0
0
المدخل
5
2
الجملة الأولى فى المنطق وهى تسعة فنون
3
الفن الأول من الجملة الأولى فى المدخل وهو مقالتان.
4
المقالة الأولى منها تشتمل على أربعة عشر فصلا.
5
[الأول] (ا) فى الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب.
6
[الثانى] (ب) فى التنبيه على العلوم والمنطق.
7
[الثالث] (ج) فى منفعة المنطق.
8
[الرابع] (د) فى موضوع المنطق.
9
[الخامس] (ه) فى تعريف اللفظ المفرد، والمؤلف، والكلّى، والجزئى،
10
والعَرَضى، والذاتى، والذى يقال فى جواب ما هو،
11
والذى لا يقال.
12
[السادس] (و) فى تعقب ما قاله الناس فى الذاتى والعرضى.
13
[السابع] (ز) فى تعقب ما قاله الناس فى الدال على الماهية.
14
[الثامن] (ح) فى قسمة اللفظ المفرد الكلى إلى أقسامه الخمسة.
15
[التاسع] (ط) فى الجنس.
16
[العاشر] (ى) فى النوع ووجه انقسام الكلى إليه.
17
[الحادى عشر] (يا) فى تعقب رسوم النوع.
18
[الثانى عشر] (يب) فى الطبيعى، والعقلى، والمنطقى، وما قَبْل الكثرة،
19
وفى الكثرة، وبَعْد الكثرة.
20
[الثالث عشر] (يج) فى الفصل.
21
[الرابع عشر] (يد) فى الخاصة والعرض العام.
6
1
المقالة الثانية تشتمل على أربعة فصول
2
[الأول] (ا) فى المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة وأولها بعد
3
العامة ما بين الجنس والفصل.
4
[الثانى] (ب) فى المشاركة والمباينة بين الجنس والنوع.
5
[الثالث] (ج) فى المشاركات والمباينات الباقية.
6
[الرابع] (د) فى مناسبة بعض هذه الخمسة مع بعض.
7
1
المقالة الأولى
9
1
المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى
2
وهى فى علم المنطق
3
[الفصل الأول]
4
فصل فى الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب
5
قال الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، أحسن الله إليه:
6
وبعد حمد الله، والثناء عليه كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين،
7
فإنَّ غَرَضَنا فى هذا الكتاب الذى نرجو أن يُمْهلَنا الزمان إلى ختمه، ويصحَبَنَا
8
التوفيق من الله فى نَظْمه، أن نودعه لباب ما تحققناه من الأصول فى العلوم
9
الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، المبنية على النظر المرتب المحقق، والأصول
10
المستنبطة بالأَفْهام المتعاونة على إدراك الحق المجتهد فيه زمانا طويلا، حتى
11
استقام آخره على جملةٍ اتفقت عليها أكثر الآراء، وهجرت معها غواشى الأهواء.
12
وتحريت أَنْ أُودِعَه أكثر الصناعة، وأن أشير فى كل موضعٍ الى موقع الشبهة،
13
وأحلَّها بإيضاح الحقيقة بقدر الطاقة، وأوردَ الفروعََ مع الأصول إلا ما أثق
14
بانكشافه لمن استبصر بما نُبَصِّره، وتَحقَّقَ ما نُصَوِّره، أو ما عزب عن ذكرى
15
ولم يَلُح لفكرى. واجتهدت فى اختصار الألفاظ جدا، ومجانبة التكرار
16
أصلا، إلا ما يقع خطأ أوسهوًا، وتنكبت التطويل فى مناقضة مذاهب جلية
17
البطلان أومكفية الشغل بما نقرره من الأصول، ونعرفه من القوانين. ولايوجد
10
1
فى كتب القدماء شىء يعتد به إلا وقد ضمّناه كتابنا هذا؛ فإنْ لم يوجد فى الموضع
2
الجارى بإثباته فيه العادة وُجِدَ فى وضع آخر رأيتُ أنه أليق به، وقد أضفتُ
3
إلى ذلك مما أدركتُه بفكرى، وحصلتُه بنظرى، وخصوصا فى علم الطبيعة
4
وما بعدها، وفى علم المنطق.
5
وقد جرت العادة بأن تطول مبادئ المنطق بأشياء ليست منطقية، وإنما
6
هى للصناعة الحِكْمِية، أعنى الفلسفة الأولى، فتجنبت إيرادَ شىءٍ من ذلك،
7
وإضاعة الزمان به، وأخَّرتُهُ إلى موضعه.
8
ثم رأيتُ أن أتلو هذا الكتاب بكتاب آخر، أسميه "كتاب اللواحق"، يتم مع
9
عمرى، ويُؤَرَّخُ بما يفرغ منه فى كل سنة، يكون كالشرح لهذا الكتاب،
10
وكتفريع الأصول فيه، وبسط المُوجز من معانيه.
11
ولى كتاب غير هذين الكتابين، أوردت فيه الفلسفَةَ على ما هى فى الطبع،
12
وعلى ما يوجبه الرأى الصريح الذى لا يراعى فيه جانب الشركاء فى الصناعة،
13
ولا يُتَّقى فيه مِنْ شَقِّ عصاهم مايُتَّقَى فى غيره، وهو كتابى فى "الفلسفة المشرقية".
14
وأما هذا الكتاب فاكثر بسْطا، وأشدُّ مع الشركاء من المشّائين مساعدة.
15
ومن أراد الحق الذى لا مَجْمَجَةَ فيه، فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد
16
الحق على طريق فيه ترضّ ما إلى الشركاء وبسْطٌ كثير، وتلويح بما لو فُطن له
17
استُغْنى عن الكتاب الآخر، فعليه بهذا الكتاب.
11
1
ولما افُتتحتُ هذا َالكتابَ ابتدأتُ بالمنطق، وَتحريت أن أحاذىّ به ترتيب
2
كتب صاحب المنطق، وأوردت فى ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو
3
عنه الكتب الموجودة. ثم تلوته بالعلم الطبيعى، فلم يتفق لى فى أكثر الأشياء
4
محاذاة تصنيف المُؤْتِّم به فى هذه الصناعة وتذاكيره. ثم تلوته بالهندسة، فاختصرت
5
كتاب الأسْطُقسات لأوقليدس اختصارا لطيفا، وحلَلْتُ فيه الشُبَه واقتصرت
6
عليه. ثم أردفته باختصارٍ كذلك لكتاب المجسطى فى الهيئة يتضمن مع الاختصار
7
بيانا وتفهيما، وألحقتُ به من الزيادات بعد الفَرَاغ منه ماوجب أن يعلم المتعلم
8
حتى تَتِمَّ به الصناعة، ويطابق فيه بين الأحكام الرصدية والقوانين الطبيعية.
9
ثم تلوتُه باختصار لطيف لكتاب المدخل فى الحساب. ثم ختمت صناعة
10
الرياضيين بعلم الموسيقى على الوجه الذى انكشف لى، مع بحث طويل، ونظر
11
دقيق، على الاختصار. ثم ختمتُ الكتابَ بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة
12
على أقسامه ووجوهه، مشارا فيه إلى جُمَلٍ من علم الأخلاق والسياسات،
13
إلى أن أصِّف فيها كتابا جامعا مُفْرَدا.
14
وهذا الكتاب، وإنْ كان صغيرَ الحجم، فهو كثير العلم، ويكاد لا يفوت
15
متأملَه ومتدبرَه اكثرُ الصناعة، إلى زيادات لم تجر العادة بسماعها من كتب
16
أخرى؛ وأول الجمل التى فيه هو علم المنطق.
17
وقبل أن نشرع فى علم المنطق، فنحن نشير إلى ماهية هذه العلوم إشارةً
18
موجزة، ليكون المتدبرُ لكتابنا هذا كالمطلع على جُمَلٍ من الأغراض.
12
1
[الفصل الثانى]
2
(ب) فصل فى التنبيه على العلوم والمنطق
3
فنقول: إنَّ الغرضَ فى الفلسفة أنْ يُوقَفَ على حقائق الأشياءِ كلِّها على قدر
4
مايمكن الإنسان أن يقف عليه. والأشياء الموجودةُ إما أشياء موجودةٌ ليس وجودُها
5
باختيارنا وفِعْلِنا، وإما أشياء وجودها باختيارنا وفعلنا. ومعرفة الأمور التى
6
من القسم الأول تسمى فلسفةً نظرية، ومعرفة الأمور التى من القسم الثانى
7
تسمى فلسفةً عملية. والفلسفة النظرية إنما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط،
8
والفلسفة العملية إنما الغاية فيها تكميل النفس، لا بأن تعلم فقط، بل بأن تعلم
9
مايُعْمَل به فتَعْمَل. فالنظريةُ غايَتُها اعتقادُ رأىٍ ليس بعمل، والعملية غايَتُها
10
معرفة رأى هو فى عمل، فالنظرية أوْلى بأن تُنْسب إلى الرأى.
11
والأشياء الموجودةُ فى الأعيان التى ليس وجزدُها باختيارنا وفعلنا هى بالقسمة
12
الأولى على قسمين: أحدهما الأمور التى تخالط الحركة، والثانى الأمور التى لا تخالط
13
الحركة، مثل العقل والبارى. والأمور التى تخالط الحركة على ضربين: فإنها إما أن
14
تكون لا وجود لها إلا بحيث يجوز أن تخالط الحركة، مثل الإنسانية والتربيع،
15
وما شابه ذلك، وإما أن يكون لها وجود من دون ذلك. فالموجودات التى
16
لاوجود لها إلا بحيث يجوز عليها مخالطة الحركة على قسمين: فإنّها إمّا أَنْ تكون،
13
1
لا فى القوام ولا فى الوهم، َُيَصح عليها أن تُجَرَّد عن مادة مُعَيَّنة، كصورة
2
الإنسانية والفَرَسية، وإما أن تكون يصح عليها ذلك فى الوهم دون القوام،
3
مثل التربيع، فإنه لا يُحْوِج تصوُّره إلى أن يُخص بنوع مادة، أو يُلْتَفت إلى حال
4
حركة. وأما الأمور التى يصح أن تخالط الحركة، ولها وجود دون ذلك، فهى
5
مثل الهوية، والوحدة، والكثرة، والِعَلِّية. فتكون الأمور التى يصح عليها
6
أن تجَّرد عن الحركة، إما أن تَُكون صحتها صحة الوجوب، وإما ألا تكون صحتُها
7
صحة الوجوب، بل تكون بحيث لا يمتنع لها ذلك، مثل حال الوحدة، والهوية،
8
والعلية، والعدد الذى هو الكثرة. وهذه فإْما أن يُنظَر اليها من حيث هى هى،
9
فلايفارق ذلك النظرُ النَظرَ إليها من حيث هى مجردة، فإنها تكون من جملة النظر
10
الذى يكون فى الأشياء، لامن حيث هى فى مادة، إذ هي، من حيث هى هى،
11
لافى مادة؛ وإَمَّا أن يُنْظر َإليها من حيث عَرَضَ لها عرضٌ لا يكون فى الوجود
12
إلا فى المادة. وهذا على قسمين: إمَّا أن يكون ذلك العرض لا يصح توهمه
13
أن يكون إلا مع نسبةٍ إلى المادة النوعية والحركة، مثل النظر فى الواحد، من
14
حيث هو نارٌ أو هواء، وفى الكثير، من حيث هو أُسْطقسات، وفى العلة، من حيث
15
هى مثلا حرارة أو برودة، وفى الجوهر العقلى، من حيث هو نفس، أى مبدأ
16
حركِة بدن، وإن كان يجوز مفارقته بذاته. وإما أن يكون ذلك العرض ـــ
17
وإن كان لايعرض إلا مع نسبةٍ إلى مادة ومخالطة حركة ـــ فإنه قد تُتَوهَّمُ
18
أحوالُه وتُسْتَبانُ من غير نظرِ فى المادة المعيّنة والحركة النظر المذكور، مثل
19
الجمع والتفريق، والضرب والقسمة، والتجذير والتكعيب، وسائر الأحوال
20
التى تََلحق العدد؛ فإنَ ذلك يلحق العدد وهو فى أوهام الناس، أوفى موجودات
14
1
متحركة منقسمة متفرقة ومجتمعة، ولكن تصور ذلك قد يتجرد تجردا مّا حتى
2
لا يَُحتاج فيه إلى تعيين مواد نوعية.
3
فأصناف العلوم إمّا أن تتناول إذن اعتبار الموجودات، من حيث هى فى الحركة
4
تصورًا وقواما، وتتعلق بمواد مخصوصة الأنواع، وإمّا أنْ تتناول اعتبارَ
5
الموجودات، من حيث هى مفارقة لتلك تصورا لا قواما، وإمّا أَنْ تتناول اعتبارَ
6
الموجودات، من حيث هى مفارقة قواما وتصورا.
7
فالقسم الأول من العلوم هو العلم الطبيعى. والقسم الثانى هو العلم الرياضى
8
المحض، وعلم العدد المشهور منه؛ وأما معرفة طبيعة العدد، من حيث هو عدد،
9
فليس لذلك العلم. والقسم الثالث هو العلم الإلهى. وإذْ الموجودات فى الطبع
10
على هذه الأقسام الثلاثة، فالعلوم الفلسفية النظرية هى هذه.
11
وأما الفلسفة العملية: فإمّا أن تتعلق بتعليم الآراء التى تنتظم باستعمالها المشاركة
12
الإنسانية العامية، وتَعْرف بتدبير المدينة، وتسمى علم السياسةّ؛ وإمّا أن يكون
13
ذلك التعلُّقُ بما تنتظم به المشاركة الإنسانية الخاصية، وتُعْرف بتدبير المنزل؛
14
وإما أن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به حال الشخص الواحد فى زكاء نفسه،
15
ويسمى علم الأخلاق. وجميع ذلك اإما تُحَقًّقُ صحة جملته بالبرهان النظرى،
16
و بالشهادة الشرعية، ويحقق تفصيلَه وتقديره بالشريعة الإلهية.
17
والغاية فى الفلسفة النظريةَ معرفة الحقِّ، والغاية فى الفلسفة العملية
18
معرفةَ الخير.
15
1
وماهيات الأشياء قد تكون فى أعيان الأشياء، وقد تكون فى التصور، فيكون
2
لهما اعتبارات ثلاثة: اعتبار الماهية بما هى تلك الماهية غير مضافة إلى أحد
3
الوجودين وما يلحقها، من حيث هى كذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى
4
فى الأعيان، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك؛ واعتبار لها، من حيث
5
هى فى التصور، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك، مثل الوضع
6
والحَمْل، ومثل الكلية والجزئية فى الحمل، والذاتية والعرضية فى الحمل، وغير ذلك
7
مما ستعلمه؛ فإنه ليس فى الموجودات الخارجة ذاتية ولا عرضية حملا،
8
ولا كون الشىء مبتدأ ولا كونه خبرا، ولا مقدمة ولا قياسا، ولا غير ذلك.
9
وإذا أردنا أن نتفكر فى الأشياء ونعلمها، فنحتاج ضَرورة إلى أن نُدْخِلها
10
فى التصور، فتعرض لها ضرورةَ الأحوال التى تكون فى التصور، فنحتاج
11
ضرورة إلى أن نعتبر الأحوالَ التى لهافى التصور، وخصوصا ونحن نروم بالفكرة
12
أن نستدرك المجهولات، وأن يكون ذلك من المعلومات. والأمور إنما تكون
13
مجهولة بالقياس إلى الذهن لا محالة، وكذلك إنما تكون معلومة بالقياس إليه.
14
والحال والعارض الذى يعرض لها حتى ننتقل من معلومها إلى مجهولها، هو حال
15
وعارض يعرض لها فى التصور، وإن كان مالها فى ذاتها أيضا موجودا مع ذلك،
16
فمن الضرورة أن يكون لنا علم بهذه الأحوال، وأنها كم هى، وكيف هى،
17
وكيف تَعتبر فى هذا العارض. ولأن هذا النظر ليس نطرا فى الأمور،
18
من حيث هى موجودة أحدَ نحوى الوجودين المذكورين، بل من حيث ينفع
19
فى إدراك أحوال ذينك الوَجودين، فَمَنْ تكون الفلسفةُ عنده متناوِلةً للبحث
16
1
عن الأشياء، من حيث هى موجودة، ومنقسمة إلى الوجودين المذكورين،
2
فلا يكون هذا العلمُ عنده جزأ من الفلسفة؛ ومن حيث هو نافع فى ذلك،
3
فيكون عنده آلة فى الفلسفة؛ ومَنْ تكون الفلسفةُ عنده متناولةً لكل بحث نظرى،
4
ومِنْ كل وجه، يكون أيضا هذا عنده جزأ من الفلسفة، وآلة لسائر أجزاء
5
الفلسفة. وسنزيد هذا شرحا فيما بعد.
6
والمشاجرات التى تجرى فى مثل هذه المسألة فهى من الباطل ومن الفضول:
7
أما من الباطل، فلأنه لا تناقض بين القولين، فإنَّ كل واحد منهما يعنِى
8
بالفلسفة معنى آخر؛ وأما من الفضول، فإنَّ الشغل بأمثال هذه الأشياء ليس
9
مما يُجدى نفعا.
10
وهذا النوع من النظر هو المسمى علم المنطق، وهو النظر فى هذه الأمور
11
المذكورة، من حيث يتأدى منها إلى إعلام المجهول، وما يعرض لها من حيث
12
كذلك لا غير.
13
[الفصل الثالث]
14
(ج) فصل فى منفعة المنطق
15
لما كان استكمال الانسان ـــ من جهة ما هو إنسان ذو عقل ـــ على ما سيتضح
16
ذلك فى موضعه، هو فى أن يعلم الحق لأجل نفسه، والخيرلأجل العمل به
17
واقتباسه، وكانت الفطرة الأولى والبديهة من الإنسان وحدهما قليلى المعونة على
17
1
ذلك، وكان جلُّ ما يحصل له من ذلك إنما يحصل بالاكتساب، وكان هذا
2
الاكتساب هو اكتساب المجهول، وكان مُكْسِبُ المجهول هو المعلوم، وجب أن
3
يكون الإنسان يبتدئ أولا فيعلم أنه كيف يكون له اكتساب المجهول من المعلوم
4
وكيف يكون حال المعلومات وانتظامها فى أنفسها، حتى تُفيدَ العلمَ بالمجهول، أى
5
حتى إذا ترتبت فى الذهن الترتب الواجب، فتقررت فيه صورة تلك المعلومات
6
على الترتيب الواجب، انتقل الذهن منها إلى المجهول المطلوب فعلمه.
7
وكما أن الشىءُ يُعْلَم من وجهين: أحدهما أن يُتَصور فقط حتى إذا كان له اسم فنَُطِق به،
8
تمثل معناه فى الذهن، وإن لم يكن هناك صدق أوكذب، كما إذا قيل: إنسان،
9
أو قيل: افعل كذا؛ فإنك إذا وقَفْتَ على معنى ما تخاطب به من ذلك، كنتَ
10
تصورته. والثانى أن يكون مع التصور تصديق، فيكون إذا قيل لك مثلًا: إن
11
كلَّ بياضٍ عرضٌ، لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول فقط، بل
12
صدَّقْتَ أنه كذلك. فأما إذا شككت أنه كذلك أو ليس كذلك، فقد
13
تصورت مايقال؛ فإنك لاتشك فيما لا تتصوره ولا تفهمه، ولكنك لم تصدق
14
به بَعْد؛ وكل تصديق فيكون مع تصور، ولا ينعكس, والتصور فى مثل هذا
15
المعنى يفيدك أن يحدث فى الذهن صورة هذا التأليف، وما يؤلف منه كالبياض
16
والعرض. والتصديق هو أن يحصل فى الذهن نسبةُ هذه الصورة إلى الأشياء
17
أنفسها أنها مطابقةٌ لها، والتكذيب يخالف ذلك. كذلك الشىء يُجْهَل من
18
وجهين: أحدهما من جهة التصور، والثانى من جهة التصديق؛ فيكون كل
19
واحد منها لايحصل معلوما إلابالكسب، ويكون كسبُ كلَّ واحد منهما
18
1
بمعلوم سابق متقدم، وبهيئةٍ وصفة تكون لذلك المعلوم، لأجلها ينتقل الذهن من
2
العلم بها إلى العلم بالمجهول. فهاهنا شىء من شأنه أن يفيد العلمَ بالمجهول
3
تصوّرُه، وشىءٌ من شأنه أن يفيد العلمَ بالمجهول تصديقُه. ولم تجر العادة بأن
4
يُفُرض للمعنى الجامع ـــ من حيث علمه يفيد علم تصور شىء ـــ اسمٌ جامع، أو لم
5
يبلغنا؛ لأن منه حدَّا، ومنه رسما، ومنه مثالا، ومنه علامة، ومنه اسما،
6
على ما سيتضح لك، وليس لما يشترك فيه اسم عام جامع. وأما الشىء
7
الذى يترتب أولا معلوما، ثم يُعْلم به غيره على سبيل التصديق، فإنّ ذلك الشىء
8
يسمى ـــ كيف كان ـــ حجة؛ فمنه قياس، ومنه استقراء، ومنه تمثيل، ومنه
9
أشياء أخرى.
10
فغاية علم المنطق أن يفيد الذهنَ معرفة هذين الشيئين فقط؛ وهو أن يعرف
11
الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول المُوقع للتصور، حتى يكون مُعرّفًا
12
حقيقة ذات الشىء؛ وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإن لم يُتَوصل به
13
إلى حقيقة ذاته؛ وكيف يكون فاسدا، مُخَيَلًا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل
14
ذلك، ولمَ يكون كذلك، وما الفصول التى بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه
15
كيف يكون القول الموقع للتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة
16
لا يصح انتقاضه؛ وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين؛
17
وكيف يكون بحيث يَُظَن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك،
18
بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميلُ نفسٍ وقناعة
19
من غيرتصديق جَزْم، وكيف يكون القول حتى يُؤََثِّرَفى النفس ما يؤثره التصديق
19
1
والتكذيب من إقدام وامتاع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع
2
تصديقا، بل من حيث يخّيُل، فكثير من الخيالات يفعل فى هذا الباب فعل
3
التصديق؛ فإنك إذا قلت للعسل إنه مُرَّةٌ مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع
4
تكذيب لذلك البتة، كما تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه،
5
وما الفصول بينها؟ ولم كانت كذلك؟ وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد
6
فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يُتَوصل إلى معرفة الغرضين، وهذه
7
الصناعة هى المنطق.
8
وقد يتفق للإنسان أن ينبعث فى غريزته حدٌّ مُوقعٌ للتصور، وحجّةٌ موقعة
9
للتصديق، إلا أنَّ ذلك يكون شيئا غيرَ صناعى، ولا يُؤْمَن غلطه فى غيره؛ فإنه
10
لو كانت الغريزة والقريحة فى ذلك مما يكفينا طلب الصناعة، كما فى كثير من
11
الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض فى المذاهب ما عرض،
12
ولكان الإنسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته؛
13
بل الفطرة الإنسانية غير كافية فى ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية
14
فى كثير من الأعمال الأخر، وإن كان يقع له فى بعضها إصابةُ كَرَميةٍ من
15
غير رام. وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل
16
له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لايغلط البتة؛ إذ الصناعة قد يذهب
17
عنها ويقع العدول عن استعمالها فى كثير من الأحوال، لا أنّ الصناعة
18
فى نفسها غيرضابطة، وغير صادّةٍ عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور:
19
أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثانى أن يكون
20
1
قد استوفاها، لكنه فى بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة؛ والثالث
2
أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعالها، أو يذهب عنها. على أنه وإن
3
كان كذلك، فإنَ صاحب العلم، إذا كان صاحبَ الصناعة واستعملها، لم يكن
4
ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها؛ ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال
5
صناعته مرارا كثيرة تَمَكَّن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن
6
صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح،
7
إلا أن يكون متناهيا فى البلادة فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو فى مهمات
8
صناعته التى تعينه المعاودة فيها، وإن وقع له سهو فى نوافلها. وللإنسان فى معتقداته
9
أمور مهمة جدا، وأمور تليها فى الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له
10
أن يجتهد فى تأكيد الأمر فى تلك المهمات بمراجعات عَرض عمله على قانونه.
11
والمراجعات الصناعية فقد يبلغ بها أمان من الغلط، كمن يجمع تفاصيلَ حساب
12
واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة فى عقد الجملة.
13
فهذه الصناعة لابد منها فى استكمال الإنسان الذى لم يؤيد بخاصية تكفيه
14
الكسب. ونسبة هذه الصناعة إلى الرويَّة الباطنة التى تسمى النطق الداخلى،
15
كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التى تسمى النطق الخارجى، وكنسبة العَرُوض
16
إلى الشعر؛ لكن العروض ليس ينفع كثيرا فى قرض الشعر، بل الذوق
17
السليم يغنى عنه، والنحو العربى قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه
18
الصناعة فلا غنى عنها للإنسان المكتسب للعلم بالنظر والرويّة، إلا أن يكون
19
إنسانا مؤيدا من عند الله، فتكون نسبته إلى المروّين نسبة البدوى الى المتعربين.
21
1
[الفصل الرابع]
2
(د) فصل فى موضوع المنطق
3
ليس يمكن أن ينتقل الذهن من معنى واحد مفرد إلى تصديق شىء؛ فإنَّ ذلك
4
المعنى ليس حكم وجوده وعدمه حكما واحدا فى إيقاع ذلك التصديق؛ فإنه إن كان
5
التصديق يقع، سواء فرض المعنى موجودا أو معدوما، فليس للمعنى مدخلٌ
6
فى إيقاع التصديق بوجه؛ لأن موقع التصديق هو علة التصديق، وليس
7
يجوز أن يكون شىءٌ علةً لشىء فى حالتى عدمه ووجوده. فإذا لم يقع بالمفرد
8
كفاية من غير تحصيل وجوده، أو عدمه فى ذاته، أو فى حاله،
9
لم يكن مؤديا إلى التصديق بغيره؛ وإذا قرنت بالمعنى وجودا أو عدما
10
فقد أضفت إليه معنى آخر. وأما التصور فإنه كثيرأ ما يقع بمعنى مفرد، وذلك
11
كما سيتضح لك فى موضعه، وذلك فى قليل من الأشياء؛ ومع ذلك فهو فى أكثر
12
الأمر ناقص ردىء؛ بل الموقع للتصور فى أكثر الأشياء معان مؤلفة، وكل
13
تأليف فإنما يؤلف من أمور كثيرة، وكل أشياء كثيرة ففيها أشياء واحدة،
14
ففى كل تأليف أشياء واحدة. والواحد فى كل مركب هو الذى يسمى
15
بسيطا؛ ولما كان الشىء المؤلف من عدة أشياء يستحيل أن تعرف طبيعته
16
مع الجهل ببسائطه، فبالحرى أن يكون العلم بالمفردات قبل العلم بالمؤلفات.
