحقيقية واقعة تحت جنس، وأن يكون جنسا واحدا. فيجب أن يكون الأضداد
5
تتخالف بالفصول، وتكون الأضداد من جملة الغير فى الصورة مثل السواد والبياض تحت
6
اللون، والحلاوة والمرارة تحت الذوق.
7
[11] وأما الخير والشر فليسا بالحقيقة أجناسا عالية ولا الخير يدل على معنىء
8
متواطئ ولا الشر؛ ومع ذلك فالشر يدل فى كل شىء بوجه ما على عدم الكمال الذى
9
له، والخير على وجوده. فبينهما مخالفة العدم والوجود. وأما الراحة والألم وأمثال ذلك
10
فإنها تشترك فى غير جنس الخير والشر، وإنها تشترك فى المحسوس أو فى المتخيل وغير
11
ذلك. فليست أنواعا للخير والشر.
12
[12] ويشبه أن يكون أهل الظاهر من النظر عمدوا إلى الأشياء التى هى متضادة
13
ولها أجناس قريبة تدخل فيها، وطبقة منها موافقة للحاسة أو العقل وطبقة مخالفة وطبقة
14
منها موافقة للإيجاب، والأخرى للفصل، وطبقة مخالفة لأيهما كان؛ فالتقطوا منها المعنى
15
الموافق والمعنى المخالف فجعلوا أحدهما جنسا لطبقة، والآخر لطبقة أخرى.
16
[13] وليس الواجب كذلك. بل دلالة الموافقة والمخالفة دلالة اللوازم لأنها ليست
17
للأشياء فى أنفسها بل بالإضافة.
18
[14] ثم إن الأمور الموافقة والمخالفة إذا جعلا كطبيعتين وجد لهما أشياء يصلح
19
أن تجعل بحسب الاعتبارات المختلفة كالأجناس لها. فغنها تدخل فى جملة الأفعال
240
1
والإنفعالات من جهة، وفى الكيفيات من جهة أخرى، وفى المضافات باعتبارات أخرى،
2
فإنها من حيث هى صادرة |307|[ed. Cairo vol. 2] من أشياء هى أفعال، ومن حيث هى حاصلة عن
3
أشياء فى أشياء هى انفعالات، ومن حيث يتقرر عنها هيآت قارة فى حواملها فهى من
4
الكيفيات، ومن حيث أن الموافق موافق لموافقة فهى من المضاف.
5
[15] فإذا كان اسم الموافقة والمخالفة مصروفا إلى أحد هذه المعانى بعينه دخل
6
فى الجنس الخاص له. لست أقول إن شيئا واحدا يدخل فى أجناس مختلفة فهذا مما
7
نحرمه، بل كل اعتبار هو شىء آخر، وهو الذاخل فى جنس آخر. ولا هذه بالحقيقة
8
أجناس بل كأجناس، لأنها أمور مركبة من معنى ومن فعل أو إنفعال أو إضافة أو غير
9
ذلك. ويشبه أن تكون فى ذواتها كيفيات وتكون سائر الاعتبارات تلزمها. ثم مع
10
الاجتهاد كله فى أن تجعل الموافقة والمخالفة مما يسندها إلى الأجناس العالية فإن لتلك
11
الطبائع الأضداد التى جعلت طبيعتين أجناسا حقيقية، غير الموافقة والمخالفة هى تدخل
12
فيها وقد علمت هذا فى موضعه.
13
[16] وأما القول بوجود الضدين فى جنسين متضادين مثل الشجاعة والتهور فهو
14
أيضا قول متوسع فيه. فإن الشجاعة فى نفسها كيفية، وباعتبار ما تكون فضيلة؛ وكذلك
15
التهور فى نفسه كيفية، وباعتبار ما يكون رذيلة. فالفضيلة والرذيلة ليستا من الأجناس
16
لهذه الكيفيات، كما أن الطيب وغير الطيب ليسا جنسين للروائح والمذواقات[*]والمذواقات corrupt for والمذوقات، بل لوازم
17
لها بحسب اعتبارات تلحقها.
18
[17] فالشجاعة فى ذاتها لا تضاد التهور والجبن. وإنما المتضادان هما التهور
19
والجبن الداخلان فى باب الملكة من الكيف. وأما الشجاعة فتقابل اللا شجاعة كما قلنا
241
1
فى المساوى |308|[ed. Cairo vol. 2] وما يقابله. ثم اللاشجاعة كالجنس للتهور والجبن. فإذا ضادت
2
الشجاعة التهور فتضاده لا لطبيعة ذاتها، بل إنما تضاده لعارض فيها هو أن هذه محمودة
3
وفضيلة ونافعة، وذلك مذموم ورذيلة وضار. فالأضداد بالحقيقة هى التى تتفق فى الجنس
4
وتتفق فى الموضوع الواحد؛ فمنها ما يكون الموضوع الواحد يقبل الضدين جميعا من غير
5
استحالة فى غيرهما، ومنها ما يكون الموضوع يستحيل أولا فى غيرهما حتى يعرض له
6
أحدهما. فإن مزاجا ما يحلو به الشىء، وإذا أمر احتاج إلى مزاج آخر. وليس كذلك
7
الحال فى استحالة الحار إلى البارد.
8
[18] ولما كان الضدان يكونان فى الجنس، فلا يخلو إما أن يكون عدم كل واحد
9
منهما فى طبيعة الجنس يلزمه الآخر فقط، فيكون لا واسطة بينهما، إما أن يكون ليس
10
كذلك. فلا يخلو: إما أن يكون مخالفة تلك الكثرة للواحد منهما مخالفة واحدة ليس مخالفة
11
بعضها أقل أو أكثر أو يكون ذلك مختلفا. فإن كان مختلفا فى ذلك فيكون أقرب إلى
12
مشابهته، والأقرب إلى مشابهته فيه شىء من صورته، وبعضها فى غاية الخلاف له فيكون
13
الضد ذلك. ويكون التضاد غاية الخلاف للمتقابلات المتفقة فى الجنس والمادة. وذلك لأنه
14
يصدق أن يقول غاية الخلاف من حيث كان متوسطا وحيث لم يكن، لأنه إن كان اثنان كل
15
واحد منهما فى غاية البعد عن الآخر فالتضاد خلاف تام. ولذلك فإن ضد الشىء واحد.
16
[19] وأما إن جعل غاية الخلاف والبعد قد يقع بين الواحد وبين آخرين اثنين
17
متخالفين، فذلك محال، لأن التخالف بين الواحد وبينهما إما أن يكون فى معنى واحد
18
من |309|[ed. Cairo vol. 2]جهة واحدة، فتكون المخالفات للواحد من جهة واحدة متفقة فى صورة
242
1
الخلاف، ويكون نوعا واحدا لا أنوعا كثيرة، وإما أن يكون من جهات، فيكون ذلك
2
وجوها من التضاد لا وجها واحدا، فلا يكون ذلك بسبب الفصل الذى إذا لحق الجنس
3
فعل ذلك النوع من غير انتظار شىء، وخصوصا فى البسائط، وقد علمت هذا، بل
4
يكون من جهة لواحق وأحوال تلزم النوع. وكلامنا فى نمط واحد من التضاد. وفى التضاد
5
الذى بالذات ليس نعنى بقوله بالذات الجوهر والموضوع، بل نعنى به ما يقع به التضاد ولو
6
كان كيفية أيضا. فقد بان أن ضد الواحد واحد.
7
[20] والمتوسط فى الحقيقة هو الذى مع أنه يخالف يشابه. فحينئذ يجب أن
8
يكون الانتقال إليه أولا فى التغيير إلى الضد. فإن الأسود لذلك يغبر أو يخضر أو يحمر أولا
9
ثم يبيض. وقد يعرض للأضداد متوسطات بسبب الطرفين. فربما كان ذلك لعدم الاسم،
10
والمتوسط متوسط، ونعنى به متوسطا حقيقيا مثل اللا حار واللا بارد، وإذا لم يكن للفاتر
11
اسم. فمثل هذا أيضا يكون فى الجنس. وإذا أخرج عن الجنس كقوله لا خفيف ولا ثقيل
12
فذلك ليس بالمتوسط الحقيقى إنما ذلك متوسط باللفظ. وأما الملكة والعدم، فلا يكون لهما
13
فى الموضوع متوسط لأنهما هما الموجبة والسالبة بعينهما مخصصة بجنس أو موضوع،
14
وأيضا فى وقت وحال. فتكون نسبة الملكة والعدم إلى ذلك الشىء والحال نسبة النقيضين
15
إلى الوجود كله. وإذ لا واسطة بين النقيضين، فكذلك لا واسطة بين العدم والملكة. |310|[ed. Cairo vol. 2]
243
1
[الفصل الثاني]
2
ب فصل
3
فى اقتصاص مذاهب الحكماء الأقدمين فى المثل ومبادئ التعليميات
4
والسبب الداعى إلى ذلك وبيان أصل الجهل الذى وقع لهم حتى زاغوا لأجله
5
[1] قد حان لنا أن نتجرد لمناقضة آراء قيلت فى الصور والتعليمات والمبادئ
6
المفارقة والكليات مخالفة لأصولنا التى قد قررناها، وإن كان فى صحة ما قلناه وإعطائنا
7
القوانين التى أعطيناها تنبيه للمستبصر على حل جميع شبههم وإفسادها ومناقضات
8
مذاهبهم. لكنا مستظهرون بتكلف ذلك بأنفسنا لما نرجو أن يجرى فى ذلك من فوائد
9
نذكرها من خلال مقاومتنا إياهم يكون قد ذهب علينا فيما قدمناه وشرحناه.
10
[2] ونقول: إن كل صناعة فإن لها نشأة تكون فيها نيئة فجة غير أنها تنضج
11
بعد حين ثم إنها تزداد وتكمل بعد حين آخر؛ ولذلك كانت الفلسفة فى قديم ما اشتغل بها
12
اليونانيون خطبية، ثم خالطها غلط وجدل. وكان السابق إلى الجمهور من أقسامها هو
13
القسم الطبيعى، ثم أخذوا ينتبهون للتعليمى، ثم الإلهى. وكانت لهم انتقالات من بعضها
14
إلى بعض غير سديدة.
15
[3] وأول ما انتقلوا عن المحسوس إلى المعقول تشوشوا. فظن قوم أن القسمة
16
توجب شيئين فى كل |311|[ed. Cairo vol. 2] شىء: كإنسانين فى معنى الإنسانية: إنسان فاسد
17
محسوس، وإنسان معقول مفارق أبدى لا يتغير. وجعلوا لكل واحد منهما وجودا.
18
فسموا الوجود المفارق وجودا مثاليا، وجعلوا لكل واحد من الأمور الطبيعية صورة
244
1
مفارقة هى المعقولة، وإياها يتلقى العقل، إذ كان المعقول أمرا لا يفسد، وكل محسوس من
2
هذه فهو فاسد. وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإياها تتناول.
3
[4] وكان المعروف بافلاطون ومعلمه سقراط يفرطان فى هذا الرأى ويقولان إن
4
للإنسانية معنى واحدا موجود يشترك فيه الأشخاص ويبقى مع بطلانها؛ وليس هو المعنى
5
المحسوس المتكثر الفاسد فهو إذن المعنى المعقول المفارق.
6
[5] وقوم آخرون لم يروا لهذه الصورة مفارقة بل لمبادئها، وجعلوا الأمور التعليمية
7
التى تفارق بالحدود مستحقة للمفارقة بالوجود، وجعلوا ما لا يفارق بالحد من الصور
8
الطبيعية لا يفارق بالذات، وجعلوا الصور الطبيعية إنما تتولد بمقارنة تلك الصور التعليمية
9
للمادة؛ كالتقعير. فإنه معنى تعليمى، فإذا قارن المادة صار فطوسة، وصار معنى طبيعيا.
10
وكان للتقعير من حيث هو تعليمى أن يفارق وإن لم يكن له من حيث هو طبيعى أن يفارق.
11
[6] وأما افلاطون فأكثر ميله إلى أن الصور هى المفارقة. فأما التعليميات فإنها عنده
12
معان بين الصور والماديات؛ فإنها وإن فارقت فى الحد فليس يجوز عنده أن يكون بعدٌ فائم [*]فائم corrupt for قائم
13
لا فى مادة، لأنه إما أن يكون متناهيا، أو غير متناه. فإن كان غير متناه، |312|[ed. Cairo vol. 2]وذلك
14
يلحقه لأنه مجرد طبيعة، كان حينئذ كل بعدٍ غير متناه؛ وإن لحقه لأنه مجرد عن المادة
15
كانت المادة مفيدة للحصر والصورة، وكلا الوجهين محال؛ بل وجود بعد غير متناه محال،
16
وإن كان متناهيا فانحصاره فى حد محدود وشكل مقدر ليس إلا لإنفعال عرض له من
17
خارج، لا لنفس طبيعته، ولن تنفعل الصورة إلا لمادتها. فتكون مفارقة وغير مفارقة.
18
وهذه محال فيجب أن تكون متوسطة.
245
1
[7] وأما الآخرون فإنهم جعلوا مبادئ الأمور الطبيعية أمورا تعليمية؛ وجعلوها
2
المعقولات بالحقيقة، وجعلوها المفارقات بالحقيقة. وذكروا أنهم إذا جردوا الأحوال
3
الجسمانية عن المادة لم يبق إلا [اعظام] وأشكال وأعداد؛ وذلك لأن المقولات التسع فإن
4
الكيفيات الإنفعالية والإنفعالات منها والملكات والقوة واللاقوة أمور تكون لذوات الإنفعالات
5
والملكات والقوى. وأما الإضافة فما يتعلق بأمثال هذه فهى أيضا مادية؛ فيبقى الأين وهو
6
كمى، ومتى وهو كمى، والوضع وهو كمى. وأما الفعل والانفعال فهو مادى. فيحصل
7
من هذا أن جميع ما ليس بكمى فهو متعلق بالمادة. والمتعلق بالمادة مبدؤه ما ليس متعلقا
8
بالمادة. فتكون التعليميات هى المبادئ، وتكون هى المعقولات بالحقيقة، وسائر ذلك غير
9
معقول. ولذلك فليس واحد يحد اللون والطعم وغير ذلك حدا يعبأ به، إنما هو نسبة إلى
10
قوة مدركة فلا يعقلها عندهم العقل إنما يتخيلها الخيال تبعا للحس.
11
[8] قالوا واما الأعداد والمقادير وأحوالها فهى معقولة لذاتها، فهى إذن مفارقة.
12
وقوم جعلوها مبادئ ولم يجعلوها مفارقة، وهم أصحاب فيثاغورث. وركبوا كل شىء
13
من الوحدة والثنائية، وجعلوا الوحدة فى حيز الخير والحصر، وجعلوا الثنائية فى حيز
14
الشر وغير الحصر. |313|[ed. Cairo vol. 2]
15
[9] وقوم جعلوا المبادئ الزائد والناقص والمساوى، وجعلوا المساوى مكان
16
الهيولى؛ إذ عنه الاستحالة إلى الطرفين. وقوم جعلوه مكان الصورة، لأنها المحصورة
17
المحدودة ولا حد للزائد والناقص.
18
[10] ثم تشعبوا فى أمر تركيب الكل من التعليميات. فجعل بعضهم العدد مبدأ للمقدار.
19
فركب الخط من وحدتين، والسطح من أربع وحدات. وبعضهم جعل لكل واحد منهما حيزا
246
1
على حدة، وأكثرهم على أن العدد هو المبدأ، والوحدة هى المبدأ الأول، وأن الوحدة والهوية
2
متلازمتان أو مترادفتان. وقد رتبوا العدد وإنشاؤه من الوحدة على وجوه ثلاثة: أحدها
3
على وجه العدد العددى. والثانى على وجه العدد التعليمى، والثالث على وجه التكرار.
4
[11] أما وجه العدد العددى فجعلوا الوحدة فى أول الترتيب، ثم الثنائية، ثم الثلاثية.
5
وأما العدد التعليمى: فجعلوا الوحدة مبدأ، ثم الثانى، ثم الثالث، فرتبوا العدد على توالى
6
وحدة وحدة. وأما الثالث فجعلوا إنشاء العدد بتكرار وحدة بعينها لا باضافة أخرى إليها.
7
[12] والعجب من طائفة فيثاغوريّة ترى أن العدد يتألف من وحدة وجوهر، إذ الوحدة
8
لا تقوم وحدها، فإنها وحدة شىء، والمحل جوهر، وحينئذ يكون التركيب، فتكون الكثرة.
9
[13] ومن هؤلاء من يجعل لكل رتبة تعليمية من العدد صورة مطابقة لصورة
10
|314|[ed. Cairo vol. 2]موجودة، فيكون عند التجريد رتبة عدد وعند الخلط بالمادة صورة إنسان أو
11
فرس، وذلك للمعنى الذى أشرنا إليه فيما سلف. وقوم يرون أن بين هذه الصور العددية
12
وبين المثل فرقا؛ ومن هؤلاء من جعلها متوسطات على ما سلف قبل.
13
[14] وأكثر الفيثاغوريسن يرون أن العدد التعليمى هو مبدأ ولكنه غير مفارق.
14
ومنهم من يجوز تركيب الصور الهندسية من الآحاد [فيمنع]' تنصيف المقادير. ومنهم من
15
لا يرى بأسا بأن تكون التعليميات مركبة من أعداد يعرض لها بعد التركيب أن تنقسم إلى
16
غير نهاية. ومنهم من يجعل الصور العددية مباينة للصور الهندسية.
247
1
[15] وأنت إذا فكرت وجدت أصول أسباب الغلط فى جميع ما ضل فيه
2
هؤلاء القوم خمسة:
3
[16] أحدها، ظنهم أن الشىء إذا جرد من حيث لم يقترن به اعتبار غيره كان
4
مجردا فى الوجود عنه، كأنه إذا التفت إلى الشىء وحده ومعه قرين التفاتا خلا عن
5
الالتفات إلى قرينه فقد جعل غير مجاور لقرينه. وبالجملة إذا نظر إليه لا بشرط المقارنة
6
فقد ظن أنه نظر إليه بشرط غير المقارنة، حتى إنما صلح أن ينظر فيه؛ لأنه غير مقارن بل
7
مفارق. فظن لهذا أن المعقولات الموجودة فى العالم لما كان العقل ينالها من غير أن يتعرض
8
لما يقارنها أن العقل ليس ينال إلا المفارقات منها؛ وليس كذلك، بل لكل شىء من حيث
9
ذاته اعتبار، ومن حيث إضافته إلى مقارن اعتبار آخر.
10
[17] وإنا إذا عقلنا صورة الإنسان مثلا من حيث هى صورة الإنسان وحده فقد
11
عقلنا موجودا وحده من حيث ذاته، ولكن حيث عقلناه فليس يجب أن يكون وحده
12
مفارقا. |315|[ed. Cairo vol. 2]فإن المخالط من حيث هو هو غير مفارق على جهة السلب لا على
13
جهة العدول الذى يفهم منه المفارقة بالقوام. وليس يعسر علينا أن نقصد بالإدراك أو بغير
14
ذلك من الأحوال واحدا من الاثنين ليس من شأنه أن يفارق صاحبه قواما، وإن فارقه حدا
15
ومعنى وحقيقة، إذ كانت حقيقته ليست مدخولة فى حقيقة الآخر، إذ المعية توجب
16
المقارنة لا المداخلة فى المعانى.
17
[18] والسبب الثانى، غلطهم فى أمر واحد؛ فإنا إذا قلنا إن الإنسانية معنى
18
واحد لم نذهب فيه إلى أنه معنى واحد هو بعينه يوجد فى كثيرين فيتكثر بالإضافة
19
كأب واحد يكون لكثيرين، بل هو كالآباء لأبناء متفرقين. وقد استقصينا القول فى هذا
248
1
فى مواضع أخر. فهؤلاء لم يعلموا أنا نقول لأشياء كثيرة إن معناها واحد، ونعنى بذلك
2
أن أى واحد منها لو توهمناه سابقا إلى مادة هى بالحالة التى بالأخر، كان يحصل منه هذا
3
الشخص الواحد. وكذلك أى واحد منها سبق إلى الذهن منطبعا فيه كأن يحصل منه هذا
4
المعنى الواحد. وإن كان قد سبق واحد تعطل الآخر فلم يعمل شيئا كالحرارة التى لو طرأت
5
على مادة فيها رطوبة أثرت معنى آخر أو تعرضت لذهن سبق إليه معنى رطوبة ومعقولها
6
لفعلت معنى آخر. ولو أنهم فهموا معنى الواحد فى هذا لكفاهم. ذلك ما أضلهم.
7
[19] والثالث جهلهم بأن قولنا: إن كذا من حيث هو كذا شىء آخر مباين فى
8
الحد له، قول متناقض؛ كقول المسئول الغالط إذا سئل هل الإنسان من حيث هو إنسان،
9
إنسان واحد أو كثير؟ |316|[ed. Cairo vol. 2]فقال: واحد أو كثير؛ فإن الإنسان من حيث هو إنسان،
10
إنسان فقط، وليس هو من حيث هو إنسان، شيئا غير الإنسان. والوحدة والكثرة غير
11
الإنسان، وقد فرغنا أيضا من تفهيم هذا.
12
[20] والرابع، ظنهم أنا إذا قلنا: إن الإنسانية توجد دائما باقية، أن هذا القول هو
13
قولنا إنسانية واحدة أو كثيرة. وإنما يكون هذا لو كان قولنا الإنسانية وإنسانية واحدة أو
14
كثيرة معنى واحدا. وكذلك لا يجب أن يحسبوا أنهم إذا سلموا لأنفسهم أن الإنسانية باقية
15
فقد لزمهم أن الإنسانية الواحدة بعينها باقية حتى يضعوا إنسانية أزلية.
16
[21] والخامس ظنهم أن الأمور المادية إذا كانت معلولة يجب أن تكون عللها
17
أى أمور يمكن أن تفارق. فإنه ليس إذا كانت الأمور المادية معلولة وكانت التعليميات
18
مفارقة يجب أن تكون عللها التعليميات لا محالة، بل ربما كانت جواهر أخرى ليست
249
1
من المقولات التسع. ولم يتحققوا كنه التحقيق أن الهندسيات من التعليميات لا تستغنى
2
حدودها عن المواد مطلقا، وإن استغنت عن نوع ما من المواد.
3
[22] وهذه أشياء يشبه أن يكفى فى تحقيقها أصول سلفت لنا. فلنتجرد للقائلين
4
بالتعليميات. |317|[ed. Cairo vol. 2]
5
[الفصل الثالث]
6
ج فصل
7
فى إبطال القول بالتعليميات والمثل
8
[1] فنقول: إنه إن كان فى التعليميات تعليمى مفارق للتعليمى المحسوس، فإما أن
9
لا يكون فى المحسوس تعليمى البتة أو يكون. فإن لم يكن فى المحسوس تعليمى وجب أن
10
لا يكون مربع ولا مدور ولا معدود محسوس. وإذا لم يكن شىء من هذا محسوسا،
11
فكيف السبيل إلى إثبات وجودها بل إلى تخيلها؟ فإن مبدأ تخيلها كذلك من الوجود
12
المحسوس حتى لو توهمنا واحدا لم يحس شيئا منها لحكمنا أنه لا يتخيل بل لا يعقل شيئا
13
منها. على أنا أثبتنا وجود كثير منها فى المحسوس.
14
[2] وإن كانت طبيعة التعليميات قد توجد أيضا فى المحسوسات فيكون لتلك
15
الطبيعة بذاتها اعتبار. فتكون ذاتها إما مطابقة بالحد والمعنى للمفارق أو مباينة له. فإن
16
كانت [مباينة] له فتكون التعليميات المعقولة أمورا غير التى نتخيلها ونعقلها ونحتاج
17
فى إثباتها إلى دليل مستأنف، ثم نشتغل بالنظر فى حال مفارقتها. فلا يكون ما عملوا
250
1
عليه من الإخلاد إلى الاستغناء عن إثباتها والاشتغال بتقديم الشغل فى بيان مفارقتها
2
عملا يستنام إليه.
3
[3] وإن كانت مطابقة مشاركة له فى الحد فلا يخلو: إما أن تكون هذه التى فى
4
المحسوسات إنما صارت فيها لطبيعتها وحدها، وكيف يفارق ما له حدها؟ وإما أن يكون
5
ذلك أمرا يعرض لها بسبب من الأسباب، وتكون هى معرضة لذلك، وحدودها غير مانعة
6
عن لحوق ذلك إياها. فيكون من شأن تلك المفارقات أن تصير مادية ومن شأن هذه المادية
7
أن تفارق. وهذه هو خلاف ما عقدوه وبنوا عليه أصل رأيهم. |318|[ed. Cairo vol. 2]
8
[4] وأيضا فإن هذه المادة التى مع العوارض إما أن تحتاج إلى المفارقات أو لا تحتاج
9
إليها. فإن كانت تحتاج إلى مفارقات، فإنما تحتاج إلى مفارقات غيرها لطبائعها، فتحتاج
10
المفارقات أيضا إلى أخرى. وإن كانت هذه إنما تحتاج إلى المفارقات لما عرض لها حتى
11
لو لا ذلك العارض لكانت لا تحتاج إلى المفارقات البتة، ولا كان يجب أن يكون للمفارقات
12
وجود البتة، فيكون العارض للشىء يوجب أمر أقدم منه وغنى عنه؛ ويجعل
13
المفارقات محتاجة إليها حتى يجب لها وجود.
14
[5] فإن لم يكن الأمر كذلك، بل كان وجود المفارقات يوجب وجودها مع هذا
15
العارض فلِمَ يوجَب العارض فى غيرها ولا يوجَب فى أنفسها، والطبيعة متفقة؟ وإن كانت
16
غير محتاجة إلى المفارقات فلا تكون المفارقات عللا لها بوجه من الوجوه ولا مبادئ أولى.
17
ويلزم أن تكون لها هذه المفارقات ناقصة. فإن هذا [المقارن] للمادة تلحقه من القوى والأفاعيل
18
ما لا يوجد للمفارق. وكم الفرق بين شكل إنسانى ساذج وبين شكل إنسانى حى [فاعل].
251
1
[6] والعجب منهم إذ يجعلون الخط متجردا فى قوامه عن السطح، والنقطة عن
2
الخط. فما الذى يجمعها فى الجسم الطبيعي؟ أطبيعة واحدة منها توجب ذلك؟ فكذلك
3
يجب أن يجمعهما لو كان مفارقة أو قوة أخرى، نفس أو عقل أو بارى [*]بارى Middle Arabic for بارئ؛ ثم الخط كيف
4
يتقدم الجسم التام تقدم العلل وليس هو صورته؟ فليس الخط صورة جسمية ولا هو فاعله
5
ولا هو غايته. بل إن كان ولا بد فالجسم التام الكامل فى الأبعاد هو غاية الخط وغيره. ولا
6
هو هيولاه، بل هو شىء يلحقه من جهة ما يتناهى وينقطع.
7
[7] وأيضا يلزم القائل |319|[ed. Cairo vol. 2] بالأعداد أن يجعل التفاوت بين الأمور بزيادة كثرة
8
ونقصانها، فيكون الخلاف بين الإنسان والفرس أن أحدهما أكثر والآخر أقل، والأقل دائما
9
موجود فى الأكثر. فيكون فى أحدهما الآخر. فيلزم من ذلك دخول بعض المتباينات تحت
10
بعض وهو خلف فاسد.
11
[8] ومن هؤلاء من يجعل الوحدات متساوية فيكون ما خالف به الأكثر الأقل جزءا من
12
الأقل. لكن منهم من يجعل الوحدات أيضا غير متساوية. فإن كانت تختلف بالحد فليست
13
وحدات إلا بالشتزاك الاسم. وإن كانت لا تختلف بالحد لكنها بعد اتفاق فى الحد تزيد
14
وتنقص، فإما أن يكون زيادة الزائد منها بشىء فيها بالقوة كالمقادير، فتكون الوحدة مقدارا
15
لا مبدأ مقدار، وإن كانت زيادة الزائد بشىء فيها بالفعل كالأعداد، فتكون الوحدة كثرة.
16
[9] ويلزم القائلين بالعدد العددى المركبين منها صور الطبيعيات أن يعلموا
17
أحد شيئين: إما أن يجعلوا للعدد المفارق الموجود نهاية، فيكون تناهيه عند حد من
252
1
الحدود دون غيره من الاختراع الذى لا محصول له. أو يجعلوه غير متناه فيجعلوا
2
صور الطبيعيات غير متناهية.
3
[10] وهؤلاء يجعلون الوحدة الأولى غير كل وحدة من الوحدتين اللتين فى الثنائية،
4
ثم يجعلون الثنائية الأولى غير الثنائية التى فى الثلاثية وأقدم منها، وكذلك فيما بعد
5
الثلاثية. وهذا محال. فإنه ليس بين الثنائية الأول والثنائية التى فى الثلاثية فرق فى الذات
6
بل فى عارض، وهو مقارنة شىء له. ومقارنة الشىء للشىء لا يجوز أن تبطل ذاته. ولو
7
أبطل ذاته، لم يكن مقارنا، لأن المقارن مقارن للموجود. وأما المفسد فغير مقارن. وكيف
8
تكون الوحدة مفسدة للوحدتين |320|[ed. Cairo vol. 2] إلا بإفسادها واحدا واحدا منهما؟ وكيف تكون
9
الوحدة مفسدة للوحدة؟ ولو أفسدتها لم تكن ثنائية. بل الثنائية بمقارنة الوحدة إياها لا
10
تصير مباينة فى الذات للثنائية بوجودها غير مقارنة للوحدة؛ فإن الوحدة لا تتغير بالمقارنة
11
حالا، بل تجعل الكل أكثر وتذر الجزء على حاله.
12
[11] وبالجملة إذا كانت الوحدات متشاكلة والتركيب واحدا كانت الطبيعتان
13
متفقتين، إلا أن يعرض شىء يغير ويفسد. ولا يجوز أن لا تكون الوحدات متشاكلة. فإن
14
العدد يحدث من وحدات متشاكلة لا غير.
15
[12] على أن قوما منهم يقولون إن الثنائية يلحقها من حيث هى ثنائية وحدة غير
16
وحدة الثلاثية، فكذلك تكون وحدة الثنائية غير وحدة الثلاثية. فيلزم أن تكون العشارية
17
مركبة لا من خماسيتين على ما تكون به الخماسيتان، لأن آحاد العشرة غير آحاد
18
الخماسية. فلا تتركب العشارية من خماسيتين. ويلزم أن تكون آحاد الخماسية إذا كانت
19
جزء عشرة مخالفة لآحادها إذا كانت جزء خمسة عشر. لكنهم عساهم يقولون: إن
253
1
الخماسية التى فى خمسة عشر غير الخماسية التى فى العشارية البسيطة، لأنها خماسية
2
عشارية هى جزء من خمسة عشر. فيلزم أن تكون العشارية إذا أضيف إليها الخماسية لا
3
تصير خمسة عشر أو تستحيل آحادها، وذلك كله محال.
4
[13] ثم إن لم تكن خماسية العشرة مساوية للخماسية المطلقة فلا تكون خماسية
5
إلا باشتراك الاسم. فبالحرى أن يتفهم معنى الخماسية فيها بعد المشاركة فى الفظ [*]الفظ corrupt for اللفظ. وإن
6
كانت مساوية |321|[ed. Cairo vol. 2] فتكون إذن الآحاد فى جميعها متساوية، ولثنائيات والثلاثيات.
7
فتكون أيضا صورة الثلاثية موجودة فى الرباعية. لكن الثلاثية صورة لنوع طبيعى،
8
والرباعية كذلك. فتكون الأنواع الطبيعية موجودة فيها أنواع أمور أخرى مخالفة. مثلا
9
إذا كان عدد ما هو صورة للإنسان ثم عدد آخر صورة للفرس إما أكثر منه وإما أقل،
10
فإن كان أكثر منه كان نوع الإنسان موجودا فى الفرس وإن كان أقل منه كان نوع الفرس
11
موجودا فى الإنسان. فيلزم أن تكون صورة أنواع قبل أنواع وصورة أنواع بعد أنواع
12
إذا كانت أشد تركيبا منها وإن لم يأخذ تركيب الأنواع من الأنواع مأخذ غير متناه. ثم
13
كيف يكون عدد موجود له ترتيب ذاتى من الوحدانية والثنائية يذهب إلى غير النهاية
14
بالفعل؟ وقد تبين استحالة هذا.
15
[14] وأما الذى يولدون العدد بالتكرير مع ثبات الوحدة للواحد فليس يفهم للتكرير
16
فيه معنى إلا إيجاد شىء آخر غير الأول بالعدد. فإن كان للعدد يفعله التكرير وليس كل
17
واحد من الأول والثانى فيه وحدة فليس الوحدة مبدأ تأليف عدد. فإن كان الأول من
18
حيث هو أول وحدة، والثانى من حيث هو ثان وحدة، فهناك وحدتان. فإن الوحدة لا
19
تتكرر إلا بأن تكون هناك مرة بعد مرة. وهذه المرة إما أن تكون زمانية أو ذاتية. فإن كانت
254
1
زمانية ولم تعدم فى الوسط فهى كما كانت [لا]' أنها كررت. وإن عدمت ثم أوجدت
2
فالموجودة شخصية أخرى. وإن كانت ذاتية فذلك أبين.
3
[15] وقوم جعلوا الوحدة كالهيولى للعدد وقوم جعلوها كالصورة لأنها تقال على
4
الكل. والعجب من الفيثاغورثيين إذا جعلوا الوحدات الغير المتجزئة مبادئ للمقادير،
5
وعلموا أن المقادير تذهب إلى مذهب فى التجزؤ إلى غير النهاية. |322|[ed. Cairo vol. 2]
6
[16] وقال قوم: إن الوحدة إذا قارنت المادة صارت نقطة. والثنائية على ذلك
7
القياس، إذا قارنتها فعلت خطا، والثلاثية سطحا والرباعية جسما. ولا يخلو إما أن
8
تكون المادة لها مشتركة، أو تكون لكل واحد منها مادة أخرى. فإن كانت لها مادة واحدة
9
فتصير المادة تارة نقطة، ثم تنقلب جسما، ثم تنقلب نقطة. وهذا مع استحالته يوجب أن
10
لا يكون كون النقطة مبدأ للجسم أولى من أن يكون الجسم مبدأ للنقطة، بل ربما يكونان
11
من الأمور المتعاقبة على موضوع واحد. وإن كانت موادها مختلفة، فلا توجد فى مادة
12
الثنائية وحدة، فلا تكون فى المادة الثنائية ثنائية، ويلزم أن لا تكون هذه الأشياء البتة معا.
13
[17] وأما على مذهب التحقيق فليست النقطة موجودة إلا فى الخط، الذى هو
14
فى السطح، الذى هو فى الجسم، الذى هو فى المادة. وليست النقطة مبدأ إلا بمعنى
15
الطرف. وأما بالحقيقة فالجسم هو المبدأ، بمعنى أنه معروض له التناهى به.
16
[18] والعجب ممن جعل المبدأ الزيادة والنقصان، فجعل المضاف مبدأ. والمضاف
17
هو أمر عارض لغيره من الموجودات ومتأخر عن كل شىء.
255
1
[19] ثم كيف يمكنهم أن يجعلوا فى الوجود كثرة؟ فإن الوحدة الثانية التى توجد
2
فى الكثرة مضافة إلى الأولى إن كانت موجودة لذاتها. فبماذا تباين وحدة وحدة؟ وواجب
3
الوجود بذاته لا يتكثر ولا يباين شيئا إلا بالجوهر لا بالعدد. وإن جاءت بانقسام وحدة
4
فليست الوحدة إلا مقدارا. وإن جاءت بسبب آخر فالوحدة لها علة موجودة فى طبيعتها
5
وليست من الأمور التى بذاتها ومن المبادئ التى توجد ولا سبب لها. |323|[ed. Cairo vol. 2]
6
[20] ثم كيف جعلوا الوحدة والكثرة من الأضداد وقسموها إلى الخير والشر؟ فمنهم
7
من ما الى أن يجعل العدد من الخير لما فيه من الترتيب والتركيب والنظام، ومنهم من مال إلى
8
أن يجعل الوحدة من الخير. فإذا كانت الوحدة من الخير، فكيف تولد من خير شر؟ وكيف
9
صار ازدياد الخير شرا؟ وإن كانت الكثرة خيرا والوحدة شرا، فكيف حصل من ازدياد
10
الشر خير؟ وكيف كان الأول والمبدأ شرا حتى صار الأفضل [معلولا]' والأنقص علة؟
11
[21] ومنهم من جعل العدد والوحدة من باب الخير، وجعل الشر الهيولى والهيولى
12
إن كانت معلولة فيكون لها علة تستند إلى هيولى أو إلى صورة، فإن كانت تستند إلى هيولى
13
فستقف على ما يقصد بالكلام. وإن كانت تستند إلى صورة فكيف يولد الخير الشر؟
14
وإن لم تكن معلولة فهى واجبة بذاتها. فإما أن تكون قابلة للإنقسام أو مجردة؛ فإن كانت
15
قابلة للإنقسام فى نفسها فهى مقدار مؤلف من آحاد على رأيهم، فهى أيضا من الخير. وإن
16
كانت غير منقسمة فى ذاتها فذاتها وحدانية، والوحدانية ــ بما هى وحدانية ــ خير؛ إذ
17
ليس عندهم للخير معنى إلا كونه وحدة ونظاما من العدد، والوحدة أولى عندهم بذلك.
256
1
[22] فإن جعلوا كون الوحدة وحدة غير كونها خيرا، انتقضت أصولهم كلها.
2
وإن جعلوا الوحدانية خيرية، لزم من ذلك أن تكون الهيولى ــ لأنها وحدانية ــ خيرية.
3
ثم إن كانت الوحدانية فيها خيرية، ولكنها لا حق لها غريب، فلتجرد الملحوق به،
4
يلزمه هذا البحث بعينه.
5
[23] ثم كيف يتولد من الأعداد حرارة وبرودة وثقل وخفة حتى يكون عدد يوجب
6
أن يتحرك الشىء إلى فوق وعدد يوجب أن يتحرك الشىء إلى أسفل؟ فإن بطلان هذه
7
مما يغنى عن تكلف إبانة. |324|[ed. Cairo vol. 2]
8
[24] على أن قوما منهم جعلوا الأشياء تتولد من عدد يطابق كيفية ويوجد
9
معها. فتكون المبادئ ليست أعدادا، بل أعدادا، وكيفيات وأمور أخرى؛
10
وهذا محال عندهم.
11
[25] واعلم بعد هذا كله أن التعليميات لا تفارق الخيرية. وذلك لأنها فى أنفسها
12
ذوات حظ وافر من الترتيب والنظام والاعتدال. فكل شىء منها على ما ينبغى أن يكون
13
له، وهذا خير كل شىء.
257
1
|326|[ed. Cairo vol. 2]المقالة الثامنة
2
فى معرفة المبدأ الأول للوجود كله ومعرفة صفاته سبعة فصول
3
[الفصل الأول]
4
ا فصل
5
فى تناهى العطل الفاعلية والقابلية
6
[1] |327|[ed. Cairo vol. 2]وإذ قد بلغنا هذا المبلغ من كتابنا، فبالحرى أن نختمه بمعرفة المبدء
7
الأول للوجود كله وأنه هل هو موجود، وهل هو واحد لا شريك له فى مرتبته ولا
8
ندّ له؟ وندل على مرتبته فى الوجود، وعلى ترتيب الموجودات دونه ومراتبها، وعلى حال
9
العود إليه، مستعينين به.
10
[2] فأول ما يجب علينا من ذلك أن ندل على أن العلل من الوجوه كلها متناهية،
11
وأن فى كل طبقة منها مبدأ أول، وأن مبدأ جميعها واحد، وأنه مباين لجميع الموجودات،
12
واجب الوجود وحده، وأن كل موجود فمنه ابتدأ وجوده.
13
[3] فنقول: أما أن علة الوجود للشىء تكون موجودة معه فقد سلف لك وتحقق.