17
والعلم بالمفردات يكون على وجهين: لأنه إما أن يكون علما بها، من حيث هى
18
مستعدة لأن يؤلف منها التأليف المذكور، وإما أن يكون علما بها، من حيث
22
1
هى طبائع وأمور يعرض لها ذلك المعنى. ومثال هذا أنَّ البيت الذى يؤلف
2
من خشب وغيره يحتاج مؤلفه إلى أن يعرف بسائط البيت من الخشب واللبن
3
والطين؛ لكنْ للخشب واللبن والطين أحوالا بسببها تصلح للبيت وللتأليف،
4
وأحوالا أخرى خارجة من ذلك. فأما أنَّ الخشب هو من جوهر فيه نفس
5
نباتية، وأنَّ طبيعته حارةُ أو باردة، أو أنَّ قياسَه من الموجودات قياسُّ كذا،
6
فهذا لايحتاج إليه بانى البيت أن يعلمه وأما أنَّ الخشبَ صلبٌ ورخو، وصحيح
7
ومتسوس، وغير ذلك، فإنه مما يحتاج بانى البيت إلى أن يعلمه. وكذلك
8
صناعة المنطق فإنها ليست تنظر فى مفردات هذه الأمور، من حيث
9
هى على أحد نحوى الوجود الذى فى الأعيان والذى فى الأذهان، ولا أيضا
10
فى ماهيات الأشياء، من حيث هى ماهيات، بل من حيث هى محمولات
11
وموضوعات وكليات وجزئيات، وغير ذلك مما إنما يعرض لهذه المعانى من
12
جهة ما قلناه فيما سلف.
13
وأما النظر فى الألفاظ فهو أمر تدعو إليه الضرورة، وليس للمنطقى ـــ من
14
حيث هو منطقى ـــ شغل أول بالألفاظ إلا من جهة المخاطبة والمحاورة. ولو
15
أمكن أن ُيتَعلم المنطقُ بفكرة ساذجة، إنما تُلحظ فيها المعانى وحدها، لكان ذلك
16
كافيا ولو أمكن أن يطلع المحاور فيه على مافى نفسه بحيلة أخرى، لكان
17
يغنى عن اللفظ البتة. ولكن لما كانت الضرورة تدعو إلى استعمال الألفاظ،
18
وخصوصا ومن المتعذر على الروية أن ترتب المعانى من غير أن تتخيل معها
19
ألفاظها، بل تكاد تكون الروية مناجاةً من الإنسان ذهنه بألفاظ متخيلة،
20
لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها فى النفس
23
1
من المعانى حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة
2
المنطق إلى أن يصير بعض أجزائها نظرا فى أحوال الألفاظ؛ ولولا ما قلناه لما
3
احتاجت أيضا إلى أن يكون لها هذا الجزء. ومع هذه الضرورة، فإنَّ الكلام
4
على الألفاظ المطابقة لمعانيها كالكلام على معانيها، إلا أن وضع الألفاظ أحسن عملا
5
وأما فيما سوى ذلك، فلا خير فى قول من يقول إنَّ المنطق موضوُعُهُ
6
النظر فى الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، وإنّ المنطق إنما صناعته
7
أن يتكلم على الألفاظ، من حيث تدل على المعانى؛ بل يجب
8
أن يتصور أنّ الأمر على النحو الذى ذكرناه. وإنما تبلد فى هذا مَنْ تبلد،
9
وتشوش مَنّْ تشوش، بسبب أنهم لم يحصَّلوا بالحقيقة موضوع المنطق،
10
والصنف من الوجودات الذى يختص به، إذَّ وجدوا الموجود على نحوين:
11
وجود الأشياء من خارج، ووجودها فى الذهن فجعلوا النظر فى الوجود
12
الذى من خارج لصناعة أو صناعات فلسفية، والنظرَّ فى الوجود الذى فى الذهن
13
وأنه كيف يتصور فيه لصناعة أو جزء صناعة؛ ولم يفصلوا فيعلموا أنَّ الأمور
14
التى فى الذهن إمّا أمورٌ تُصُوِرّت فى الذهن مستفادة من خارج، وإمَّا أمورٌ
15
تَعْرض لها، من حيث هى فى الذهن لا يُحاذى بها أمر من خارج. فتكون
16
معرفة هذين الأمرين لصناعة، ثم يصير أحد هذين الأمرين موضوعا لصناعة
17
المنطق من جهة عَرض يعرض له. وأمّا أى هذين الأمرين ذلك، فهو القسم
18
الثانى؛ وأمّا أى عارض يعرض، فهو أنه يصير موصلا إلى أن تحصل فى النفس
24
1
صورة أخرى عقلية لم تكن، أو نافعا فى ذلك الوصول، أو ما يعاوق ذلك
2
الوصول.
3
فلما لم يتميز لهؤلاء بالحقيقة موضوعُ صناعة المنطق، ولا الجهةُ التى
4
بها هى موضوعَهُ، تتعتعوا وتبلدوا؛ وأنت ستعلم بعد هذا، بوجه أشد شرحا، أنَّ
5
لكل صناعة نظريةٍ موضوعا، وأنها إنما تبحث عن أعراضه وأحواله، وتعلم أنَّ
6
النظرَ فى ذات الموضوع قد يكون فى صناعة، والنظر فى عوارضه يكون من
7
صناعة أخرى. فهكذا يجب أن تعلم من حال المنطق.
8
[الفصل الخامس]
9
(هـ) فصل فى تعريف اللفظ المفرد والمؤلف
10
وتعريف الكلى والجزئى، والذاتى والعرضى،
11
والذى يقال فى جواب ما هو والذى لا يقال
12
وإذ لا بد لنا فى التعليم والتعلم من الألفاظ، فإنا نقول: إنَّ اللفظ إمّا مفرد
13
و إما مركب. والمركب هو الذى قد يوجد له جزء يدل على معنى هو جزء
14
من المعنى المقصود بالجملة دلالةًَ بالذات، مثل قولنا: الإنسان وكاتب، من قولنا:
15
الإنسان كاتب؛ فإنَّ لفظة الإنسان منه تدل على معنى، ولفظة كاتب أيضا
16
تدل على معنى، وكل واحد منهما جزء قولنا: الإنسان كاتب، ومعناه جزء المعنى
17
المقصود من قولنا: الإنسان كاتب، دلالة مقصودة فى اللفظ، ليس كما نقول:
25
1
حيوان، َفيُظن أنَّ الحى منه مثلا دال إما على جملة المعنى، وإما على بعض منه،
2
لوكان من غير أن كان يقصد فى إطلاق لفظة الحيوان أن يدل الحى منه تلك
3
الدلالة.
4
وأما المفرد فهو الذى لا يدل جزء منه على جزء من معنى الكل المقصود به
5
دلالة بالذات، مثل قولنا "الإنسان"، فإَنَّ "الإن" و"السان" لا يدلان على
6
جزأين من معنى الإنسان، منهما يأتلف معنى الإنسان. ولا يُلْتَفت فى هذه
7
الصناعة إلى التركيب الذى يكون بحسب المسموع، إذا كان لا يدل جزء منه
8
على جزء من المعنى، كقولنا: عبد شمس، إذا أريد به اسم لقب ولم يرد عبد
9
للشمس. وهذا وأمثاله لا يعد فى الألفاظ المُؤلفة، بل فى المفردة. والموجود
10
فى التعليم الأقدم من رسم الألفاظ المفردة أنها هى التى لا تدل أجزاؤها
11
على شىء. واستنقص فريق من أهل النظر هذا الرسم، وأوجب أنه يجب أن
12
يزاد فيه: أنها التى لا تدل أجزاؤها على شىء من معنى الكل، إذ قد تدل أجزاء
13
الألفاظ المفردة على معان، لكنها لا تكون أجزاء معانى الجملة. وأنا أرى أنّ
14
هذا الاستنقاص من مستنقصه سهو، وأنَّ هذه الزيادة غيرَ محتاج إليها للتتميم
15
بل للتفهيم. وذلك أنَّ اللفظ بنفسه لا يدل البتة، ولولا ذلك لكان لكل لفظ
16
حق من المعنى لا يجاوزه، بل إنما يدل بإرادة اللافظ؛ فكما أن اللافظ يطلقه
17
دالَا على معنى، كالعين على ينبوع الماء، فيكون ذلك دلالته، ثم يطلقه
18
دالا على معى آخر، كالعين على الدينار، فيكون ذلك دلالته. كذلك إذا
19
أخلاه فى إطلاقه عن الدلالة بقى غير دال، وعند كثير من أهل النظر غير
26
1
لفظ فإن الحرف والصوت ـــ فيما أظن ـــ لايكون، بحسب التعارف عند كثير
2
من المنطقيين، لفظا، أو يشتمل على دلالة. وإذا كان ذلك كذلك، فالمتكلم
3
باللفظ المفرد لا يريد أن يدل بجزئه على جزء من معنى الكل، ولا أيضا يريد
4
أن يدل بجزئه على معنى آخر من شأنه أن يدل به عليه؛ وقد انعقد الاصطلاح
5
على ذلك. فلا يكون جزؤه البتة دالا على شىء ـــ حين هوجزؤه ـــ بالفعل، اللهم
6
إلا بالقوة، حين نجدالإضافة المشار إليها، وهى مقارنة إرادة القائل دلالة به.
7
وبالجملة فإنه إن دلَّ، فإنما يدل، لا حين ما يكون جزَءًا من اللفظ المفرد،
8
بل إذا كان لفظا قائما بنفسه؛ فأما وهو جزء فلا يدل على معنى البتة.
9
واللفظ إما مفرد وإما مركب، وقد علم أنَ النظر فى المفرد قبل النظر
10
فى المركب. ثم اللفظ المفرد إما أن يكون معناه الواحد الذى يدل عليه لا يمتنع
11
فى الذهن، من حيث تصوره، اشتراك الكثرة فيه على السوية، بأن يقال لكل
12
واحد منهم إنه هو، اشتراكا على درجة واحدة، مثل قولنا: الإنسان؛
13
فإنَّ له معنى فى النفس، وذلك المعنى مطابق لزيد ولعمرو ولخالد على وجه
14
واحد؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم إنسان. ولفظة الكرة المحيطة بذى عشرين قاعدة
15
مثلثاتٍ، بل لفط الشمس والقمر، وغير ذلك، كل منها يدل على معنى لا يمنع
16
تصوره فى الذهن من اشتراك كثرة فيه، وإن لم يوجد مثلا بالفعل، كالكرة
17
المذكورة، أوكان يمتنع ذلك بسبب خارج عن مفهوم اللفظ نفسه كالشمس.
18
وإما أن يكون معناه بحيث يمتنع فى الذهن إيقاع الشركة فيه، أعنى
27
1
فى المحصل الواحد المقصود به، كقولنا زيد؛ فإنّ لفط زيد، وإنْ
2
كان قد يشترك فيه كثيرون، فإنما يشتركون من حيث المسموع؛ وأما معناه
3
الواحد فيستحيل أن بجعل واحد منه مشتركا فيه؛ فإنّ الواحد من معانيه
4
هو ذات المشار إليه، وذات هذا المشار إليه يمتنع فى الذهن أن يجعل لغيره،
5
اللهم إلا أن لايراد بزيد البتة ذاته، بل صفة من صفاته المشترك فيها. وهذا
6
القسم، وإن لم تمتنع الشركة فى مسموعه، فقد يمتنع أن يوجد فى المعنى الواحد
7
من المدلول به عليه شركةً. فالقسم الأول يسمى كليا، والثانى يسمى جزئيا
8
وأنت تعلم أنّ من الألفاظ ما هو على سبيل القسم الأول، ومن المعانى
9
ما هو على سبيل معنى القسم الأول، وهو المعنى الذى المفهوم منه فى النفس
10
لا تمتنع نسبته إلى أشياءكثيرة تطابقها نسبة متشاكلة ولا عليك ـــ من حيث أنت
11
منطقى ـــ أنه كيف تكون هذه النسبة، وهل لهذا المعنى ـــ من حيث هو واحد
12
مشترك فيه ـــ وجود فى ذوات الأمور التى جعلت لها شركة فيه؛ وبالجملة وجود
13
مفارق وخارج غير الذى فى ذهنك أوكيف حصوله فى الذهن؛ فإنَّ النظر
14
فى هذه لصناعة أخرى أو لصناعتين. فقد علمتَ أنَّ اللفظ إمّا أنْ يكون مفردا،
15
وإما أنّ يكون مؤلفا؛ وأنَّ المفرد إما أن يكون كليا، وإما أن يكون جزئيا.
16
وقد علمتَ أنّا أوجبنا تأخيرَ النظر فى المركب.
17
واعلم أيضا أنّا لانشتغل بالنظر فى الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غير متناهية
18
فتحصر، ولا ـــ لوكانت متناهية ـــ كان علمنا بها ـــ من حيث هى جزئية ـــ
28
1
يفيدنا كمالا حِكميا، أو يبلغنا غاية حكمية، كما تعلم هذا فى موضع العلم به،
2
بل الذى يهمنا النظر فى مثله، هو معرفة اللفظ الكلى.
3
وأنت تعلم أنَ اللفظ الكلى إنما يصيركليا، بأنَّ له نسبةً ما، إمّا بالوجود،
4
وإمّا بصحة التوهم، إلى جزئيات يُحمل عليها.
5
والحمل على وجهين: حمل مواطأة، كقولك: زيد إنسان فإنّ الإنسان
6
محمول على زيد بالحقيقة والمواطأة؛ وحمل اشتقاق، كحال البياض بالقياس
7
إلى الإنسان؛ فإنه يقال: إنّ الإنسان أبيض أو ذو بياض، ولا يقال: إنه
8
بياض. وإنْ اتفق أن قيل: جسم أبيض، ولون أبيض، فلا يُحْمل حَمْلَ المحمول
9
على الموضوع؛ وإنما غرضنا ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا مما يحمل هو ماكان على سبيل المواطأة.
10
فلنذكر أقسام الكلى الذى إنما ينسب إلى جزئيات مواطأة عليها، ويعطيها
11
الاسم والحد، لكنه قد تضطرنا إصابتنا لبعض الأغراض أن لا نسلك
12
المعتاد من الطرق فى قسمة هذه الألفاظ فى أول الأمر، بل نعود إليه ثانيا.
13
فنقول: إن لكل شىء ماهيةً هو بها ما هو، وهى حقيقته، بل هى ذاته.
14
وذات كل شىء واحد ربما كان معنى واحدا مطلقا ليس يصير هو ما هو بمعان
15
كثيرة، إذا التأمت يحصل منها ذات للشىء واحدة. وقلما تجد لهذا من
16
الظاهرات مثالا، فيجب أن يَسَّلم وجوده. ور بما كان واحدا ليس
29
1
بمطلق، بل تلتئم حقيقة وجوده من أمور ومعان إذا التأمت حصل منها
2
ماهية الشىء، مثال ذلك الإنسان، فإنه يحتاج أن يكون جوهرا، ويكون له
3
امتداد فى أبعاد تفرض فيه طولا وعرضا وعمقا، وأن يكون مع ذلك ذا نفس،
4
وأن تكون نفسه نفسًَا يغتذى بها ويحس ويتحرك بالإرادة، ومع ذلك يكون
5
بحيث يصلح أن يتفهم المعقولات، ويتعلم صناعات ويعلمها ـــ إن لم يكن
6
عائق من خارج ـــ لا من جملة الإنسانية فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها
7
ذات واحدة هى ذات الإنسان. ثم تخالطه معان وأسباب أخرى، يتحصل
8
بها واحدٌ واحدٌ من الأشخاص الإنسانية، ويتميز بها شخصٌ عن شخص، مثل أن
9
يكون هذا قصيرا وذاك طويلا، وهذا أبيضَ وذاك أسود. ولا يكون شىء
10
من هذه بحيث لو لم يكن موجودا لذات الشخص، وكان بدله غيره، لزم منه
11
أن يفسد لأجله؛ بل هذه أمور تبع وتلزم. وإنما تكون حقيقة وجوده
12
بالإنسانية، فتكون ماهية كل شخص هى بإنسانيته، لكن إنيته الشخصية
13
تتحصل من كيفية وكمية وغير ذلك. وقد يكون أيضا له من الأوصاف أوصافٌ
14
أخرى غير الإنسانية، يشترك فيها الناس مع الإنسانية، بل تكون بالحقيقة
15
أوصافا للإنسان العام مثل كونه ناطقا، أى ذا نفس ناطقة، ومثل كونه
16
ضاحكا بالطبع. لكن كونه ناطقا أمر هو أحد الأمور التى، لما التأمت، اجتمع
17
من جملتها الإنسان، وكونه ضاحكا بالطبع هو أمر، لما التأمت الإنسانية
18
بما التأمت منه، لم يكن بدْ من عروضه لازما؛ فإنَ الشىءَ إذا صار إنسانا
30
1
بمقارنة النفس الناطقة لمادته، أعرض للتعجب الموجب فى مادته هيئة
2
الضحك، كما أعرض لأمور أخرى: من الخجل والبكاء والحسد والاستعداد
3
للكتابة وقبول العلم، ليس واحد منها لما حصل، أعرض الشىء لحصول
4
النفس الناطقة له، فيكون حصول النفس الناطقة إذن سابقا لها، ويتم به
5
حصول الإنسانية وتكون هذه لوازم بعدها، إذا استثبتت الإنسانية
6
لم يكن بُدٌّ منها.
7
فقد لاح لك من هذا أنَّ هاهنا ذاتا حقيقية للشىء، وأن له أوصافا بعضها
8
تلتئم منه ومن غيره حقيقة الشىء، وبعضها عوارض لا تلزم ذاته لزوما
9
فى وجوده، وبعضها عوارض لازمة له فى وجوده. فما كان من الألفاظ
10
الكلية يدل على حقيقة ذات شىء أو أشياء، فذلك هو الدال على الماهية؛
11
وما لم يكن كذلك فلا يكون دالا على الماهية، فإن دل على الأمور التى لابد
12
من أن تكون متقدمة فى الوجود على ذات الشىء، حتى يكون بالتئامها يحصل
13
ذات الشىء، ولا يكون الواحد منها وحده ذات الشىء، ولا اللفظ الدال عليه
14
يدل على حقيقة ذات الشىء بكمالها، بل على جزء منه؛ فذلك ينبغى أن يقال له
15
اللفظ الذاتى الغير الدال على الماهية. وأما ما يدل على صفة هى خارجة عن
16
الأمرين، لازمة كانت أو غير لازمة، فإنه يقال له لفظ عرضى، ولمعناه
17
معنى عرضى.
18
ثم هاهنا موضع نظر: أنه هل يجب أن يكون معنى اللفظ الذاتى
19
مشتملا على معنى اللفظ الدال على الماهية اشتمال العام على الخاص
31
1
أو لا يكون؟ فإن قولنا: لفظ ذاتى، يدل على لفظ لمعناه نسبة إلى
2
ذات الشىء، ومعنى ذات الشىء لا يكون منسوبا إلى ذات الشىء، إنما ينسب
3
إلى الشىء ما ليس هو. فلهذا بالحرى أن يظن أنَّ لفظ الذاتى إنما الأولى به
4
أن يشتمل على المعانى التى تقوَم الماهية، ولا يكون اللفظ الدال على
5
الماهية ذاتيا، فلا يكون الإنسان ذاتيا للإنسان، لكن الحيوان والناطق
6
كونان ذاتيين للإنسان. فإن لم يجعل الإنسان ذاتيا للإنسان، بما هو إنسان،
7
بل لشخصٍ شخصٍ، لم يخل إما أن تكون نسبته بالذاتية إلى حقيقة ماهية
8
الشخص، وذلك هو الإنسان أيضا؛ وإما أن تكون نسبته بها إلى الجملة
9
التى بها يتشخص، فيكون ليس هو بكماله، بل هوجزء مما هو منه، من
10
حيث هو جملة. فحينذ يعرض أن لا يكون الحيوان الناطق والإنسان وما
11
يجرى مجراها ذاتيا لشخص تخص فقط، بل الأمور العرضية أيضا، مثل
12
لونه، وكونه قصيرا، وكونه ابن فلان، وما يجرى هذا المجرى قد تكون
13
ذاتية، لأنها أجزاء مقومة للجملة. فحينئذ لا يكون للإنسان، من حيث
14
هو ذاتى للشخص، إلا ما لهذه.
15
فهذه الأفكار تدعوإلى أن لا يكون الذاتى مشتملا على المقول فى جواب ما هو؛
16
لكن قولنا ذاتى، وإن كان بحسب قانون اللغة يدل على هذا المعنى النسبى، فإنه
17
بحسب اصطلاح وقع بين المنطقيين يدل على معنى آخر. وذلك لأنَّ اللفظ الكلى،
18
إذا دل على معنى ـــ نسبته إلى الجزئيات التى تعرض لمعناه نسبةُ يجب، إذا تُوُهمت
19
غير موجودة، أن لا يكون ذات ذلك الشىء من الجزئيات موجودا، لا أن ذات
32
1
ذلك الشىء يجب أن يكون يرفع أولا، حتى يصح توهم رفع هذا، بل لأن رفع
2
هذا موجب رفع ذلك الشىء، سواء كان لأن هذا المرفوع هوحقيقة ذاته، أوكان
3
هذا المرفوع مما تحتاج إليه حقيقة ذاته ليتقوم ـــ فإنه يقال له ذاتى. فإنْ لم يكن
4
هكذا ـــ وكان يصح فى الوجود أو فى التوهم أن يكون الشىء الموصوف به حاصلامع
5
رفعه، أوكان لايصح فى الوجود، ولكن ليس رفعه سبب رفعه، بل إنما لايصح
6
ذلك فى الوجود لأن رفعه لا يصح إلا أن يكون ذلك، ارتفع أولا فى نفسه،
7
حتى يكون رفعه بالجملة ليس سبب رفعه ـــ فهو عرضى. فأما المرتفع فى الوجود
8
فكالقيام والقعود، وذلك مما يسرع رفعه، وكالشباب فإنه يبطؤ رفعه،
9
وكغضب الحليم فإنه يسهل إزالته، وكالخلق فإنه يصعب إزالته. وأما المرتفع
10
فى الوهم دون الوجود فكسواد الحبشى. وأما الذى لا يرتفع، ولايرفع
11
رفع السبب، فككون الإنسان بطبعه معرضا للتعجب والضحك، وهوكونه
12
ضحاكا بالطبع، فإنه لا يجوز أن يرفع عن الإنسان فى الوجود؛ فإنْ تُوُهِم
13
مرفوعا، فإنَّ الإنسانية تكون مرفوعة، لا أنَّ رفع الأعراض بالطبع
14
لهذا المعنى هو سبب رفع الإنسانية، بل لأنه لا يتاتى أن يرفع، إلا أن
15
تكون الإنسانية أولا مرفوعة، كما أنها ليست سببا لثبوت الإنسانية،
16
بل الإنسانية سبب لثبوتها.
17
فقد بان اختلاف مابين نسبة الحيوان والناطق والإنسان إلى الأشخاص،
18
وبين نسبة الأعراض إليها؛ فإنّ النسبة الأولى إذا رفعتها، أوجب رفع
19
الشخص وأما النسبة الثانية فنفس رفعها لا يوجب رفع الشخص، بل منها
33
1
ما يرتفع، ومنها ما لا يجوز أن يرتفع أويرتفع الشخص؛ وأما رفعها فلا يرفع
2
الشخص البتة. وإذا كان الأمر على هذه الجهة، فالذاتى يشتمل على الدال
3
على الماهية.
4
فقد اتضح لك أن اللفظ المفرد الكلى منه ذاتى يدل على الماهية، ومنه ذاتى
5
لا يدل على الماهية، ومنه عرضى.
6
[الفصل السادس]
7
(و) فصل فى تعقب ما قاله الناس فى الذاتى والعرضى
8
قد قيل فى التمييز بين الذاتى والعرضى: إن الذاتىَّ مقوِّمٌ والعرضىَّ غيرُ مقوِّم،
9
ثم لم يُحصَّل، ولم يتبين أنه كيف يكون مُقَوما، أو غير مقوّم. وقيل أيضا:
10
إن الذاتى لا يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشىئ، والعرضّى يصح توهمه مرفوعا
11
مع بقاء الشىء. فيجب أنْ نُحَصَّل نحن صحة ما قيل أو اختلاله، فنقول:
12
أما قولهم إن الذاتى هو المقوّم، فإنما يتناول ما كان من الذاتيات غير دالٍ
13
على الماهية، فإنَ المقوّم مقوّم لغيره. وقد علمتَ ما يعرض من هذا،
14
اللهم إلا أن يُعْنوا بالمقوّم ما لايفهم من طاهر لفظه، ولكن يعنون به ماعنينا
15
بالذاتى، فيكونوا إنما أتوا باسم مرادف صُرِف عن الاستعمال الأول،
16
ولم يدل على المعنى الذى نقل إليه، ويكون الخطب فى المقوم كالخطب
17
فى الذاتى، وتكون حاجة كل واحد منهما إلى البيان واحدة.
34
1
وأما اعتادهم على أمر الرفع فى التوهم، فيجب أن تتذكر ما أعطيناك
2
سالفا: أنّ المعنى الكلى قد يكون له أوصاف يحتاج إليها أولا حتى يحصل ذلك
3
المعنى، ويكون له أوصاف أخرى تَلْزَمه وتتبعه، إذا صار ذلك المعنى حاصلا.