258
1
[4] ثم نقول: إنا إذا فرضنا معلولا، وفرضنا له علة، ولعلته علة، فليس يمكن أن
2
يكون لكل علة علة بغير نهاية، لأن المعلول وعلته وعلة علته إذا اعتبرت جملتها فى القياس
3
الذى لبعضها إلى بعض كانت علة العلة علة أولى مطلقة للأمرين، وكان للأمرين نسبة
4
المعلولية إليها، وإن اختلفا فى أن أحدهما معلول بمتوسط والآخر معلول بغير متوسط. ولم
5
يكن كذلك الأخير، ولا المتوسط لأن المتوسط ــ الذى هو العلة المماسة للمعلول ــ علة
6
|328|[ed. Cairo vol. 2]لشىء واحد فقط والمعلول ليس علة لشىء. ولكل واحد من الثلاثة خاصية.
7
فكانت خاصية الطرف المعلول أنه ليس علة لشىء، وخاصية الطرف الآخر أنه علة للكل
8
غيره، وكانت خاصية المتوسط أنه علة لطرف ومعلول لطرف.
9
[5] وسواء كان الوسط واحدا أو فوق واحد، فإن كان فوق واحد، فسواء ترتب
10
ترتيبا متناهيا أو ترتب ترتيبا غير متناه؛ فإنه إن ترتب فى كثرة متناهية كانت جملة عدد
11
ما بين الطرفين كواسطة واحدة تشترك فى خاصية الواسطة بالقياس إلى الطرفين، ويكون
12
لكل واحد من الطرفين خاصية.
13
[6] وكذلك إن ترتب فى كثرة غير متناهية ولم يحصل الطرف، كان جميع الطرف
14
غير المتناهى مشتركا فى خاصية الواسطة، لأنك أى جملة أخذت كانت علة لوجود
15
المعلول الأخير، وكانت معلولة، إذ كل واحد منها معلول، والجملة متعلقة الوجود بها،
16
ومتعلق الوجود بالمعلول معلول، إلا أن تلك الجملة شرط فى وجود المعلول الأخير وعلة
17
له. وكلما زدت فى البصر كان الحكم إلى غير النهاية باقيا. فليس يجوز إذن أن تكون
18
جملة علل موجودة وليس فيها علة غير معلولة، وعلة أولى. فإن جميع غير المتناهى
19
يكون واسطة بلا طرف وهذا محال. وقول القائل إنها ــ أعنى المعلل قبل العلل ــ تكون
259
1
بلا نهاية مع تسليمه لوجود الطرفين، حتى يكون طرفان وبينهما وسائط بلا نهاية، ليس
2
يمنع غرضنا الذى نحن فيه، وهو إثبات العلة الأولى.
3
[7] على أن قول القائل: أن ههنا طرفين ووسائط بغير نهاية قول يقوله باللسان،
4
دون الاعتقاد. وذلك لأنه إذا كان له طرف فهو متناه فى نفسه، فإن كان المحصى |329|[ed. Cairo vol. 2]
5
لا ينتهى إلى طرفه، فإن ذلك معنى فى المحصى لا معنى فى الشىء نفسه. وكون الأمر فى
6
نفسه متناهيا، هو أن يكون له طرف، وكل ما بين الطرفين فهو محدود ضرورة بهما.
7
[8] فقد تبين من جميع هذه الأقاويل أن ههنا علة أولى. فإنه وإن كان ما بين الطرفين
8
غير متناه، ووجد الطرف، فذلك الطرف أول لما لا يتناهى، وهو علة غير معلول.
9
[9] وهذا البيان يصلح أن يجعل بيانا لتناهى جميع طبقات أصناف العلل، وإن كان
10
استعمالنا له فى العلل الفاعلية؛ بل قد علمت أن كل ذى ترتيب فى الطبع، فانه متناه،
11
وذلك فى الطبيعيات، وإن كان كالدخيل فيها. فلنقبل على بيان تناهى العلل التى تكون
12
أجزاء من وجود الشىء ومتقدمة فى الزمان، وهى العلل التى تختص باسم العنصرية،
13
وهى ما يكون عنه الشىء، بأن يكون هو جزءا ذاتيا للشىء.
14
[10] وبالجملة اعتبر بقولنا شىء من شىء أن يكون قد دخل فى وجود الثانى أمر
15
كان للشىء الأول، إما الجوهر والذات الذى للشىء الأول، مثل الإنسان فى الصبى، إذا
16
قيل: إنه كان منه رجل، أو جزء من الجوهر والذات الذى للشىء الأول، ملل الهيولى فى
17
الماء، إذا قيل: إنه كان من هواء. ولا تعتبر المفهوم من قول القائل: كان كذا من كذا، إذا
18
كان بعده، ولم تدل لفظ «من» على شىء من ذات الأول، بل على البعدية فقط.
260
1
[11] فنقول: إن كون الشىء من الشىء لا بمعنى بعد الشىء، بل بمعنى أن فى
2
الثانى أمرا من الأول داخلا فى جوهره، يقال على وجهين:
3
[12] أحدهما بمعنى أن يكون الأول إنما هو ما هو بأنه بالطبع يتحرك إلى الاستكمال
4
بالثانى، كالصبى إنما هو صبى لأنه فى طريق السلوك إلى الرجلية مثلا. فإذا صار رجلا
5
لم |330|[ed. Cairo vol. 2] يفسد، ولكنه استكمل، لأنه لم يزل عنه أمر جوهرى، ولا أيضا أمر عرضى،
6
إلا، ما يتعلق بالنقص، وبكونه بالقوة بعدُ إذا قيس إلى الكمال الأخير.
7
[13] والثانى أن يكون الأول ليس فى طباعه أن يتحرك إلى الثانى، وإن كان يلزمه
8
الإستعداد لقبول صورته، لا من جهة ماهيته،ولكن من جهة حامل ماهيته. وإذا كان
9
منه الثانى، لم يكن من جوهره الذى بالفعل إلا بمعنى بعد، ولكن كان من جزء جوهره،
10
وهو الجزء الثانى الذى يقارن القوة؛ مثل الماء إنما يصير هواء بأن تخلع عن هيولاه صورة
11
المائية، ويحصل لها صورة الهوائية.
12
[14] والقسم الأول كما لا يخفى عليك، يحصل فيه الجوهر الذى للأول
13
بعينه فى الثانى. والقسم الثانى لا يحصل الجوهر الذى فى الأول بعينه فى الثانى، بل جزء
14
منه ويفسد ذلك الجوهر.
15
[15] ولما كان فى أول القسمين جوهر ما هو أقدم موجودا فيما هو أشد تأخرًا
16
كان هو بعينه، أو هو بعض منه؛ وكان الثانى هو مجموع جوهر الأول وكمال مضاف
17
إليه. ولما كان قد علم فيما سلف أن الشىء المتناهى الموجود بالفعل لا يكون له أبعاض
18
بالفعل، كانت أبعاضا مقدارية أو معنوية لها تراتيب غير متناهية، فقد استغنينا بذلك
261
1
عن أن نشتغل ببيان أنه هل يمكن أن يكون موضوع من هذا القبيل قبل موضوع بلا
2
نهاية، أو لا يمكن.
3
[16] وأما الثانى من القسمين فإنه من الظاهر أيضا وجوب التناهى فيه، لأن الأول
4
إنما هو بالقوة الثانى لأجل المقابلة التى بين صورته وبين صورة الثانى. وتلك المقابلة تقتصر
5
فى الإستحالة على الطرفين بأن يكون كل واحد من الأمرين موضوعا للآخر، فيفسد هذا
6
إلى ذاك، |331|[ed. Cairo vol. 2]وذاك إلى هذا. فحينئذ بالحقيقة لا يكون أحدهما بالذات متقدما على
7
الآخر، بل يكون تقدمه عليه بالعرض، أى باعتبار الشخصية دون النوعية. ولهذا ليس
8
طبيعة الماء أولى بأن تكون مبدأ للهواء من الهواء للماء، بل هما كالمتكافئين فى الوجود.
9
وأما هذا الشخص من الماء فيجوز أن يكون لهذا الشخص من الهواء، ولا يمنع أن يتفق أن
10
لا يكون لتلك الأشخاص نهاية أو بداية.
11
[17] وليس كلامنا ههنا فيما هو بشخصيته مبدأ لا بنوعيته، وفيما هو بالعرض
12
مبدأ لا بالذات. فإنا نجوز أن تكون هناك علل قبل علل بلا نهاية فى الماضى والمستقبل.
13
وإنما علينا أن نبين التناهى فى الأشياء التى هى بذواتها علل، فهذا هو الحال فى ثانى
14
القسمين، بعد أن نستعين أيضا بما قيل فى الطبيعيات.
15
[18] والقسم الأول هو الذى هو بذاته علة موضوعية، ولا ينعكس فيصير الثانى
16
علة للأول. فأن الثانى لما كان عند الاستكمال، والأول عند الحركة إلى الاستكمال، لم يجز
17
أن تكون حركة إلى الاستكمال بعد حصول لاستكمال، كما يجوز أن يكون الاستكمال
18
بعد الحركة إلى الاستكمال. فجاز رجل من صبى ولم يجز صبى من رجل. |332|[ed. Cairo vol. 2]
262
1
[الفصل الثاني]
2
ب فصل
3
فى شكوك تلزم ما قيل وحلها
4
[1] ونحن فقد آثرنا فى هذا البيان أن نحاذى المذكور منه فى التعليم الأول فى
5
المقالة الموسومة بألف الصغرى، ثم على هذا الموضوع شكوك يجب أن نوردها ثم نتجرد
6
الحلها. فمن ذلك، أن لقائل أن يقول:
7
[2] إن المعلم الأول لم يستوف القسمة فى كون الشىء من شىء آخر، لأنه ذكر ذلك
8
على وجهين: أحدهما، كون الشىء عن آخر يضاده، وبالجملة الكون الذى على سبيل
9
الاستحالة؛ والثانى، كون الشىء المستكمل عن المتحرك إليه والذى فى طريق الكون.
10
[3] وهذا غير مستوف للقسمة، لأن كل ما يكون عن الشىء يكون أولا على
11
وجهين، وهو أنه لا يخلو: إما أن يكون الأول المكون منه هو على وجود ذاته لم يبطل منه
12
شىء، ولم يفسد إلا معنى الاستعداد أو ما يتعلق به. وأما أن يكون الأول إنما أمكن أن
13
يكون منه الثانى بزوال شىء من الأول.
14
[4] والقسم الأول لا يخلو: أن يكون عنه الشىء، وقد كان مستعدًا فقط، فخرج
15
إلى الفعل دفعة من غير سلوك، أو يكون قد كان مستعدا فقط فخرج إلى الفعل بحركة
16
متصلة كان فيها بين الاستعداد الصرف وبين الاستكمال الصرف. |333|[ed. Cairo vol. 2]
17
[5] فيكون الكائن فى القسم الأول ينسب أنه كان عن حالة واحدة، كقولنا: كان
18
عن الجاهل بأمرى كذا عالم. والكائن فى القسم الثانى ينسب أنه كان تارة عن حالة سالكا،
19
كقولنا كان من الصبى رجل، وتارة عن حالة مستعدة فقط كقولنا: كان عن المنى رجل.
263
1
فإن اسم الصبى هو للمستعد أن يستكمل رجلا، وهو فى السلوك، واسم المنى للمستعد
2
أن يكون إنسانا لا بشرط أن يكون فى السلوك.
3
[6] فقد ترك المعلم الأول من الأقسام ما كان استكمالا، وكان الكون منه غير
4
منسوب إلى الحركة نحو الاستكمال. وأيضا فإنه ليس كل خروج عن استعداد صرف إلى
5
فعل استكمالا. فإن النفس تعتقد الرأى الخطأ فيخرج إلى الفعل فيه من القوة، ويكون ليس
6
على سبيل الاستكمال. ولا أيضا على سبيل الاستحالة.
7
[7] وأيضا فإن العناصر تتكون منها الكائنات فتكون مستحيلة عند الامتزاج غير
8
فاسدة فى صورها الذاتية على ما علمت، فيكون المزاج غير كائن فيها[لا] لزوال ضد
9
المزاج بل عدمه فقط، فيكون هذا القسم ليس هو من القسم الذى مثل له بكون الهواء من
10
الماء. وذلك لأن العناصر لا تفسد فى أنواعها عند المزاج بل تستحيل، ولا من القسم الذى
11
مثل له بكون الرجل من الصبى؛ لأنه كان لا ينعكس؛ فلا يكون الصبى بفساد الرجل،
12
وههنا ينعكس، فيكون من الممتزيج [*]الممتزيج corrupt for الممتزج شىء عنه امتزج بعد فساد المزاج.
13
[8] وأيضا فإنه إنما تكلم لا على الموضوع، بما هو الموضوع، بل بما يدل عليه لفظ
14
الكون من الشىء. ومعلوم أن هذا لا يقال لكل نسبة للمتكون إلى موضوعه؛ فإن ما كان
15
من |334|[ed. Cairo vol. 2] المستعدات التى يكون منها الشىء بالاستكمال لا اسم له من جهة ما هو
16
مستعد، ولا يلحقه تغير عن حالته التى له قبل الخروج إلى الفعل. فلا يقال إن الشىء كان
17
منه. فلا يقال كان من الإنسان رجل، ولكن من الصبى، لأن الصبى اسم له من جهة ما
18
هو ناقص، ولأنه لا يتم إلا بإستحالات أيضا فى طريق السلوك. فكأنه لما سمى كان له
19
معنى يدل عليه لاسم يزول عنه عند الخروج إلى الفعل؛ كأنه ما لم يتوهم فيه زوال أمر ما،
264
1
كان له بسببه استحقاق الاسم، لم يقل إنه يكون منه شىء. فيعرض من هذا أن تكون
2
ما لا يسمى فيه نسبة الكائن إلى الموضوع غير داخل فى هذه القسمة ويعرض منه أن
3
تكون النسبة إلى الموضوع بالعرض لا الذى بالذات، لأن الصبى بما هو صبى لا يجوز أن
4
يصير رجلا، حتى يكون هو صبيا ورجلا، بل يفسد المعنى المفهوم من اسم الصبى حتى
5
يصير رجلا. فيكون الكون من الصبى آخر الأمر بمعنى بعد ويكون أيضا إنما يتكلم عن
6
الموضوعات التى بالعرض.
7
[9] وأيضا فإنه لا يخلو: إما أن يكون الماء إذا كان منه الهواء عنصرا له بوجه،
8
أو لا يكون. فإن لم يكن فالاشتغال بذكره باطل. وإن كان فليس يجب إذا كان الهواء
9
يستحيل فى كيفيته الفاعلة إلى المائية، فيصير عنصرا له أن لا يستحيل فى كيفية أخرى،
10
فيصير عنصرا لشىء آخر، مثلا فى رطوبته فى فيصير عنصرا للنار من غير أن يرجع ماء؛ ثم
11
كذلك النار فى كيفية أخرى غير مقابلة للتى فيها استحالة إليها الهواء. فتكون العلل المادية
12
تذهب إلى غير نهاية، من غير أن ترجع؛ فإذن |335|[ed. Cairo vol. 2] لم يتبين من وضعه أنه يجب أن
13
يرجع لا محالة، بل بان إمكان الرجوع. ويتعلق بذلك إمكان التناهى. فليس ذلك مطلوبه،
14
بل مطلوبه وجوب التناهى.
15
[10] ولنشرع الآن فى حل هذه الشكوك فنقول:
16
[11] الأولى أن يكون كلام المعلم الأول، إنما هو فى مباديء الجوهر ــ بما هو
17
جوهر ــ لا بما هو جوهر معروض له ما لا يقوم جوهريته، ولا أيضا يكمله. فيكون كلامه
18
فى كون الجوهر من عنصره، أو من موضع له، إما على سبيل كون نوع الجوهر مطلقا،
19
وأما على سبيل كون كمال نوع الجوهر.
265
1
[12] والأولى أيضا أن يكون كلامه فى الكون الطبيعى دون الصناعى. وإذا كان
2
كذلك كان العنصر جزءا ذاتيا فى وجود الكائن وأيضا فى وجود المتكون منه. لست
3
أعنى بالذاتى أنه يكون ضروريًا لوجود المركب منه ومن غيره، فإن هذا أيضًا موجود
4
للعنصر فى الأكوان غير الذاتية، مثل العنصر فى الجسم الأبيض. ولكن أعنى بالذاتية أن
5
يكون كون العنصر جزءا أمرا ذاتيا له، فلا يقوم ذلك العنصر بالفعل إلا أن يكون جزءا لذلك
6
الشىء أو لما الشىء كما له الطبيعى؛ إذ يكون جزءا لجوهر أو لآخر، حكمه حكمه، لا أن
7
يكون العنصر يقوم دون ذلك، ثم عرض له أن صار جزا من مركب منه ومن عرض فيه،
8
ليس هو مقوما له ولا مكملا لما يقومه، فيكون كونه جزءا هو ذاتى بالقياس إلى المركب،
9
وليس ذاتيا بالقياس إلى ذاته، بل يجب أن لا يعرى عن كونه جزءا.
10
[13] وإذا كان كذلك، لم يخل الموضوع من أحد أمرين:
11
[14] إما أن يكون متقوما بهذا الشىء أو بآخر يقوم مقامه، فيكون قد كان فيه
12
قبل حصول الصورة الحادثة فيه شىء آخر يقوم مقامها فى تقويمه إلا أنها لا تجتمع مع هذا؛
13
|336|[ed. Cairo vol. 2]فيكون قد كان حصل من العنصر ومن ذلك الشىء جوهر، فلما كان الثانى فسد
14
ذلك الجوهر المركب. وهذا أحد القسمين.
15
[15] وإما أن يكون العنصر قد يقوم لا بهذا الشىء الذى حدث، ولكن بصورة
16
غير مستكملة فيما لها بالطبع، ولكنها قد حصلت بحيث يقوّم المادة فقط، ولم يحصل
17
الأمر الذى هو علة غائية لهذه الصورة بالطبع، فيكون الجوهر قد حصل ولم يحصل كاملا
18
بالطبع. وإذا كان ذلك الكمال كمالا له بالطبع، والقوة الطبيعية مبدأ الحركة إلى الكمال
19
الذى بالطبع، فيلزم ضرورة أن لا يكون هذا الشىء موجودًا على سلامته الطبيعية زمانًا لا عائق له فيه وهو غير متحرك بالطبع إلى ذلك الكمال؛ فإذن يلزم ضرورة فى هذا القسم
266
2
أن يكون المستعد متحركا إلى الكمال.
3
[16] فقد ظهر إذن أن جميع أصناف كون الجوهر الذى بحسب هذا النظر
4
هو داخل تحت أحد هذين القسمين ضرورة؛ وكذلك جميع أصناف ما هو كون الشىء
5
عن شىء يكون ذلك القابل فى كليهما جزءا ذاتيا باعتباره فى نفسه، وباعتباره
6
بالقياس إلى المركب.
7
[17] وليس لقائل أن يقول: إنه يجوز أن تكون القوة الطبيعية لا تتحرك إلى كما لها
8
لإعواز معين من خارج اأو عائق مانع. مثال الأول فقدان ضوء الشمس فى الحبوب
9
والبذور؛ ومثال الثانى الأمراض المذبلة. فالجواب عن ذلك أن كلام المعلم الأول ليس
10
فى الذى يكون لا محالة يتحرك بالفعل، بل فى الذى لو لم يكن عائق لطبيعته، وكانت
11
الأسباب الطبيعية المعاضدة بالطبع لطبيعته موجودة، كان متحركا إلى الكمال وكان فى
12
طريق السلوك. |337|[ed. Cairo vol. 2]
13
[18] فقد ظهر إذن أن سائر الأقسام غير مقصودة فى هذا البحث إلا القسم
14
المذكور؛ بل هذا الحكم غير صحيح فى سائر الأقسام. فانه يجوز فى غير كون الجوهر
15
إذا فرضنا موضوعا مبتدأ أن لا يزال يكتسب استعدادا بعد استعداد لأمور عرضية
16
من غير أن ينناهى[*]ينناهى corrupt for يتناهى ، كالخشب. فإنك كلما شكلته بشكل استعد بذلك لأمر، وإذا خرج
17
استعداده إلى الفعل، استعد لأمر آخر. وكذلك النفس فى إدراك المعقولات، ويشبه أن
18
تكون الاستحالات الطبيعية لا يمنع فيها هذا المعنى.