4
فأمّا جميع الأوصاف التى يحتاج إليها الشىء حتى تحصل ماهيته، فلن يحصل معقولا
5
مع سلب تلك الأوصاف منه. وذلك أنه قد سلف لك أنَّ للأشياء ماهيات،
6
وأن تلك الماهيات قد تكون موجودة فى الأعيان، وقد تكون موجودة
7
فى الأوهام؛ وأنّ الماهية لا يوجب لها تحصيل أحد الوجودين، وأن كل
8
واحد من الوجودين لا يَثبُتُ إلا بعد ثبوت تلك الماهية، وأنَّ كل واحد
9
من الوجودين يلحق بالماهية خواص وعوارض تكون للماهية، عند ذلك
10
الوجود، ويجوز أن لا تكون له فى الوجود الآخر. وربما كانت له لوازم تلزمه
11
من حيث الماهية، لكن الماهية تكون متقررة أولا، ثم تلزمها هي، فإنَّ
12
الاثنينية يلزمها الزوجية، والمثلث يلزمه أن تكون زواياه الثلاث مساوية
13
لقائمتين، لا لأحد الوجودين، بل لأنه مثلث. وهذه الماهية إذا كان لها
14
مقومات متقدمة ـــ من حيث هى ماهية ـــ لم تحصل ماهية دون تقدمها؛ وإذا
15
لم تحصل ماهية، لم تحصل معقوله ولا عينا. فإذن إذا حصلت معقولة،
16
حصلت وقد حصل ما تتقوم به فى العقل معها على الجهة التى تتقوم به؛
17
فإذا كان ذلك حاصلا فى العقل، لم يمكن السلب، فيجب أن تكون هذه
18
المقومات معقولة مع تصور الشىء، بحيث لايجهل وجودها له، ولا يجوز سلبها
19
عنه، حتى تثبتَ الماهية فى الذهن، مع رفعها فى الذهن بالفعل. ولست أعنى
20
بحصولها فى العقل خطورَها بالبال بالفعل، فكثير من المعقولات لا تكون
21
خاطرة بالبال، بل أعنى أنها لا يمكن مع إخطارها بالبال، وإخطار ما هى
35
1
مقوِّمة له بالبال، حتى تكون هذه مُخْطرَةً بالبال، وذلك مُخْطرًا بالبال بالفعل،
2
أن يسلبها عنه، كأنك تجد الماهية بالفعل خالية عنها مع تصورها، أعنى تصورَ
3
الماهية فى الذهن. وإذا كان كذلك، فالصفات التى نسميها ذاتية للمعانى
4
المعقولة، يجب ضرورة أن تَعقل للشىء على هذا الوجه، إذ لا تتصور الماهية
5
فى الذهن دون تقدم تصورها.
6
وأما سائر العوارض، فإذْ ليست مما يتقدم تصورها فى الذهن تصور
7
الماهية فيه، ولا أيضا هى مع تصور الماهية، بل هى توابع ولوازم ليست مما
8
يحقق الماهية، بل مما يتلو الماهية، فالماهية تثبت دونها وإذا ثبتت دونها،
9
لم يتعذر أن تعقل الماهية، وإن لم تتقدم، أو إن لم يلزم تعقلها. وقد علمتَ أنْى
10
لست أعنى فى هذا التعقل أن يكون، إذا تصورت الشىء بالفعل ملحوظا إليه،
11
يكون مع ذلك تصورت أفراد المقومات له أيضا بالفعل، فر بما لم تلحظ الأجزاء
12
بذهنك، بل أعنى بهذا أنك إذا أخطرت الأمرين معا بالبال، لم يمكنك
13
أن تَسْلب الذى هو مقوَِم عن الذى هو مقوِّم له سلبا يصح معه وجود المقوِّم
14
بماهيته فى الذهن من دون وجود ما يقوِّمه فيه. فإذا كان كذلك، فيجب
15
أن لا يمكنك سلبه عنه، بل يعقل وجوده له لا محالة.
16
وأما العوارض فلا أمنع صحة استثباتك فى الذهن معنى الماهية، ولا يُعقل
17
وجودها للماهية، بل يسلبها سلبا كاذبا. ولا أوجب ذلك أيضا فى كل
18
العوارض، فإنَّ من العوارض ما يَلْزَم الماهية لزوما أوليا بَيِّنا ليس بواسطة
19
عارض آخر، فيكون سلبه عن الماهية مع استثبات الماهية وإخطارهما معا بالبال
20
مستحيلا، إذا كان ليس هو له بسبب وسط بينه وبينه. وذلك مثل كون
21
المثلث بحيث يمكن إخراج أحد أضلاعه على الاستقامة توهما، أو معنى آخر
36
1
مما يشبه هذا مما هو عارض له. وقد يمكن أن يكون وجود العارض بواسطة، فإذا
2
لم تخطر تلك الواسطة بالبال، أمكن سلبه، مثل كون كل زاويتين من المثلث
3
أصغر من قائمتين. ولولا صحة وجود القسم الثانى لما كانت لوازم مجهولة؛
4
ولولا صحة القسم الأول لما كان ما نُبَيِّن لك بعد من إثبات عارض
5
لازم للماهية بتوسط شىء حقا. وذلك لأنَّ المتوسط،إنْ كان لا يزال يكون
6
لازما للماهية غيربَيَّن الوجود لها، ذهب الأمر إلى غير النهاية؛ وإنْ
7
كان من المقومات، صار اللازم المجهولُ ـــ كما تعلم ـــ لازمًا لهذا المقوم،
8
لا مقومًا، إذْ مقوم المقوم مقومٌ، وكان لازما آخر الأمر بلا واسطة. فما
9
كان من اللوازم غير بيِّن للشىء صح فى الذهن أن يتوهم الشىء مرفوعا عنه ذلك
10
اللازم من جهةٍ، ولم يصح من جهة. أَمَّا جهة الصحة فمن حيث أنَّ تصوُّرَه
11
قد يحصل فى الذهن مع سلب اللازم عنه بالفعل، واعتبار هذه الصحة والجواز
12
حسب الذهن المطلق. وأمّا جهة الاستحالة فأنْ يُتَوهم أنه يجوز أن لو كان
13
يحصل فى الأعيان، وقد سلب عنه فيها اللازم، حتى يكون مثلا كما يصح
14
أن لوكان يكون هذا الشخص موجودا، ولا الندب الذى لزمه فى أصل الخلقة،
15
فصار يصح أيضا أنه كان يكون هذا المثلث موجودا، ولا زاويتاه أقل
16
من قائمتين؛ فإنّ هذا التوهم فاسد لا يجوز وجود حكمه، وليس كالمذكور معه.
17
واعتبار هذه الصحة والجواز بحسب ذهن مطابق للموجود.
18
فقد بان لك من هذا أن من الصفات ما يصح سلبه وجودا، ومنها
19
ما يصح سلبه توهمًا لا فى الوجود، ومنها ما يصح سلبه توهما مطلقا، ومنها
20
ما لا يصح سلبه بوجه وهو عارض، ومنها ما لا يصح سلبه وهو ذاتى،
37
1
لكن يتميز من العارض بأن الذهن لا يوجب سبقَ ثبوت ما الذاتى له ذاتى
2
قبل ثبوت الذاتى، بل ربما أوجب سبق ثبوت الذاتى. وأما العرض
3
فإن الذهن يجعله تاليا، وإن وجب ولم ينسلب.
4
فقد اتضح لك كيف لم يُحَصِّلْ معنى الذاتى والعرضى من اقتصر على البيانين
5
المذكورين.
6
[الفصل السابع]
7
(ز) فصل فى تعقب ما قاله الناس فى الدال على الماهية
8
إنّ الدال على الماهية قد قيل فيه: إنه هو الدال على ذاتى مشتركٍ كيف كان،
9
ولم يبلغنا ما هو أشد شرحا من هذا. فلننظر الآن هل المفهوم من هذه اللفظة،
10
بحسب التعارف العاى، هو هذا المعنى أو لا، وهل ما تعارفه الخاص
11
واتفقوا عليه بسبيل النقل يدل عليه؟ فإنَا إذا فعلنا هذا، اتضح لنا غرض كبير.
12
أما المفهوم بحسب التعارف العامى فليس يدل عليه؛ وذلك لأن الدال
13
على ماهية الشىء هو الذى يدل على المعنى الذى به الشىء هو ما هو. والشىء
14
إنما يصير هو ما هو بحصول جميع أوصافه الذاتية المشترك فيها، والتى تخص
15
أيضا؛ فإن الإنسان ليس هو ما هو بأنه حيوان، وإلا لكانت الحيوانية تحصل
16
الإنسانية. نعم الحيوانية محتاج إليها فى أن يكون هو ما هو، وليس كل
17
ما يحتاج إليه فى أن يكون شىء هو ما هو، يكون هو الذى يحصل بحصوله وحده
18
الشىء هو هو. فإذا كان كذلك لم يكن الذاتى المشترك للشىء مع غيره وحده،
38
1
ولا الخاص وحده هو ماهية الشىء بل جزء ماهيته. والعجب أنَّ جماعةً ممن
2
يرى أنَّ الذاتى والدالَّ على الماهية واحدٌّ لا يجعل الذاتى الخاص دالا على ماهية
3
ما هو ذاتى له، وهو الذى نسميه بعد فصلا؛ فهذا هذا.
4
وأمّا تعرف الحال فى الدال على الماهية على سبيل الوضع الثانى والتعارف
5
الخاص، فهو أنا نجد الحيوان والحساس محمولين على الإنسان والفرس
6
والثور، ثم نجد أهل الصناعة يجعلون الحساس وما يجرى مجراه من جملة أمور
7
يسمونها فصولا لأمور يسمونها أجناسا ذاتية، ثم لايجعلونها من جملة
8
ما يسمونه أجناسا، ويجعلون كل ما يكون دالا على الماهية لعدة أشياء مختلفة
9
جنسا لها. وكذلك حال الإنسان والناطق بالقياس إلى أشخاص الناس،
10
فيجعلون الإنسان يدل عليها بالماهية، ولايجعلون الناطق كذلك، ويجعلون الإنسان
11
ذلك نوعا للحيوان دون الناطق. فإنّ الشىء الذى يقولون إنه دال على الإنية
12
الذاتية المشتركة، يجعلونه شيئا غير الدال على الماهية الذاتية المشتركة،
13
ولا يجعلون الشىء الواحد صالحا لأن يكون بالقياس إلى أشياء إنية وماهية،
14
حتى يكون، من حيث يشترك فيه، هو ماهية لها، ومن حيث يتميز به عن أشياء
15
أخرى هو إنية لها، حتى يكون الشىء المقول على الكثرة من حيث تشترك
16
فيه الكثرة جنسأ أو نوعًا، ومن حيث تتميز به فصلا. فيكون ذلك الشىء
17
لتلك الأشياء جنسا أو نوعا، ومع ذلك يكون لها فصلا؛ بل إذا وجدوا جنسًا
18
ارتادوا شيئا آخر ليكون فصلا يقَوِّم الجنس، إن كان جنسا له فصل يقوِّمه.
39
1
وكذلك إذا وجدوا نوعا طلبوا شيئا من ذاته هو الفصل، ولوكان الشىء إنما
2
هو دال على الماهية، حتى هو جنس ونوع، لأنه دال على ذاتى مشترك فيه،
3
لكان الأمر بخلاف هذه الأحكام.
4
وها هنا[*]وها هنا corrupt for وهاهنا موانع أخرى عن أن يكون ما قالوه من كون الدال على ذاتى مشترك،
5
دالا على الماهية حقا. فإنَ زاد أحدهم شرطا ليتخصص به ما يسمونه جنسا
6
ونوعا فى كونه دالا على الماهية، وهو أنه يجب أن يكون أعم الذاتيات المشتركة
7
مضمونا فى الدلالة التى للذاتى المشترك، وذلك الأعم هو الأعم الذى لايدل
8
على إنية أصلا، حتى يكون الفرق بين الأمرين أنّ الدال على الإنية هو الذى بكليته
9
وكما هويدل على الإنية. وأما هذا الذى يتضمن الدلالة على أعم الذاتيات المشتركة
10
فإنما يدل على الإنية بالعرض، لأنه يدل بجزء منه دون جزء، كالحيوان فإنه
11
وإنْ تميز به أشياء عن النبات، فإنه ليس ذلك بجميع ما بحصوله الحيوان حيوان،
12
بل بشىء منه؛ فإنه لا يفعل ذلك بأنه جسم، بل بأنه حساس، وهذا هو الدال
13
على الإنية أولا، ولأجله يدل الحيوان على التمييز والإنية. فيكون الحيوان ليس
14
لذاته صالحا للتمييز، بل بجزء منه، ويكون الحساس كذلك لذاته، فنقول:
15
إنّ هذا أيضا تكلف غير مستقيم. أما أولا فلأنه لو كان كذلك لكان
16
إذا أخذنا أعم المعانى كالجوهر، وقرنّا به أخص ما يدل على الشىء فقلنا مثلا:
17
جوهر ناطق، لكان يكون دالا على ماهية، وكان يكون نوع الإنسان
18
أو جنسه، وكان يكون حد الانسان أو حد جنسه أنه جوهر ناطق. وليس
19
كذلك عندهم، بل حده أنه حيوان ناطق، وليس الحيوان والجوهر واحدا؛
20
ومن المحال أن يكون للشىء الواحد حد تام حقيقى إلا الواحد. وإن تكلفوا
40
1
أن يوجهوا مع المشترك الأول سائر التى فى الوسط على الترتيب كله، فقد حصل
2
ما نذهب إليه من أن الدال على الماهية يجب أنْ يكون مشتملا على كمال
3
الحقيقة، فيكون حينئذ هذا التكلف يؤدى إلى أن لا يحتاج إلى نقل هذه
4
اللفظة عن الموضوع فى اللغة إلى اصطلاح ثان؛ فإنا سنوضح من بعد أنّ استعمال
5
هذه اللفظة على ما هى عليه يحفظ الوضع الأول لها مع استمرارٍ فى الوجوه التى
6
يتعوق معها ما يتعوق.
7
وبعد هذا كله، فإنّ ذلك يفسد بوجوه أخرى، منها أنّ الحساسَ
8
أيضا حكمه حكم الحيوان، وأنه أيضا محصل من معان عامة وخاصة،
9
وأنّ المعانى العامة فيه، ككون الجسم أو الشىء ذا قوة أو صورة أو كيفية
10
لا تمييز بها، إنما تميزبما هو أخص منها، وهو كون الجسم أو الشىء ذا قوة
11
درّاكة للشخصيات على سبيل كذا. ومنها أن الحيوان، وإنْ كان لا يميز
12
بجزء من معناه كالجسم، ويميز بجزء كالحساس، فليس سبيلنا فى هذا الاعتبار
13
هذا السبيل، ولا نظرنا هذا النظر. وذلك لأنا إنما ننظر فى الحيوان،
14
من حيث هو حيوان؛ والحيوان، من حيث هو حيوان، شىء واحد؛ ومن حيث
15
هو ذلك الواحد لا يخلو إما أن يميز التمييز الذى عن النبات أو لا يميز، فإنْ لم
16
يميزوجب أن يكون النبات يشارك الحيوان فى أنه حيوان، وهذا حُلْفٌ؛
17
وإن ميز، فقد صدر عنه بما هو حيوان تَمَيُّز، وإن كان قد يصدر أيضا عن
18
جزء له، وكان الجزء علةً أولى فى ذلك التمييز، وليس إذا كان للشىء علة
19
بها يصير بحال، وللعلة تلك الحال، يجب أن تكون تلك الحال له بالعرض،
20
فكثير من الأشياء بهذه الصفة.
41
1
ثم لا أمنع أن يكون ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا شروط أخرى تلحق بالبيان الذى جعلوه للدال
2
على الماهية، يتميز بها ما يسمى جنسا أونوعا عن الفصل؛ وشروط أخرى
3
تلحق بالتمييز يكون ذلك للحساس دون الحيوان؛ إلا أنَّ ذلك لا يكون بحسب
4
الوضع الأول، ولا بحسب نقلٍ منصوصٍ عليه من المستعملين لهذه الألفاظ
5
فى أول ما استعملوا، بل يكون اضطرارات ألجأ إليها أمثال هذه المقاومات.
6
وإذا وجد فى ظاهر المفهوم من لفط ما هو ما يقع به استغناء واقتصار،
7
كان المصير عنه إلى غيره ضربا من العجز ومن اللجاج الذى تدعو إليه الأنفة
8
من الإذعان للحق، والاعتراف بذهاب ذلك على من لم يخطر بباله ما أوردناه من
9
المباحث إلى حين سماعها.
10
[الفصل الثامن]
11
(ح) فصل فى قسمة اللفظ المفرد الكلى إلى أقسامه الخمسة
12
نقول الآن: إنه قد تبين لك أن اللفظ المفرد الكلى إما ذاتى وإما عرضى،
13
وأنّ الذاتى للشىء إما صالح للدلالة على الماهية بوجه، وإما غير صالح للدلالة
14
على الماهية أصلا. والدال على الماهية إما أن يدل على ماهية شىء واحد
15
أو أشياء لاتختلف اختلافا ذاتيا؛ وإما أن تكون دلالة على الماهية إنما
16
هى بحسب أشياء تختلف ذواتها اختلافا ذاتيا. مثال الأول لفظة الشمس
17
إذا وقعت على هذه المشار إليها؛ ولفظة الإنسان إذا وقعت على زيد وعمرو؛
18
ومثال الثانى دلالة لفظة الحيوان إذا وقعت على الثور والحمار والفرس
19
معا، فسأل سائل مثلا: ما هذه الأشياء؟ فقيل: حيوانات، فإنّ لفظة
20
الحيوان تدل على كمال حقيقتها، من حيث هو مسئول عنها جملتها، ومطلوب
42
1
كنه الحقيقة التى لها بالشركة. والفرق بين الوجهين أنَّ الوجه الأول
2
يكون دالا على ماهية الجملة، وماهية كل واحد؛ فإنَّ لفظة الإنسان تدل
3
أيضا على كمال الحقيقة الذاتية التى لزيد وعمرو، وإنما يفضل عليها ويخرج
4
عنها ما يختص كل واحد منهما به من الأوصاف العرضية، كما قد فهمته مما قيل
5
سالفا.
6
وأما الوجه الثانى فإنك تعلم أن الحيوانية وحدها لا تكون دالة على ماهية
7
الإنسان والفرس وحدها، فليس بها وحدها كل واحد منهما هو هو، وليس
8
إنما يفضل عليها بالعرضيات بل بالفصول الذاتية؛ وأما الذى لها
9
من الماهية بالشركة فلفظة الحيوان تدل عليه. وأما الحساس فيدل على جزء
10
من جملة ما تشتمل عليه دلالة لفظة الحيوان، فهو جزء من كمال حقيقتها المشترك
11
فيها دون تمامها؛ وكذلك حال الناطق بالقياس إلى الإنسان. لكن لقائل
12
أن يقول: إنه لا دلالة للحيوان إلا ومثلها للحساس، وكما أنه لا يكون الحيوان
13
إلاجسما ذا نفس، كذلك لايكون الحساس إلاجسما ذا نفس. فنقول فى جوابه:
14
إنّ قولنا إنَّ اللفظ يدل على معنى ليس على الوجه الذى فهمته، أعنى
15
أن يكون إذا دل اللفظ لم يكن بد من وجود ذلك المعنى، فإنك تعلم أنّ لفظ
16
المتحرك إذا دَلَّ، لم يكن بد من أن يكون هناك محرك، ولفظة السقف،
17
إذا دلت، لم يكن بد من أن يكون هناك أساس؛ ومع ذلك لا نقول إنَّ لفظة
18
المتحرك مفهومها ودلالتها المحرك، ولفظة السقف مفهومها ودلالتها الأساس؛
19
وذلك لأن معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل
43
1
القصد الأول، فإنْ كان هناك معنى آخر يقارن ذلك المعنى مقارنة من خارج،
2
يشعر الذهن به مع شعوره بذلك المعنى الأول، فليس اللفظ دالا عليه بالقصد
3
الأول، وربما كان ذلك المعنى محمولا على ما يُحْمل عليه معنى اللفظ، كمعنى
4
الجسم مع معنى الحساس؛ وربما لم يكن محمولا كمعنى المحرك مع المتحرك.
5
والمعنى الذى يتناوله اللفظ بالدلالة أيضا يكون على وجهين: أحدهما أولا والآخر
6
ثانيا؛ أما أولا فكقولنا الحيوان، فإنه يدل على جملة الجسم ذى النفس
7
الحساس، وأما ثانيا فكدلالته على الجسم، فإنَّ معنى الجسم مضمنٌ فى معنى
8
الحيوانية ضرورةً، فما دل على الحيوانية اشتمل على معنى الجسم، لا على أنه يشير
9
إليه من خارج، فيكون ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا دلالة بالحقيقة، إما أولية وإما ثانية، ودلالة
10
خارجية، إذا دل اللفظ على ما يدل عليه، عرف الذهن أن شيئا آخر من خارج
11
يقارنه، وليس داخلا فى مفهوم اللفظ دخولَ اندراجٍ ولا دخول مطابق.
12
فإن أردنا أن نختصر هذا كله ونحصله، جعلنا الدلالة التى للألفاظ على ثلاثة
13
أوجه: دلالة مطابقة، كما يدل الحيوان على جملة الجسم ذى النفس الحساس؛
14
ودلالة تَضَمُّن، كما تدل لفظة الحيوان على الجسم؛ ودلالة لزوم كما تدل لفظة
15
السقف على الأساس. فإذا كان كذلك فلنرجع إلى مانحن فيه فنقول: إنَّ المفهوم
16
من الحساس هو أنه شىء له حِسٌّ تَمَّ من خارج مّا، نعلم أنه يجب أن يكون
17
جسما وذا نفس، فتكون دلالةُ الحساس على الجسم دلالة لزوم. وأما الحيوان
18
فإنما نعنى به بحسب الاصطلاح الذى لأهل هذه الصناعة، أنه جسم ذو نفس
19
حساس، فتكون دلالته على كمال الحقيقة دلالة مطابقة، وعلى أجزائها
44
1
دلالة تضمن. وأما دلالة الحساس على سبيل المطابقة، فإنما هى على جزء فقط،
2
وأما الكل وسائر الأجزاء، فإنما تدل عليها على سبيل اللزوم.
3
ولسنا نذهب ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا فى قولنا لفظ دال، إلى هذا النمط من الدلالة؛ فقد
4
تقرر أنَّ اللفظَ الدال على الماهية ما هو وكيف هو، ومن ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا تزول الشبهة
5
المذكورة. فأما اللفظ الذاتى للشىء الذى لا يدل على ماهية ما اعتبرذاتيته له،
6
لا بسبيل شركة ولا خصوصٍ، فانه لا يجوز أن يكون أعم الذاتيات المشتركة،
7
وإلا لدل على الماهية المشتركة بوجهٍ، فهو إذن أخص منه، فهو صالح لتمييز
8
بعض ما تحته عن بعض، فهو صالح للإنية؛ فكل ذاتى لا يدل بوجه على ماهية
9
الشىء فهو دال على الإنية.
10
فإنْ قال قائل: إنَّ الذى يصلح للإنية هو بعينه يصلح للماهية، فإنَّ
11
الحساس، وإن رَذَّلْتَ كونَه دالا على ماهية الإنسان والثور والفرس،
12
بحال خصوصٍ أو شركة، فإنك لا تُرَذِّل دلالته على ماهية مشتركة للسميع
13
والبصير واللامس؛ فليس يجب أن يكون الذاتى ينقسم إلى مقول فى جواب
14
ما هو، ومقولٍ فى جواب أى شىء، انقساما على أن لا يدخل أحدهما
15
فى الآخر، ولذلك لم يتبين لك أنه إذا كان الشىء دالا على الماهية، فليس بدالٍ
16
على الإنية، بل يلزمك ما ألزمت القوم، فنقول له: أما التشكك المقدم فينحل
17
بأن تَعْرِف أنَّا لا نمنع أن يكون ماهو دال على إنية أشياء دالا على ماهية أشياء
18
أخرى، بل ربما أوجبنا ذلك؛ إنما نمنع أن يكون الحساس مثلا دالا
19
على ماهية خاصة أو مشتركة للإنسان والفرس والثور، كدلالة الحيوان
20
مع مشاركة الحيوان الحساس فى الذاتية للإنسان والفرس والثور؛ فإنَّ
45
1
الحساس ذاتى مشترك لعدة أشياء، كما أن الحيوان ذاتى مشترك لها؛ إنما
2
تمنع حكما آخر فنقول: إنهما بعد الاشتراك فى الذاتية المشترك فيها، يفترقان
3
فيكون الحيوان وحده منهما دالا على ماهية مشتركة للأمور التى هما ذاتيان لها.
4
ويجب أن تعلم أنا إذا قلنا: لفظ ذاتى، عنينا ذاتيا لشىء، ثم نقول: ماهية
5
أوغير ماهية، فنعنى بذلك أنه كذلك لذلك الشىء لا غيره. وإذا خلينا عن هذا
6
فيكون ما هو أبعد من هذا، فإن الذاتى للشىء، كاللون للبياض، قد يكون
7
عرضيا لشىء آخر، كما هو للجسم، وهذا لا يوجب منع قولنا: إن الذاتى لايكون
8
عرضيا؛ فإن غرضنا يتوجه إلى أنه لا يكون عرضيا لذلك الشىء الذى هو
9
له ذاتى.
10
وأما التشكك الآخر فينحل بأن نقول: إنّا نعنى بالدال على الإنية ما إنما
11
صلوحه للإنية فقط دون الماهية، حتى إنه لا تكون دلالته على معنى مقوم
12
يتمم ماهية مشتركة أو خاصة، بل على معنى مقوم يخص؛ فإذا قلنا: الدال
13
على الإنية عنينا هذا المعنى. فإن تشكك متشكك، واستبان حالَ قول الحيوان
14
على السميع والبصير واللامس، هل هو قول فى جواب ما هو أوليس، وكيف
15
يجوز أن يكون مقولا فى جواب ما هو، فتكون هذه أنواعَ الحيوان وأمورا
16
مختلفة متباينة أيضا، فحينئذ لا يكون الحساس مقولا عليها فى جواب ما هو،
17
لأن الحيوان أتمُّ دلالة. وكيف لا يكون كذلك وهوأكل محمول على ما نحمله
18
عليه بالشركة؟ فيجب أن ينتظر هذا المتشكك أصولا وأحوالا نعطيها إياه فى حمل
19
الجنس على الفصل، وذلك بعد فصول.
46
1
فإذْ قد تبين هذا فنقول: إنَّ الذاتى الدالَ على الماهية يقال له: المقول
2
فى جواب ما هو؛ والذاتى الدال على الإنية يقال له: المقول فى جواب أى شىء
3
هو فى ذاته، أو أى ما هو.