267
1
[19] وأما الشبهة المذكورة فى كون الاشياء من العناصر، وأنه ليس على أحد
2
القسمين، فحلها يظهر أيضا مما قد قيل، وهو أن العنصر مفردا ليس مستعدا لقبول
3
الصور الحيوانية والنباتية، بل يحصل له ذلك الاستعداد بالكيفية التى يحدث فيه بالمزاج.
4
والمزاج يحدث فيه لا محالة استحالة ما فى أمر طبيعى له، وإن لم يكن مقوما. فتكون
5
نسبته إلى صورة المزاج من القسم الذى يكون بالاستحالة. وإذا حصل فيه المزاج كان
6
قبول صورة الحيوانية له استكمالا لذلك المزاج، ويتحرك الظبع به إليه. فتكون نسبته إلى
7
صورة الحيوانية نسبة الصبى إلى الرجل. فلذلك ليست تفسد الصورة الحيوانية إلى أن
8
تصير مجرد مزاج، كما لا يكون الصبى من الرجل، ويفسد المزاج إلى موجب الصورة
9
البسيطة، كما يستحيل الماء إلى الهواء. وليس الحيوان عنصرا لجوهر العناصر، بل
10
يستحيل إليها من حيث هى بسيطة.
11
[20] فيكون إذن الامتزاج والبساطة يتعاقبان على الموضوع. والبساطة ليست
12
تقوم جوهر العناصر ولكن تكمل طبيعة كل واحد منها، من حيث هو بسيط. فتكون
13
النار نارا صرفة فى الكيفية التى فيها، اللازمة لصورتها وكذلك الماء، وكذلك كل واحد
14
من العناصر. فإذن كون الحيوان يتعلق بكونين، ولكل واحد منهما حكم يخصه من وجوب
15
التناهى. فهو داخل أيضا فى القسمين المذكورين. |338|[ed. Cairo vol. 2]
16
[21] وأما الشبهة التى تعرض من جهة إنه إننا أخذ من العناصر ما جرت به
17
العادة بأن يقال: إن الشىء منه دون ما لم تجرى به العادة، فالجواب عن تلك الشبهة هو إنه
18
ليس تتغير أحكام الأشياء من جهة الأسماء، ولكن يجب أن يقصد المعنى؛ فلنقصد
19
ولنعرف الحال فيه فنقول:
268
1
[22] إن العنصر أو الموضوع الذى يكون منه الشىء إذا كان يتقدمه فى الزمان،
2
فإن له من جهة تقدمه له خاصية لا تكون مع حصوله له، وهى الاستعداد القوى. وإنما
3
يتكون الجوهر منه لأجل استعداده لقبول صورته. واما إذا زال الاستعداد بالخروج إلى
4
الفعل، وجد الجوهر وكان محالا أن يقال إنه متكون منه.
5
[23] فإذا لم يكن من جهة الاستعداد أسم، بل أخذ له اسمه الذى لذاته
6
الذى يكون له أيضا عندما لا يجوز أن يتكون منه الشىء، لم يكن هو الاسم الذى يتعلق
7
بمعناه التكون. فإن لم يكن له من جهة الاستعداد اسم، لم يمكن أن يقال باللفظ، وإن
8
كان المعنى حاصلا فى الوجود؛ وإذا كان المعنى الذى يكون للمسمى حاصلا فى غير
9
المسمى كان حكمه فى المعنى حكم ذلك، وإن كان عدم الاسم يمنع أن يكون حكمه
10
فى اللفظ حكم ذلك.
11
[24] فإذا أخذنا القول الذى يكون لذلك الاسم لو كان موضوعا أمكننا حينئذ أن
12
نقول فى كل شىء: إنه يكون من العنصر له؛ مثلا أمكننا أن نقول: إن النفس العاقلة تكون
13
من نفس جاهلة مستعدة للعلم، إلا أن نمنع استعمال لفظ يكون فيما خلا التكو ن الذى فى
14
الجوهر. فلا يجوز أن نقول فى النفس العاقلة: إنها كانت من نفس مستعدة للعلم؛ ولكن
15
يجوز لا محالة فى الجواهر، وكلامنا فيها. على أنه فيما أحسب لا يختلف هذا الحكم
16
فى الجواهر مع ذواتها، وفى الجواهر مع أحوالها. |339|[ed. Cairo vol. 2]
17
[25] وأما قول هذا القائل: إن هذا يكون كونا من الشىء بمعنى بعد، فليس إذا
18
كان بمعنى بعد كيف كان، لم يكن الكون الذى نقصده؛ فإنه لا بد فى كل كون عن شىء
19
أن يكون الكائن بعد ما عنه كان، إنما الذى يزيفه المعلم الأول ولا يتعرض له هو أن لا يكون
269
1
هناك معنى غير البعدية، مثل المثل الذى يضربه ويشرحه. وأما إذا كان من الشىء بمعنى
2
أن كان بعده، بأن بقى له من جوهره، الذى كان أولا ما هو أيضا"من جوهر الثانى لم يكن
3
بمعنى بعد فقط، وكان الذى كلامنا فيه.
4
[26] وأما قول هذا القائل: إنه تكلم فى العنصر الذى بالعرض دون العنصر الذى
5
بالذات، فقد وقعت فيه مغالطة بسبب أن العنصر للكون ليس هو بعينه العنصر للقوام
6
فى الاعتبار، وإن كان هو هو بالذات. فإن العنصر بالذات للكون هو ذات مقارنة للقوة،
7
والعنصر بالذات للقوام هو ذات مقارنة للفعل، وكل واحد منهما هو عنصر بالعرض لما ليس
8
هو عنصرا له بالذات. وكلامه فى العنصر الذى للكون، لا فى الذى للقوام. فيكون إنما
9
أخذ العنصر بالعرض لو أخذ العنصر الذى للكون مبدأ للقوام. فإن الصبى ليس عنصرًا
10
لقوام الرجل ولا يكون منه قوام الرجل، ولكنه عنصر لكون الرجل ويكون منه كون الرجل.
11
[27] فإن قال قائل: إن المعلم الأول إنما يتكلم فى مباديء الجوهر مطلقا، فلم أعرض
12
عن العنصر الذى للجوهر فى قوامه، مثل موضوع السماء، واقتصر على العنصر الذى
13
للجوهر فى كونه؟ فالجواب عن ذلك:
14
[28] أن عنصر قوامه جزء منه، وهو معه بالفعل، ولا يشكل تناهى الأمور الموجودة
15
بالفعل فى شىء متناه موجود بالفعل. على أن من بلغ أن يتعلم هذا العلم، |340|[ed. Cairo vol. 2] ووقف
16
على سائر ما سلف، فإنما يشكل عليه من أمر تناهى العلل ولا تناهيها أنه هل يمكن أن يكون
17
كذلك فى العناصر التى بالقوة واحدا بعد آخر مختلفة بالقرب والبعد.
18
[29] وأما الشك الآخر فى حديث الماء والهواء، فحله سهل على من وقف على
19
كلامنا فى العناصر، حيث تكلمنا فى الكون والفساد. على أن الكلام ههنا فى كون
270
1
الشىء من الشىء بالذات. وكل تغير من الذى بالذات فهو فى مضادة واحدة مقتصر
2
عليها. فيكون الذى كان عنها بالذات يفسد إليها ضرورة، وفى الأخرى كذلك، فتكون
3
جملة التغيرات محصورة، وكل طبقة منها مقتصرة على طرفين نرجع بأحدهما على
4
الآخر. فقد انحلت جميع الشبه المذكورة.
5
[الفصل الثالث]
6
ج فصل
7
فى إبانة تناهى العلل الغائية والصورية وإثبات المبدأ الأول مطلقا،
8
وفصل القول فى العلة الأولى مطلقا، وفى العلة الأولى مقيدا،
9
وبيان أن ما هو علة أولى مطلقة علة لسائر العلل.
10
[1] وأما تناهى العلل الغائية فيظهر لك من الموضوع الذى حاولنا فيه إثباتها وحللنا
11
الشكوك فى أمرها. فإن العلة الغائية إذا ثبت وجودها ثبت تناهيها؛ وذلك لأن العلة
12
التمامية هى التى تكون سائر الأشياء لأجلها، ولا تكون هى من أجل شىء آخر. فإن كان
13
وراء العلة التمامية علة تمامية كانت الأولى لأجل الثانية، فلم تكن الأولى علة تمامية، وقد
14
فرضت علة تمامية. |341|[ed. Cairo vol. 2] فإذا كان كذلك، فمن جوز أن تكون العلل التمامية تستمر
15
واحدة بعد أخرى، فقد رفع العلل التمامية فى أنفسها، وأبطل طبيعة الخير التى هى العلة
16
التمامية، إذا الخير هو الذى يطلب لذاته، وسائر الأشياء تطلب لأجله. فإذا كان شىء
17
يطلب لشىء آخر كان نافعا لا خيرا حقيقيا.
18
[2] فقد اتضح أن فى ايجاب لا تناهى العلل التمامية رفع العلل التمامية؛ فإن من
19
جوز أن وراء كل تمام تماما فقد أبطل فعل العقل. فإنه من البين بنفسه أن العاقل إنما يفعل ما
271
1
يفعل بالعقل؛ لأنه يؤم مقصودا وغاية؛ حتى إنه إذا كان فاعل ما منا يفعل فعلا وليس له غاية
2
عقلية، قيل إنه يعبث ويجازف ويفعل لا بما هو ذو عقل، ولكن بما هو حيوان.
3
[3] وإذا كان هذا هكذا، فيجب أن تكون الأمور التى يفعلها العاقل بما هو عاقل
4
محدودة، تفيد غايات مقصودة لأنفسها. وإذا كان الفعل العقلى لا يكون إلا محدود
5
الغاية، وليس ذلك للفعل العقلى من جهة ما هو فعل عقلى، بل من جهة ما هو فعل يؤم به
6
الفاعل الغاية، فهو إذن كذلك من جهة ما هو ذو غاية، فإذن كونه ذا غاية يمنع أن يكون
7
لكل غاية غاية. فظاهر أنه لا يصح قول القائل: إن كل غاية وراءها غاية. وأما الأفعال
8
الطبيعية والحيوانية، فقد علم أيضا فى مواضع أخرى إنها لغايات.
9
[4] وأما العلة الصورية للشىء فيفهم عن قريب تناهيها بما قيل فى المنطق، وبما
10
علم من تناهى الأجزاء الموجودة للشىء بالفعل على ترتيب طبيعى، وأن الصورة التامة
11
للشىء واحدة، وأن الكثير يقع منها على نحو العموم والخصوص، وأن العموم والخصوص
12
يقتضى الترتيب الطبيعى، وماله ترتيب طبيعى فقد علم تناهيه. وفى تأمل هذا القدر كفاية
13
وغنية عن التطويل. |342|[ed. Cairo vol. 2]
14
[5] و نبتديء فنقول: إذا قلنا مبدأ أول فاعلى، بل مبدأ أول مطلق فيجب أن يكون
15
واحدا. وأما إذا قلنا علة أولى عنصرية، وعلة أولى صورية، وغير ذلك، لم يجب أن
16
تكون واحدة وجوب ذلك فى واجب الوجود، لأنه لا تكون ولا واحد منها علة أولى
17
مطلقا، لأن واجب الوجود واحد، وهو فى طبقة المبدأ الفاعلى، فيكون الواحد الواجب
18
الوجود هو أيضا مبدأ وعلة لتلك الأوائل.
272
1
[6] فقد بان من هذا ومما سلف لنا شرحه، أن واجب الوجود واحد بالعدد،
2
وبان أن ما سواه إذا اعتبر ذاته كان ممكنا فى وجوده، فكان معلولا، ولاح أنه ينتهى فى
3
المعلولية لا محالة إليه. فإذن كل شىء إلا الواحد الذى هو لذاته واحد، والموجود الذى
4
هو لذاته موجود، فإنه مستفيد الوجود عن غيره، وهو أيس به، وليس فى ذاته. وهذا
5
معنى كون الشىء مبدعا أى نائل الوجود عن غيره، وله عدم يستحقه فى ذاته مطلق،
6
ليس إنما يستحق العدم بصورته دون مادته، أو بمادته دون صورته، بل بكليته. فكليته إذا
7
لم تقترن بايجاب الموجد له، واحتسب أنه منقطع عنه وجب عدمه بكليته. فإذن إيجاده
8
عن الموجد له بكليته. فليس جزء منه يسبق وجوده بالقياس إلى هذا المعنى، لا مادته ولا
9
صورته، إن كان ذا مادة وصورة.
10
[7] فالكل إذن بالقياس إلى العلة الأولى مبدع. وليس إيجاده لما يوجد عنه إيجادا
11
[يمنع] العدم البتة من جواهر الأشياء، بل إيجادا يمنع العدم مطلقا فيما يحتمل السرمد.
12
فذلك هو الإبداع المطلق. والتأييس المطلق ليس تأييسا ما. وكل شىء حادث عن ذلك
13
الواحد، وذلك الواحد محدِث له إذ المحدَث هو الذى كان بعد ما لم يكن.
14
[8] وهذا البعد إن كان زمانيا سبقه القبل وعدم مع حدوثه، فكان شىء هو
15
الموصوف بأنه قبله، وليس الآن. |343|[ed. Cairo vol. 2] فلم يكن يتهيأ أن يحدث شىء إلا وقبله شىء
16
آخر يعدم بوجوده، فيكون الإحداث عن الليس المطلق، وهو الابداع، باطلا لا معنى له.
17
بل البعد الذى ههنا هو البعد الذى بالذات. فإن الأمر الذى للشىء من تلقاء نفسه قبل
18
الذى له من غيره. وإذا كان له من غيره الوجود والوجوب فله من نفسه العدم والامكان،
273
1
وكان عدمه قبل وجوده، ووجوه بعد عدمه قبلية وبعدية بالذات. فكل شىء غير
2
الأول الواحد، فوجوده بعد ما لم يكن باستحقاق نفسه.
3
[الفصل الرابع]
4
د فصل
5
فى الصفات الأولى للمبدأ الواجب الوجود
6
[1] فقد ثبت لك الآن شىء واجب الوجود. وكان ثبت لك أن واجب الوجود
7
واحد، فواجب الوجود واحد لا يشاركه فى رتبته شىء، فلا شىء سواه واجب
8
الوجود؛ وإذ لا شىء سواه واجب الوجود، فهو مبدأ وجوب الوجود لكل شىء،
9
ويوجه إيجابا أوليا أو بواسطة. وإذا كان كل شىء غيره فوجوده من وجوده فهو أول.
10
ولا نعنى بالأول معنى ينضاف إلى وجوب وجوده حتى يتكثر به وجوب وجوده، بل نعنى
11
به اعتبار إضافته إلى غيره.
12
[2] وأعلم أنا إذا قلنا، بل بينا أن واجب الوجود لا يتكثر بوجه من الوجوه،
13
وأن ذاته وحدانى صرف محض حق، فلا نعنى بذلك أنه أيضا لا يسلب عنه وجودات،
14
ولاتقع |344|[ed. Cairo vol. 2] له إضافة إلى وجودات. فإن هذا لا يمكن. وذلك لأن كل موجود
15
فيسلب عنه أنحاء من الوجود مختلفة كثيرة، ولكل موجود إلى الموجودات نوع من
16
الإضافة والنسبة، وخصوصا الذى يفيض عنه كل وجود. لكنا نعنى بقولنا إنه وحدانى
17
الذات لا يتكثر أنه كذلك فى ذاته، ثم إن تبعته إضافات إيجابية وسلبية كثيرة فتلك لوازم
18
للذات معلولة للذات، توجد بعد وجود الذات، وليست مقومة للذات ولا أجزاء لها. فإن
274
1
قال قائل: فإن كانت تلك معلولة فلها أيضا إضافة أخرى، ويذهب إلى غير النهاية، فإنا
2
نكلفه أن يتأمل ما حققناه فى باب المضاف من هذا الفن، حيث أردنا أن نبين أن الإضافة
3
تتناهى. وفى ذلك إنحلال شكه.
4
[3] ونعود فنقول: إن الأول لا ماهية له غير الإنية. وقد عرفت معنى الماهية،
5
وبماذا تفارق الإنية فيما تفارقه فى افتتاح تبياننا هذا. فنقول: إن واجب الوجود لا يصح
6
أن يكون له ماهية يلزمها وجوب الوجود، بل نقول من رأس:
7
[4] إن واجب الوجود قد يعقل نفس واجب الوجود، كالواحد قد يعقل نفس
8
الواحد، وقد يعقل من ذلك أن ماهيته هى مثلا إنسان أو جوهر آخر من الجواهر، وذلك
9
الإنسان هو الذى هو واجب الوجود، كما أنه قد يعقل من الواحد أنه ماء أو هواء
10
أو إنسان وهو واحد.
11
[5] وقد تتأمل فتعلم ذلك مما وقع فيه الاختلاف فى أن المبدأ فى الطبيعيات واحد
12
أو كثير. فبعضهم جعل المبدأ واحدا، وبعضهم جعله كثيرا. |345|[ed. Cairo vol. 2]
13
[6] والذى جعله منهم واحدا فمنهم من جعل المبدأ الأول لا ذات الواحد، بل شيئا
14
هو الواحد، مثل ماء أو هواء أو نار أو غير ذلك. ومنهم من جعل المبدأ ذات الواحد
15
من حيث هو واحد، لا شىء عرض له الواحد؛ ففرق إذن بين ماهية يعرض لها الواحد
16
والموجود، وبين الواحد والموجود من حيث هو واحد وموجود.
17
[7] فنقول: إن واجب الوجود لا يجوز أن يكون على الصفة التى فيها تركيب
18
حتى يكون هناك ماهية ما، وتكون تلك الماهية واجبة الوجود، فيكون لتلك الماهية معنى
19
غير حقيقتها وذلك المعنى وجوب الوجود؛ مثلا إن كانت تلك الماهية أنه إنسان، فيكون
275
1
أنه إنسان غير أنه واجب الوجود، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون لقولنا وجوب الوجود
2
هناك حقيقة، أو لا يكون. ومحال أن لا يكون لهذا المعنى حقيقة، وهى مبدأ كل حقيقة،
3
بل هى تؤكد الحقيقة وتصححها.
4
[8] فإن كان له حقيقة وهى غير تلك الماهية، فإن كان ذلك الوجوب من الوجود
5
يلزمه أن يتعلق بتلك الماهية ولا يجب دونها، فيكون معنى واجب الوجود من حيث هو
6
واجب الوجود يوجد بشى ليس هو. فلا يكون واجب الوجود، من حيث هو واجب
7
الوجود. وبالنظر إلى ذاته من حيث هو واجب الوجود ليس بواجب الوجود، لأن له
8
شيئا به يجب. وهذا محال إذا أخذ مطلقا غير مقيد بالوجود الصرف الذى يلحق
9
الماهية، وإذا أخذ لاحقا للماهية فإنه وإن كان قد يقارن [*]يقارن corrupt for يفارق [according to Bertolacci 2006, 534] ذلك الشىء فليست تلك الماهية
10
البتة |346|[ed. Cairo vol. 2]واجبة الوجود مطلقا، ولا عارضا لها وجوب الوجود مطلقا، لأنها لا تجب
11
فى كل وقت، وواجب الوجود مطلقا يجب فى كل وقت. وليس هكذا حال الوجود إذا
12
أخذ مطلقا غير مقيد بالوجوب الصرف الذى يلحق الماهية، فلا ضير لو قال قائل: إن
13
ذلك الوجود معلول للماهية من هذه الجهة أو لشىء آخر.
14
[9] وذلك لأن الوجود يجوز أن يكون معلولا، والوجوب المطلق الذى بالذات لا
15
يكون معلولا، فبقى أن يكون واجب الوجود بالذات مطلقا متحققا من حيث هو واجب
16
الوجود بنفسه، واجب الوجود من دون تلك الماهية، فتكون تلك الماهية عارضة لواجب
17
الوجود المتحقق القوام بنفسه، إن كان يمكن. فواجب الوجود مشار إليه بالعقل فى ذاته؛
18
ويتحقق واجب الوجود وإن لم تكن تلك الماهية العارضة. فإذن ليست تلك الماهية ماهية
19
للشىء المشار إليه بالعقل أنه واجب الوجود، بل ماهية لشىء آخر لاحق له. وقد كانت
276
1
فرضت ماهية لذلك الشىء لا شىء آخر، هذا خلف، فلا ماهية لواجب الوجود غير أنه
2
واجب الوجود؛ وهذه هى الإنية.