4
وأما العرضى فربما كان خاصًا بطبيعة المحمول عليه لا يَعْرض لغيره كالضحاك
5
والكاتب للإنسان، ويُسَمَّى خاصةً؛ وربما كان عارضا له ولغيره كالأبيض
6
للإنسان ولغيره، ويسمى عرضا عاما. فيكون كل لفظ كلى ذاتى إما دالا على
7
ماهية أعم، ويسمى جنسا، وإما دالا على ماهية أخص، ويسمى نوعًا،
8
وإما دالا على إنية ويسمى فصلا. وأمّا الكلى العرضى فيكون إما خاصيا ويسمى
9
خاصة، وإما مشتركا فيه ويسمى عرضا عاما.
10
فكل لفظ كلى إما جنسٌ، وإما فصل، وإما نوع، وإما خاصة، وإما
11
عرض عام. وهذا الذى هو جنس ليس جنسا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل
12
شىء، بل جنسا لتلك الأمور التى تشترك فيه. وكذلك النوع ليس هو نوعا
13
فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل بالقياس إلى الأمور التى هو أعم
14
منها. وكذلك الفصل إنما هو فصل بالقياس إلى ما يتميز به فى ذاته. والخاصة
15
أيضا إنما هى خاصة بالقياس إلى ما يعرض لطبيعته وحده. وكذلك العرض
16
إنما هو عرض عام بالقياس إلى ما يعرض له لا وحده.
17
فلنتكلم الآن فى كل واحد منها بانفراده، ثم لنبحث عن مشاركاتها
18
ومبايناتها، على حسب العادة الجارية، سالكين فيه مسلك الجماعة.
47
1
[الفصل التاسع]
2
(ط) فصل فى الجنس
3
فنقول: إن اللفظة التى كانت فى لغة اليونانيين تدل على معنى الجنس،
4
كانت تدل عندهم بحسب الوضع الأول على غير ذلك، ثم نُقِلت بالوضع الثانى
5
إلى المعنى الذى يسمى عند المنطقيين جنسا. وكانوا أولئك يُسمون المعنى الذى
6
يشترك فيه أشخاصٌ كثيرةٌ جنسًا، مثل ولديتهم كالَعلوِية، أوبلديتهم كالمصرية.
7
فإنَّ مثل العلوية كانت تسمى عندهم باسم الجنس بالقياس إلى أشخاص العلويين،
8
وكذلك المصرية كانت تسمى عندهم جنسا بالقياس إلى أشخاص المولودين
9
بمصر، أو الساكنين بها؛ وكانوا أيضا يسمون الواحد المنسوب إليه الذى
10
تشترك فيه الكثرة جنسا لهم، فكان علىٌّ مثلا عندهم يُجْعل جنسا للعلويين، ومصر
11
جنسا للمصريين؛ وكان هذا القسم أَوْلى عندهم بالجنسية، لأنَّ عليا سببٌ
12
لكون العلوية جنسا للعلويين، ومصر سببٌ لكون المصرية جنسا للمصريين.
13
ونظن أنّ السبب أولى بالاسم من المسبب إذا وافقه فى معناه، أو قاربه.
14
ويشبه أيضا أنهم كانوا يسمون الحِرَفَ والصناعات أنفسها أجناسا للمشتركين فيها،
15
والشركةَ نفسها أيضا جنسا. فلما كان المعنى الذى يسمى الآن عند المنطقيين
16
جنسا هو معقول واحد له نسبة إلى أشياء كثيرة تشترك فيه، ولم يكن له
17
فى الوضع الأول اسم، نُقِل له من اسم هذه الأمور المتشابهة له اسم، فسمى
18
جنسا، وهو الذى يتكلم فيه المنطقيون ويرسمونه بأنه المقول على كثيرين مختلفين
19
بالنوع فى جواب ما هو.
48
1
وقبل أن نَشَرع فى شرح هذا التحديد، فيجب أن نُشير إشارةً خفيفة
2
إلى معنى الحدَّ والرسم، ونؤخر تحقيقه بالشرح إلى الجزء الذى نشرح فيه حال
3
البرهان فنقول: إن الغرض الأول فى التحديد هو الدلالة باللفظ على ماهية
4
الشىء، فإنْ كان الشىء معناه معنى مفردا غير ملتئم من معان، فلن يصلح أن يدل
5
على ذاته إلا بلفظ يتناول تلك الذات وحدها، ويكون هو اسمها لا غير،
6
ولا يكون له ما يشرح ماهيته بأكثر من لفظٍ هو اسم؛ وربما أتى باسم مرادف
7
لاسمه يكون أكثر شرحا له. لكن دلالة الاسم إذا لم تُفد علما بمجهول، احْتِيج
8
إلى بيان آخر لايتناول ذاته فقط، بل يتناول نِسبَا وعوارض ولواحق ولوازم
9
لذاته، إذا فُهِمَت تنبه الذهن حينئذ لمعناه منتقلا منها إلى معناه، أو يقتصر
10
على العلامات دون الماهية، فلا ينتقل إليها، وعلى ما هو أقرب إلى
11
فهمك فى هذا الوقت. فمثل هذا الشىء لاحَدَّ له، بل له لفظ يشرح لواحقه
12
من أعراضه ولوازمه.
13
وأما إنْ كان معنى ذاته مؤلفا من معان، فله حد، وهو القول الذى يُؤَلف
14
من المعانى التى منها تحصل ماهيته حتى تحصل ماهيته، ولأن أخص الذاتيات
15
بالشىء إما جنسه، وإما فصله، على ما يجب أن نتنبه له مما سلف ذكره؛ فأما
16
فصل الفصل، وجنس الجنس، وما يتركب من ذلك، فهو له بواسطة،
17
وهو فى ضمن الجنس والفصل. فيجب أن يكون الحد مؤلفا من الجنس
18
والفصل؛ فإذا أحضر الجنس القريب، والفصول التى تليه، حصل منها الحد،
19
كما نقول فى حد الإنسان: إنه حيوان ناطق. فإنْ كان الجنسُ لا اسم له، أتى
49
1
أيضا بحده، كما لو لم يكن للحيوان اسم أتى بحده فقيل: جسم ذو نَفْس حساس،
2
ثم ألحق به ناطق. وكذلك من جانب الفصل.
3
فالحد بالجملة يشتمل على جميع المعانى الذاتية للشىء، فيدل عليه إما دلالة
4
مطابقة، فعلى المعنى الواحد المتحصل من الجملة، وإِمّا دلالة تضمن، فعلى
5
الأجزاء. وأَمَّا الرسم فإنما يتوخى به أن يؤلف قول من لواحق الشىء
6
يساويه، فيكون لجميع ما يدخل تحت ذلك الشىء لا لشىء غيره، حتى يدل عليه
7
دلالة العلامة. وأحسن أحواله أن يُرَتَّبَ فيه أولا جنس، إما قريب وإما بعيد،
8
ثم يؤتى بجملة أعراض وخواص، فإن لم يفعل ذلك كان أيضا رسما، مثال ذلك
9
أن يقال: إنَّ الإنسان حيوانٌ عريض الأظفار، منتصبُ القامة، بادى
10
البشرة، ضحاك، أوتذكر هذه دون الحيوان. فالمقول فى شرح اسم الجنس
11
هو كالجنس للشىء الذى يسمى جنسا، فمن المقول ما يقال على واحد فقط،
12
ومنه ما يقال على كثيرين، فيكون المقول على كثيرين كالجنس الأقرب. وأما
13
المقول لا على كثيرين، فلايتناول الجنس. ثم المقول على كثيرين يتناول الخمس
14
المذكورة، إلا أَنَّا لما قلنا: مختلفين بالنوع فى جواب ما هو، اختص بالجنس،
15
ونعنى بالمختلفين بالنوع المختلفين بالحقائق الذاتية، فإن النوع قد يُقال لحقيقة
16
كل شىء فى ماهيته وصورته غير ملتفت إلى نسبته إلى شىء آخر، خصوصا
17
إذا كان يصح فى الذهن حَمْلُه على كثيرين، تشترك فيه بالفعل أو لاتشترك فيه
18
بالفعل بل بالقوة، أو احتمال التوهم؛ وليس يحتاج فى تحقيق الجنس إلى أن
19
يُلْتفت إلى شىء من ذلك. وإذا كانت أشياء مختلفة الماهيات، ثم قيل عليها
20
شىء آخر هذا القول، كان ذلك الشى الآخر جنسا.
50
1
فافهم من قولنا: إنَّ هذا الشىء يقال على هؤلاء الكثيرين فى جواب ماهو،
2
أنَّ ذلك بحال الشركة كما علمتَ.
3
وأما الفصل، فإنه غير مقول فى جواب ما هو بوجه. وأما النوع، فإنه ليس،
4
من حيث هو نوع، مقولا على شىء قولا بهذه الصفة، بل مقولا عليه، فإنْ
5
اتفق أَنْ قيل هو بعينه هذا القول، فقد صار جنسا. فإنا يلزمنا أن نعلم
6
فى الحدود التى للأشياء الداخلة فى المضاف، أنّا نريد بها كونها لشىء، من حيث
7
هى لها معنى الحدود، كأنّا لما قلنا هذا الحد للجنس، استشعرنا فى أنفسنا
8
زيادةً يدل عليها قولنا: من حيث هو كذلك، لو صرحنا بها. وأما الشىء
9
الذى يخص من بعد باسم النوع، فستعلم أنه لا يقال على كثيرين مختلفين بالنوع،
10
بل بالعدد.
11
وأما العرضيات، فلا يقال شىء منها فى جواب ما هو، فلا شىء غير الجنس
12
موصوفا بهذه الصفة، وكل جنس موصوف بهذه الصفة، لأنا حَصَّلْنا معنى
13
هذا الحد، وجعلنا لفظ الجنس اسما له.
14
وقد يعرض هاهنا شُبَهٌ: من ذلك أنه إذا كان للجنس شىء كالجنس،
15
وهو المقول على كثيرين، كان للجنس جنس، إذا قيل الجنس على المقول
16
على الكثيرين الذى هو جنسه، وكان الجنس مقولا على الجنس نفسه، فنقول
17
فى جوابه: إنّ المقول على الكثيرين يُقال على الجنس كقول الجنس،
18
والجنس يقال عليه لا كقول الجنس بل كقول العرض له؛ إذ ليس يقال:
51
1
إنّ كل مقول على كثيرين جنس، وكل ما هو جنس، فإنما يقال على كل
2
ما هو له جنس، بل المقول على كثيرين تَعْرِض له الجنسية عند اعتبارٍ مَّا،
3
كما تعرض للحيوان الجنسية باعتبار ما، وهو اعتبار العموم بحال، وكما نشرح
4
لك كل هذا عن قريب، من غير أن تكون الجنسية مقومة للحيوان البتة. ولا يمنع
5
أن يكون المعنى الأخص قد يقال على الأعم، لا على كله؛ ولو كان الجنس
6
يقال على المقول على الكثيرين قول المقول على الكثيرين على الجنس لكان
7
شططا محالا.
8
ومما يشكك ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا استعمال لفظة النوع فى حد الجنس. فإنك إذا
9
أردتَ أن تَحُدَّ النوعَ، يُشْبِه أنْ لاتجد بُدَّا من أن تدخل فيه اسم الجنس،
10
كما يُبَيَّنُ لك بَعْد، إذ يقال لك إن النوع هو المرتبَ تحت الجنس، وكلاهما
11
للمتعلم مجهول، وتعريف المجهول بالمجهول ليس بتعريفٍ ولا بيان؛ وكل تحديد
12
أو رسم فهو بيان. وقد أجيب عن هذا فقيل: إنه لما كان المضافان
13
إنما تقال ماهيةُ كلِّ واحدٍ منهما بالقياس إلى الآخر، وكان الجنسُ والنوع
14
مضافين، وَجَبَ أَنْ يؤخذ كلُّ واحد منهما فى بيان الآخر ضرورةً، إذْ
15
كان كلُّ واحد منهما إنما هو هو بالقياس إلى الآخر فهذا الجواب هو
16
زيادة شك فى أمور أخرى غير الجنس والنوع، يشكل فيها ما يشكل فى الجنس
17
والنوع. وزيادة الإشكال ليست بحل، فإن المحقق يقول: ورُدَّ حدود المضافات
18
على حد الجنس والنوع، وعَرِّفْنى أنها إذا كانت مجهولةً معا، فكيف
19
يُعرف الواحد منها بالآخر؟ وأيضا فإنّ من شأن الحل أنْ تقصد فيه مقدمات
52
1
الشك فتنكر جميعها، أو واحدة منها. وليس فى الحل الذى أَوْرَده هذا الحالُّ
2
تَعَرضٌّ لشىء من تلك المقدمات؛ فإنه لم يقل إن الجنس والنوع ليسا معا
3
مجهولين عند المبتدئ المتعلم، ولم يقل إنه إذا عُرِّفَ كلُّ واحد منهما بالآخر
4
وهو مجهول، فليس هو تعريف مجهول بمجهول، فإنّ هذا لا يمكن إنكاره؛
5
ولا أيضا يسوغ إنكار الثالثة وهى أن تعريف المجهول بالمجهول ليس ببيان،
6
ولا الترتيب الذى لهذه المقدمات غير موجب لصحة المطلوب بها؛ فإذا كان
7
هذا الحالُّ لم يتعرض لمقدمة من قياس الشك، ولا لتأليفه، فلم يعمل شيئا.
8
وأيضا فقد وقع فيه غلط عظيم: وهو أنه لم يميز فيه الفرق بين الذى يعرف
9
مع الشىء، وبين الذى يعرف به الشىء؛ فإن الذى يعرف به الشىء هو
10
مما يعرف بنفسه ويصير جزءا من تعريف الشىء، إذا أضيف إليه جزء آخر
11
تُوُصل إلى معرفة الشىء، ويكون هو قد عرف قبل الشىء. وأما الذى يعرف
12
مع الشىء فهو الذى إذا استتمت المعرفة بتوافى المعرفات للشىء معا عُرِف
13
الشىء وعرف هو معه، ولا تكون المعرفة به تسبق معرفةَ الشىء حتى يعرف به
14
الشىء، فذلك لا يكون جزءا من جملة تعريف الشىء؛ فإنّ أجزاء الجملة
15
التى تعرف الشىء ما لم تجتمع معا، لم تعرّف الشىء، والواحد منها يكون دالا
16
على جزء من المعنى الذى للشىء فقط. فما دامت الأجزاء تذكر ولم تستوف
17
جميعها، يكون الشىء بَعْد مجهولا؛ فإذا توافت عرف الشىء حينئذ، وعرف
18
ما يعرف مع الشىء.
19
والمضافات إنما تعرف معا، ليس بعضها يعرف بالبعض، فتَكون معرفة بعضها
20
قبل معرفة البعض، فتكون معرفة البعض لا مع معرفته، وبالجملة مايُعْرف مع الشىء
53
1
غير الذى يعرف به الشىء؛ فإنّ الذى يعرف به الشىء هو فى المعرفة قبل الشىء.
2
وكذلك فإنَّا نقول: إنَّ المتضايفات لاتحد على هذه المجازفة التى أومأ إليها مَنْ
3
ظن أنه يحل هذا الشكَّ، بل فى تحديدها ضربٌ من التلطف يزول به هذا
4
الانغلاق؛ ولهذا موضع بيان آخر. وأما مثاله فى العاجل، فهو أنك إذا سئِلت:
5
ما الأخ؟ لم تعمل شيئا إن أجبتَ: إنه الذى له أخ، بل تقول: إنه الذى
6
أبوه هو بعينه أبو إنسان آخر الذى يقال إنه أخوه، فتأتى بأجزاء بيان ليس
7
واحد منها متحددا بالمضاف الآخر؛ فإذا فرغت تكون قد دللت على المتضايفين
8
معًا. وإذْ قد تقرر أن هذا الحل غير مغن، فلنرجع نحن إلى حيث فارقناه فنقول:
9
إنَّ تحديد الجنس يتم، وإنْ لم يؤخذ النوع فيه نوعا من حيث هو مضاف إليه،
10
ل من حيث هو الذات؛ فإنك إذا عنيت بالنوع الماهيةَ والحقيقةَ والصورةَ،
11
وقد يعنى به ذلك كثيرا فى عادتهم، لم يكن النوع من المضاف الى الجنس. وإذا
12
عنيت بالمختلفين بالنوع المختلفين بالماهية والصورة، تَمَّ لك تحديدُ الجنس. فإنك
13
إذا قلت: إنّ الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق والماهيات
14
والصور الذاتية فى جواب ما هو، تَمَّ تحديدُ الجنس، ولم تحتج إلى أن تأخذ
15
النوعَ من حيث هو مضاف فتورده فى حده، وإن كانت الإضافة تندرج فى ذلك
16
اندراجا لا يكون معه جزء الحد متحددا بالمحدود بالحد. أما الاندراج فلأنك إذا
17
قلتَ: مقول على المختلف بالماهية، جعلتَ المختلف بالماهية مقولا عليه، وهذه
18
إشارة إلى ماعرض لها من الإضافة. وأما أنك لم تجعل جزءَ الحدِّ متحددا بالمحدود
19
بالحد، فلأن جزءَ الحد هو الماهية، أوكلية تخالف بالماهية؛ والماهية من حيث
20
هى ماهية، والكلية المخالفة بالماهية، غيرُ متحددة بالجنس، فتكون قد حددت
54
1
الجنس حدا نبهت فى آخره وبالقوة معه على تحديد النوع الذى يضايفه، من غير
2
أن جعلته بالفعل ـــ من حيث هو مضاف ـــ جزء حده. وأما شرح هذا التدبير
3
فى الحدود التى للمتضايفات، وأنه لم ينبغى أن يكون هكذا، وكيف يحصل معه
4
مراعاة ما لكل واحد من المتضايفين من خاصية القول بالقياس إلى الآخر،
5
فسترى ذلك فى مكان آخر.
6
[الفصل العاشر]
7
(ى) فصل فى النوع ووجه انقسام الكلى إليه
8
والنوع أيضا قد يقال فى لغة اليونانيين على معنى غير معنى النوع المنطقى؛
9
فإنّ اللفظ الذى نقلته الفلاسفة اليونانيون فجعلته لمعنى النوع المنطقى، كان
10
مستعملا فى الوضع الأول عند اليونانيين على معنى صورة كل شىء وحقيقته
11
التى له دون شىء آخر، فوجدوا صورا وماهيات للأشياء التى تحت الجنس،
12
يختص كل واحد منها بها، فسموها، من حيث هى كذلك، أنواعا. وكما أنَّ لفظة
13
الجنس كانت تتناول المعنى العامى والمعنى المنطقى، ولفظةَ النوع مطلقا كانت
14
تتناول المعنى العامى والمعنى المنطقى، فكذلك لفظة النوع المنطقى تتناول عند
15
المنطقيين معنيين: أحدهما أعم والآخر أخص. فأما المعنى الأعم فهو الذى يرونه
16
مضايفا للجنس، ويحدونه بأنه المرتب تحت الجنس، أو الذى يقال عليه الجنس،
17
وعلى غيره بالذات، وما يجرى هذا المجرى. وأما المعنى الخاص فهو الذى
55
1
ربما سموه باعتبارٍ ما، نوع الأنواع، وهو الذى يدل على ماهية مشتركة لجزئيات
2
لا تختلف بأمور ذاتية. فهذا المعنى يقال له نوع بالمعنى الأول؛ إذْ لايخلو
3
فى الوجود من وقوعه تحت الجنس؛ ويقال له نوع بالمعنى الثانى.
4
وبَيْن المفهومين فرقٌ، وكيف لا! وهو بالمعنى الأول مضافٌُ إلى الجنس،
5
وبالمعنى الثانى غير مضاف إلى الجنس؛ فإنه لايحتاج، فى تصوره مقولا على كثيرين
6
مختلفين بالعدد فى جواب ماهو، إلى أن يكون شىء آخر أيضا أعم منه مقولاعليه.
7
ومعنى النوع بالوجه الأول ليس كالجنس بمعنى النوع بالوجه الثانى، وذلك لأنه
8
ليس مقوما له؛ إذ قد يجوز فى التوهم أن لا يكون الشىء الذى هو نوع بهذه الصفة
9
نوعًا بالصفة الثانية؛ إذ لايمتنع فى الذهن أن نتصور كليا هو رأس ليس تحت كلى
10
آخر، وهو مع ذلك ليس مما ينقسم بالفصول، كالنقطة عند قوم. وما كان حمله
11
هكذا وعلى هذه الصورة، وجاز رفعه فى التوهم، لم يكن ـــ كما علمت ـــ ذاتيا،
12
وما لم يكن ذاتيا لم يكن جنسا، بل إنْ كان لا بد فهو عارض لازم له. وقد يقال
13
لهذا نوع الأنواع، وليس المفهوم من كونه نوعَ الأنواع هو المفهوم من كونه
14
نوعًا، بمعنى أنه مقول على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ما هو، وكيف
15
ومن حيث هو نوع الأنواع. فإن النوع المطلق له كالجنس وداخل فى تحديده،
16
وهو به مضاف إلى أنواع فوقه. ثم لست أحقق أنَّ أىَْ الوجهين هو فى اصطلاح
17
المنطقيين أقدم؛ فإنه لا يبعد أن يكون أول نقل اسم النوع إنما هو إلى هذا
18
المطلق على الأفراد، ثم لما عرض له أَنْ كان عليه عام آخر، سمى كونه تحت العام
19
بهذه الصفة نوعية.
56
1
ولا يبعد أيضا أن يكون الأقدم هو المعنى الآخر؛ فلما كان هذا المعنى يلزمه
2
أنْ يكون نوع الأنواع، ويختص فى إضافاته بالنوعية فقط من غير جنس، جُعِل
3
أَوْلى باسم النوعية، وَسُمى من حيث هو ملاصق للأشخاص نوعا أيضا. وهذا شىء
4
ليس يمكننى تحصيله، وإن كان أكثر ميلى هو إلى أنَّ أول التسمية وقع بحسب
5
اعتبار النوع المضايف، لكنه يجب علينا أن نعلم أنّ النوع الذى هو أحد الخمسة
6
فى القسمة الأولى، هو بأى المعنيين نوع، فنقول: إنه قد يمكن أن تخرج القسمة
7
المخمسة على وجه يتناول كل واحد منهما دون الآخر، فإنه إذا قيل: إن اللفظ الكلى
8
الذاتى، إما أن يكون مقولا بالماهية أو لايكون، والمقول بالماهية إما أن يكون
9
مقولا بالماهية المشتركة لمختلفين بالنوع، أو لمختلفين بالعدد دون النوع، كان
10
قسمة المقول بالماهية تتناول الجنسَ والنوع الملاصق للأشخاص، فيضيع اعتبار
11
النوع بالمعنى الذى يكون بالإضافة إلى الجنس فى القسمة الأولى، بل ينقسم بعد
12
ذلك ماهو مقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو إلى ماهو كذلك،
13
ولا يقال عليه مثل ذلك، فيكون الذى يسمى جنسا فقط، وإلى مايكون مقولا
14
على كثيرين، ويقال عليه آخر هذا القول فيصير هذا الاعتبار نوعا. لكن هذه
15
القسمة لا تُخْرج طبيعة النوعية بالمعنى المضاف مطلقا، بل تخرج قسما من هذه
16
النوعية بهذا الاعتبار، وهو ماكان جنسا وله نوعية، وتخرج طبيعة النوع بالاعتبار
17
الخاص سالما صحيحا. وقد يمكن أن يقسم بحيث يخرج النوع بمعنى الأعم، فيكون
18
النوع بالمعنى الخاص فى القسمة الثانية، حتى يكون ما هو نوع: إما الذى هو
19
نوع الأنواع الذى يَعْرِض له أن يكون النوعَ بالمعنى الذى يجعله أخص، وإما
20
الذى هو نوع يتجنس.
57
1
لكنك إذا قسمت الكلى ـــ من حيث هو كلى ـــ فأَوْلى الاعتبارات به أن تقسمه
2
قسمةً تكون له بالقياس إلى موضوعاته التى هو كلى بحسبها، فهنالك يذهب
3
النوع الذى بالمعنى الأعم؛ وإنما يحصل من بَعْد باعتبار ثان، وهنالك يصير النوع
4
المشعور به أولا هو النوع بالمعنى الحاص. وإن لم يراع هذا ـــ بل روعى أحوال
5
الكليات وعوارضها فيما بينها من حيث هى كلية، مثل الزيادة فى العموم
6
والخصوص التى لبعضها عند بعض، لاعند الجزئيات ـــ خرج لك النوع المضاف،
7
على ما نورده عن قريب.
8
وليس يجب أن يكون هذا التخميس مشتملا على كل معنى تكون إليه
9
قسمة الكلى؛ فإنّ الشىء قد ينقسم أقساما قسمة تامة، وتفلت منها أقسام
10
له أخرى إنما تأتى سليمةً بقسمة أخرى؛ فإنَّ الحيوان، إذا قسمته إلى ناطق
11
وأعجم، لم يكن إلا قسمين، وأفلت المشاء والطائر، واحتاج إلى ابتداء قسمة.
12
وليس يجب أن نتعسر ونقول: إنَّ هذه القسة المخمسة يجب أن تشتمل على كل
13
معنى يكون من أقسام الكلى واعتباراته، بل يجب أنْ تعلم أنه إنما يحمل على هذا
14
التعسر اشتراك قسمين متباينين فى اسم وهو اسم النوع، بل الأحرى أنْ نقول:
15
إنَّ هذه الخمسة إذا تحصلت، حصل من المناسبات التى بينها أمر آخر، هو حال
16
الأخص من المقولات فى جواب ما هو عند الأعم، حتى يكون ذلك نوعية
17
الأخص، وكما يعرض مثل ذلك أيضا شخصية وجزئية، ولكن تلك قد تركت
18
إذ لا التفات إليها. فإنْ آثرنا أن نجعل القسمة مخرجةً للنوع بالمعنى المضاف
19
الذى هو أعم، وجب أن نقول: إنَّ اللفظ الذاتى إما مقول فى جواب ماهو،
20
و إما غير مقول؛ ونعنى بالمقول فى جواب ماهو، ما يصلح أن يكون ـــ إذا سئل
58
1
عن أشياء كثيرة ما هى ـــ جوابا. ثم نقول: والمقول فى جواب ما هو قد يختلف
2
بالعموم والخصوص فيكون بعضها أعم وبعضها أخص، فأعم المقولين فى جواب
3
ما هو هو جنس للأخص، وأخصهما نوع للأعم. فإذا وجدنا النوع فهناك
4
يقسم قسمة أخرى فنقول: إنه لايخلو إما أن يكون النوع من شأنه أن يصير
5
جنسا لنوع آخر، وإما أن لا يكون ذلك من شأنه، فهذه القسمة تنتهى إلى
6
الخمسة انتهاءً ظاهرا، وتكون طبيعةُ النوعِ متحصلةَ فيه، والنوع بالمعنى الآخر
7
يدخل فيه بوجه. وأما القسمة الأولى فلم تكن كذلك.
8
وأما القسمة المشهورة التى لهذه الخمسة، فهى أقرب من القسمة الأولى، وذلك
9
لأنهم يقسمون هكذا: إنّ كل لفظ مفرد إما أن يدل على واحد أو على كثير، والدال
10
على الواحد هو اللفظ الشخصى، وأما الدال على الكثير فإما أن يدل على كثيرين
11
مختلفين بالنوع، أوكثيرين مختلفين بالعدد. والدال على كثيرين مختلفين بالنوع
12
إما أن يكون ذاتيا، وإما أن يكون عرضيا؛ فإن كان ذاتيا، فإما أن يكون
13
فى جواب ما هو، وإما أن يكون فى جواب أى شىء هو. فيجعلون الدال
14
على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو جنسا، والدال عليه فى جواب
15
أى شىء هو فصلا. وأما العرضى فهو العرض العام. ثم يقولون: إن الدال على
16
كثيرين مختلفين بالعدد إما أن يكون فى جواب ما هو، وهو النوع، وإما
17
فى جواب أى شىء هو، وهو الخاصة.
18
فهذه القسمة منهم قد فاتها النوع بالمعنى المضاف، وفاتها طبيعة الفصل، بما
19
هو فصل؛ بل إنما دخل فيها من الفصول ما يحمل على أنواع كثيرة، وليس
20
ذلك هو طبيعة الفصل، بما هو فصل؛ إذ ليس كل فصل كذلك، على ما سيتضح
59
1
لك، إلا أن يراعى شىء ستعرفه، وتعلم أنهم لم يراعوه ولم يفطنوا له، فليس
2
يمكننا أن نجعل ذلك عذرا لهم، اللهم إلا أن يكون المعلم الأول راعاه. وأيضا
3
فإن هذه القسمة لم يفرق فيها بين الخاصة وبين الفصل الذى لايكون إلا للنوع،
4
وفاتها الخاصة التى هى خاصة نوع متوسط بالقياس إليه، فلم يوردوا الخاصة
5
بما هى خاصة للنوع، بل بما هى خاصة لنوع أخير، كا لم يوردوا النوع إلا نوعا
6
أخيرا.
7
[الفصل الحادى عشر]
8
(يا) فصل فى تعقب رسوم النوع
9
فلنتحقق الآن حال الحدود التى هى مشهورة للنوع فنقول: أما النوع بالمعنى
10
الذى لاإضافة فيه إلى الجنس، فقد وفوا حده، إذ حدوه بأنه: المقول على كثيرين
11
مختلفين بالعدد فى جواب ما هو؛ وذلك لأن الجنس والعرض العام لايشاركانه؛
12
إذ كل واحد منهما مقول على كثيرين مختلفين بالنوع، لا على كثيرين مختلفين
13
بالعدد؛ إذ يجب أن يفهم من قولهم: مقول على كثيرين مختلفين بالعدد،
14
أنه مقول على ذلك فقط؛ لأنك إن لم تفهم ذلك، لم يكن كونه مقولا على
15
كثيرين مختلفين بالعدد مانعا من كونه مقولا على كثيرين مختلفين بالنوع؛ فإنَّ
16
المقولَ على كثيرين مختلفين بالنوع قد يكون أيضا مقولا على كثيرين مختلفين
17
بالعدد. فإذا علمت أَنَّ التخصيص بهذا الاسم إنما هو لما لا يُقال إلاكذلك،
18
خرج ما يقال على كثيرين مختلفين بالنوع من مفهومه. فهذا مايفرق بينه وبين
19
الجنس والعرض العام.
60
1
وقد يفرق أيضا بين النوع والفصول التى تُقال على كثيرين مختلفين بالنوع؛
2
مثال هذا الفصل المنقسم بالمتساويين فإنه فصل الزوج فى ظاهر الأمر، وقد
3
يقال على الخط والسطح والجسم فى ظاهر الأمر؛ فليس الزوج وحده منقسما بمتساويين
4
فى ظاهر الأمر؛ فإنه إذا أضيف إلى العدد الذى هو كالجنس، كان مساويا
5
للزوج، ولا يفرق بين النوع والفصل الذى هو خاص بالنوع كالناطق، أعنى
6
الذى له مبدأ قوة التمييز، فإن هذا الإنسان وحده. وأما الذى يقال للمَلَك فهو
7
بمعنى آخر ليس يشارك الإنسان الملك فيه؛ ولكن قد يمكن لبعض المتشحطين
8
أن يُخْرج من هذا الحد من هذه الجهة وجها يفرق بين النوع والفصل، وذلك
9
الوجه هو أن طبيعة النوع بهذا المعنى تقتضى أن لا يقال إلا على كثيرين مختلفين
10
بالعدد، وطبيعة الفصل لاتقتضى ذلك؛ وهو وجه متكلف لكن قوله: "فى جواب
11
ما هو" يفرق بين الفصل وبينه تفريقا مطلقا، ويفرق بين الخاصة وبين النوع
12
أيضا فإنّ الخاصة لامدخل لها فى جواب ما هو. فهذا الرسم متقن محقق مطابق
13
للمعنى الذى يقال عليه النوع، الذى لايطابق إلا نوع الأنواع. وأما رسوم النوع
14
بالمعنى الذى فيه الإضافة فذلك عندهم رسمان: أحدهما قولهم: إنه المرتب تحت
15
الجنس، والثانى: إنه الذى يقال عليه الجنس من طريق ما هو. فيجب أن ننظر
16
فى حاله فنقول: إنه إن عنى بالمرتب تحت الجنس ما يكون أخص منه حملا، أى
17
يكون جمله على بعض ما يحمل عليه مما هو تحته، فإنَّ الشخصَ والنوعَ والفصلَ
61
1
والخاصة تشترك جميعها فيه، وإنْ عنى بذلك ما كان كليا وحده دون الشخص،
2
فقد عنى ما هو خارج عن مقتضى اللفط، ومع ذلك فإنَّ الفصلَ والنوع والخاصة
3
تشترك فيه. وإنْ لم يُعْن بالمرتب هذا، بل عُنىِ به ما هو أخص وملاصق
4
لابتوسط شىء بينهما، وهو ما يتلوه فى المرتبة، خرج الشخص ودخل الخاصة
5
والفصل؛ وإنْ عُنىِ بالمرتب ما كان ملاصقا ليس فى ترتيب العموم فقط، بل
6
فى ترتيب المعنى أيضا، خرج الخاصة ودخل الفصل، وإن عنى بالمرتب مايكون خاصا
7
مدخولا فى طبيعته، أعنى ما يكون ما فوقه مضمنا فى معناه، اختص هذا الرسم
8
بالنوع؛ فإنّ الجنس ليس داخلا فى طبيعة الفصل ولا الخاصة، بل هو شىء
9
كالموضوع لهما ليس داخلا فيهما، ونسبته إليهما نسبة الأمر اللازم الذى لابد منه،
10
ليس نسبة الداخل فى الجوهر، على ما علمت. لكن لفظة "المرتب" ليس تدل على
11
هذا المعنى المحدد بكل هذه الاشتراطات، لابحسب الوضع الأول، ولا بحسب
12
النقل، فليس يذكر فى موضع من كتب أهل هذه الصناعة أنه إذا قيل: مرتب
13
تحت كذا، عنى هذا المعنى.
14
وأما الرسم الثانى، وهو أنه الذى يُقال عليه جنسه من طريق ما هو ـــ إِنْ
15
عنى بالمقول من طريق ما هو ما حققناه نحن ـــ فيجب أن يُزاد عليه أنه الذى
16
يقال عليه وعلى غيره جنسه من طريق ما هو، أو يقال: هو الذى يقال عليه جنسه
17
من طريق ما هو بالشركة، فيكون هذا خاصا للنوع؛ فإنَّ الفصل لايقال عليه
18
الجنس من طريق ما هو البتة، وكذلك الخاصة والعرض. وأما الشخص فلا تتم
19
ماهيته بالجنس. وأما إِنْ عُنِى بذلك ما يعنونه، فيكون بينه وبين الفصل
62
1
والخاصة والعرض فرق، ولا يكون بينه وبين الشخص فرق، إلا أن نضمن
2
أنه كلىٌّ بهذه الصفة؛ وأيضا فإنه لا يكون بينه وبين فصل الجنس فرق.
3
والذى حدَّ وقال: إنَّ النوع هو أخص كليين مقولين فى جواب ما هو،
4
فقد أحسن تحديدَ النوع، وإنما يتم حسنه بأن يقال: إنه الكلى الأخص
5
من كليين مقول فى جواب ما هو؛ تعلم ذلك إذا تدربتَ بالأصول والمواضع
6
المقررة للحدود. فنقول الآن: الجنس منه ما يكون جنسا، ولا يصلح أن
7
ينقلب باعتبارٍ آخرَ نوعا؛ إذ لا يكون فوقه جنس أعم منه؛ ومنه ما يصلح
8
أن يكون نوعا باعتبار آخر إذ يكون فوقه جنس أعم منه. وكذلك النوع
9
منه ما يكون نوعا ولا يصلح أن ينقلب جنسا؛ إذ لا يكون تحته نوع أخص
10
منه؛ ومنه ما يصلح أن ينقلب جنسا باعتبار آخر؛ إذ لا يكون تحته نوع أخص
11
منه. فنرتب للجنس مراتب ثلاثا: جنس عال ليس بنوع البتة، وجنس
12
متوسط هو نوع وجنس وتحته أجناس، وجنس سافل هو نوع وجنس ليس تحته
13
جنس. وكذلك يكون فى باب النوع: نوع سافل ليس تحته نوع البتة، فليس
14
بجنس البتة، ونوع عال تحت جنس الأجناس الذى ليس بنوع البتة، ونوع
15
متوسط هو نوع وجنس وجنسه نوع؛ والمثال المشهور لهذا هو من مقولة
16
الجوهر؛ فإنَّ الجوهر جنس لا جنس فوقه، وتحته الجسم، وتحت الجسم
17
الجسمُ ذو النفس؛ وتحت الجسم ذى النفس الحيوان، وتحت الحيوانِ الحيوانُ
18
الناطق، وتحت الحيوان الناطق الإنسان، وتحت الإنسان زيد وعمرو، فزيد وعمرو
63
1
وأشكالهما هى الأشخاص. والجوهر هو جنس الأجناس، إذ ليس فوقه جنس؛
2
والإنسان هو نوع الأنواع، إذ ليس تحته نوع؛ وما بينهما أجناس وأنواع متوسطة؛
3
فإنها بالقياس إلى ما تحتها أجناس، وبالقياس إلى ما فوقها أنواع؛ فإنّ الجسم
4
نوع الجوهر وجنس للجسم ذى النفس، والجسم ذو النفس نوع الجسم وجنس الحى؛
5
لأنه يعم النبات والحى، والحى نوع الجسم ذى النفس وجنسٌ للحى الناطق
6
لأنه يعم الحيوانات العجم والإنسان، والحى الناطق نوع الحى وجنس الإنسان؛
7
لأنه يعم الإنسان والَمَلك؛ فيكون الحى الناطق هو الجنس السافل، والجوهر
8
هو الجنس العالى، والجسم وما يليه هو الجنس المتوسط، ويكون الجسم هو
9
النوع العالى، ويكون الإنسان هو النوع السافل، ويكون الجسم ذو النفس
10
وما يليه النوعَ المتوسط، ويكون الجوهر بالقياس إلى ما تحته جنسَ الأجناس
11
والجنس العالى، وبأنه لايقاس إلى ما فوقه يكون جنسا ليس بنوع، ويكون
12
الإنسان بالقياس إلى ما فوقه نوعَ الأنواع والنوعَ السافل، وأما بقياسه
13
إلى ما تحته فهو أنه نوع ليس بجنس، وقياسه إلى ما تحته على وجهين: قياس
14
إلى ما تحته من حيث هو محمول عليها الحملَ المعلوم، وقياسٌ إلى ما تحته باعتبار
15
أنها ليست بأنواع. وقياسُه إلى ما تحته من حيث الحمل يفيده معنى النوعية غير
16
المضافة إلى الجنس، وهو المعنى الثانى مما ذكروه. وأما قياسه بالاعتبار
17
الآخر فيفيده أنه نوع ليس بجنس: فهو نوع الأنواع، ونوع ليس بجنس،
18
ونوع بالمعنى المذكور؛ ومفهومات هذه الثلاثة ـــ وإن تلازمت ـــ
64
1
فهى مفهومات مختلفة. وإذا جُعِل اسم النوع اسمًا لواحدٍ واحدٍ من هذه المعانى،
2
يكون مقولا على هذه الثلاثة باشتراك الاسم، وتكون حدودُ مفهوماته مختلفةً؛
3
فإنْ جُعِل اسمًا لواحد منها فقط، كان ذلك القولُ الذى لذلك الواحد حدًّا له،
4
والقول الذى للآخر رسما ليس هو مفهوم الاسم بل علامة لازمة له. وكما أنَّ تحت
5
نوع الأنواع موضوعات كلية ـــ وإنْ كانت ليست بأنواع ـــ مثل الكاتب
6
والملاح والتركى تحت الإنسان، فكذلك لايَبْعد أن يكون فوق جنس الأجناس
7
محمولات ليست بأجناس، بل معان لازمة قد تشترك فيها أجناس من أجناس
8
الأجناس، كالوجود والعَرَضية، وكأمور تُحمْل على عدة أجناس عالية مما
9
ستفطن لها بَعْد.
10
وأما هذه القسمة التى أوردت للجوهر وبلغت الإنسان، فإنها غير مستقيمة،
11
وإنْ كانت غيرضارة فى تفهم الغرض المقصود؛ وذلك أنَّ الجسم ذا النفس،
12
إذا تناول النبات مع الحيوانات، لم يتناول الملائكة إلا باشتراك الاسم، فلم
13
يكن الجسم ذو النفس جنسا تدخل فيه الملائكة وكذلك إذا قيل ناطق للإنسان
14
وللمَلَك، لم يكن إلا باشتراك الاسم، والناطق الذى هو فصلٌ مُقَوِّم للإنسان غير
15
مقول على الملائكة؛ وإذا كان كذلك، لم يكن الحىُّ الناطق جنسًا للإنسان
16
والملائكة، ولا الجسم ذو النفس جنسا للنبات والملائكة والحيوانات؛ فإذا كان
17
كذلك، لم يكن إدخال الميت فصلا يقسم الحيوان الناطق إلى إنسان وغير إنسان
18
محتاجا إليه.
65
1
[الفصل الثانى عشر]
2
(يب) فصل فى الطبيعى والعقلى والمنطقى
3
وماقبْل الكثرة وفى الكثرة وبَعْد الكثرة من هذه المعانى الخمسة
4
إنه قد جرت العادة فى تفهم هذه الخمسة أن يقال: إنّ منها ما هو طبيعى،
5
ومنها ما هو منطقى، ومنها ما هو عقلى؛ وربما قيل: إنَّ منها ما هو قَبْل
6
الكثرة، ومنها ما هو فى الكثرة، ومنها ما هو بعد الكثرة. وجرت العادة بأن
7
يُجْعل البحث عن ذلك متصلا بالبحث عن أمر الجنس والنوع ـــ وإنْ كان
8
ذلك عاما للكليات الخمس ـــ فنقول متشبهين بمن سلف: إنَّ كلَّ واحدٍ من
9
الأمور التى تأتى أمثلة لإحدى هذه الخمسة، هو فى نفسه شىء، وفى أنه جنس
10
أو نوع أو فصل أو خاصة أو عرض عام شىء؛ ولنجعل مثال ذلك من الجنس
11
فنقول: إنّ الحيوان فى نفسه معنى، سواء كان موجودا فى الأعيان أو
12
مُتَصوَّرا فى النفس، وليس فى نفسه بعام ولا خاص؛ ولو كان فى نفسه عاما
13
حتى كانت الحيوانيةُ ـــ لأنها حيوانية ـــ عامةٌ، لوجب أن لا يكون حيوان
14
شخصى، بل كان كل حيوان عاما؛ ولوكان الحيوان ـــ لأنه حيوان ـــ
15
شخصيا أيضا، لما كان يجوز أن يكون إلا شخصأ واحدا، ذلك الشخص الذى
16
تقتضيه الحيوانية، وكان لا يجوز أن يكون شخص آخر حيوانا، بل الحيوان
17
فى نفسه شىءٌ يُتَصور فى الذهن حيوانا، وبحسب تصوره حيوانا لا يكون إلا
18
حيوانا فقط؛ فإنْ تُصُوِّر معه أنه عام وخاص وغير ذلك، فقد تصور معه معنى
19
زائد على أنه حيوان يعْرِض للحيوانية، فإنَّ الحيوانية لاتصير شخصًا مشارا
66
1
إليه إلا بمقارنة أمر يجعله مشارًا إليه؛ وكذلك فى العقل لا يكون كذلك إلا بأن
2
يُلحِق به العقلُ معنى يخصصه، ثم لا يعرض له من الخارج أن يكون عاما حتى
3
يكون ذات واحدة بالحقيقة هى حيوان، وقد عرض له فى الأعيان الخارجة
4
أنْ كان هو بعينه موجودًا فى كثيرين؛ وأما فى الذهن فقد يعرض لهذه الصورة
5
الحيوانية المعقولة أَنْ تجعل لها نسب إلى أمور كثيرة، فيكون ذلك الواحد
6
بعينه صحيح النسبة إلى عِدَّةٍ تتشا كل فيه، بأن يحمله العقل على واحدٍ واحدٍ منها ـــ
7
فأمّا كيف ذلك فلصناعةٍ أخرى ـــ فيكون هذا العارض هو العموم الذى يعرض
8
للحيوانية، فيكون الحيوان لهذا العموم كالخشب مثلا لعارض يعرض له من شكل
9
أو غيره، وكالثوب الأبيض، فيكون الثوب فى نفسه معنى، والأبيض معنى،
10
ويتركبان فيكون هناك معنى آخر مركبا منهما؛ كذلك الحيوان هو فى العقل معنى،
11
وأنه عام أو جنس معنى، وأنه حيوان جِنْسىٌّ معنى. فيُسَمون معنى الجنس
12
جنسا منطقيا، ومفهومه أنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو،
13
من غير أن يشار إلى شىء هو حيوان أو غير ذلك، مثل أن الأبيض فى نفسه له
14
معقول لا يحتاج معه أن يعقل أنه ثوب وأنه خشب، فإذا عُقل معه ذلك عُقِل
15
شىء يلحقه الأبيض؛ وكذلك الواحد فى نفسه له معقول، فأَمَّا أنه إنسان أو
16
شجرة فهو أمر خارج عن معقوله يلحقه أنه واحد. فالجنس المنطقى هو هذا.
17
وأما الطبيعى فهو الحيوان بما هو حيوان، الذى يصلح أن يجعل للمعقول منه
18
النسبة التى للجنسية، فإنه إذا حصل فى الذهن معقولا، صَلُح أن تعقل له الجنسية،
19
ولايصلح لما يفرض مُتَصَوَّرا من زيد هذا، ولا للمتصور من إنسان،
67
1
فتكون طبيعة الحيوانية الموجودة فى الأعيان تفارق بهذا العارض طبيعةَ الإنسانية
2
وطبيعةَ زيد؛ إذْ هو بحيث إذا تُصُوِّر صلح أن يلحقه عمومٌ بهذه الصفة، التى هى
3
الجنسية؛ وليس له خارجا إلا الصلوح لها بحال. فقولهم: الجنس الطبيعى، يعنون
4
به الشىء الطبيعى الذى يصلح أن يصير فى الذهن جنسا، وليس هو فى الطبيعيات
5
بجنس؛ ولأنه يخالف فى الوجود غيره من الأمور الطبيعية بهذا المعنى، فلا يبعد
6
أن يخصص لهذا المعنى باسم، وأن يُجعل ذلك الاسم من اسم الشىء الذى يعرض
7
له بحال وهو الجنسية. وأما الحيوان الجنسى فى العقل، فهو المعقول من جنس
8
طبيعى؛ وأما الجنسية المعقولة المجردة، فمن حيث هى مقررة فى العقل، هى
9
أيضا جنس معقول، ولكن من حيث إنها شىء من الأشياء يبحث عنه المنطقى،
10
فهو جنس منطقى؛ وليس؛ وإن لم يكن لهذا الذى هو منطقى وجودٌ إلا فى العقل،
11
يجب أَنْ يكون المفهوم من أنه عقلى هو المفهومُ من أنه منطقى، وذلك
12
أنَّ المعنى الذى يُفْهم من أنه عقلى، هو غير المفهوم من أنه منطقى، وذلك أَنَّ
13
المعنى المفهومَ الذى يفهم من أنه عقلى لازمٌ ومقارنٌ للمعنى الذى يفهم من أنه منطقى
14
ليس هو هو، إذْ قد بان لك اختلافُ اعتباريهما. فالجنس المنطقى تحته شيئان:
15
أحدهما أنواعه من حيث هو جنس، والآخر أنواع موضوعاته التى يعرض لها؛
16
أما أنواعه، فلأن الجنس المطلق أعمُّ من جنسٍ عال وجنس سافل، فهو يعطى
17
كلَّ واحد مما تحته من الأجناس المتقررة حدَّه واسمه؛ إذْ يقال لكل واحد منهما
18
إنه جنس، ويُحدُّ بحدِّ الجنس؛ وأما أنواع موضوعاته فلايعطيها اسمه ولاحدَّه؛
68
1
وذلك لأنّ الإنسان الذى هو نوعُ الحيوان ـــ من جهة أنه حيوانٌ ـــ فلا يحمل
2
عليه مع الحيوانية ما عرض للحيوانية من الجنسية، لا اسما ولا حدا؛
3
فإنّ الإنسان لا يجب أن يصير جنسا، من جهة حمل الحيوانية عليه، لا باسم
4
ولا بحد، كمايجب أن يصير جسما، من جهة حَمْلِ الحيوانية عليه باسم وحد؛
5
فإنْ صار شىءٌ من الأنواع جنسا، فذلك له، لا من جهة طبيعة جنسه الذى فوقه،
6
بل من جهة الأمور التى تحته. وأما الجنس الطبيعى فإنه يعطى ماتحته اسمه وحده
7
من حيث هو طبيعة، أى من حيث الجنس الذى هو مثلا الحيوان، حيوان
8
لا من حيث هو جنس طبيعى، أى معنى يصلح إذا تُصُوِّر أن يصير جنسا
9
من حيث هو كذلك، فإنه ليس يجب هذا لما تحته. وبالجملة إذا قالوا:
10
إن الجنس الطبيعى يعطى ماتحته اسمه وحدَّه، فهذا أيضا قولٌ غيرُ محقق،
11
فإنه يعطى بالعرض،لأنه ليس يعطى من حيث هو جنس طبيعى، كما لم يعط أيضا
12
من حيث هو جنس منطقى، ولكن إنما يعطيهما الطبيعةَ الموضوعة لأَنْ يكون
13
جنسا طبيعيا؛ وهذه الطبيعة بنفسها أيضا ليست جنسا طبيعيا كما ليست
14
جنسا منطقيا، اللهم إلا أنْ لانعنى بالجنس الطبيعى إلامجرد الطبيعة
15
الموضوعة للجنسية، ولا نعنى بالجنس الطبيعى ما عنيناه، فحينئذ يصلح أن يقال:
16
إن الجنس الطبيعى يعطى ما تحته اسمه وحدّه، وحينئذ لا يكون الحيوان جنسا
17
طبيعيا إلا لأنه حيوان فقط. ثم انظر أنه هل يستقيم هذا؟ وأما العقلى ففيه أيضا
18
موضوعٌ وجنسيةٌ وتركيب، وحكم جميع ذلك فى العقل كحكم الطبيعى. والأخرى
19
أن تكون الحيوانية فى نفسها تسمى صورةً طبيعية تارة، وصورة عقلية أخرى،
20
ولا تكون فى أنها حيوانية جنسا بوجه من الوجوه، لا فى العقل ولا خارجا،
69
1
بل إنما تصير جنسا إذا قُرِن بها اعتبار، إِمّا فى العقل وإما فى الخارج،
2
وقد أشرنا إلى الاعتبارين جميعا؛ لكن الشىء الذى هو طبيعة الجنس المعقول
3
قد يكون على وجهين: فإنه ربما كان معقولا أولا ثم حصل فى الأعيان،
4
وحصل فى الكثرة الخارجة، كمن يعقل أولا شيئا من الأمور الصناعية
5
ثم يحصله مصنوعا؛ وربما كان حاصلا فى الأعيان ثم يصور فى العقل،
6
كمن عرض له أن رأى أشخاصَ الناسِ واستثبت الصورةَ الإنسانية.
7
وبالجملة ربما كانت الصورة المعقولة سببًا بوجهٍ مّا لحصول الصورة الموجودة
8
فى الأعيان، وربما كانت الصورة الموجودة فى الأعيان سببا بوجهٍ مّا للصورة
9
المعقولة، أى يكون إنما حصلت فى العقل بَعْد أن كانت قد حصلت فى الأعيان.
10
ولأن جميع الأمور الموجودة فإنّ نسبتها إلى الله والملائكة نسبة المصنوعات
11
التى عندنا إلى النفس الصانعة، فيكون ما هو فى علم الله والملائكة من حقيقة
12
المعلوم والمدرك من الأمور الطبيعية موجودا قبل الكثرة، وكل معقول منها
13
معنى واحد، ثم يحصل لهذه المعانى الوجودُ الذى فى الكثرة، فيحصل
14
فى الكثرة ولا يتحد فيها بوجهٍ من الوجوه، إذ ليس فى خارج الأعيان شىء واحد
15
عام، بل تفريق فقط؛ ثم تحصل مرة أخرى بعد الحصول فى الكثرة
16
معقولة عندنا. وأما أنّ كونها قبل الكثرة على أى جهة هو، أعلى أنها معلومة
17
ذات واحدة تتكثر بها أو لا تتكثر، أو على أنها مثل قائمة، فليس بحثنا هذا
18
بواف به، فإنّ لذلك نظرا علميا آخر.