3
[10] ونقول: إن الإنية والوجود لو صارا عارضين للماهية فلا يخلو إما أن يلزمها
4
لذاتها، أو لشىء من خارج؛ ومحال أن يكون لذات الماهية، فإن التابع لا يتبع إلا موجودا.
5
فيلزم أن يكون للماهية وجود قبل وجودها، وهذا محال.
6
[11] ونقول إن كل ماله ماهية غير |347|[ed. Cairo vol. 2] الإنية فهو معلول؛ وذلك لأنك
7
علمت أن الإنية والوجود لا يقوم من الماهية التى هى خارجة عن الإنية مقام الأمر
8
المقوم، فيكون من اللوازم.
9
[12] فلا يخلو: إما أن يلزم الماهية لأنها تلك الماهية وإما أن يكون لزومها إياها
10
بسبب شىء. ومعنى قولنا اللزوم اتباع الوجود، ولن يتبع موجود إلا موجودا. فإن كانت
11
الإنية تتبع الماهية وتلزمها لنفسها، فتكون الإنية قد تبعت فى وجودها وجودا، وكل ما
12
يتبع فى وجوده وجودا فإن متبوعه موجود بالذات قبله، فتكون الماهية موجودة بذاتها
13
قبل وجودها، وهذا خلف. فبقى أن يكون الوجود لها عن علة. فكل ذى ماهية معلول.
14
وسائر الأشياء غير الواجب الوجود فلها ماهيات؛ وتلك الماهيات هى التى بأنفسها ممكنة
15
الوجود، وإنما يعرض لها وجود من خارج.
16
[13] فالأول لا ماهية له، وذوات الماهيات يفيض عليها الوجود منه. فهو مجرد
17
الوجود بشرط سلب العدم وسائر الأوصاف عنه؛ ثم سائر الأشياء التى لها ماهيات فإنها
18
ممكنة توجد به. وليس معنى قولى: إنه مجرد الوجود بشرط سلب سائر الزوائد عنه أنه
19
الوجود المطلق المشترك فيه. إن كان موجود هذه صفته؛ فأن ذلك ليس الموجود المجرد
277
1
بشرط السلب بل الموجود لا بشرط الإيجاب، أعنى فى الأول أنه الموجود مع شرط لا
2
زيادة تركيب، وهذا الآخر هو الموجود لا بشرط الزيادة. فلهذا ما كان الكلى يحمل على
3
كل شىء، وذلك لا يحمل على كل ما هناك زيادة. وكل شىء غيره فهناك زيادة.
4
[14] والأول أيضا لا جنس له؛ وذلك لأن الأول لا ماهية له، وما لا ماهية له فلا
5
جنس له؛ إذ الجنس مقول فى جواب ما هو والجنس من وجه هو بعض الشىء، والأول
6
قد تحقق أنه غير مركب. |348|[ed. Cairo vol. 2]
7
[15] وأيضا أن معنى الجنس لا يخلو: إما أن يكون واجب الوجود، فلا يتوقف
8
إلى أن يكون هناك فصل. وإن لم يكن واجب الوجود، وكان مقوما لواجب الوجود، كان
9
واجب الوجود متقوما بما ليس بواجب الوجود، وهذا خلف. فالأول لا جنس له.
10
[16] ولذلك فإن الأول لا فصل له. وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حد له، ولا
11
برهان عليه، لأنه لا علة له، ولذلك لا لمّ له، وستعلم أنه لا لمية لفعله.
12
[17] ولقائل أن يقول: إنكم إن تحاشيتم أن تطلقوا على الأول اسم الجوهر فلستم
13
تتحاشون أن تطلقوا عليه معناه؛ وذلك لأنه موجود لا فى موضوع، وهذا المعنى هو
14
الجوهر الذى جنستموه له.
15
[18] فنقول: ليس هذا معنى الجوهر الذى جنساه [*]جنساه corrupt for جنسناه، بل معنى ذلك أنه الشىء
16
ذو الماهية المتقررة الذى وجوده ليس فى موضوع كجسم أو نفس؛ والدليل على أنه إذا
17
لم يعن بالجوهر هذا لم يكن جنسا البتة، هو أن المدلول عليه بلفظ الموجود ليس يقتضى
18
جنسيته، والسلب الذى يلحق به لا يزيده على الوجود إلا نسبة مباينة. وهذا المعنى
19
ليس فيه إثبات شىء محصل بعد الوجود، ولا هو معنى لشىء بذاته، بل هو بالنسبة
278
1
فقط، فالموجود لا فى موضوع. إنما المعنى الإثباتى فيه الذى يجوز أن يكون لذات ما، هو
2
الموجود؛ وبعده شىء سلبى ومضاف خارج عن الهوية التى تكون للشىء. فهذا المعنى
3
إن أخذ على هذا الوجه لم يكن جنسا، وأنت قد علمت هذا فى المنطق علما متقنا.
4
[19] وقد علمت فى المنطق أيضا أنا إذا قلنا: كل «أ» مثلا، عنينا كل شىء
5
موصوف بأنه «أ» ولو كانت له حقيقة غير الألفية، فقولنا فى حد الجوهر: إنه الموجود
6
لا فى موضوع، |349|[ed. Cairo vol. 2] معناه أنه الشىء الذى يقال عليه موجود لا فى موضوع، على
7
أن الموجود لا فى موضوع محمول عليه، وله فى نفسه ماهية مثل الإنسان والحجر،
8
والشجر، فهكذا يجب أن يتصور الجوهر حتى يكون جنسا. والدليل على أن بين الأمرين
9
فرقًا وأن الجنس أحدهما دون الآخر، أنك تقول لشخص إنسان ما مجهول الوجود: إنه لا
10
محالة هو ما وجوده أن لا يكون فى موضوع، ولا تقول: إنه لا محالة موجود الآن لا فى
11
موضوع. وكأنا قد بالغنا فى تعريف هذا حيث تكلمنا فى المنطق.
12
[الفصل الخامس]
13
ه فصل
14
كأنه توكيد وتكرار لما سلف من توحيد واجب الوجود
15
وجميع صفاته السلبية على سبيل الإنتاج
16
[1] و بالحرى أن نعيد القول فى أن حقيقة الأول موجودة للأول دون غيره؛ وذلك
17
لأن الواحد ــ بما هو واجب الوجود ــ يكون ما هو به هو، وهو ذاته؛ ومعناه إما
18
مقصورا عليه لذات ذلك المعنى، أو لعلة، مثلا: لو كان الشىء الواجب الوجود هو هذا
19
الإنسان، فلا يخلو إما أن يكون هو هذا للإنسانية ولأنه إنسان، أو لا يكون. فإن كان لأنه
279
1
إنسان هو هذا، فالإنسانية تقتضى أن يكون هذا فقط؛ فإن وجدت لغيره فما اقتضت
2
الإنسانية أن يكون هذا، بل إنما صار هذا الأمر غير الإنسانية.
3
[2] وكذلك الحال فى حقيقة واجب الوجود، فإنها إن كانت لأجل نفسها هى هذا
4
المعين استحال أن تكون تلك الحقيقة لغيره، فتكون تلك الحقيقة ليست إلا هذا. وإن كان
5
|350|[ed. Cairo vol. 2]تحقق هذا المعنى لهذا المعين لا عن ذاته، بل عن غيره، وإنما هو هو لأنه هذا
6
المعين، فيكون وجوده الخاص له مستفادا من غيره، فلا يكون واجب الوجود، وهذا
7
خلف. فإذن حقيقة الواجب الوجود [للواحد] فقط. وكيف تكون الماهية المجردة عن
8
المادة لذاتين، والشيئان إنما يكونان اثنين إما بسبب المعنى، وإما بسبب الحامل للمعنى،
9
وإما بسبب الوضع أو المكان، أو بسبب الوقت والزمان، وبالجملة لعلة من العلل؟ لأن كل
10
اثنين لا يختلفان بالمعنى، فإنما يختلفان بشىء عارض للمعنى مقارن له؛ فكل ما ليس له
11
وجود إلا وجود معنى، ولا يتعلق بسبب خارج أو حالة خارجة، فبماذا يخالف مثله؟
12
فإذن لا يكون له مشارك فى معناه، فالأول لا ند له.
13
[3] وأيضا، فإنا نقول: إن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون معنى مشتركا فيه لعدة
14
بوجه من الوجوه، لا متفقى الحقائق والأنواع ولا مختلفى الحقائق والأنواع. أما أول ذلك
15
فإن وجوب الوجود لا ماهية له تقارنه غير وجوب الوجود. فلا يمكن أن يكون لحقيقة
16
وجوب الوجود اختلاف بعد وجوب الوجود.
17
[4] وأيضا، لا يخلو إما أن يكون ما يختلف به آحاد واجب الوجود بعد الاتفاق
18
فى وجوب الوجود أشياء موجودة لكل واحد من المتفقين فيه بها يخالفه صاحبه، أو غير
19
موجودة لشىء منها، أو موجودة لبعضها وليس فى البعض الآخر إلا عدمها.
280
1
[5] فإن كانت غير موجودة وليس هناك شىء يقع به الاختلاف بعد الاتفاق،
2
فلا اختلاف بينهما فى الحقائق، فهى متفقة الحقائق، وقد قلنا إنها تختلف حقائقها بعد
3
ما اشتركت فيه.
4
[6] وإن كانت غير موجودة فى بعضها وموجودة فى بعضها، مثلا أن يكون
5
أحدهما |351|[ed. Cairo vol. 2]انفصل عن اللآخر[*]اللآخر corrupt for الآخربأن له حقيقة وجوب الوجود، وشيئا هو الشرط فى
6
الانفصال، وللآخر حقيقة وجوب الوجود مع عدم الشرط الذى لذلك، وإنما فارقه لأجل
7
هذا العدم فقط، وليس هناك شىء إلا العدم ينفصل به عن الآخر، فيكون من شأن وجوب
8
الوجود بالحقيقة التى له أن تثبت قائمة مع عدم شرط يلحق به. والعدم لا معنى له محصلا
9
فى الأشياء، وإلا لكان فى شىء واحد معان بلا نهاية؛ فإن فيه اختلاف أشياء بلا نهاية.
10
[7] فلا يخلو إما أن يكون وجوب الوجود متحققًا فى الثانى من دون الزيادة التى
11
له، أو لا يكون. فإن لم يكن، فيكون ليس له دونه وجوب الوجود، ويكون شرطا فى
12
وجوب الوجود فى الآخر أيضا. وإن كان، فتكون الزيادة فصلا أيضًا، وليس من شرط
13
وجوب الوجود؛ وهو مع ذلك مركب، وواجب الوجود غير مركب. وإن كان لكل واحد
14
منهما ما ينفصل به عن الآخر، فهو يقتضى التركيب فى كل واحد منهما.
15
[8] ثم لا يخلو أيضا، إما أن يكون وجوب الوجود يتم وجوب وجود دون
16
كل واحد من الزيادتين، أو يكون ذلك شرطا له فى أن يتم. فإن تم، فوجوب الوجود لا
17
اختلاف فيه بالذات، إنما الاختلاف فى العوارض التى تلحقه، وقد قام الوجود واجبًا
18
مستغنيًا فى قوامه عن تلك اللواحق. وإن لم يتم فلا يخلو: إما أن لا يتم دون ذلك فى أن
19
يكون له حقيقة وجوب الوجود، وإما أن يكون وجوب الوجود معنى متحققًا فى نفسه،
20
وليس ذانك ولا أحدهما داخلا فى هويته من حيث هو واجب الوجود، ولكنه لابد من
281
1
أن يصير حاصل الوجود |352|[ed. Cairo vol. 2] بأحدهما، مثل أن الهيولى ــ وإن كانت لها جوهريتها
2
فى حد هيوليتها ــ فإن وجودها بالفعل إما بهذه الصورة أو بالأخرى؛ وأيضا اللون، فإنه
3
وإن كان فصل السواد لا يقومه ــ من حيث هو لون ولا فصل البياض ــ فإن كل واحد
4
منهما كالعلة له فى أن يوجد بالفعل ويحصل. وليس أحدهما علة له بعينه، بل أيهما اتفق،
5
ولكن ذلك فى حال، وذلك فى حال.
6
[9] فإن كان الأمر على مقتضى الوجه الأول، فكل واحد منهما داخل فى تقويم
7
وجوب الوجود وشرط فيه، فحيث كان وجوب الوجود، وجب أن يكون معه. وإن
8
كان على مقتضى المعنى الثانى فواجب الوجود يحتاج إلى شىء يوجد به، فيكون
9
واجب الوجود ــ من بعد ما يتقرر له معنى أنه واجب الوجود ــ يحتاج إلى شىء آخر
10
يوجد به، وهذا محال.
11
[10] وأما فى اللون، وفى الهيولى، فليس الأمر هناك على هذه الصورة. فإن
12
الهيولى فى إنها هيولى شىء، واللون فى أنه لون شىء، وفى أنه موجود شىء. ونظير
13
اللون هناك هو واجب الوجود ههنا، ونظير فصلى السواد والبياض هناك هو ما يختص
14
به كل واحد من المفروضين ههنا. فكما أن كل واحد من فصلى السواد والبياض لا مدخل
15
لهما فى تقرير اللونية، كذلك يجب أن يكون خاصة كل واحد من هذين المفروضين لا
16
مدخل لهما فى تقرير وجوب الوجود. |353|[ed. Cairo vol. 2]
17
[11] وأما هناك، فكان المدخل للفصلين فى أن صار اللون موجودا، أى صار
18
اللون شيئا هو غير اللون، وزائدا على أنه لون؛ وههنا ليس يمكن ذلك؛ لأن وجوب
19
الوجود يكون متقرر الوجود، بل هو تقرر الوجود، بل الوجود شرط فى تقرير ماهية
20
واجب الوجود، أو هو نفسه مع عدم عدم، أو امتناع بطلان.
282
1
[12] وأما فى اللون، فالوجود لا حق يلحق ماهية هى اللون، فتوجد الماهية التى
2
هى بنفسها لون عينا موجودة بالوجود. فلو كانت الخاصة ليست علة فى تقرير ماهية
3
وجوب الوجود، بل فى أن يحصل له الوجود، وكان الوجود أمرا خارجا عن تلك الماهية
4
خروجها عن ماهية اللون، كان الامر مستمرا"على قياس سائر الأشياء العامة المنفصلة
5
بفصول، وبالجملة المنقسمة فى معان مختلفة؛ لكن الوجود يجب أن يكون حاصلا حتى
6
يكون وجوبه، فتكون الخاصة كأنها تحتاج إليها كشىء فى أمر هو الذى استغنى فيه عنه؛
7
وهذا خلف، محال. بل الوجوب ليس له الوجود كشىء ثان يحتاج إليه، كما للونية
8
وجود ثان. وبالجملة كيف يكون شىء خارج عن وجوب الوجود شرطا فى وجوب
9
الوجود؟ ومع ذلك فإن حقيقة وجوب الوجود كيف يتعلق بموجب له، فيكون وجوب
10
الوجود فى نفسه إمكان الوجود؟ |354|[ed. Cairo vol. 2]
11
[13] ونقرر من رأس فنقول: بالجملة إن الفصول وما يجرى مجراها لا يتحقق بها
12
حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه، بل إنما كانت علة لتقويم الحقيقة موجودة. فإن
13
الناطق ليس شرطا يتعلق به الحيوان فى أن له معنى الحيوان وحقيقته، بل فى أن يكون
14
موجودا"معينا. وإذا كان المعنى العام هو نفس واجب الوجود، وكان الفصل يحتاج
15
إليه فى أن يكون واجب الوجود موجودا، فقد دخل ما هو كالفصل فى ماهية ما هو
16
كالجنس، والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلى فى جميع هذا ظاهر. فبين أن وجوب
17
الوجود ليس مشتركا فيه. فالأول لا شريك له. وإذ هو بريء عن كل مادة وعلائقها وعن
18
الفساد، وكلاهما شرط مع ما يقع تحت التضاد، فالأول لا ضد له.
19
[14] فقد وضح أن الأول لا جنس له، ولا ماهية له، ولا كيفية له، ولا كمية له،
20
ولا أين له، ولا متى له، ولا ند له، ولا شريك له، ولا ضد له، تعالى وجل، وأنه لا حدّ
283
1
له، ولا برهان عليه، بل هو البرهان على كل شىء، بل هو إنما عليه الدلائل الواضحة،
2
وأنه إذا حققته فإنما يوصف بعد الإنية بسلب المشابهات عنه، وبإيجاب الإضافات كلها
3
إليه، فإن كل شىء منه وليس هو مشاركا لما منه، وهو مبدأ كل شىء وليس هو شيئا
4
من الأشياء بعده. |355|[ed. Cairo vol. 2]
5
[الفصل السادس]
6
و فصل
7
فى إنه تام بل فوق التام وخير، ومفيد كل شىء بعده، وأنه حق،
8
وأنه عقل محض، ويعقل كل شىء، وكيف ذلك، وكيف يعلم ذاته، وكيف يعلم
9
الكليات، وكيف يعلم الجزئيات، وعلى أى وجه لا يجوز أن يقال يدركها.
10
[1] فواجب الوجود تام الوجود، لأنه ليس شىء من وجوده وكمالات وجوده
11
قاصرًا عنه، ولا شىء من جنس وجوده خارجا عن وجوده يوجد لغيره، كما يخرج فى
12
غيره، مثل الإنسان. فإن أشياء كثيرة من كمالات وجوده قاصرة عنه، وأيضا فان إنسانيته
13
توجد لغيره. بل واجب الوجود فوق التمام؛ لأنه ليس إنما له الوجود الذى له فقط، بل
14
كل وجود أيضًا فهو فاضل عن وجوده، وله، وفائض عنه.
15
[2] وواجب الوجود بذاته خير محض، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شىء
16
وما يتشوقه كل شىء هو الوجود، أو كمال الوجود من باب الوجود. والعدم من حيث
17
هو عدم لا يتشوق إليه، بل من حيث يتبعه وجود أو كمال للوجود. فيكون المتشوق
18
بالحقيقة الوجود. فالوجود خير محض وكمال محض.
284
1
[3] فالخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شىء فى حدّه ويتم به وجوده. والشر لا
2
ذات له، بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح حال الجوهر. فالوجود خيرية، وكمال
3
الوجود |356|[ed. Cairo vol. 2] خيرية الوجود. والوجود الذى لا يقارنه عدم ــ لا عدم جوهر، ولا
4
عدم شىء للجوهر، بل هو دائما بالفعل ــ فهو خير محض. والممكن الوجود بذاته ليس
5
خيرًا محضًا؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود بذاته. فذاته تحتمل العدم، وما أحتمل
6
العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص. فإذن ليس الخير المحض إلا
7
الواجب الوجود بذاته.
8
[4] وقد يقال أيضا: خير، لما كان مفيدا لكمالات الأشياء وخيراتها. وقد بان أن
9
واجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا لكل وجود، ولكل كمال وجود، فهو من هذه
10
الجهة خير أيضا لا يدخله نقص ولا شر. وكل واجب الوجود فهو حق؛ لأن حقية كل
11
شىء خصوصية وجوده الذى يثبت له. فلا أحق إذن من واجب الوجود.
12
[5] وقد يقال حق، أيضا، لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا. فلا أحق بهذه الحقيقة
13
مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا، ومع صدقه دائما، ومع دوامه لذاته لا لغيره؛ وسائر
14
الأشياء فإن ماهياتها كما علمت لا تستحق الوجود، بل هى فى أنفسها وقطع أضافتها
15
إلى واجب الوجود تستحق العدم؛ فلذلك كلها فى أنفسها باطلة، وبه حقة، وبالقياس
16
إلى الوجه الذى يليه حاصلة. فلذلك كل شىء هالك إلا وجهه. فهو أحق بأن يكون حقا.