70
1
واعلم أنّ ما قلناه فى الجنس هو مثال لك فى النوع والفصل والخاصة والعرض،
2
يهديك سبيل الإحاطة بعقليته ومنطقيته وطبيعيته، وما فى الكثرة منه وقبلها
3
وبعدها. واعلم أنَّ الأمور التى هى فى الطبيعة أجناس الأجناس، فهى فوق واحدة
4
ومتناهية، كما سيتضح لك بعد. وأما الأمور التى هى أنواع الأنواع،
5
فالمستحفظات منها فى الطبيعة متناهية، وأما هى فى أنفسها فغير متناهية
6
فى القوة، فإنّ أنواع أنواعٍ كثيرةٍ من المقولات، التى تأتيك بعد، لا تتناهى،
7
كأنواع أنواع الكمية والكيفية والوضع وغيرذلك. وأما الأشخاص فإنها غير
8
متناهية بحسب التكون والتقدم والتأخر. وأما المحسوس المحصور منها فى زمان
9
محدود فمتناهٍ ضرورةً؛ والشخص إنما يصير شخصا بأن تقترن بطبيعة النوع
10
خواص عرضية لازمة وغير لازمة، وتتعين لها مادة مشار إليها، ولا يمكن أن
11
تقترن بالنوع خواص معقولة كم كانت، وليس فيها آخر الأمر إشارةٌ إلى
12
معنى متشخص فيتقوم به الشخص فى العقل؛ فإنك لو قلتَ: زيد هو الطويل
13
الكاتب الوسيم الكذا والكذا، وكم شئت من الأوصاف، فإنه لا يتعين لك
14
فى العقل شخصية زيد، بل يجوز أن يكون المعنى الذى يجتمع من جملة جميع
15
ذلك لأكثر من واحد، بل إنما يعينه الوجود والإشارة إلى معنى شخصى،
16
كما تقول: إنه ابن فلان، الموجود فى وقت فلان، الطويل، الفيلسوف،
17
ثم يكون اتفق أن لم يكن فى ذلك الوقت مشارك له فى هذه الصفات، ويكون
18
قد سبق لك المعرفة أيضا بهذا الاتفاق، ويكون ذلك بالإدراك الذى ينحو نحوَ
19
ما يشار إليه من الحس، نحو ما يشار إلى فلان بعينه وزمان بعينه، فهنالك
20
تتحقق شخصية زيد، ويكون هذا القول دالا على شخصيته.
71
1
وأما طبيعة النوع وحده، فما لم يلحقه أمر زائد عليه لايجوز أن تقع فيه كثرة.
2
وليس قولنا لزيد وعمرو إنه شخص اسما بالاشتراك، كما يظنه أكثرهم، إلا أن نعنى
3
بالشخص شخصا بعينه؛ وأما الشخص مطلقا، فهو يدل على معنى واحد عام،
4
فإنّا إذا قلنا لزيد إنه شخص، لم نُرِد بذلك أنه زيد، بل أردنا أنه بحيث لا يصح
5
إيقاع الشركة فى مفهومه؛ وهذا المعنى يشاركه فيه غيره؛ فالشخصية من الأحوال
6
التى تعرض للطبائع الموضوعة للجنسية والنوعية، كما تعرض لها الجنسية والنوعية.
7
والفرق بين الإنسان الذى هو النوع، وبين شخص الإنسان الذى يعم، لا بالاسم
8
فقط، بل بالقول أيضا، أن قولنا: الإنسان، معناه أنه حيوان ناطق، وقولنا:
9
إنسان شخصى، هو هذه الطبيعة مأخوذة مع عرض يعرض لهذه الطبيعة
10
عند مقارنتها للمادة المشار إليها، وهو كقولنا: إنسان واحد، أى حيوان
11
ناطق مخصص، فيكون الحيوان الناطق أعم من هذا؛ إذ الحيوان الناطق قد يكون
12
نوعا، وقد يكون شخصا، أى هذا الواحد المذكور، فإنَّ النوعَ حيوان ناطق،
13
كما أنَّ الحيوانَ الناطقَ الشخصىَّ حيوانٌ ناطق. والعموم قد يختلف فى الأمور
14
العامة: فمن العموم ما يكون بحسب الموضوعات الجزئية، كالعموم الذى الحيوان
15
أعم به من الإنسان، وقد يكون بحسب الاعتبارات اللاحقة كالعموم الذى
16
الحيوان أعمُّ به من الحيوان، وهو مأخوذ جنسا، ومن الحيوان، وهو
17
مأخوذ نوعا، ومن الحيوان، وهو مأخوذ شخصا. وليست الجنسية والنوعية
18
والشخصية من الموضوعات الجزئية التى لها درجة واحدة فى الترتيب تحت الحيوان،
19
بل هى اعتبارات تلحقه وتخصصه؛ وكما أن الإنسان قد يوجد ـــ مع عرض
20
من الأعراض كالإنسان الضحاك، فيقال على جميع ما يقال عليه الإنسان وحده
21
من الجزئيات الموضوعة، كذلك الإنسان الشخصى؛ وذلك لأن الوحدة
72
1
هى من اللوازم التى تلزم الأشياء ـــ وسنبين أنها ليست مقومة لماهياتها ـــ
2
فإذا اقترنت الوحدة بالإنسانية على الوجه المذكور، حدث منهما الإنسان الشخصى
3
الذى يشترك فيه كل شخص، ولا يكون لذلك نوعا؛ لأنه مجموع طبيعة وعارض لها
4
لازم غير مقوم؛ وأمثال هذه ليست تكون أنواعا، كما أنَّ الإنسان مع الضحاك
5
ومع البَكَّاء ومع المتحرك والساكن، بل مع قابل الملاحة وغير ذلك، لا يكون
6
نوعا آخر، بل الإنسان بجوهره نوعٌ، فتلحقه لواحق تكون تلك اللواحق لواحق
7
النوع، وليست أمورا توجب النوعية الجديدة. وهذا مما تتحققه فى الفلسفة الأولى.
8
[الفصل الثالث عشر]
9
(يج) فصل فى الفصل
10
وأما الفصل فإنَّ اسمه يُدَلَّ به عند المنطقيين على معنى أول وعلى معنى ثان؛
11
وليس سبيلهما سبيل ما قبلهما فى الجنس والنوع؛ إذ كان الوضع الأول فيهما
12
للجمهور، والنقل للخواص؛ بل المنطقيون أنفسهم يستعملونه على وضع أول
13
وعلى نقل. أما الوضع الأول فإنهم كانوا يُسَمون كل معنى يتميز به شىء عن شىء
14
ـــ شخصيا كان أو كليا ـــ فصلا، ثم نقلوه بعد ذلك إلى ما يتميز به الشىء
15
فى ذاته. وإذ فعلوا هذا، فقد كان لهم أن يجعلوا الفصل مقولا على أشياء ثلاثة
16
بحسب التقديم والتأخير: حتى كان من الفصل ماهو عام، ومنه ما هو خاص،
73
1
ومنه ما هو خاص الخاص. والفصل العام هو الذى يجوز أن ينفصل به شىء
2
عن غيره، ثم يعود فينفصل به ذلك الغير عنه، ويجوز أان ينفصل الشىء به
3
عن نفسه بحسب وقتين، مثال ذلك: العوارض المفارقة كالقيام والقعود؛
4
فإنَّ زيدا قد ينفصل عن عمرو بأنه قاعد، وعمرو ليس بقاعد، ثم كرة أخرى
5
ينفصل عنه عمرو بأنه قاعد، وأنّ زيدا ليس بقاعد، فيكون هذا الانفصال بالقوة
6
مشتركا بينهما. وكذلك زيد ينفصل عن نفسه فى وقتين: بأن يكون مرةً قاعدا،
7
ومرة ليس بقاعد؛ فهذا هو الفصل العام.
8
وأما الفصل الخاص فذلك هو المحمول اللازم من العرضيات، فإنه إذا وقع
9
الانفصال بعرض غير مفارق للمنفصل به، فإنه لايزال انفصالا خاصا له، مثل
10
انفصال الإنسان عن الفرس بأنه بادى البشرة، فإنَّ هذا الانفصال الواقع به
11
خاص للإنسان بالقياس إلى الفرس، ولا يقع به مرة أخرى انفصال الفرس عن
12
الإنسان؛ وذلك لأنه لايخلو إمَّا أن لايجوز البتة أن تعرض هذه الصفة للفرس،
13
وإما أن يجوز؛ فإنْ لم يَجُز أن تعرض له البتة، لم يجز إلا أن يكون هذا
14
الانفصال بينهما قائما؛ وإن جاز أن يعرض مثلا ذلك للفرس ـــ لو جاز ـــ لم
15
يكن للفرس به انفصال عن الإنسان بل مشاركة؛ فهذا إذا فصل، لم يفصل
16
إلا أحد الشيئين دون الآخر؛ فمنه مالا يزال فاصلا مثل المثل الذى ضربناه،
17
وهو الخاصة، ومنه ما يخص فصله إذا فصل، وليس لا يزال فاصلا، مثل السواد
18
الذى ينفصل به الزنجى عن إنسان آخر؛ فإن الزنجى لا يفارقه السواد، وذلك
19
الإنسان يجوز أن يسود، فحينئذ لا يكون بينهما انفصال بالسواد؛ فحيث
20
كان السواد فصلا كان خاصا بالحبشى، وحيث لم يخص لم يكن فصلا.
74
1
وأما العام فلم يكن هذا، بل كان هو بعينه تارة يفصل هذا عن ذاك،
2
وتارة يفصل ذاك عن هذا؛ فالفصل العام، وهذا القسم من الخاص،
3
قد يصلح أن تنفصل بهما أشخاص نوع واحد. وأما القسم الأول من قسمى
4
الفصل الخاص فإنه لا تنفصل به أشخاص نوع واحد بعضها عن بعض؛
5
إذ كان لازما لطبيعة النوع؛ ولو كان عارضا لبعض الأشخاص لم يمتنع أن يعرض
6
مثله لأشخاص أخر، فيبطل دوام الانفصال به، اللهم إلا أن يكون من جملة
7
ما يعرض لما يعرض له من ابتداء الوجود، كما للناس فى ابتداء الولادة،
8
ولا يجوز أن يعرض بعد ذلك. فيجوز أن يكون فى هذا الفصل ما إذا فصل
9
عن شخص موجود استحال أن لايفصل البتة؛ إذ كان ذلك الشخص بعد وجوده
10
قد فاته ابتداء الوجود، فيكون هذا أيضا مما يقع به الفصل بين أشخاص النوع.
11
وأما الفصل الذى يقال له خاص الخاص، فإنه الفصل المقوّم للنوع،
12
وهو الذى إذا اقترن بطبيعة الجنس قومه نوعا، وبعد ذلك يلزمه
13
ما يلزمه، ويعرض له ما يعرض له، فهو ذاتى لطبيعة الجنس المقوم فى الوجود
14
نوعا، وهو يقررها ويفرزها ويعينها، وهذا كالنطق للإنسان. وهذا الفصل
15
ينفصل من سائرالأمور التى معه بأنه هو الذى يلقى أولا طبيعة الجنس فيحصله
16
ويفرزه، وأن سائر تلك إنما تلحق تلك الطبيعة العامة بعد ما لقيها هذا
17
وأفرزها، فاستعدت للزوم ما يلزمها، ولحوق ما يلحقها، فهى إنما تلزمها
18
وتلحقها بعد التخصص، وهذا كالنطق للإنسان؛ فإنّ القوة التى تسمى
75
1
نفسا ناطقة لما اقترنت بالمادة فصار حينئذ الحيوان ناطقًا، استعد لقبول العلم
2
والصنائع كالملاحة والفلاحة والكتابة، واستعد أيضا لأن يتعجب فيضحك
3
من العجائب، وأنْ يبكى ويخجل، ويفعل غير ذلك من الأمور التى للإنسان،
4
ليس أنَّ واحدا من هذه الأمور اقترن بالحيوانية عند الذهن أولا، فصار
5
بسبب ذلك للحيوان الاستعدادُ لأن يكون ناطقا، بل الاستعداد الكلى والقوة
6
الكلية الإنسانية هى التى يسمى بها ناطقا، وهذه رواضع لها وتوابع. وأنت تعلم هذا
7
بأدنى تأمل، وتتحقق أنه لولا أن قوة أولى هى مستعدة للتمييز والفهم قد وجدت
8
للإنسان، لما كانت له هذه الاستعدادات الجزئية، وأن تلك القوة هى التى تسمى
9
النطق فصار بها ناطقا؛ وهذا هو الفصل المقوِّم الذاتى لطبيعة النوع. وأما أنه
10
أسود أو أبيض أو غير ذلك، فليست من جملة الأشياء التى لحقت بطبيعة
11
الجنس فأفردته شيئا عرض له ولحقه أن كان إنسانا.
12
فيجب أن تتحقق أن الفصل بين الفصل الذى هو خاص الخاص وبين تلك
13
الفصول هو هذا. فلذلك لك أن تقول: إنّ من الفصول ماهو مفارق، ومنها
14
ما هو غير مفارق؛ ومن جملة غير المفارقة ما هو ذاتى، ومنها ما هو عرضى.
15
ولك أن تقول: إنّ من الفصول ما يُحْدث غَيْرية، ومنها ما يحدث
16
آخرية؛ والآَخر هو الذى جوهره غير، والغير أعم من الآخر، وكل ما يخالف
17
فهو غير، وليس كل ما يخالف شيئا فهو آخر، إذا عنيت بالآخر المخالف
18
فى جوهره. فمن الفصول ما يكون من قبله الغيرية فقط؛ كان مفارقا
19
كالقعود والقيام، أو غير مفارق كالضحاك وعريض الأظفار؛ فإنّ الضحاك
20
أيضا ـــ وإنْ كان يجب أن يكون فى جوهره مخالفا لما ليس بضحاك ـــ فليس
21
كونه ضحاكا هو الذى أوقع هذا الخلاف فى الجوهر، بل الضحاك لحق ثانيا،
76
1
بعد أن وقع الخلاف فى الجوهر دونه، ثم عرض هو، فموجبه الاوْلى لذاته
2
هو الخلاف فقط، إذْ لا يجوز أن لا يوجب الضحاك خلافا بين ما يوصف
3
بالضحاك، وبين ما لايوصف به؛ ولكن كون هذا الخلاف جوهريا
4
ليس هو من موجب الضحاك، بل من موجب شىء آخر وهو الناطق. فالفصل
5
الذى هو خاص الخاص هو العلة الذاتية للخلاف الموجب للآخرية، بحسب
6
اصطلاح أهل الصناعة فى استعمال لفظ الآخر.
7
ومقصودنا فى هذا الموضع مقصور على هذا الفصل، وهو الذى هو أحد الخمسة
8
دون ذينك الآخرين؛ ورسمه الحقيقى هو أنه الكلى المفرد المقول على النوع فى جواب
9
أى شىء هو فى ذاته من جنسه، وهو الذى اصطلح على أن قيل له: إنه المقول
10
على النوع فى جواب أيما هو؛ ثم له رسوم مشهورة مثل قولهم: إنّ الفصل
11
هو الذى يفصل بين النوع والجنس؛ وأيضا: إنه الذى يَفْضُل به النوع على الجنس؛
12
وأيضا: إنه الذى به تختلف أشياء لاتختلف فى الجنس؛ وأيضا: إنه المقول
13
على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب أى شىء هو.
14
فلنتأمل هذه الرسوم، ولنتحققها، ولنقض فيها بما عندنا من أمرها فنقول:
15
إنه إذا ألحق بكل واحدٍ واحدٍ من هذه الرسوم زيادةٌ تساوى الفصل،
16
وتلك الزيادة أن يقال فى ذاته أو لذاته أو ذاتى أو الذاتى، فيكون الشىء الذاتى
17
الذى يفصل لذاته بين ذات النوع والجنس هو الفصل، فإنّ الخاصة ـــ وإنْ
18
فَصَلت ـــ فليست ذاتية، وليس فصلها ذاتيا. وكذلك يجب أن يقال: إنه الذى
19
يفضل به النوع على الجنس فى ذاته. وكذلك: إنه الذى به تختلف أشياء لاتختلف
20
فى الجنس بذاتها. وكذلك: إنه المقول على كثيرين كذا فى جواب أى شىء هو
21
فى ذاته. لكن الرسوم الثلاثة المتقدمة ـــ وإن ساوت الفصل ـــ فليست تتضمن
77
1
الشىء الذى يحل من الفصل محل الجنس، وبذلك الشىء يتم التحديد، وإن كان
2
قد يكون بإسقاطه دلالة ذاتية مساوية، كما لو قال قائل: إنّ الإنسان ناطق
3
مائت، دل على طبيعة الإنسانية وساواها؛ ولكن إنما يتم بأن يُذكر الشىء الذى
4
هو الجنس، وهو الحيوان؛ فأمّا لم هذا، وكيف هذا، فسيأتيك فى موضعه.
5
وهذا الشىء الذى هو كالجنس للفصل هو الكلى، فيجب أن يلحق هذا به.
6
وأما الرسم الآخر فقد ذكر فيه الكلى، إذ قيل: "مقول على كثيرين" والمقول
7
على كثيرين هو رسم الكلى؛ فقد أُتِىَ فيه برسم ما هو كالجنس، وإن لم يُؤْت
8
فيه باسمه. لكن لقوله على كثيرين مختلفين بالنوع ثلاثة مفهومات: أحدها
9
مما لايفطن له من قصَد تقديم هذا الكتاب؛ وسنوضحه فى موضعه، ومفهومان
10
أقرب من الظاهر، أحدهما أنّ طبيعة الفصل تكون متناولة بالحمل أنواعا كثيرة
11
لا محالة غير النوع الواحد المفصول، والآخر أنّ طبيعة الفصل هى التى توجب
12
إنية الأشياء الكثيرة المختلفة بالنوع بعضها عند بعض، كأنه قال: إنه المقول
13
على الأنواع فى جواب أى شىء هو، لاجملتها، بل واحد واحد منها، كقول
14
القائل: إن السيف هو الذى يضرب به الناس، ليس أنه يضرب به الناس معا،
15
بل واحد واحد من الناس؛ وهذا التأويل بعيد غير مستقيم، فإن أمكن أن يفهم
16
هذا من هذا اللفظ كان رسما مطابقا للفصل، وإن تعذر تفهم هذا من هذا
17
اللفظ، وإنما يفهم منه الوجه الأول؛ فهذا الحد على الوجه الذى يفهمونه منه
18
مختل؛ وذلك لأن طبيعة الفصل ـــ بما هو فصل ـــ ليس يلزمها كما علمتَ
19
أن لا تختص بالنوع الواحد، بل هذا عارض ربما عرض لبعض الفصول،
20
فيكون هذا عارضا لطبيعة الفصل، لا فصلا للفصل؛ ومع ذلك فليس بعارض
21
يعم جميع الفصول حتى يَقُوم فى الرسوم مقام الفصل فى الحدود، فهذا مختل.
78
1
وهاهنا موضع بحث وتشكك يلوح فى قولك: إنه مقول فى جواب أى شىء
2
هو، تركنا كشفه إلى وقت ما نتكلم فى المباينات. على أننا إنْ فهمنا هذا الرسم
3
على حسب أصولنا، وعلى ما نشرحه فى موضع آخر، تم الرسم رسما؛ لكنا
4
إنما نتعقب فى هذا الموضع هذا الرسم بحسب مايفهمه القوم المستعملون إياه.
5
وأيضا يجب أنْ تعلم أنّ كل فصل إنما يقوم من الأنواع القريبة نوعا واحدا
6
فقط. ثم إنّ الفصول لها نسبتان: نسبة إلى ما تقسمه وهو الجنس، ونسبة
7
إلى ما تُقَسَّم إليه وهو النوع؛ فإنّ الناطق يقسم الحيوان إلى الإنسان، ويقوِّم
8
الإنسان، فيكون مُقَسِّما للجنس، مُقَوِّما للنوع. فإن كان الجنس جنسا عاليا،
9
لم يكن له إلا فصول مقسمة؛ وإنْ كان دون العالى، كانت له فصول مقسمة
10
ومقومة. فأما الفصول المقومة فهى التى قسمت جنسه وقومته نوعا؛ إذْ الفصل
11
يُحْدث النوع تحت الجنس؛ وأما المقسمة فهى التى تقسمه ولا تقوم النوع تحته.
12
ومقومات الجنس لا تكون أخصّ منه؛ ومقسماته تكون أخص منه؛ فالجنس
13
الأعلى له فصول مقسمة، وليس له فصول مقوِّمة؛ والنوع الأخير له فصل مقوم،
14
وليس له فصل مقسم، وليس من الفصول المقومة ما لا يقسم.
15
ومن الفصول المقسمة فى ظاهر الأمر ما لا يقوِّم، ولا يكون ذلك البتة
16
إلا للفصول السلبية التى ليست بالحقيقة فصولا؛ فإنا إذا قلنا: إن الحيوان منه
17
ناطق ومنه غير ناطق، لم نثبت غير الناطق نوعا محصلا بإزاء الناطق، اللهم
18
إلا أن يتفق أن يكون ماليس بناطق نوعا واحدا، كالذى ليس بمنقسم بمتساويين
19
تحت العدد؛ فإنه صنف واحد وهو الفرد؛ أو يكون الإنسان لا يرى بأسا
79
1
بأن يجعل الحيوان الغير الناطق جنسا للعجم، ونوعا من الحيوان. فإنْ فعل
2
هذا فاعلٌ عَرَّفناه بأنَّ غير الناطق بالحقيقة ليس بفصل، بل هو أمر لازم،
3
وكذلك جميع أمثال هذه السلوب؛ فإنَّ السلوب لوازمُ للأشياء بالقياس إلى اعتبار
4
معان ليست لها؛ فإنَّ غير الناطق أمرٌ يعقل باعتبار الناطق، فيكون النوع، معناه
5
وفصله الذى له، أمرا فى ذاته، ثم يلزمه أن يكون غير موصوف بشىء غيره؛ لكن
6
ربما اضطر المضطر الى استعمال لفظ السلب فى المعنى الذى يكون للشىء فى ذاته،
7
إذا لم يكن له اسم محصل، وذلك لا يدل على أن السلب بالحقيقة اسمه،
8
بل الاسم لازم له ُعدل به عن وجهه إليه؛ فلو لم يكن من الحيوانات غير
9
الإنسان شىء إلا الصاهل، وكان الصاهل فى نفسه فصلا لذلك الغير، ثم لم يكن
10
مسمى، فقيل غير الناطق وعنى به الصاهل، لكان غير الناطق يدل دلالة الفصل؛
11
فأما وغير الناطق أمر أعم من فصل كل واحدٍ واحدِ من أنواع الحيوانات،
12
وليس لها شىء واحد مشترك محصل إثباتى يمكن أن يجعل غير الناطق المشترك
13
فيه دالا عليه إلا نفس معنى سلب الناطق. والسلوب لا تكون معانى مُقَوِّمة
14
للأشياء من حيث هى سلوب، بل هى عوارض ولوازم إضافية بعد تقرر ذواتها،
15
فلايكون غير الناطق بالحقيقة فصلا تشترك فيه العجم مقوما لها. فإنْ أحب مُحِبٌّ
16
أن يجعل ذلك فصلا، ويثبت الحيوان الغير الناطق نوعا، ثم جنسا، ويجعل
17
الحيوان قد انقسم قسمة معتدلة واحدة إلى نوع آخر، وإلى جنس معا،
18
فليفعل؛ فيكون أيضا كل فصلٍ مقسِّم مقوِّما؛ وإِنْ آثر الوجه المحصل المحقق،
19
لم تكن هذه فصولا؛ وكيف تكون فصولا وليست مقومات للأنواع، ولم
20
تكن الفصول الحقيقية إلا مقومة عندما تقسِّم؟
80
1
والذى يظنه الظانون أَنَّ من الفصول المحصلة ما يقسم، ثم ينتظر فصلا آخر
2
يرد حتى يقوما معا، مثل الناطق الذى ربما ظُنَّ أنه يقسم الحى، ثم يتوقف فى تقويم
3
النوع إلى أن ينضم إليه الميت، فهو ظن كذب: وذلك أنه ليس من شرط الفصل
4
إذا قسم فأوجب تقويم النوع أن يكون مقوما للنوع الأخير لا محالة؛ فإنه فرق
5
بين أن نقول يقوم نوعا، وبين أن نقول يُقَوِّم نوعًا أخيرا. والناطق، وإن كان
6
لايقوم الإنسان الذى هو النوع الأخير، فإنه يقوم الحى الناطق الذى هو نوعٌ
7
للحى وجنسٌ للإنسان، إن كان مايقولونه من كون الناطق أعم من الإنسان حقا،
8
وكان الحى الناطق يقع على الإنسان وعلى المَلَك، لا باشتراك الاسم، بل وقوع
9
اللفظ بمعنى واحد. ثم قولنا: الحى الناطق، قول لمجموعه معنى معقول، وهو
10
أخص من الحى، وليس فصلا، بل الفصل جزء منه وهو الناطق، ولا خاصة،
11
فهو لا محالة نوع له. وكذلك يتبين أنه جنس الإنسان، وقد يصرح بمثل هذا
12
صاحب إيساغوجى نفسه فى موضع؛ فالناطق إذن قد قَوَّم نوعا هو جنسٌ،
13
فحين قَسَّم قَوَّم لا محالة. ونعلم من هذا أن الفصل إنما هو مقول قولا أوليا على نوع
14
واحد دائما، وإنما يقال على أنواع كثيرة فى جواب أى شىء هو قولا ثانيا بتوسط.
15
ونقول الأن: إنك تعلم أنّ ذات كل شىء واحدٌ، فيجب أن يكون
16
ذات الشىء لا يزداد ولا ينتقص؛ فإنه إن كان ماهية الشىء، وذاته هو
17
الأنقص من حدود الزيادة والنقصان، والأزيد غير الأنقص، فالأزيد غير
18
ذاته. وكذلك إن كان الأزيد، وكذلك إن كان الأوسط. وأما
19
المعنى المشترك للثلاثة الذى ليس واحدا بالعدد، بل بالعموم، فليس هو
20
ذات الشىء الواحد بالعدد، فليس لك أن تقول: إن الزائد والناقص
81
1
والوسط تشترك فى معنى واحد، هو ذات الشىء، فإذن ذات الشىء
2
لا يحتمل الزيادة والنقصان، فما كان مقوما لذاته لا يحتمل الزيادة والنقصان؛
3
فإنه إنْ كان، إذا زاد قوّم ذاته بزيادته، فذاته هو الأزيد، وإن كان لا يقوم
4
ذاته بزيادته ويقوم بنقصانه، فذاته هو الناقص؛ وإن كان لا يقوم
5
فى إحدى الأحوال، فليس بمقوم من حيث هو يزيد وينقص، اللهم إلا بالمعنى
6
العام، وفيه ما قلناه. وعلى أن هذه المعانى لايمكن أن يقال فيها عند الزيادة إنَّ
7
الأصل موجود، وقد أضيف إليه شىء، بل إذا ازدادت فقد بطل الموجود
8
أولا، وفى بطلانه بطلان المقوم، وفى بطلانه بطلان المتقوم. وكذلك
9
فى اعتبار النقصان إذا كان الأصل ليس بعينه عند الحالة الأولى، وعند الحالة
10
الثانية وهى النقصان. فقد تَبَيَّن أنّ الفصل الذى هو خاص الخاص لا يقبل
11
الزيادة والنقصان.
12
وأما سائر الفصول فإنها لما كانت بعد الذات، فلا مانع يمنع أن تقبل
13
الزيادة والنقصان ـــ كانت مفارقة كحمرة الخجل وصفرة الوجل، أو غير
14
مفارقة كسواد الحبشى ـــ وليس إذا كان بعضُ الناس أفهمَ، وبعضُهم
15
أبلد، فقد قبلت القوة النطقية زيادة ونقصانا، بل ولا لوكان واحد
16
من الناس لا يفهم البتة كالطفل، فإن ذلك لا يكون عارضا فى فصله؛
17
وذلك لأن فصله هو أنّ له فى جوهره القوةَ التى إذا لم يكن مانع، فَعَل
18
الأفاعيل النطقية؛ وتلك القوة واحدة، ولكنها يعرض لها تارة عوز
19
الآلات، وتارة معاسرتها وعصيانها، فتختلف بحسب ذلك أفعالها تارةً
82
1
بالبطول والسقوط، وتارةً بالزيادة والنقصان، ومعناها المذكور ثابت، كنار
2
واحدة تختلف أفعالها بحسب اختلاف المنفعلات عنها هذه الوجوه من
3
الاختلافات، فتكون تارة أشد اشتعالا، وتارة أضعف، وذلك بسبب
4
المادة التى تفعل بها وفيها. وكذلك القلب والدماغ آلتان للقوة النطقية،
5
بهما يتم أول فعلها من الفهم والتمييز، وغير ذلك؛ فبحسب اعتدال مزاجيهما
6
ولا اعتداله، تختلف هذه الأفعال، وليس الذهن ولا الفهم ولا شىء
7
من أمثال ذلك فصلا يقوّم الإنسان، بل هى عوارض وخواص؛ والزيادة
8
فى مثل هذا الاستعداد المذكور والنقصان فيه أمر يحصل فى الاستعداد المتولد
9
من استعدادين: استعداد الفاعل، واستعداد المنفعل؛ فأما الذى للفاعل نفسه
10
فغير مختلف.
11
واعلم أنّ الفصل، الذى هو أحد الخمسة، هو الناطق الذى يحمل على
12
النوع مطلقا، لا النطق الذى يحمل على النوع بالاشتقاق؛ لأن هذه الخمسة
13
أقسام شىء واحد، وهو اللفظ الكلى. وصورة اللفظ الكلى فى جميعها
14
أن يكون مقولا على جزئياته، ويشترك فيه بأن يعطيها اسمها وحدّها، والنطق
15
لايعطى شيئا من الجزئيات اسمه ولاحدَّه؛ وهذا ـــ إنْ قيل له فصل ـــ فهو فصل
16
بمعنى غير الذى كلامنا فيه. وكذلك فافهم الحال فى الخاصة والعرض؛ فإنه
17
يجب أن يكون حمل هذه الخمسة على قياس حمل الجنس والنوع، من حيث هو
18
حمل، وإن لم يكن من حيث الذاتية والعرضية.
83
1
[الفصل الرابع عشر]
2
(يد) فصل فى الخاصة والعرض العام
3
فأما الخاصة فإنها تستعمل عند المنطقيين أيضا على وجهين: أحدهما
4
أنها تقال على كل معنى يخص شيئا، كان على الإطلاق، أو بالقياس إلى شىء؛
5
والثانى أنها تقال على ما خص شيئا من الأنواع فى نفسه دون الأشياء
6
الأخرى، ثم قد يخص من هذا القسم باسم الخاصة ما كان مع ذلك شيئا
7
موجودا لكل النوع فى كل زمان. والخاصة التى هى إحدى الخمسة فى هذا
8
المكان عند المنطقيين ـــ فيما أظن ـــ هى الوسط من هذه، وهى المقول على الأشخاص
9
من نوع واحد فى جواب أى شىء هو لا بالذات، سواء كان نوعا أخيرا
10
أو متوسطا، سواء كان عاما فى كل وقت، أو لم يكن؛ فإنّ العام الموجود
11
فى كل وقت ـــ سواء كان نوعا أخيرا أو متوسطا ـــ هو أخص من هذا؛
12
ولو كانت الخاصة التى هى إحدى الخمس هى هذه، لكانت القسمة تزيد على
13
خمسة، وإن كان الأوْلى باسم الخاصة ـــ باعتبار اختصاصها بالنوع ـــ غيرها
14
ومعنى أخص منها. ولا يبعد أن نعنى بالخاصة كل عارض خاص بأى
15
كلى كان، ولو كان الكلى جنسا أعلى، ويكون ذلك حسنا جدا. وتخرجها
16
القسمة على هذا الوجه: وهو أنّ الكلى العرضى إما أن يكون خاصا بما يقال.
17
عليه، أو غير خاص بما يقال عليه، سواء كان ما يقال عليه جنسا أعلى أومتوسطا
84
1
أو نوعا أخيرا؛ لكن التعارف قد جرى فى إيراد الخاصة على أنها خاصة لنوع،
2
وتالية للفصل، فتكون الخاصة التى هى إحدى الخمسة هى ما يقال على أشخاص
3
نوع ولا يقال على غيرها، عمت تلك الأشخاص أو لم تعم، وكان النوع متوسطا
4
أو أخيرا، وربما أوجبوا أن يكون النوعُ أخيرا.
5
وقد ذهب قوم إلى أن يجعلوا كلَّ ماهو سوى أخص الخواص من جمله العرض
6
العام، حتى لو كان مثلا لا يوجد إلا لنوع واحد، لكنه مع ذلك لا يوجد
7
لكله بل لبعضه، ويكون مما يجوز أن يكون وأن لا يكون لذلك البعض، فهو
8
العرض العام، حتى يكون العرضى إما موجودًا لنوع واحد ولكله دائما، فيكون
9
خاصة، وإما ألا يكون كذلك، بل يكون إما موجودا لأنواع، وإما موجودا
10
لنوع، ولكن لا بالصفة المذكورة، فيكون عرضا عاما. وهذا القول
11
مضطرب، ولا يدل على الشىء من جهة عمومه وخصوصه وكليته، بل من جهة
12
أخرى، ويجعل اسم العرض العام هذرا، فإنّ العرض العام موضوع بإزاء
13
الخاص. وإذ الخاص إنما يحسن أن يصير خاصا لأنه لنوع واحد، فإذن
14
ليس يحسن أن يُجعل أخص الوجوه الثلاثة فى استعمال لفظة الخاصة دالا
15
على المعنى الذى هو أحد الخمسة. وهذا الاستعمال الأعم يجعل الخواص
16
مقسومة إلى أقسام أربعة: خاصة للنوع ولغيره كذى الرجلين للإنسان بالقياس
17
إلى الفرس، وأحراه بذلك ما كان للنوع كله؛ وخاصة للنوع وحده، وهذا
18
إما لكله، وإما لا لكله كالملاحة والفلاحة للإنسان؛ والذى لكله إما دائما
19
فى كل وقت مثل ما يكون الإنسان ضحاكا أو ذا رجلين فى طبعه،
20
وإما لادائما كالشباب للإنسان. فالخاصة ـــ من حيث هى أَوْلى أن تكون إحدى
21
الخمسة ـــ هى ما ذكرناه، وأما من حيث هى أَوْلى بأن تكون خاصة فهى اللازمة
22
المداومة التى لجميع النوع فى كل زمان. ولا يتناقض قولنا: إنَّ كذا خاصة
85
1
حقيقية، من حيث الاختصاص بالنوع، وليس هو الذى إليه قسمة الخمسة،
2
وقولنا: إن الذى إليه قسمة الخمسة فهو خاصة حقيقية بحسب ذلك،
3
اليس هو الذى هو الخاصة الحقيقية باختصاصه بالنوع. واعلم أنّ الخاصة
4
التى هى إحدى الخمس هى الضحاك لا الضحك، والملاح لا الملاحة،
5
وعلى ما قيل فى الفصل، وإن كنا نتجوز فى الاستعمال أحيانا فنأخذ الضحك
6
مكان ذلك.
7
وأما العرض العام فهو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع لا بالذات، وهو
8
أيضا كالأبيض لاكالبياض. وليس هذا العرض هو العرض الذى يناظر الجوهر
9
كما يظنه أكثر الناس؛ فإنّ ذلك لايحمل على موضوعه بأنه هو، بل يشتق
10
له منه الاسم.
11
وهذه الخمسة حملها حملٌ واحد، كما قد سبق لك مرارا. والعرض العام
12
الذى هاهنا هو كالأبيض وكالواحد وما أشبه ذلك، فإنك تقول: زيد أبيض،
13
أى زيد شىء ذو بياض، والشىء ذو البياض محمولٌ حملا صادقا على زيد؛ والشىء
14
ذو البياض ليس بعرضٍ بالمعنى الذى يناظر الجوهر، بل البياض هو العرض
15
بذلك المعنى. وكذلك تقول: إن الجسم محدث وقديم، وليس القديم أو المحدث
16
جنسا ولا فصلا ولا خاصة ولا نوعًا للجسم، بل من جملة هذا الصنف من
17
المحمولات، وليس المحدث عرضا بهذا المعنى، وإلا لكان الجسم موصوفا
18
بالعرض من غير اشتقاق، فكان الجسم عرضا؛ بل معنى العرض ها هنا[*]ها هنا corrupt for هاهنا
19
العرضى، وإنْ كان ليس بعرضٍ بالمعنى الآخر؛ فمن العرضى ما هو خاص
20
ومنه ما هو عام؛ فإنّ العرضى بإزاء الذاتى والجوهرى، والعرض بإزاء
86
1
الجوهر. والذاتى قد يكون عرضا كجنس العرض للعرض كاللون للبياض،
2
وقد يكون جوهرا، والعرضى قد يكون عرضا وقد يكون جوهرا؛
3
وفى هذا الموضع إنما نعنى بالعرض العرضى.
4
ولم تعلم بَعْد حالَ العرض الذى هو نطير الجوهر، وهذا شىء لم يَلْتفت إليه
5
أوّلُ من قدم معرفة هذه الخمسة على المنطق، بل جعل للعرض العام حدودا
6
مشهورة، مثل قولهم: "إن العرض هو الذى يكون ويفسد من غير فساد
7
الموضوع أى حامله"؛ ومثل هذا قولهم: "هو الذى يمكن أًنْ يوجد لشىء واحد
8
بعينه وأن لايوجد، وأنه الذى ليس بجنس ولافصل ولا خاصة ولا نوع،
9
وهو أبدًا قائم فى موضوع".
10
فلنتأمل هذه الحدود والرسوم المشهورة. فأما الأول فإنّ فيه وجوها
11
من الخلل: أحدها أنه لم يذكر فيه المعنى الذى كالجنس له وقد أشرنا
12
إلى مثل ذلك فى بعض حدود الفصل. والخلل الثانى أنه إنْ عنى بالكون
13
والفساد حال ما يكون ويفسد فى الوجود، فالأعراض العامة الغير المفارقة
14
ليست كذلك، وهم مُقِرُّون أنَّ مِن العرض العام ما هو مفارق، ومنه ما هو
15
غير مفارق. وإنْ عنى ما يكون فى الوجود والوهم جميعا، فقد استعمل لفظا
16
مشتركا عنده؛ فإنّ لفظة "يكون" وقوعُها على الموجود وعلى المتوهم عنده
17
إنما هو بالاشتباه، وهذا مما حذروا عنه؛ وسيتضح لك ذلك فيما بعد.
18
وبعد ذلك، فإنّ من الأمور العرضية التى ليست بذاتية ما إذا رفع بالتوهم
19
استحال أن يكون الشىء قد بقى موجودًا غير فاسد، كما مر لك فيما سلف.
87
1
نعم ربما لم يستحل أن يتوهمه الوهم باقيا بعده لم يفسد، وهذا غير مذكور
2
فى هذا الرسم. وتجد هذه المغامز كلها محصلة فى الرسم الثانى؛ فإنّ كثيرا
3
من الأعراض لازمة دائمة، والدائم لا يكون ممكنا أن لا يوجد إلا فى الوهم؛
4
ولم يشترط الوهم، وفى اشتراط الوهم أيضا ماقلنا. وأما الرسم السلبى الثالث،
5
فإنّ الشخص من الأعراض يشارك فيه، والطبائع، من حيث هى طبائع،
6
لامن حيث هى كلية، فإنْ أُلْحقَ به أنه كلىٌّ بهذه الصفة، خص العرض العام.
7
لكن صاحب هذا القول قد الحق به شيئا، وهو أنه قائم فى موضوع،
8
وإنما ألحق هذا إذ ظَنَّ أنَّ هذا العرض، الذى هو أحدُ الخمسة، هو العرض
9
الذى يناظر الجوهر. وقد قالوا: إن الفائدة فى إلحاقه ذلك، هى أن يفرقوا
10
بينه وبين اللفظ غير الدال، مثل قول القائل: شيصبان، وهذه خرافة؛
11
وذلك لأنه إنما يعنى بقوله "الذى ليس بجنس" اللفظَ الدال على معنى كلى،
12
ليس ذلك المعنى معنى جنس ولا نوع ولا فصل ولا خاصة؛ فلا شركة
13
فى هذا اللفظ الغير الدال؛ لأنه ليس يحد فى لفظ العرض هذا
14
المسموع، حتى إذا قال: إنه ليس بجنس ولا نوع ولا فصل ولا خاصة،
15
شاركه فى هذا اللفظ لفظ آخر لا يدل على شىء، فيلزم إيراد الفصل بينه وبين
16
ذلك. ولو كان إنما يعنى بهذا اللفظ من حيث هو مسموع، لكان يشاركه
17
فى أنه ليس بجنس ولا فصل ولا نوع ولاخاصة ألفاظ أخرى مسموعة مما هى دالة.
18
تمت المقالة الأولى من الفن الأول. ولواهب العقل
19
اكمل الحمد والفضل كما هو له أهله
91
1
المقالة الثانية
2
من الفن الأول من الجملة الأولى
3
[الفصل الأول]
4
(ا) فصل فى المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة
5
وأولها بعد العامة ما بين الجنس والفصل
6
إنَّ فى الوقوف على ما فَصَّلناه من أمر هذه الخمسة غنى للمحصلين عن
7
إيراد المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة، لكنه قد جرت العادة فى الكتب
8
المدخلية بإيراد ذلك، فلنحتذ فى ذلك حذَوهم، ولنقتصر على ما أوردوه منه، ولنبدأ
9
بالمشاركات فنقول: إنّ المشاركة التى تعم الخمسة هى أنها كلية أى مقولة على
10
كثيرين. وإذا اعترف بهذا مُصَنِّف المدخل، فقد اعترف بنقص الرسوم التى
11
للفصل والخاصة والعرض، إذْ أغفل فيها ذكرالكلية.
12
وتشترك جميعها فى شىء آخر، وهو أنَّ كل ما يحمل على المحمول منها
13
الحملَ الذى يحمل به المحمول على موضوعه، فإنه يحمل على موضوعه؛ فطبيعة
14
جنس الجنس محمولة على ما يحمل عليه الجنس، وكذلك جنس الفصل،
15
وفصل الفصل؛ وكذلك ما يحمل على الخاصة والعرض؛ فإنّ الملوَّن الذى هو
16
جنس الأبيض يحمل على زيد الأبيض، إذْ يحمل على عرضه العام؛ وكذلك المرئى،
17
الذى هو عرض الأبيض، يحمل على زيد الأبيض، إذْ يقال لزيد والأبيض مرئى؛
18
وكذلك المتعجب الذى هو جنس الضحاك، فإنّ جميع هذه تحمل بالتواطؤ، أى
19
تعطى ماتحمل عليه أسماءها وحدودها؛ والجنس والفصل يعمهما.
92
1
فى المشهور أنّ طبيعة الجنس يجب فيها أنْ تقالَ على أنواع، وإن لم يجب
2
ذلك فيها، فليس ذلك يمتنع فيها، وعلى الشرط الذى ستفهمه وقتا ما. وكذلك
3
ليس يمتنع فى طبيعة الفصل أن يقال على غير نوعه، لكن على هذا مافرغنا عن ذكره
4
سالفا. وقد مَثَّلوا لذلك الناطقَ، فإنه يحوى أنواعا، وقد علمتَ مافى هذا، ومع
5
ماقد علمتَ فلم يُحسنوا فى إيرادهم هذا المثال؛ فإنَّ الناطق إنما يحوى أنواعا كثيرة
6
ليست هى الأنواع القريبة منه، بل هى أنواع النوع الواحد الذى قوَّمه الناطق
7
عندهم، حين أضيف إلى الحى؛ وهذا أيضا قد فرغنا منه. فإنْ لم يعنوا بذلك
8
الأنواع القريبة، بل أى أنواع كانت، فيجب أن لا ينسوا هذا حين يشاركون
9
بين الجنس والنوع، فإنَّ مِنَ الأنواع مايحوى أنواعا، ولا يجعلون هذا مشاركة
10
بين الجنس والنوع.
11
والمشاركة الثانية المشهورة هى أنّ الجنس والفصل يشتركان فى أن كل مايحمل
12
عليهما من طريق ما هو، فإنه يحمل على ماتحتهما من الأنواع. وقد علمتَ أنّ
13
هذه المشاركة ليست تخص الجنس والفصل، بل هذه عامة، إلا أن يُقال
14
إنّ مايحمل عليهما من طريق ما هو، يحمل على ماتحتهما من طريق ماهو. وهذا
15
شىء لم ينطق به مُصَرَّحا، ولو نُطِق به لصَحَّ، إذا عنى بالحمل من طريق ماهو
16
غير مايعنى بالحمل فى جواب ماهو، كما سنوضح لك عن قريب.
17
والمشاركة الثالثة المشهورة أن رفعهما علةُ رفع ما تحتهما من الأنواع؛ فإنه
18
إذا رفعت الحيوانية والنطق ارتفع الإنسان والفرس وغير ذلك. وهذه المشاركة
19
تابعةٌ لمشاركة هى الأصل، وهى أن كل واحد منهما جزءُ ماهيةِ النوع ومقومٌ
20
له، فهذا هو الأصل وذلك الفرع، وهذه خاصية مشتركة بين الجنس والفصل
21
لاتوجد لغيرهما.
93
1
وأما الخواص التى يباين بها الجنس غيره، فأول المشهورات منها هو أنَّ الجنس
2
يحمل على أكثر مما يحمل عليه الفصل والنوع والخاصة والعرض. أمّا أنّ الجنس
3
أكثر حُوِيا من الفصل والنوع والخاصة، فهو أمرٌ ظاهر؛ فإنَّ الخاصةَ تخص
4
النوع؛ وكذلك الفصل، ولكن بشرط لم يشرطه، وهو أن يقايس بين الجنس
5
وبين فصلٍ تحته وخاصةٍ تحته. وأما العرض فليس بيّنا بنفسه أنه يجب أن يكون
6
أقل من الجنس، وذلك أنّ خواص المقولات العشر التى نذكرها بعد، هى
7
أعراض عامة لأنواعها، وليست أقل من الجنس فى عمومها، بل منها ما هو
8
أعم وأكثر، كما أنَّ كون الجوهر ثابتا على حدٍّ واحد فلايقبل الأشد والأضعف
9
هو أعم من الجوهر. فإنْ قال قائل: إنَّ هذا سلبٌ، وليس تحته معنى، فقد
10
يمكننا أن نجد لوازم وعوارض أعم من مقولةٍ مقولةٍ، كالواحد وكالموجود، بل
11
كالمحدث، بل مثل الحركة فإنها أكثر من الحيوان الناطق، وهو جنس عنده للإنسان.
12
والمباينة الثانية المذكورة بين الجنس والفصل فهى أنّ الجنس يحوى
13
الفصل بالقوة، أى إذا التفت إلى الطبيعة الموضوعة للجنسية، لم يجب نبوت
14
الفصل لها، ولم يمتنع، بل كان وجوده لها بالإمكان، فكان إمكانه إمكانا
15
لايستوفى طبيعة الجنس، بل يبقى لمقابله من طبيعته فصل. وهذا معنى الحوىّ،
16
فإنّ الحاوى هو الذى يطابق كل شىء ويفضل عليه.
17
والمباينة الثالثة هى أنَّ الجنسَ أقدمُ من الفصل؛ وذلك لأن الجنس قد
18
يوجد له الفصل المعين، وقد لا يوجد له، والفصل إنما وجوده فى الجنس،
19
ولذلك لا ترتفع طبيعة الجنس برفع طبيعة الفصل، وترتفع طبيعة الفصل برفع
94
1
طبيعة الجنس. وفى هاتين المباينتين موضعُ شكٍ، فإنّ من الفصول مايقع خارجا
2
عن طبيعة الجنس، مثل الانقسام بمتساويين، فإنه فصل الزوج فيما يُطَن،
3
ويقع خارجا عن العدد؛ لكن الجواب عن هذا سيلوح لك فى مواضع أخرى.
4
والمباينة الرابعة هى أنَّ الفصلَ يُحْمل من طريق أى شىء هو، والجنس يحمل
5
من طريق ماهو؛ وهذا القول بانفراده لايكون دالا على المباينة؛ فإنّ شيئين
6
إذا وُصِفا بوصفين مختلفين لم يكن ذلك دليلا على مباينتهما. فإنّ قائلا لو قال:
7
إنّ المباينة بين زيد وبين عمرو هى أن هذا حساس وذلك ناطق، أو أنّ هذا
8
ملاح وذلك صائغ، لم يكن هذا القدركافيا فى التفريق، فإنّ الوصفين المختلفين
9
فى المفهوم ربما جاز أن يجتمعا، فلا يَبْعُد أن يكون كونُ زيدٍ حساسا
10
ـــ وإنْ كان فى المفهوم مخالفًا لكون عمرو ناطقا ـــ هو مما لايوجب أن يباين به
11
زيدٌ عمرا، فلا يستحيل أنْ يكونَ كل واحد منهما ـــ مع أنه حساس ـــ
12
ناطقا أيضا؛ لأنَّ الأوصافَ المختلفة المفهومات قد تجتمع فى موصوف واحد؛
13
وكذلك الملاح والصائغ، بل يجب أن يكون بينهما قوة السلب، حتى
14
يكون الحساس يلزمه أن لا يكون ناطقا، والناطق أن لا يكون حساسا.
15
ثم كون الجنس مقولا فى جواب ما هو لا يمنع أن يكون مقولا فى جواب
16
أى شىء هو، على أصول هؤلاء، ولا بينهما قوة هذا السلب، فإنه لا يمتنع
17
أن يكون ما يقوم ماهية الشىء يميزه عما ليست له تلك الماهية، حتى
18
يكون بالقياس إلى ما يشترك فيه مقولا فى جواب ما هو، وبالقياس إلى
19
ما يفترق به مقولا فى جواب أى شىء هو؛ فهذا القدر لا يمنع أن يكون جنس
95
1
الشى هو أيضا فصلا له باعتبارين، إنْ كانت المباينة المطلوبة هى هذه،
2
ولا يوجب أن لا يكون جنس الشىء البتة فصلا له. وأما أن يكون فصل
3
الشىء جنس شىء آخر فذلك مما لا يمنعونه فيما أُقدر، وذلك كالحساس فإنه
4
جنسٌ بوجهٍ للسميع والبصير، وفصلٌ للحيوان. فإنْ قال قائل: إنَّ الشىء
5
الواحد قد يكون جنسا وفصلا لشىء واحد فإنه، وإنْ كان جنسا وفصلا لشىء
6
واحد، فإنَّ اعتبار أنه جنسٌ غيرُ اعتبارِ أنه فصل، وقال: نحن إنما نريد أن
7
نوضح الفرق بين الاعتبارين اللذين يطلق على أحدهما اسم الجنسية، وعلى الآخر
8
اسم الفَصْلية، لم نخالفه، ولم نبكته، ولم ننازعه فى التسمية، ولكنه يكون غَيَّر
9
مِنْ كلامنا معه؛ لأنَّ كلامنا مع الذى دل باسم الجنس والفصل على طبيعتين
10
مختلفتين اختلافا لا يكون الشىء الواحد بالقياس إلى موضوع واحد موصوفا
11
بكلا الطبيعتين، بل يجعل إحدى الطبيعتين صالحة لأحد الجوابين، والطبيعة
12
الأخرى صالحةً للجواب الآخر لكن الوجه الذى ذهبنا نحن إليه فى تفهم
13
المقول فى جواب ما هو، والمقول فى جواب أى شىء هو، يعلمك أنّ المقول
14
فى جواب ماهو، لايكون مقولا فى جواب أى شىء هو، وبالعكس،
15
فتكون هذه المباينةُ على ذلك الوجه صحيحةً. لكن لقائل أنْ يقول: إنكم
16
قد أطلقتم القولَ فى عدة مواضع إن الفصل أيضا قد يقال من طريق ما هو،
17
وخصوصا فى كتاب البرهان فنقول: إنه فرق بين قولنا إنّ الشىء مقول
18
فى جواب ما هو، وبين قولنا إنه مقول فى طريق ما هو؛ كما أنه فرقٌ بين قولنا
19
"الماهية" وبين قولنا "الداخل فى الماهية" فالمقول من طريق ما هو كل
20
ما يدخل فى الماهية، ويكون فى ذلك الطريق، وإنْ لم يكن وحده دالا على
96
1
الماهية؛ والمقول فى جواب ماهو، هو الذى وحده يكون جوابا إذا سُئِل عماهو.