17
[6] وواجب الوجود عقل محض؛ لأنه ذات مفارقة للمادة من كل وجه؛ وقد
18
عرفت أن السبب فى أن لا يعقل الشىء هو المادة وعلائقها لا وجوده. وأما الوجود
19
الصورى فهو الوجود العقلى وهو الوجود الذى إذا تقرر فى شىء صار للشىء به عقل.
285
1
والذى يحتمل نيله هو عقل بالقوة، والذى ناله بعد القوة هو عقل بالفعل على سبيل
2
الاستكمال، والذى |357|[ed. Cairo vol. 2] هو له ذاته هو عقل بذاته. وكذلك هو معقول محض لأن
3
المانع للشىء أن يكون معقولا هو أن يكون فى المادة وعلائقها، وهو المانع عن أن يكون
4
عقلا. وقد تبين لك هذا.
5
[7] فالبرئ[*]فالبرئ corrupt for فالبرىء عن المادة والعلائق، المتحقق بالوجود المفارق، هو معقول لذاته. ولأنه
6
عقل بذاته وهو أيضا معقول بذاته فهو معقول ذاته، فذاته عقل وعاقل ومعقول. لا أن هناك
7
أشياء متكثرة. وذلك لأنه بما هو هوية مجردة عقل، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته
8
فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل ذاته؛ فإن المعقول هو الذى
9
ماهيته المجردة لشىء، والعاقل هو الذى له ماهية مجردة لشىء. وليس من شرط هذا
10
الشىء أن يكون هو أو آخر، بل شىء مطلقا، والشىء مطلقا أعم من هو أو غيره.
11
[8] فالأول باعتبار أن له ماهية مجردة لشىء، هو عاقل؛ وباعتبار أن ماهيته
12
المجردة لشىء، هو معقول، وهذا الشىء هو ذاته؛ فهو عاقل بأن له الماهية المجردة التى
13
لشىء هو ذاته، ومعقول بأن ماهيته المجردة هى لشىء هو ذاته.
14
[9] وكل من تفكر قليلا علم أن العاقل يقتضى شيئا معقولا. وهذا الاقتضاء لا
15
يتضمن أن ذلك الشىء آخر أو هو، بل المتحرك إذا اقتضى شيئا محركا لم يكن نفس هذا
286
1
الاقتضاء يوجب أن يكون شيئا آخر أو هو، بل نوع آخر من البحث يوجب ذلك؛ وتبين
2
أنه من المحال أن يكون ما يتحرك هو ما يحرك. ولذلك لم يمتنع أن يتصور فريق لهم عدد
3
أن فى الأشياء شيئا متحركا عن ذاته، إلى وقت أن قام البرهان على امتناعه. ولم يكن
4
نفس تصور المحرك والمتحرك يوجب ذلك، إذ كان المتحرك يوجب أن يكون له شىء محرك
5
مطلقا بلا شرط أنه آخر أو هو، والمحرك يوجب أن يكون له شىء متحرك عنه بلا شرط
6
أنه آخر أو هو. |358|[ed. Cairo vol. 2]
7
[10] وكذلك المضافات تعرف إثنينيتها [*]إثنينيتها corrupt for أنيتها [according to Bertolacci 2006, 538] لأمر، لا لنفس النسبة والإضافة المفروضة
8
فى الذهن؛ فإنا نعلم علما يقينا أن لنا قوة نعقل بها الأشياء. فإما أن تكون القوة التى
9
نعقل بها هذه القوة هى هذه القوة نفسها، فتكون هى نفسها تعقل ذاتها، أو تعقل ذلك قوة
10
أخرى، فتكون لنا قوتان: قوة نعقل الأشياء بها، وقوة نعقل بها هذه القوة، ثم يتسلسل
11
الكلام إلى غير النهاية. فيكون فينا قوى تعقل الأشياء بلا نهاية بالفعل. فقد بان أن نفس
12
كون الشىء معقولا لا يوجب أن يكون معقولا لشىء، ذلك الشىء آخر.
13
[11] وبهذا تبين أنه ليس يقتضى العاقل أن يكون عاقل شىء آخر؛ بل كل ما توجد
14
له الماهية المجردة فهو عاقل، وكل ماهية مجردة توجد له أو لغيره فهو معقول، إذ كانت هذه
15
الماهية لذاتها عاقلة، ولذاتها أيضا معقولة لكل ماهية مجردة تفارقها أو لا تفارقها.
16
[12] فقد فهمت أن نفس كونه معقولا وعاقلا، لا يوجب أن يكون اثنين فى الذات،
17
ولا اثنين فى الاعتبار أيضا؛ فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا اعتبار أن ماهية مجردة لذاته،
287
1
وأنه ماهية مجردة ذاته لها، وههنا تقديم وتأخير فى ترتيب المعانى، والغرض المحصل شىء
2
واحد بلا قسمة. فقد بان أن كونه عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة البتة.
3
[13] وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا
4
فذاته إما متقومة بما يعقل، فيكون تقومها بالأشياء؛ وإما عارضة لها أن تعقل، فلا
5
تكون واجبة الوجود من كل جهة؛ وهذا محال. ويكون لولا أمور من خارج لم يكن
6
هو بحال، ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغيره فيه تأثير. والأصول
7
السالفة تبطل هذا |359|[ed. Cairo vol. 2] وما أشبهه. ولأنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ
8
له. وهو مبدأ للموجودات التامة بأعينها، والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا،
9
وبتوسط ذلك بأشخاصها.
10
[14] ومن وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها من حيث
11
هى متغيرة عقلا زمانيا مشخصا بل على نحو آخر نبينه. فإنه لا يجوز أن يكون تارة يعقل
12
عقلا زمانيا منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل عقلا زمانيا منها أنها معدومة غير
13
موجودة،فيكون لكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين
14
تبقى مع الثانية؛ فيكون واجب الوجود متغير الذات.
15
[15] ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص لم تعقل
16
بما هى فاسدة، وإن أدركت بما هى مقارنة لمادة وعوارض مادة ووقت وتشخص لم تكن
17
معقولة بل محسومة أو متخيلة؛ ونحن قد بينا فى كتب أخرى أن كل صورة محسوسة
18
وكل صورة خيالية فإنما تدرك من حيث هى محسوسة أو متخيلة بآلة متجزئة. وكما
288
1
أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات.
2
بل واجب الوجود إنما يعقل كل شىء على نحو كلى، ومع ذلك فلا يعزب عنه شىء
3
شخصى، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض. وهذا من العجايب التى
4
يحوج تصورها إلى لطف قريحة.
5
[16] وأما كيفية ذلك، فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل
6
الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شىء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة
7
ما واجبا يسببه؛ وقد بينا هذا. فتكون هذه الأسباب يتأدى بمصادماتها إلى أن توجد
8
|360|[ed. Cairo vol. 2]عنها الأمور الجزئية. والأول يعلم الأسباب ومطابقتها، فيعلم ضرورة ما يتأدى
9
إليها، وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات؛ لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم
10
هذا، فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هى كلية، أعنى من حيث لها صفات. وإن
11
تخصصت بها شخصا فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة لو أخذت تلك
12
الحال بصفاتها كانت أيضا بمنزلتها [لكنها] تستند إلى مبادىء كل واحد منها نوعه فى
13
شخصه، فتستند إلى أمور شخصية.
14
[17] وقد قلنا: إن مثل هذا الاستناد قد يجعل للشخصيات رسما ووصفا
15
مقصورا عليها. فإن كان ذلك الشخص مما هو عند العقل شخصى أيضا، كمن للعقل
16
إلى ذلك المرسوم سبيل، وذلك هو الشخص الذى هو واحد فى نوعه لا نظير له، ككرة
17
الشمس مثلا، أو كالمشترى. وأما إذا كان النوع منتشرا فى الأشخاص، لم يكن للعقل إلى
18
رسم ذلك الشىء سبيل إلا أن يشار إليه ابتداء على ما عرفته. ونعود فنقول:
19
[18] كما أنك [اذا] تعلم حركات السماويات كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل
20
اتصال وكل انفصال جزئى يكون بعينه ولكن على نحو كلى؛ لأنك تقول فى كسوف ما إنه
289
1
كسوف يكون بعد زمان حركة يكون لكذا من كذا شماليا نصفيا، ينفصل القمر منه إلى
2
مقابلة كذا، ويكون بينه وبين كسوف مثله سابق له أو متأخر عنه مدة كذا. وكذلك بين
3
حال الكسوفين الآخرين حتى لا تقدر عارضا من عوارض تلك الكسوفات إلا علمته،
4
ولكنك علمته كليا، لأن هذا المعنى قد يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كل واحد
5
منها يكون حاله تلك الحال، لكنك تعلم لحجة ما أن ذلك الكسوف لا يكون إلا واحدا
6
|361|[ed. Cairo vol. 2]بعينه، وهذا لا يدفع الكلية إن تذكرت ما قلناه من قبل.
7
[19] ولكنك مع هذا كله، ربما لم يجز أن تحكم فى هذا الآن بوجود هذا الكسوف
8
أو لا وجوده، إلا أن تعرف جزئيات الحركات بالمشاهدة الحسية، وتعلم ما بين هذا المشاهد
9
وبين ذلك الكسوف من المدة. وليس هذا نفس معرفتك بأن فى الحركات حركة جزئية
10
صفتها صفة ما شاهدت، وبينها وبين الكسوف الثانى الجزئى كذا، فإن ذلك قد يجوز أن
11
تعلمه على هذا النوع من العلم ولا تعلمه وقت ما يشك فيه أنها هل هى موجودة؛ بل يجب
12
أن يكون قد حصل لك بالمشاهدة شىء مشار إليه حتى تعلم حال ذلك الكسوف.
13
[20] فإن منع مانع أن يسمى هذا معرفة للجزء من جهة كلية، فلا مناقشة معه؛
14
فإن غرضنا الآن غير ذلك، وهو فى تعريفنا أن الأمور الجزئية كيف تعلم وتدرك علما
15
وإدراكا يتغير معهما العالِم، وكيف يعلم ويدرك علما وإدراكا لا يتغير معهما العالم. فإنك
16
إذا علمت أمر الكسوفات كما توجد أنت، أو لو كنت موجودا دائما، كان لك علم لا
17
بالكسوف المطلق، بل بكل كسوف كائن؛ ثم كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يغير
290
1
منك أمرا. فإن علمك فى الحالين يكون واحدا، وهو أن كسوفا له وجود بصفات كذا،
2
بعد كسوف كذا، أو بعد وجود الشمس فى الحمل كذا، فى مدة كذا، ويكون بعد كذا،
3
وبعده كذا، ويكون هذا [العقل] منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده.
4
[21] فأما إن أدخلت الزمان فى ذلك، فعلمت فى آن مفروض أن هذا الكسوف
5
ليس بموجود، ثم علمت فى آن آخر أنه موجود، لم يبق علمك ذلك عند وجوده، بل
6
يحدث علم آخر، ويكون فيك التغير الذى أشرنا إليه. ولم يصح أن تكون فى وقت
7
الانجلاء على ما كنت |362|[ed. Cairo vol. 2] قبلى الانجلاء، هذا وأنت زمانى وآنى. ولكن الأول الذى
8
لا يدخل فى زمان وحكمه، فهو بعيد أن يحكم حكما فى هذا الزمان وذلك الزمان من
9
حيث هو فيه ومن حيث هو حكم منه جديدا ومعرفة جديدة.
10
[22] واعلم أنك إنما كنت تتوصل إلى إدراك الكسوفات الجزئية لإحاطتك بجميع
11
أسبابها، وإحاطتك بكل ما فى السماء. فإذا وقعت الإحاطة بجميع أسبابها ووجودها،
12
انتقل منها إلى جميع المسببات. ونحن سنبين هذا من ذى قبل بزيادة كشف. فتعلم كيف
13
يعلم الغيب وتعلم من هناك إن الأول من ذاته كيف يعلم كل شىء، وأن ذلك لأنه مبدأ كل
14
شىء، ويعلم الأشياء من حالها إذ هو مبدأ شىء أو أشياء حالها وحركاتها كذا، وما
15
ينتج عنها كذا، إلى التفصيل بعده، ثم على الترتيب الذى يلزم ذلك التفصيل لزوم التعدية
16
والتأدية. فتكون هذه الأشياء مفاتيح الغيب التى لا يعلمها أحد إلا هو، فالله أعلم بالغيب
17
وهو عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم.
291
1
[الفصل السابع]
2
ز فصل
3
فى نسبة المعقولات إليه، وفى إيضاح أن صفاته الإيجابية والسلبية
4
لا توجب فى ذاته كثرة، وأن له البهاء الأعظم والجلال الأرفع
5
والمجد الغير المتناهى، وفى تفصيل حال اللذة العقلية
6
[1] ثم يجب أن يعلم أنه إذا قيل عقل للأول قيل على المعنى البسيط الذى عرفته
7
فى كتاب النفس، وأنه ليس فيه اختلاف صور مترتبة متخالفة كما يكون فى النفس على
8
المعنى |363|[ed. Cairo vol. 2] الذى مضى فى كتاب النفس؛ فهو لذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من
9
غير أن يتكثر بها فى جوهره، أو تتصور فى حقيقة ذاته بصورها، بل تفيض عنه صورها
10
معقولة. وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليته. ولأنه يعقل ذاته،
11
وأنه مبدأ كل شىء، فيعقل من ذاته كل شىء.
12
[2] وأعلم أن المعنى المعقول قد يؤخذ من الشىء الموجود، كما عرض أن اخذنا
13
نحن عن الفلك بالرصد والحس صورته المعقولة. وقد تكون الصورة المعقولة غير مأخوذة
14
عن الموجود، بل بالعكس، كما أنا نعقل صورة بنائية نخترعها، ثم تكون تلك الصورة
15
المعقولة محركة لأعضائنا إلى أن نوجدها. فلا تكون وجدت فعقلناها؛ ولكن عقلناها
16
فوجدت. ونسبة الكل إلى العقل الأول الواجب الوجود هو هذا؛ فإنه يعقل ذاته وما
17
توجبه ذاته، ويعلم من ذاته كيفية كون الخير فى الكل، فتتبع صورته المعقولة صورة
18
الموجودات على النظام المعقول عنده، لا على أنها تابعة اتباع الضوء للمضيء والإسخان
19
للحار، بل هو عالم بكيفية نظام الخير فى الوجود، وأنه عنه، وعالم بأن هذه العالمية يفيض
20
عنها الوجود على الترتيب الذى يعقله خيرا ونظاما.
292
1
[3] وعاشق ذاته التى هى مبدأ كل نظام، وخير من حيث هى كذلك، فيصير
2
نظام الخير معشوقا له بالعرض، لكنه لا يتحرك إلى ذلك عن شوق؛ فإنه لا ينفعل
3
منه البتة، ولا يشتاق شيئا ولا يطلبه. فهذه إرادته الخالية عن نقص يجلبة[*]يجلبة corrupt for يجلبه شوق وانزعاج
4
قصد إلى غرض. |364|[ed. Cairo vol. 2]
5
[4] ولا يظن أنه لو كانت للمعقولات عنده، صور وكثرة، كانت كثرة الصور التى
6
يعقلها أجزاء لذاته؛ وكيف، وهى تكون بعد ذاته؟ لأن عقله لذاته ذاته، ومنها يعقل كل
7
ما بعده؛ فعقله لذاته علة عقله ما بعد ذاته، فعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته. على أن
8
المعقولات والصور التى له بعد ذاته إنما هى معقولة على نحو المعقولات العقلية لا النفسانية؛
9
وإنما له إليها إضافة المبدأ الذى يكون عنه لا فيه، بل إضافات على الترتيب بعضها قبل
10
بعض، وإن كانت معا لا تتقدم ولا تتأخر فى الزمان. فلا يكون هناك انتقال فى المعقولات.
11
[5] ولا يظن أن الإضافة العقلية إليها إضافة إليها كيف وجدت. وإلا لكان كل
12
مبدأ صورة فى مادة من شأن تلك الصور أن تعقل بتدبير ما، من تجريد وغيره، ويكون
13
هو عقلا بالفعل، بل هذه الإضافة إليها وهى بحال معقولة. ولو كانت من حيث وجودها
14
فى الأعيان، لكان إنما يعقل ما يوجد فى كل وقت ولا يعقل المعدوم منها فى الأعيان
15
إلى أن يوجد، فيكون لا يعقل من نفسه أنه مبدأ ذلك الشىء على الترتيب إلا عندما
293
1
يصير مبدأ؛ فلا يعقل ذاته، لأن ذاته من شأنها أن يفيض عنها كل وجود، وإدراكها من
2
حيث شأنها إنها كذا يوجب إدراك الآخر وإن لم يوجد. فيكون العالم الربوبى محيطا
3
بالوجود الحاصل والممكن، ويكون لذاته إضافة إليها من حيث هى معقولة لا من حيث
4
لها وجود فى الأعيان.
5
[6] فبقى لك النظر فى حال وجودها معقولة أنها تكون موجودة فى ذات الأول
6
كاللوازم التى تلحقه، أو يكون لها وجود مفارق لذاته وذات غيره كصور مفارقة على ترتيب
7
موضوعة |365|[ed. Cairo vol. 2] فى صقع الربوبية، أو من حيث هى موجودة فى عقل أو نفس إذا عقل
8
الأول هذه الصور، ارتسمت فى أيها كان. فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوعة لتلك
9
الصور المعقولة، وتكون معقولة له على أنها فيه، ومعقولة من الأول على أنها عنه؛ ويعقل
10
الأول من ذاته أنه مبدأ لها. فيكون من جملة تلك المعقولات ما المعقول منه أن الأول مبدأ
11
له بلا واسطة، بل يفيض وجوده عنه أولا، وما المعقول منه أنه مبدأ له بتوسط فهو يفيض
12
عنه ثانيا. وكذلك يكون الحال فى وجود تلك المعقولات، وإن كان ارتسامها فى شىء،
13
واحد. لكن بعضها قبل وبعضها بعد، على الترتيب السبى و المسبى.
14
[7] وإذا كانت تلك الأشياء المرتسمة فى ذلك الشىء من معلولات الأول، فتدخل
15
فى جملة ما الأول يعقل ذاته مبدأ لها، فيكون صدورها عنه ليس على ما قلنا من أنه
16
إذا عقل خيرا وجد؛ لأنها نفس عقله للخير، أو يتسلسل الأمر؛ لأنه يحتاج أن يعقل أنها
17
عقلت، وكذلك إلى ما لانهاية، وذلك محال فهى نفس عقله للخير. فإذا قلنا لما عقلها
294
1
وجدت، ولم يكن معها عقل آخر، ولم يكن وجودها إلا أنها تعقلات، فإنما يكون كأنا قلنا
2
لأنه عقلها عقلها، أو لأنها وجدت عنه وجدت عنه.
3
[8] وإن جعلت هذه المعقولات أجزاء ذاته عرض تكثر. وإن جعلتها لواحق ذاته،
4
عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود لملاصقته ممكن الوجود. وإن جعلتها
5
أمورا مفارقة لكل ذات عرضت الصور الأفلاطونية. وإن جعلتها موجودة فى عقل، ما
6
عرض أيضا ما ذكرنا قبل هذا من المحال. |366|[ed. Cairo vol. 2]
7
[9] فينبغى أن تجتهد جهدك فى التخلص من هذه الشبهة، وتتحفظ أن لا تكثر
8
ذاته، ولا تبالى بأن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود. فإنها من حيث هى
9
علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاتها. وتعلم أن العالم الربوبى عظيم
10
جدا، وتعلم أنه فرق بين أن يفيض عن الشىء صورة من شأنها أن تعقل، وأن يفيض عن
11
الشىء صورة معقولة من حيث هى معقولة بلا زيادة. وهو يعقل ذاته مبدأ لفيضان كل
12
معقول من حيث هو معقول معلول، كما هو مبدأ لفيضان كل موجود من حيث هو موجود
13
معلول. ثم تجتهد فى تأمل الأصول المعطاة والمستقبلة ليتضح لك ما ينبغى أن يتضح.
14
[10] فالأول يعقل ذاته ونظام الخير الموجود فى الكل أنه كيف يكون بذلك النظام،
15
لأنه يعقله وهو مستفيض كائن موجود. وكل معلوم الكون، وجهة الكون عن مبدئه عند
16
مبدئه، وهو خير غير مناف، وهو تابع لخيرية ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتيهما،
17
فذلك الشىء مراد. لكن ليس مراد الأول هو على نحو مرادنا حتى يكون له فيما يكون
295
1
عنه غرض، فكأنك قد علمت استحالة هذا وستعلم، بل هو لذاته مريد هذا النحو من
2
الإرادة العقلية المحضة. وحياته هذا أيضا بعينه. فإن الحياة التى عندنا تكمل بإدراك وفعل
3
هو التحريك ينبعثان عن قوتين مختلفتين. وقد صح أن نفس مدركه ــ وهو ما يعقله عن
4
الكل ــ هو سبب الكل وهو بعينه مبدأ فعله. وذلك إيجاد الكل؛ فمعنى واحد منه هو
5
إدراك وسبيل إلى الإيجاد. فالحياة منه ليس مما تفتقر إلى قوتين حتى تتم بقوتين؛ ولا الحياة
6
منه غير العلم وكل ذلك له بذاته.
7
[11] وأيضا فإن الصور المعقولة التى تحدث فينا فتصير سببا للصورة الموجودة
8
الصناعية لو كانت بنفس وجودها كافية لأن تكون منها الصور الصناعية ــ بأن تكون صورها
9
بالفعل |367|[ed. Cairo vol. 2]مباديء لما هى له صور ــ لكان المعقول عندنا هو بعينه القدرة. ولكن ليس
10
كذلك، بل وجودها لا يكفى فى ذلك، لكن يحتاج إلى إرادة متجددة منبعثة من قوة شوقية
11
تتحرك منهما معًا القوة المحركة فتحرك العصب والأعضاء الأدوية، تم تحرك الآلات الخارجة،
12
ثم تحرك المادة. فلذلك لم يكن نفس وجود هذه الصور المعقولة قدرة ولا إرادة، بل عسى
13
القدرة فينا عند المبدأ المحرك، وهذه الصورة محركة لمبدأ القدرة، فتكون محركة المحرك.
14
[12] فواجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه، ولا مغايرة المفهوم لعلمه.
15
فقد بينا أن العلم الذى له بعينه هو الإرادة التى له. وكذلك قد تبين أن القدرة التى له
16
هى كون ذاته عاقلة للكل عقلا، هو مبدأ للكل لا مأخوذا عن الكل، ومبدأ بذاته، لا
17
يتوقف على وجود شىء. وهذه الإرادة على الصورة التى حققناها التى لا تتعلق بغرض
296
1
فى فيض الوجود، لا تكون غير نفس الفيض وهو الجود. فقد كنا حققنا لك من أمر
2
الجود ما إذا تذكرته علمت أن هذه الإرادة نفسها تكون جودا، وإذا حققت تكون الصفة
3
الأولى لواجب الوجود أنه إنُّ وموجود. ثم الصفات الأخرى بعضها يكون المعنى فيها
4
هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع سلب، وليس ولا واحد منها موجبا
5
فى ذاته كثرة البتة ولا مغايرة.
6
[13] فاللواتى تخالط السلب أنه لو قال قائل للأول، ولم يتحاش، إنه جوهر، لم
7
يعن إلا هذا الوجود، وهو مسلوب عنه الكون فى الموضوع. وإذا قال له: واحد، لم
8
يعن إلا هذا الوجود نفسه مسلوبا عنه القسمة بالكم أو القول، أو مسلوبا عنه الشريك
9
|368|[ed. Cairo vol. 2]وإذا قال: عقل وعاقل ومعقول، لم يعن بالحقيقة إلا أن هذا المجرد مسلوب عنه
10
جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما. وإذا قال له: أول، لم يعن إلا إضافة
11
هذا الوجود إلى الكل. وإذا قال له: قادر، لم يعن به إلا أنه واجب الوجود مضافا إلى
12
أن وجود غيره إنما يصح عنه على النحو الذى ذكر. وإذا قال له: حى، لم يعن إلا هذا
13
الوجود العقلى مأخوذا مع الإضافة إلى الكل المعقول أيضا بالقصد الثانى، إذ الحى هو
14
المدرك الفعال. وإذا قال له: مريد، لم يعن إلا كون واجب الوجود مع عقليته ــ أى سلب
15
المادة عنه ــ مبدأ لنظام الخير كله وهو يعقل ذلك، فيكون هذا مؤلفا من إضافة وسلب.
16
وإذا قال له: جواد، عناه من حيث هذه الإضافة مع السلب، بزيادة سلب آخر، وهو أنه لا
17
ينحو غرضا لذاته. وإذا قال له: خير، لم يعن إلا كون هذا الوجود مبرأ عن مخالطة ما
18
بالقوة والنقص وهذا سلب، أو كونه مبدأ لكل كمال ونظام وهذا إضافة.
297
1
[14] فإذا عقلت صفات الأول الحق على هذه الجهة، لم يوجد فيها شىء يوجب
2
لذاته أجزاء أو كثرة بوجه من الوجوه.
3
[15] ولا يمكن أن يكون جمال أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة، خيرية
4
محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحدة من كل جهة. فالواجب الوجود
5
له الجمال والبهاء المحض، وهو مبدأ جمال كل شىء وبهاء كل شىء. وبهاؤه هو أن يكون
6
على ما يجب له، فكيف جمال ما يكون على ما يجب فى الوجود الواجب؟ وكل جمال
7
وملاءمة |369|[ed. Cairo vol. 2] وخير مدرك فهو محبوب معشوق. ومبدأ ذلك كله إدراكه، إما الحسى،
8
وأما الخيالى وأما الوهمى وأما الظنى، وأما العقلى. وكلما كان الإدراك أشد اكتناهًا
9
وأشد تحقيقًا والمدرك أكمل وأشرف ذاتا، فإحباب القوة المدركة إياه والتذاذها به أكثر.
10
[16] فالواجب الوجود الذى هو فى غاية الكمال والجمال والبهاء الذى يعقل
11
ذاته بتلك الغاية والبهاء والجمال، وبتمام التعقل، وبتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد
12
بالحقيقة، تكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق وأعظم لاذ وملتذ. فإن اللذة ليست
13
إلا إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم. فالحسية إحساس الملائم، والعقلية تعقل الملائم.
14
وكذلك، فالأول أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك. فهو أفضل لاذ وملتذ، ويكون
15
ذلك أمرا لا يقاس إليه شىء. وليس عندنا لهذه المعانى أسام غير هذه الأسامى، فمن
16
استبشعها استعمل غيرها.
298
1
[17] ويجب أن يعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس،
2
لأنه ــ أعنى العقل ــ يعقل ويدرك الأمر الباقى الكلى، ويتحد به ويصير هو هو على
3
وجه ما، ويدركه بكنهه لا بظاهره، وليس كذلك الحس للمحسوس؛ فاللذة التى تجب لنا
4
بأن نعقل ملائمًا، هى فوق اللذة التى تكون لنا بأن نحس ملائما. ولا نسبة بينهما. لكنه
5
قد يعرض أن تكون القوة المدركة لا تستلذ بما يجب أن تستلذ به لعوارض، كما أن المريض
6
لا يستلذ الحلو، ويكرهه لعارض. فكذلك يجب أن يعلم من حالنا ما دمنا فى البدن.
7
فإذا حصل لقوتنا العقلية كمالها بالفعل لا تجد من اللذة ما يجب للشىء فى نفسه؛ وذلك
8
|370|[ed. Cairo vol. 2]لعائق البدن. ولو انفردنا عن البدن، كنا بمطالعتنا ذاتنا، وقد صارت عالما عقليا
9
مطابقا للموجودات الحقيقية، والجمالات الحقيقية، واللذات الحقيقية، متصلة بها اتصال
10
معقول بمعقول، نجد من اللذة والبهاء ما لا نهاية له. وسنوضح هذه المعانى كلها بعد.
11
[18] واعلم أن لذة كل قوة حصول كمالها لها؛ فللحس المحسوسات الملائمة،
12
وللغضب الانتقام، وللرجاء الظفر، ولكل شىء ما يخصه، وللنفس الناطقة مصيرها عالما
13
عقليا بالفعل. فالواجب الوجود معقول، عقل أو لم يعقل، ومعشوق، عشق أو لم يعشق.
299
1
المقالة التاسعة
2
فى صدور الأشياء عن التدبير الأول والمعاد إليه
3
سبعة فصول
4
[الفصل الأول]
5
ا فصل
6
فى صفة فاعلية المبدأ الأول
7
[1] |373|[ed. Cairo vol. 2]فقد ظهر لنا أن للكل مبدأ واجب الوجود، غير داخل فى جنس أو
8
واقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف والماهية و الأين و المتى والحركة، لا ند
9
له ولا شريك له ولا ضد له، وأنه واحد من جميع الوجوه؛ لأنه غير منقسم: لا فى الأجزاء
10
بالفعل ولا فى الأجزاء بالفرض والوهم كالمتصل، ولا فى العقل بأن تكون ذاته مركبة من
11
معان عقلية متغايرة تتحد منها جملة؛ وأنه واحد من حيث هو غير مشارك البتة فى
12
وجوده الذى له. فهو بهذه الوحدة فرد. وهو واحد لأنه تام الوجود ما بقى له شىء ينتظر
13
حتى يتم، وقد كان هذا أحد وجوه الواحد. وليس الواحد فيه إلا على الوجه السلبى،
14
ليس كالواحد الذى للأجسام، لاتصال أو اجتماع، أو غير ذلك مما يكون الواحد فيه
15
بوحدة هى معنى وجودى يلحق ذاتا أو ذواتا.
300
1
[2] وقد أتضح لك فيما سلف من العلوم الطبيعية وجود قوة غير متناهية غير
2
مجسمة، وأنها مبدأ الحركة الأولية، وبان لك أن الحركة المستديرة ليست متكونة تكونا
3
زمانيا، وقد بان لك من هناك من وجه ما أنه مبدأ دائم الوجود. وقد بان لك بعد ذلك أن
4
واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وأنه لا يجوز أن تستأنف له حالة
5
لم تكن، مع أنه قد بان لك أن العلة لذاتها تكون موجبة المعلول. فإن دامت أوجبت المعلول
6
دائما. ولو اكتفيت بتلك الأشياء لكفاك ما نحن فى شرحه، إلا أنا نزيدك بصيرة. |374|[ed. Cairo vol. 2]
7
[3] فنقول: إنك قد علمت أن كل حادث فله مادة، فإذا كان لم يحدث ثم حدث لم
8
يخل، إما أن تكون علتا الفاعلية والقابلية لم تكونا فحدثتا، أو كانتا، ولكن كان الفاعل لا
9
يحرك والقابل لا يتحرك، أو كان الفاعل ولم يكن القابل، أو كان القابل ولم يكن الفاعل.
10
[4] ونقول قولا مجملا قبل العود إلى التفصيل، إنه إذا كانت الأحوال من جهة العلل
11
كما كانت ولم يحدث البتة أمر لم يكن، كان وجوب كون الكائن عنها، أولا وجوبه، على
12
ما كان؛ فلم يجز أن يحدث كائن البتة.
13
[5] فإن حدث أمر لم يكن، فلا يخلو: إما أن يكون حدوثه على سبيل ما
14
يحدث، لحدوث علته دفعة، لا على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها، أو يكون
15
حدوثه على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. فأما القسم الأول فيجب أن يكون
16
حدوثه لحدوث العلة ومعها غير متأخر عنها البتة؛ فإنه إن كانت العلة غير موجودة ثم
17
وجدت، أو موجودة وتأخر عنها المعلول، لزم ما قلناه فى الأول من وجوب حادث آخر
301
1
غير العلة، فكان ذلك الحادث هو العلة القريبة. فإن تمادى الأمر على هذه الجهة، وجبت
2
علل وحوادث دفعة غير متناهية، ووجبت معا. وهذا مما عرفنا الأصل القاضى بإبطاله.
3
فبقى أن لا تكون العلل الحادثة كلها دفعة لا لقرب من علة أولى أو بعد.
4
[6] فبقى أن مبادئ الكون تنتهى إلى قرب علل أو بعدها، وذلك بالحركة. فإذن قد
5
كان قبل الحركة حركة، وتلك الحركة أوصلت العلل إلى هذه الحركة، فهما كالمتماسين، وإلا
6
رجع الكلام إلى الرأس فى الزمان الذى بينهما. وذلك أنه إن لم تماسه حركة كانت |375|[ed. Cairo vol. 2]
7
الحوادث الغير المتناهية منها فى آن واحد، إذ لا يجوز أن تكون فى آنات متلاقية متماسة،
8
فاستحال ذلك، بل يجب أن يكون واحد قد قرب فى ذلك الآن بعد بُعد، أو بعد قرب؛
9
فيكون ذلك الآن نهاية حركة أولى تؤدى إلى حركة أخرى، أو أمر آخر. فإن أدت إلى
10
حركة أخرى وأوجبت، كانت الحركة التى هى كعلة قريبة لهذه الحركة مماسة لها.
11
[7] والمعنى فى هذه المماسة مفهوم، على أنه لا يمكن أن يكون زمان بين حركتين
12
ولا حركة فيه. فإنه قد بان لنا فى الطبيعيات أن الزمان تابع للحركة، ولكن الاشتغال بهذا
13
النحو من البيان يعرفنا [إن] كانت حركة قبل حركة، ولا يعرفنا أن تلك الحركة كانت
14
علة لحدوث هذه الحركة اللاحقة.
15
[8] فقد ظهر ظهورا واضحا أن الحركة لا تحدث بعد ما لم تكن إلا لحادث وذلك
16
الحادث لا يحدث إلا بحركة مماسة لهذه الحركة. ولا تبالى أى حادث كان ذلك الحادث:
17
كان قصدا من الفاعل، أو إرادة، أو علما، أو آلة، أو طبعا، أو حصول وقت أوفق للعمل
18
دون وقت، أو حصول تهيؤ أو استعداد من القابل لم يكن، أو وصول من المؤثر لم يكن.
19
فإنه كيف كان، فحدوثه متعلق بالحركة، لا يمكن غير هذا.
302
1
[9] ولنرجع إلى التفصيل فنقول: إن كانت العلة الفاعلية والقابلية موجودتى
2
الذات، ولا فعل ولا انفعال بينهما، فيحتاج إلى وقوع نسبة بينهما توجب الفعل والانفعال.
3
أما من جهة الفاعل، فمثل إرادة موجبة للفعل، أو طبيعة موجبة للفعل، أو آلة أو زمان.
4
|376|[ed. Cairo vol. 2]وأما من جهة القابل، فمثل استعداد لم يكن. أو من جهتيهما جميعا مثل وصول
5
أحدهما إلى الآخر. وقد وضح أن جميع هذا بحركة ما.
6
[10] وأما إن كان الفاعل موجودا ولم يكن قابل البتة، فهذا محال: أما أولا؛ فلأن
7
القابل كما بينا لا يحدث إلا بحركة أو اتصال فيكون قبل الحركة حركة. وأما ثانيا، فإنه لا
8
يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل، وهو المادة، فيكون قد كان القابل حتى حدث
9
القابل. وأما إن وضع أن القابل موجود والفاعل ليس بموجود، فالفاعل يحدث ويلزم أن
10
يكون حدوثه بعلة ذات حركة على ما وصفناه.
11
[11] وأيضا مبدأ الكل ذات واجبة الوجود، وواجب الوجود واجب ما يوجد
12
عنه، وإلا فله حال لم يكن فليس واجب الوجود من جميع جهاته. فإن وضعت الحال
13
الحادثة لا فى ذاته، بل خارجة عن ذاته كما يضع بعضهم الإرادة، فالكلام على حدوث
14
الإرادة عنها ثابت، هل هو بإرادة أو طبع، أو لأمر آخر أى أمر كان؟ ومهما وضع أمر
15
حدث لم يكن؛ فإما أن يوضع حادثا فى ذاته، وإما غير حادث فى ذاته، بل على أنه
16
شىء مباين لذاته، فيكون الكلام ثابتا. وأن حدث فى ذاته، كان ذاته متغيرا، وقد بُيَّن
17
أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته. |377|[ed. Cairo vol. 2]
18
[12] وأيضا إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها، ولم
19
يعرض البتة شىء لم يكن، وكان الأمر على ما كان ولا يوجد عنه شىء، فليس يجب
303
1
أن يوجد عنه شىء بل يكون الحال والأمر على ما كان. فلا بد من مميز لوجوب الوجود
2
عنه، وترجيح للوجود عنه بحادث متوسط لم يكن حين كان الترجيح للعدم عنه، وكان
3
التعطل عن الفعل حاله. وليس هذا أمرا خارجا عنه؛ فإنا نتكلم فى حدوث الحادث عنه
4
نفسه بلا واسطة أمر يحدث فيحدث به الثانى، كما يقولون فى الإرادة والمراد.
5
[13] والعقل الصريح الذى لم يكدر يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع
6
جهاتها كما كانت، وكان لا يوجد عنها فيما قبل شىء، وهى الآن كذلك، فالآن أيضا
7
لا يوجد عنها شىء. فإذا صار الآن يوجد عنها شىء، فقد حدث فى الذات قصد
8
وإرادة، أو طبع، أو قدرة وتمكن، أو شىء مما يشبه هذا لم يكن. ومن أنكر هذا، فقد
9
فارق مقتضى عقله لسانا ويعود إليه ضميرا. فإن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد، لا يخرج
10
إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذا كانت هذه الذات التى للعلة كما كانت
11
ولا تترجح، ولا يجب عنها هذا الترجيح، ولا داعى ولا مصلحة ولا غير ذلك، فلا بد
12
من حادث موجب للترجيح فى هذه الذات إن كانت هى العلة الفاعلية، وإلا كانت نسبتها
13
إلى ذلك الممكن على ما كان قبل، ولا تحدث لها نسبة أخرى؛ فيكون الأمر بحاله، ويكون
14
الإمكان إمكانا صرفا بحاله.
15
[14] وإذا حدث لها نسبة فقد حدث أمر، ولا بد من أن يحدث لذاته وفى ذاته.
16
فانها إن كانت خارجة عن ذاته كان الكلام ثابتا، ولم تكن هى النسبة المطلوبة؛ فإنا نطلب
17
|378|[ed. Cairo vol. 2]النسبة الموافقة لوجود كل ما هو خارج عن ذاته بعد ما لم يكن أجمع، كأنها
18
جملة واحدة وفى حال ما لم يوجد شىء؛ و إلا فقد أخرج من الجملة شىء ونظر فى حال
19
ما بعده. فإن كان مبدأ النسبة مباينا له، فليست هى النسبة المطلوبة؛ فإذن الحادث الأول
304
1
يكون على هذا القول فى ذاته؛ لكنه محال فكيف يمكن أن يحدث فى ذاته شىء،
2
وعمن يحدث، وقد بان أن واجب الوجود بذاته واحد؟
3
[15] فيرى أن ذلك غير الحادث منه فيكون ليست النسبة المطلوبة؛ لأنا نطلب
4
النسبة الموجبة لخروج الممكن الأول إلى الفعل، أهى عن واجب وجود آخر؟ وقد قيل إن
5
واجب الوجود واحد. وعلى أنه إن كان عن آخر، فهو العلة الأولى والكلام فيه ثابت. ثم
6
كيف يجوز أن يتميز فى العدم وقت ترك ووقت شروع؟ وبماذا يخالف الوقت الوقت؟
7
[16] وأيضا، إذ بان أن الحادث لا يحدث الا لحدوث حال فى المبدأ؛ فلا
8
يخلو إما أن يكون حدوث ما يحدث عن الأول بالطبع، أو بعرض فيه عن غير الإرادة،
9
أو بالإرادة؛ إذ ليس بقسرى ولا اتفاقى. فإن كان بالطبع، فقد تغير الطبع، أو كان
10
بالعرض فقد تغير العرض.
11
[17] وإن كان بالإرادة، فلنترك أنها حدثت فيه أو مباينة له، بل نقول: إما أن
12
يكون المراد نفس الإيجاد، أو غرضا، ومنفعة بعده. فإن كان المراد نفس الإيجاد لذاته،
13
فلم لم يوجد قبل؟ أتراه استصلحه الآن؟ أو حدث وقته؟ أو قدر عليه الآن؟ ولا معنى
14
|379|[ed. Cairo vol. 2]فيما يقوله القائل: إن هذا السؤال باطل؛ لأن السؤال فى كل وقت عائد، بل هذا
15
سؤال حق لأنه فى كل وقت عائد ولازم.
16
[18] وإن كان لغرض ومنفعة، فمعلوم أن الذى هو للشىء بحيث كونه ولا
17
كونه بمنزلة فليس لغرض، والذى هو للشىء بحيث كونه منه أولى فهو نافع؛ والحق الأول
18
كامل الذات لا ينتفع بشىء.
305
1
[19] وأيضا فإن الأول بماذا سبق أفعاله الحادثة؟ أبذاته؟ أم بالزمان؟ فإن
2
كان بذاته فقط مثل الواحد للاثنين ــ وإن كانا معا ــ وحركة المتحرك ــ بأن يتحرك
3
بحركة ما يتحرك عنه وإن كانا معا ــ فيجب أن يكونا كلاهما محدثين: الأول القديم،
4
والأفعال الكائنة عنه.
5
[20] وإن كان قد سبق لا بذاته فقط، بل بذاته والزمان بأن كان وحده ولا عالم
6
ولا حركة ــ ولا شك أن لفظة «كان» تدل على أمر مضى وليس الآن، وخصوصا ويعقبه
7
قولك «ثم» ــ فقد كان كون مضى قبل أن خلق الخلق، وذلك الكون هو متناه، فقد كان إذن
8
زمان قبل الحركة والزمان، لأن الماضى إما بذاته وهو الزمان، وإما بالزمان، وهو الحركة
9
وما فيها وما معها؛ فقد بان لك هذا.
10
[21] فإن لم يسبق بأمر هو ماض للوقت الأول من حدوث الخلق، فهو حادث مع
11
حدوثه. وكيف لا يكون سبق على أوضاعهم بأمر ما للوقت الأول من الخلقة، وقد كان
12
ولا خلق، وكان وخلق؟ وليس «كان ولا خلق» ثابتا عند كونه «كان وخلق» ولا «كونه
13
قبل الخلق» ثابت «مع كونه مع الخلق» وليس «كان ولا خلق» نفس وجوده وحده. فإن
14
ذاته حاصلة بعد الخلق. ولا «كان ولا خلق» هو وجوده مع عدم الخلق بلا شىء ثالث.
15
فإن وجود ذاته حاصل بعد الخلق، وعدم الخلق موصوف بأنه قد كان وليس الآن. |380|[ed. Cairo vol. 2]
16
[22] وتحت قولنا: «كان» معنى معقول دون معقول الأمرين؛ لأنك إذا قلت:
17
«وجود ذات وعدم ذات» لم يكن مفهوما منه السبق، بل قد يصح أن يفهم معه التأخر؛
18
فإنه لو عدمت الأشياء صح وجوده وعدم الأشياء، ولم يصح أن يقال لذلك «كان»؛
306
1
بل إنما يفهم السبق بشرط ثالث. فوجود الذات شىء، وعدم الذات شىء، ومفهوم
2
كان شىء موجود غير المعنيين. وقد وضع هذا المعنى للخالق ممتدا لا عن بداية،
3
وجوّز فيه أن يخلق قبل أى خلق توهم فيه خلقا. فإذا كان هكذا، كانت هذه القبيلة
4
مقدرة مكمّمة، وهذا هو الذى نسميه الزمان، إذ تقديره ليس تقدير ذى وضع ولا ثبات،
5
بل على سبيل التجدد.
6
[23] ثم إن شئت فتأمل أقاويلنا الطبيعية؛ إذ بينا أن ما يدل عليه معنى «كان
7
ويكون» عارض لهيئة غير قارة. والهيئة غير القارة هى الحركة. فإذا تحققت علمت أن الأول
8
إنما سبق الخلق عندهم ليس سبقا مطلقا، بل سبقا بزمان معه حركة وأجسام أو جسم.
9
[24] وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله عن جوده لا يخلو: إما أن يسلموا أن الله
10
كان قدرا قبل أن يخلق الخلق، أن يخلق جسما ذا حركات بقدر أوقات وأزمنة تنتهى إلى
11
وقت خلق العالم، أو يبقى مع خلق العالم ويكون له إلى وقت خلق العالم أوقات وأزمنة
12
محدودة، أو لم يكن للخالق أن يبتديء الخلق إلا حين ابتدأ. وهذا القسم الثانى يوجب انتقال
13
الخالق من العجز إلى القدرة، أو انتقال المخلوقات من الامتناع إلى الإمكان بلا علة. |381|[ed. Cairo vol. 2]
14
[25] والقسم الأول يقسم عليهم قسمين، فيقال: لا يخلو إما أن يكون كان يمكن أن
15
يخلق الخالق جسما غير ذلك الجسم إنما ينتهى إلى خلق العالم بمدة وحركات أكثر، أولا
16
يمكن. ومحال أن لا يمكن، لما بيناه. فإن أمكن فإما أن يمكن خلقه مع خلق ذلك الجسم
17
الأول الذى ذكرنا قبل هذا الجسم، أو إنما يمكن قبله. فإن أمكن معه، فهو محال؛ لأنه لا
18
يمكن أن يكون ابتداء خلقين متساويى الحركة فى السرعة و البطء، ويقع بحيث ينتهيان إلى
307
1
خلق العالم، ومدة أحدهما أطول من الآخر. وإن لم يمكن معه، بل كان إمكانه مباينا له،
2
متقدما عليه، أو متأخرا عنه، يقدر فى حال العدم إمكان خلق شيْ ولا إمكانه، وذلك
3
فى حال دون حال، وقع ذلك متقدما و متأخرا، ثم ذلك إلى غير نهاية.
4
[26] فقد، وضح صدق ما قدمناه من وجود حركة لا بدء لها فى الزمان، وإنما
5
البدء لها من جهة الخالق، وإنها هى الحركات السماوية. فيجب أن يعلم أن العلة القريبة
6
للحركة الأولى نفس لا عقل، وأن السماء حيوان مطيع لله تبارك وتعالى.
7
[الفصل الثاني]
8
ب فصل
9
فى أن المحرك القريب للسماويات لا طبيعة ولا عقل، بل نفس، والمبدأ الأبعد عقل
10
[1] فنقول: إنا قد بينا فى الطبيعيات أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم على
11
الإطلاق؛ والجسم على حالته الطبيعية إذا كان كل حركة بالطبع مفارقة بالطبع لحالة،
12
والحالة التى تفارق |382|[ed. Cairo vol. 2] بالطبع هى حالة غير طبيعية لا محالة، فظاهر أن كل حركة
13
تصدر عن طبع فمن حالة غير طبيعية. ولو كان شىء من الحركات مقتضى طبيعة الشىء لما
14
كان شىء من نسب الحركات باطل الذات مع بقاء الطبيعة. بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة
15
لوجود حال غير طبيعية: إما فى الكيف، كما إذا سخن الماء بالقسر، وإما بالكم كما
16
يذبل البدن الصحيح ذبولا مرضيا، وإما فى المكان، كما إذا نقلت المدرة إلى حيز الهواء.
17
وكذلك إذا كانت الحركة قد تكون فى مقولة أخرى. والعلة فى تجدد حركة بعد حركة
18
تجدد الحال الغير الطبيعية، وتقدير البعد عن الغاية.
308
1
[2] فإذا كان الأمر على هذه الصفة، لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة؛ وإلا
2
كانت عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية، وإذا وصلت إليها سكنت. ولم يجز أن
3
يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية، لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار،
4
بل على سبيل التسخير، وسبيل ما يلزمها بالذات. فإن كانت الطبيعة تحرك على سبيل
5
الاستدارة فهى تحرك لا محالة: إما من أين غير طبيعى، أو وضع غير طبيعى، هربا طبيعيا
6
عنه؛ وكل هرب طبيعى عن شىء فمحال أن يكون هو بعينه قصدا طبيعيا إليه. والحركة
7
المستديرة تفارق كل نقطة، وتتركها، وتقصد فى تركها تلك النقطة. وليست تهرب عن
8
شىء إلا وتقصده. فليست إذن الحركة المستديرة طبيعية. |383|[ed. Cairo vol. 2]
9
[3] إلا إنها قد تكون بالطبع، أى ليس وجودها فى جسمها مخالفا لمقتضى طبيعة
10
أخرى لجسمها. فإن الشىء المحرك لها وإن لم يكن قوة طبيعية كان شيئا طبيعيا لذلك الجسم
11
غير غريب عنه؛ فكأنه طبيعته.
12
[4] وأيضا فإن كل قوة فإنما تحرك متوسط الميل، والميل هو المعنى الذى يحس فى
13
الجسم المتحرك؛ وإن سكن قسرا أحس ذلك الميل فيه يقاوم المسكن مع سكونه طلبا
14
للحركة. فهو غير الحركة لا محالة، وغير القوة المحركة لأن القوة المحركة تكون موجودة عند
15
إتمامها الحركة ولا يكون الميل موجودا. فهكذا أيضا الحركة الأولى؛ فإن محركها لا يزال
16
يحدث فى جسمها ميلا بعد ميل. وذلك الميل لا يمتنع أن يسمى طبيعة، لأنه ليس بنفس،
17
ولا من خارج، ولا له إرادة أو اختيار، ولا يمكنه أن لا يحرك، أو يحرك إلى غير جهة
18
محدودة، ولا هو مع ذلك مضاد لمقتضى طبيعة ذلك الجسم الغريب. فإن سميت هذا
19
المعنى طبيعة كان لك أن تقول: إن الفلك يتحرك بالطبيعة، إلا أن طبيعته فيض عن نفس
20
يتجدد بحسب تصور النفس. فقد بان أن الفلك ليس مبدأ حركة طبيعية، وكان قد بان
21
أنه ليس قسرا، فهى عن إرادة لا محالة.
309
1
[5] ونقول: إنه لا يجوز أن يكون مبدأ حركته القريب قوة عقلية صرفة لا يتغير ولا
2
يتخيل الجزئيات البتة. وكأنا قد أشرنا إلى جمل مما تعين فى معرفة هذا المعنى فى الفصول
3
المتقدمة، وأوضحنا أن الحركة معنى متجدد النسب، وكل شطر منه مخصص بنسب
4
فإنه لا ثبات له، ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت البتة وحده؛ فإن كان عن معنى ثابت
5
فيجب أن يلحقه |384|[ed. Cairo vol. 2] ضرب من تبدل الأحوال. أما إن كانت الحركة عن طبيعة فيجب
6
أن تكون كل حركة تتجدد فيه فلتجدد قرب وبعد من انهاية المطلوبة، وكل حركة تعدم
7
منه فلعدم قرب وبعد من النهاية. ولو لا ذلك التجدد لم يكن تجدد حركة. فإن الثابت من
8
جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت. وأما إن كانت عن إرادة فيجب أن تكون عن
9
إرادة متجددة جزئية. فإن الإرادة الكلية نسبتها إلى كل شطر من الحركة نسبة واحدة؛ فلا
10
يجب أن تتعين منها هذه الحركة دون هذه. فإنها إن كانت لذاتها علة لهذه الحركة، لم يجز
11
أن تبطل هذه الحركة، وإن كانت علة لهذه الحركة بسبب حركة قبلها أو بعدها معدومة،
12
كان المعدوم موجبا لموجود، والمعدوم لا يكون موجبا لموجود، وإن كان قد تكون الأعدام
13
علة للأعدام. وأما أن يوجب المعدوم شيئا فهذا لا يمكن. وإن كانت علة لأمور تجدد،
14
فالسؤال فى تجددها ثابت. فان كان تجددا طبيعيا لزم المحال الذى قدمناه، وإن كان إراديا
15
يتبدل بحسب تصورات متجددة فهو يثبت الذى نريده.
16
[6] فقد بان أن الإرادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة، ولكن قد يمكن أن
17
يتوهم أن ذلك لإرادة عقلية منتقلة؛ فإنه قد يمكن أن ينتقل العقل من معقول إلى معقول
310
1
آخر، إذا لم يكن عقلا من كل جهة بالفعل، ويمكن أن يعقل الجزئى تحت النوع منتشرًا
2
مخصوصا بعوارض، عقلا بنوع كلى على ما أشرنا إليه. فيجب إذن أن يتوهم وجود
3
عقل يعقل الحركة الكلية ويريدها، ثم يعقل انتقاله من حد إلى حد، ويأخذ تلك الحركات
4
وحدودها بنوع معقول على ما أوضحناه، وعلى ما من شأننا أن نبرهن عليه |385|[ed. Cairo vol. 2]
5
من أن حركة من كذا إلى كذا فهو من كذا إلى كذا، فتعين مبدأ ما كليا إلى طرف آخر
6
كلى بمقدار ما موهوم كلى، وكذلك حتى تفنى الدائرة. فلا يبعد أن يتوهم أن تجدد الحركة
7
يتبع تجدد هذا المعقول.
8
[7] فنقول: ولا على هذا السبيل يمكن أن يتم أمر الحركة المستديرة؛ فإن هذا التأثير
9
على هذا الوجه يكون صادرا عن الإرادة الكلية، وإن كانت على سبيل تجدد وانتقال.
10
والإرادة الكلية كيف كانت فإنما هى بالقياس إلى طبيعة مشترك فيها، وإن كانت إرادة
11
لحركة تتبعها إرادة لحركة. وأما هذه الحركة التى من ههنا بعينه إلى هناك بعينه فليست
12
أولى بأن تصدر عن تلك الإرادة من هذه الحركة التى من هناك إلى حد ثالث. فنسبة
13
جميع أجزاء الحركة المتساوية فى الجزئية إلى واحد واحد من تلك الإرادات الجزئية العقلية
14
المنتقلة واحدة، وليس جزء من ذلك أولى بأن ينسب إلى واحد من تلك التصورات من أن
15
لا ينسب. فنسبته إلى مبدئه ولا نسبته واحدة؛ فإنه بعد عن مبدئه بإمكان ولم يتميز، ولم
16
يترجح وجوده عن لا وجوده. وكل ما لم يجب عن علته فإنه لا يكون، كما قد علمت.
17
[8] وكيف يصح أن يقال: إن الحركة من «ا» إلى «ب» لزمت عن إرادة عقلية،
18
والحركة من «ب» إلى «ج» من إرادة أخرى عقلية، دون أن يلزم عن كل واحدة من تلك
19
الإرادات غير ما لزم من الأخرى، ويكون بالعكس؟ فإن «ا» و «ب» و «ج» متشابهة
311
1
بالنوع، وليس شىء من الإرادات الكلية بحيث يعين «ا» دون |386|[ed. Cairo vol. 2] «ب» و «ب»
2
دون «ج.» وليس «الألف» أولى بأن يتعين من «الباء» و«الجيم» عن تلك الإرادة ما
3
كانت عقلية، ولا «الباء» من «الجيم» إلا أن تصير نفسانية جزئية. وإذا لم تتعين تلك
4
الحدود فى العقل بل كانت حدودا كلية فقط، لم يمكن أن توجد الحركة من «أ» إلى «ب»
5
أولى من التى من «ب» إلى «ج» ولا «الألف» أولى بأن يتعين من «ب» و«ج» عن تلك
6
الإرادة ما كانت عقلية، ولا «الباء» من «الجيم».
7
[9] ثم كيف يمكن أن نفرض فيها إرادة وتصورا، ثم إرادة وتصورا يختلفان فى أمر
8
متفق، ولا استناد فيه إلى مخصص شخص يقاس به؟ ومع هذا كله فإن العقل لا يمكنه
9
أن يفرض هذا الانتقال إلا مشاركا للتخيل والحس. ولا يمكننا إذا رجعنا إلى العقل الصريح
10
أن نعقل جملة الحركة وأجزاء الانتقال العقلى فيما نعقله دائرة معا. فإذن على الأحوال كلها
11
لا غنى عن قوة نفسانية تكون هى المبدأ القريب للحركة، وإن كنا لا نمنع أن يكون هناك
12
أيضا قوة عقلية تنتقل هذا الانتقال العقلى بعد استناده إلى شبه تخيل. وأما القوة العقلية
13
مجردة عن جميع أصناف التغير فتكون حاضرة المعقول دائما، إن كان معقوله كليا عن
14
كلى، أو كليا عن جزئى، على ما أوضحناه.
15
[10] فإذا كان الأمر على هذا، فالفلك يتحرك بالنفس، والنفس مبدأ حركته
16
القريبة. وتلك النفس متجددة التصور والإرادة، وهى متوهمة، أى لها إدراك للمتغيرات
17
كالجزئيات وإرادة لأمور جزئية بأعينها؛ وهى كمال جسم الفلك وصورته. ولو كانت لا
18
هكذا، بل قائمة بنفسها من كل وجه، لكانت عقلا محضا لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالطه
19
|387|[ed. Cairo vol. 2]ما بالقوة. والمحرك القريب للفلك، وإن لم يكن عقلا، فيجب أن يكون قبله عقل،
312
1
هو السبب المتقدم لحركة الفلك. فقد علمت أن هذه الحركة محتاجة إلى قوة غير متناهية،
2
مجردة عن المادة لا تتحرك بالذات ولا بالعرض.
3
[11] وأما النفس المحركة فإنها ــ كما تبين لك ــ جسمانية مستحيلة ومتغيرة
4
وليست مجردة عن المادة، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التى لنا إلينا، إلا
5
أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلا مشوبا بالمادة. وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشبه الأوهام
6
صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقة، كالعقل العملى فينا. وبالجملة إدراكاتها
7
بالجسم ولكن المحرك الأول لها قوة غير مادية أصلا بوجه من الوجوه. وإذ ليس يجوز أن
8
يتحرك بوجه من الوجه فى أن يحرك، وإلا لاستحالت ولكانت مادية ــ كما قد تبين
9
هذا ــ فيجب أن يحرك كما يحرك محرك بتوسط المحرك الآخر، وذلك الآخر محاول
10
للحركة مريد لها متغير بسببها. وهذا هو النحو الذى يحرك عليه محرك المحرك.
11
[12] والذى يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واشتياق فهو الغاية، والغرض
12
الذى إليه ينحو المحرك، وهو المعشوق. والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق؛
13
بل نقول: إن كل متحرك حركة غير قسرية فهى هى إلى أمر ما، ولتشوق أمر ما، حتى
14
الطبيعة أيضا؛ فإن شوق الطبيعة أمر طبيعى، وهو الكمال الذاتى للجسم، إما فى
15
صورته، وإما فى أينه ووضعه؛ وشوق الإرادة أمر إرادى، إما إرادة لمطلوب حسى
16
كاللذة، أو وهمى خيالى كالغلبة، أو ظنى وهو الخير المظنون. فطالب اللذة هو الشهوة،
17
وطالب الغلبة |388|[ed. Cairo vol. 2] هو الغضب، وطالب الخير المظنون هو الظن، وطالب الخير
18
الحقيقى المحض هو العقل. ويسمى هذا الطلب اختيارا. والشهوة والغضب غير ملائم
19
لجوهر الجسم الذى لا يتغير ولا ينفعل؛ فإنه لا يستحيل إلى حال غير ملائمة، فيرجع إلى
313
1
حال ملائمة، فيلتذ أو ينتقم من مخيل له فيغضب. وعلى أن كل حركة إلى لذيذ أو غلبة
2
فهى متناهية. وأيضا فإن أكثر المظنون لا يبقى مظنونا سرمديا.
3
[13] فوجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختيارا وإرادة لخير حقيقى، فلا يخلو ذلك
4
الخير: إما أن يكون مما ينال بالحركة فيتوصل إليه، أو يكون خيرا ليس جوهره مما ينال بوجه،
5
بل هو مباين؛ ولا يجوز أن يكون ذلك الخير من كمالات الجوهر المتحرك فينال بالحركة، وإلا
6
لانقطعت الحركة، ولا يجوز أن يكون يتحرك ليفعل فعلا يكتسب بذلك الفعل كمالا، كما من
7
شأننا أن نجو