2
فالفصل يدخل فى الماهية ويكون مقولا من طريق ما هو؛ إذْ هو جزءُ الشىء
3
الذى يكون جوابا عن ما هو، لكنه ليس هو وحده مقولا فى جواب ما هو.
4
وقد قال بعض الفضلاء: إنّ الفصل قد يكون مقولا فى جواب ما هو أيضا
5
فى بعض الأشياء دون بعض، والجنس دائما دالٌّ على ما هو؛ ذلك لأن
6
الجنس يدل دائما على أصل ذات الشىء؛ وأما الفصول فربما كانت مناسبات
7
وإضافات إلى أفعال وانفعالات أو أمور أخرى؛ فلذلك يجعل الجنس أوْلى
8
منه بما هو. وفى هذا الكلام خللان: أحدهما أنّ ما كان من الفصول يجرى
9
هذا المجرى، فلا يكون فصلا مقوما، بل يكون من الفصول اللوازم؛ والآخر
10
أنّ الشىء إذا أريد أن يفرق بينه وبين الشىء الآخر بوصف، يجب أن يكون
11
الوصفُ الذى يفرق بينه وبين الآخر موجودا له دون الآخر وجودا على
12
الثبات، اللهم إلا أن لاتجعل التفرقة بالوصف، بل بأكثرية الوصف وأخلقيته؛
13
فيقال مثلا: إن الجنس هو الذى هو أَحْرى بأن يكون مقولا فى جواب ماهو،
14
والفصل هو الذى ليس هو بأحرى؛ فيكون الاختلاف ليس من جهة هذا
15
الوصف، بل من جهة القَمِن، إذ هو موجود لأحدهما دون الآخر؛ فإنْ فُعِل
16
ذلك كان فيه عدول عن حقيقة التعريف إلى أمر إضافى عرضى؛ وإن لم يفعل
17
ذلك فيكون بين الجنس وبعض الفصول مشاركة فى الحد، وبين الجنس وبعضها
18
مباينة فى الحد.
19
والمباينة التى بعد هذه هى أنّ الجنس لا يكون للأنواع إلا واحدا،
20
والفصل قد يكون أكثر من واحد، كالناطق والمائت للإنسان. وفى إطلاق
21
هذه المباينة بهذا المثال خلل؛ لأنه إنْ أخذ الجنس كيف كان، لا قريبا
22
ملاصقا فقط، وجد للشىء أجناس كثيرة أيضا؛ فإن الأجناس فى العموم قد
97
1
يوجد الكثير منها للشىء الواحد، ولكنها لا تكون كلها أجناسَ الشىء بالحقيقة،
2
بل بعضها أجناس جنسه. وكذلك قد توجد فصول كثيرة متفاوتة فى الترتيب،
3
ولكنها لا تكون كلها فصول الشىء بالحقيقة، بل بعضها فصول جنسه، كما
4
مُتِّل به؛ فإنَّ الناطق ليس فصلا قريبا للإنسان على هذه الطريقة التى رتبوا عليها
5
قسمتهم، بل هو فصل جنسه. وإنما فصله الملاصق على هذا المذهب هو
6
المائت، وهذا فى مثاله واحد، بل كما أن الجنس الأقرب الذى ليس
7
بجنس الجنس هو فى مثاله واحد، كذلك الفصل الأقرب الذى ليس بفصل
8
الجنس هو فى مثاله واحد، وهو المائت. لكن قد يوجد لهذا الموضع أمثلة
9
أخرى مثل الحساس والمتحرك بالإرادة؛ فإنهما على ظاهر الأمر فصلان
10
قريبان للحيوان، فيكون الجنس القريب ليس إلا واحدا، والفصول القريبة
11
قد تكون أكثر من واحد. وأيضا فإنَّ هاهنا وجهًا آخر، وهو أنَّ
12
الأجناس الكثيرة ينحصر بعضها فى بعض، حتى يحصل آخرها جنسا واحدا؛
13
والفصول الكثيرة تكون متباينة لا يدخل بعضها فى بعض. واشباع القولِ
14
فى هذا من حق صناعةٍ أخرى.
15
والمباينة التى بعد هذا هى أن الجنس كالمادة، والفصل كالصورة؛ ويتم
16
بيان ذلك بأن يقال: والذى كالمادة يخالف الذى كالصورة. وأمّا أنَّ الجنس
17
ليس بمادة، بل كالمادة، فلأن المادة لا تحمل على المركب حمل أنه هو،
18
والجنس يحمل على النوع حمل أنَّ الجنس هو، وأنَّ المادة الموضوعة لصورتين
19
متقابلتين لا تنتسب إليهما بالفعل إلا فى زمانين، والجنس يكون مشتملا على
20
الفصلين المتقابلين فى زمان واحد. وها هنا[*]وها هنا corrupt for وهاهنا فروق أخرى تُذكر فى غير هذا
21
الموضع. وإذْ الجنس ليس مادةً، فليس الفصلُ صورةً. وأما أنه كالمادة،
98
1
فلأن طبيعته عند الذهن قابل للفصل، وإذا لحقه الفصل صار شيئا مُقوما
2
بالفعل، كما هو حال المادة عند الصورة. وإذْ الجنسُ للفصل كالمادة للصورة،
3
فالفصل للجنس كالصورة للمادة.
4
[الفصل الثانى]
5
(ب) فصل فى المشاركة والمباينة بين الجنس والنوع
6
وأما المشاركة الأولى المشهورة بين الجنس والنوع، فمشاركة كانت مع الفصل،
7
وهى أنهما يتقدمان ما يحملان عليه، أى ما هما له جنس ونوع.
8
والثانية مشاركة، عامة وهى أنَّ كل واحد منهما كلى. وقد نسى موردهما
9
أنَّ هذه مشاركة جامعة قد ذُكرت مرة؛ فإنْ أرادوا أن يجعلوا هذا وجها
10
خارجا عن ذلك، فيجب أن يعنى بالكلى غير الكلى على الإطلاق، بل كلى
11
هو ماهية جزئياته بالشركة.
12
وأما المباينة الأولى فمثل ما كان مع الفصل، وهو أنَّ النوع َمَحْوِى للجنس،
13
والجنس ليس بمحوى للنوع.
14
وأخرى فى قوتها وهى أنّ طبيعة الجنس أقدم من طبيعة النوع، أى إذا
15
وجدت طبيعة الجنس، لم يجب أن توجد طبيعة النوع، بل إذا رُفعت ارتفعت
16
هى، وإذا رفعت طبيعةُ النوع، لم يجب أن ترفع طبيعة الجنس، بل إذا
17
وجدت وجدت.
18
وثالثة قريبة من تينك، وهى أنّ الجنس يحمل على النوع بالتواطؤ حملا كليا،
19
والنوع لا يحمل على طبيعة الجنس حملا كليا، وهذا فى ضمن المباينة التى قيلت
99
1
من جهة الحوى وغير الحوى؛ وهذه المباينة ليست من المباينات التى فى قوة
2
السلب والإيجاب فى أول الأمر؛ لأن ذلك إنما يكون أنْ لوقيل إنَّ الجنس
3
يحمل على النوع بالتواطؤ كليا، ثم تسلب هذه الصفة بعينها عن النوع، بل إنما
4
تسلب عن النوع فى هذه المباينة صفة أخرى، وهى أنه لا يحمل على الجنس
5
بالتواطؤ حملا كليا، وليس هذا المسلوب هو ذلك الموجب، لكن صورة هذه
6
المباينة أن النوع لا يكافىء الجنس فيما للجنس عند النوع، وهذا لا يتأتى
7
إلا بين مختلفين.
8
ومباينة أخرى أن كل واحد من الجنس والنوع يفضل على الآخر بوجه
9
لايفضل به الآخر عليه؛ فالجنس يفضل بالعموم، إذْ يحوى أمورا وموضوعات
10
غير موضوعات النوع، والنوع يفضل بالمعنى، إذ يتضمن معنى الجنس ومعنى
11
الفصل زائدا عليه؛ فإنه كما أن الحيوان يتضمن بالعموم الإنسان وما ليس
12
بإنسان مما هو خارج عن الإنسانية، كذلك الإنسان يتضمن بالمعنى معنى
13
الحيوانية، ومعنى خارجا عن الحيوانية وهو النطق.
14
ومباينة أخرى متكلفة، وهى أنه ليس فى النوع جنس أجناس، ولا فى الجنس
15
نوع أنواع، وإنْ كان فى كل واحد منهما متوسط.
16
وأما الجنس والخاصة فقد يشتركان فى أنهما محمولان على النوع وتابعان؛
17
أى إذا وُجِد النوع وجدت الخاصة؛ والجنس أيضا. وهذه المشاركة قد
18
توجد مع غير الخاصة؛ وهذه المشاركة هى مع الخاصة العامة.
100
1
وذكرت مشاركة أخرى وهى أن طبيعة الجنس تحمل على ما تحته بالسوية؛
2
إذْ أنواع الحيوان بالسوية حيوان، ولا تقبل الأشد والأضعف. وكذلك
3
الخاصة كالضحاك على أشخاص الناس. وهذه المشاركة لو ذكرت فى مشاركات
4
الجنس والفصل والنوع، لكان ذلك أحرى؛ فنسى هناك وأورد فى هذا الموضع؛
5
على أنه ليس هذا موافقا للخواص كلها؛ فإنّ الخجل بالفعل من خواص الناس
6
وليس يستوى فيهم؛ وكذلك أمور أخرى لأمور أخرى. وبالجملة أى برهان
7
قدمه الرجل على أن الخاصة هكذا، أو أى استقراء بَيَّنَهُ له؟ وإنما أورد له
8
مثالا واحدا؛ وليس هذا وجه البيان العلمى للشىء الذى ليس بيِّنا بنفسه.
9
وبالحقيقة فإن هذا الحكم إنما يصدق فى بعض الخواص دون جميعها، وهى من
10
الخواص الاستعدادية التى تتبع الصور فتكون للكل ودائما. وأما الخواص الدائمة
11
التى تتبع المواد، فكثيرا ما تقبل الأشد والأضعف. والرجل ينسى هذا الاعتبار
12
عن قريب، ويأخذ فى تعريف الخاصة على جهة لا يستوى معها إعطاء هذه
13
المباينة الخاصة، كما ستعرفه.
14
وذكرت مشاركة أخرى وهى أنهما كلاهما يحملان على ما تحتهما بالتواطؤ،
15
وهو أن يكون حملهما حملا بالاسم والحدِّ. وهذا أيضا قد كان يليق به أن
16
يذكره لغيرهما؛ لكنه يجب لمن سمع هذا وتصوره وأقرَّبه أن لا ينسى حكمه
17
فى كتاب قاطيغور ياس، حيث يُظَن أن المقول على الموضوع، وهو المقول
18
بالتواطؤ، هو الذاتى فقط.
19
وأما المباينات، فالأُولى منها هى أن الجنس متقدم بالذات، والخاصة
20
متأخرة؛ إذ كانت الخاصة إنما تحدث مع حدوث النوع، فتنبعث إما من
101
1
المادة كَعْرض الأظفار أو مثال آخر، وإما من الصورة كقبول العلم، وإما
2
منهما حميعا كالضحك.
3
والثانية أنّ الجنس يحوى أنواعا، والخاصة نوعا منها.
4
ومباينة أخرى أنَّ الجنسَ يُحمل على كل واحد من الأنواع حَمْلا كليا،
5
ولا ينعكس؛ إذْ لا يقال: وكل حيوان إنسان، كما يقال: كل إنسان
6
حيوان. وأما الخاصة فإنها تنعكس، إذْ كل إنسان مستعد للضحك، وكل
7
مستعد للضحك إنسان. وهذه المباينة بين الجنس والخاصة الدائمة العامة،
8
أو بين طبيعتى الجنس والخاصة مطلقا؛ إذ تلك لا تحتمل وهذه تحتمل،
9
أعنى هذا العكس. ويتبع هذه مباينة هى فى ضمن تلك، وهى أنّ الخاصة،
10
وإن كانت لكل النوع ودائما كالجنس، فإنها لا تكون لغير النوع،
11
والجنس يكون.
12
ومباينة أخرى منتزعة من المباينة الأولى، وهى أن الجنس يرفع الخاصة
13
برفعه، من غير عكس. ومَنْ شاء أن يجعل هذه مباينة غير المباينة المعلقة بالتقدم
14
والتأخر، لم تعوزه الحيلة فيه، ولكنه يكون قد أمعن فى التكلف. وأما الجنس
15
والعرض فيشتركان فى أن كلَّ واحد منهما يقال على كثيرين، وهو المشاركة العامة؛
16
وليته قال "على كثيرين مختلفين بالنوع"، فكان أورد مشاركة خاصة بين العرض
17
والجنس، خصوصا ولم يذكر مشاركة أخرى. وأما المباينة الأولى فإن الجنس
18
قبل النوع كما علمت. فأما النوع فهو قبل مايعرض له، لأنه إنْ كان مايعرض
19
له منبعثا عن نوعيته، فتكون نوعيته قد تقررت بفصله، تم لحقه مالحقه،
102
1
وهذا قد فرغ لك من شرحه. وإن كان من الأعراض التى تَعْرِض من خارج،
2
فيكون النوع أولا قد حصل موضوعا حتى استعد لقبول ذلك العارض من خارج؛
3
لكن هذه المباينة موجودة أيضا بين الجنس والخاصة.
4
والمباينة الأخرى قد ذكرت هكذا: إن الأشياء التى تحت الجنس تشترك
5
فيه بالسوية، والتى تحت العرض لا تشترك فيه بالسوية. وهذه عبارة
6
محرفة ردية؛ لأنها تشير إلى فرق موجود بين موضوعاتهما، ليعاد ثانيا فيستدل
7
بذلك على الفرق بينهما، بل كان يجب أن يقول: إنّ الجنس لا يحمل
8
على الأشياء التى تحته إلا بالسوية، وذلك يحمل لا بالسوية، فيكون الفرق واقعا
9
فى أول البيان، بل كان يجب أن يقول: والأعراض ربما حملت
10
لا بالسوية؛ فإنه ليس جميع الأعراض تحمل إلا بالسوية كالمربع والمثلث
11
وأمور أخرى. ولفظ الرجل يُوهم أن كل عرض يُحمل لا بالسوية، ثم يأمل
12
من هذا أنه إذا جاز فى الأعراض أن يكون فيها محمولٌ لا بالسوية، فما المانع
13
أن يكون كذلك فى الخواص؟ فعسى أن يكون كونُ هذا أعم وذلك مساويا،
14
مما يرخص لهذا فيما لا يرخص فيه لذلك.
15
والمباينة التى هى بعد هذه أنّ الأعراض توجد فى الأشخاص على القصد
16
الأول. وأما الأجناس والأنواع فهى أقدم من الأشخاص. وهذه المباينة عجيبة
17
التحريف والتشويش؛ فإنه كان يجب أن يقول: إنّ الأعراض توجد
18
فى الأشخاص على القصد الأول، والأجناسَ والأنواعَ لاتوجد على القصد الأول.
19
أو يقول: إنّ الأجناس والأنواع أقدمُ من الأشخاص، والأعراض ليست
20
أقدم، وما المانع من أن يكون الشىء ُ أقدمَ وموجودًا على القصد الأول؟
103
1
ثم إنْ كان معنى القصد الأول هو أن يحمل عليها لا بواسطة شىء، فإنّ النوع
2
كذلك. وأما الجنس فعساه أنْ لا يكون كذلك؛ فإنه يحمل على الشخص
3
بتوسط النوع. وأما النوع، فإنه محمول على الشخص بالقصد الأول، أو يشبه
4
أن يكون الرجل قَدْسهَا فى إيراد لفظة النوع، فقد كان مستغنيا عنه، إذْ كان
5
وكدُه الاشتغالَ بالتمييز بين الجنس والعرِض.
6
والمباينة التى بعد هذه هى أنّ الأجناس تقال من طريق ما هو، والأعراض
7
لا تقال. وهذه المباينة موجودةٌ أيضا بين الجنس والخاصة، وقد أغفلها هنالك.
8
[الفصل الثالث]
9
(ج) فصل فى المشاركات والمباينات الباقية
10
وأما الفصل والنوع فيشتركان بأنهما يحملان على ماتحتهما بالسوية.
11
والمشاركة الأخرى أنهما ذاتيتان؛ وهذه تقع أيضا بين الجنس والفصل،
12
ولم يذكرها.
13
وأما المباينة فإنَّ حَمْلَ النوع من طريق ما هو، وحًمْلَ الفصل من طريق
14
أى شىء هو، وإنَّ الإنسان، وإنْ صَلُحَ أن يكون جوابا عن أى الحيوان،
15
فليس ذلك له أولا وبذاته، بل بسبب الناطق. وقد بُحِث عن هذا قبل.
16
والمباينة الأخرى هى أن النوع لايوجد ة إلا محمولا على كثيرين مختلفين
17
بالعدد فقط، والفصل فى أكثر الأحوال أو فى كثير من الأحوال يحمل
18
على كثيرين مختلفين بالنوع. وهذه المباينة بين الفصل والنوع السافل،
19
لابين الفصل والنوع المطلق.
104
1
والمباينة الثالثة هى أنَّ الفصل أقدم من النوع؛ وأَوْرَد مثاله من طريق
2
الرفع بأن قال: إن الناطق يرفع برفعه الإنسان، ولا يرتفع برفع الإنسان،
3
إذ الَملَك ناطق؛ ولم يأت بالفصل والنوع اللذين هما معا، بل أخذ فصلَ
4
جنس الإنسان، وقايسه بالإنسان، وفعل نظير ما لفاعل أن يفعله قائلا:
5
إنَّ النوع أقدم من الفصل، إذْ الحى نوع للجسم، وهو أقدم من الفصل
6
الذى هو الناطق. وكما أنَّ هذا القائل مُحَرِِّف للحق بعدوله عن إيراد فصل
7
ونوع متعادلين فى الوضع، كذلك ذلك؛ لكن الفصل أقدمُ من النوع
8
من جهة أنه علة وجوب وجوده، ونسبته إليه نسبة الصورة إلى المركب.
9
وأورد مباينة أخرى وهى أنَّ فصلين يأتلفان فُيَقِّومان نوعا، والنوعان
10
لا يأتلفان فيقوَّم منهما نوع؛ وجعل مثال الفصلين الناطق والمائت، وقد عُلِم
11
أنهما غير متساويى التركيب، كما شرحناه قبل. لكن هذه المباينة تستمر
12
على أحد اعتبارين: إما أن يُجْعل الفصلان من جنس فصلى الحساس والمتحرك
13
بالإرادة، وإمَّا أن يقال: إنَّ الفصلين المختلفى الترتيب يجتمعان، فيحدث
14
من اجتماعهما إلى ما تجتمع معه نوع، هو غير كل واحد منهما. وأما النوعان
15
المختلفا الترتيب فلا يأتلفان، حتى يحدث منهما، غير كل واحد منهما، نوع آخر،
16
بل يكون الأعم منهما جزءا من الأخص، ويكون الحاصل لا شيئا حاصلا
17
من اجتماعهما، بل هو شىء هو أحدهما. والنوعان اللذان لا يختلفان فى الترتيب
18
بل يكونان متباينين، لا يجتمعان البتة. لكن لقائل أن يقول: إنَّ الناطقَ
19
والمائت فى أنفسهما نوعان من أشياء أخرى، وإن لم يكونا نوعين للناس،
20
وقد اجتمعا فأحدثا نوعا، وكذلك كثير من الطبائع المختلفة الأنواع تجتمع
105
1
فيكون منها نوع ثالث بالاجتماع، كالاثنينية والثلاثية يفعلان بالاجتماع
2
الخماسية، وهى نوع ثالث غيرها، فإنّ الجواب أن الاعتبار الذى ذهب
3
إليه فى ذكر هذه المباينة غير هذا الاعتبار؛ وذلك أن الغرض فيما يقوله متوجه
4
نحو أشياء محمولة على أشياء بأعيانها يشترك فيها؛ فإنها إذا كانت فصولا كالناطق
5
والمائت اللذين قد يُقالان على موضوعات بأعيانها، فإنها إذا اجتمعت فعلت
6
شيئا ثالثا يكون نوعا من الأنواع لتلك الأشياء، وتكون تلك الأشياء موضوعات
7
له، كما توضع الأشخاص للأنواع، ولا يكون كذلك الناطق؛ لأن الحيوان
8
داخل فى ماهية تلك الأشخاص، وليس داخلا فى ماهية الناطق والمائت؛ فليس
9
الناطق والمائت نوعين بالقياس إليها، وإن كانا محمولين عليها، وإلا كانا
10
متوسطين بينهما وبين الجنس الذى هو الحيوان، وكانا نوعين تحت الحيوان
11
لا فصلين قاسمين؛ فقد وُجِد فى الفصول فصلان يقومان نوعا مشاركا
12
فى الموضوعات، ولا يوجد ذلك فى الأنواع. وأما أن تكون أنواع مختلفة
13
فتفعل باجتماعها نوعا ـــ موضوع ذلك النوع غير موضوعاتها ـــ فذلك غير
14
منكر، مثل موضوعات الخمسية فإنها غير موضوعات الاثنينية والثلاثية.
15
وأما الفصل والخاصة فيشتركان فى أنهما يحملان على ما تحتهما بالسوية. ويجب
16
أن تعلم أن هذا إنما هو فى بعض الخواص التى منها الخاصة العامة الدائمة
17
الصورية، فإن الضاحكين ضاحكون بالسوية، كما أن الناطقين ناطقون
18
بالسوية. ويشتركان فى أنهما للكل ودائما، وهذا أيضا للخاصة العامة الدائمة.
19
وأما المباينات فلأن الخاصة الحقيقية هى لنوع واحد، والفصل قد يكون
20
لأنواع، وقد علمتَ مافى هذا.
106
1
وأتبع ذلك مباينة هى كأنها تلك أو لازمة لتلك، فقال: إنَّ الفصل قد
2
لاينعكس فى الحمل؛ فلا يقال كل ناطق إنسان، كما يقال كل إنسان ناطق؛
3
وأما الخاصة الحقيقية فتنعكس.
4
وأما المشاركة بين الفصل وبين العرض الغير المفارق، فدوام وجودهما
5
لموضوعاتهما.
6
وأما المباينات فالأولى منها أنَّ الفصل يحوى دائما ماهو له فصل، ولايُحْوَى
7
البتة. قال الرجل: وأما الأعراض فإنها تحوى غيرها، وذلك من حيث هى
8
عامة، وتُحْوَى أيضا من غيرها من قِبَل أنَّ الموضوع لا يختص بقبول
9
واحد منها محمولا عليه أو فيه، بل يوضع لغيره، فهو لذلك يحويه كما كان العرض
10
يحويه؛ لأنه لايختص بالحمل على الواحد من موضوعاته، بل يعرض لغيره.
11
وقد نسى الرجل ماقاله: "إنّ الموضوع الواحد قد تكون له فصول كثيرة تجتمع
12
فيه". ثم الحوى كأنه لفظ مشكك غير علمى، لا ينبغى أن يستعمل؛ فإنَّ
13
مفهومَ وجه الحوى المثبِت للعرض والجنس مباينٌ للوجه المسلوب. وقد كان له
14
وجه آخر لو قاله لكان أصوب، وهو أن العرض قد يحوى ويُحَوى، إذ هو من
15
جهةٍ أعم ومن جهةٍ أخص، كالأبيض فإنه كما يحمل على غير الإنسان، فكذلك
16
الإنسان قد يحمل على غير الأبيض، فيكون لا كل إنسان أبيض؛ ولا كل أبيض
17
إنسان، بل بعض هذا ذاك، وبعض ذاك هذا؛ ولكن هذه مباينة مع بعض
18
الأعراض. فتأمل أنه كيف جَعَل العارض للشىء ولايعمه خارجا من جملة
19
العرض؛ وكان تَوَهَّم فيما سلف أنه فيه ومنه. وأما أنه كيف جعله كذلك،
20
فلأنه جعل من شروط العرض التى بها يباين أنه يحوى النوع ويزيد عليه، اللهم
21
إلا أن يكون أراد أنّ هذه مباينة، لا لكل عرض، بل لعرض ما.
107
1
والمباينة الأخرى أن لا شىءَ من الفصول يقبل الزيادة والنقصان، بل طبيعة
2
الفَصْلية تمتنع أن تقبل الزيادة والنقصان، وكون الشىء عَرَضًا لا يمنع ذلك؛
3
لكن الرجل أطلق أنَّ الأعراض تقبل الزيادة والنقصان.
4
ومباينة أخرى هى أنَّ الفَصْلية تمنع أن يوجد لمقابلاتها موضوع واحد بعينه،
5
فيكون هو ناطقا وغير ناطق، والعرضية لاتمنع ذلك؛ فإن الأعراض الغير المفارقة
6
قد يكون للمتضادات منها موضوع واحد.
7
وأما النوع فيشارك الخاصة الحقيقية فى أن كل واحد منهما ينعكس على الآخر،
8
فكل إنسان ضحاك، وكل ضحاك إنسان؛ وفى أنهما يوجدان معا لموضوعاتهما
9
دائما.
10
أما المباينات فأولاها أنَّ الشىء الذى هو نوع لشىء يصير جنسا لشىء آخر،
11
وأما الخاصة فلا تكون خاصة لشىء آخر؛ وهذه المباينة متشوشة ردية جدا.
12
أمّا أولا فلأنه كان فيما سلف لا يلتفت إلى إيراد المباينة بين النوع المضايف
13
للجنس وبين غيره، بل يشتغل بالنوع السافل، والآن فقد أعرض عن ذلك،
14
واشتغل بالنوع المضايف للجنس، ثم الخطب فى هذا يسير. لكنه لو كان قال:
15
إنَّ النوع للشىء قد يصير خاصة لشىء آخر، ثم قال: إنَّ الخاصة لا تصير خاصة
16
لشىء آخر، لكانت مباينة حسنة؛ ولكن الحكم فى النوع كاذب. ولو قال:
17
إنَّ النوع للشىء يصير جنسا لشىء آخر، والخاصة لاتصير جنسا لشىء آخر، لكان
18
هذا أيضا صحيحا؛ ولكن الحكم فى الخاصة كاذب. فكما أنَّ النوع الذى ليس
19
بسافل يصير جنسا، كذلك الخاصة لنوع غير سافل تصير جنسا، فتكون خاصةً
108
1
لنوع عال، وجنسا لأنواع لها، كاللون فإنه خاصة وجنس. ولو كان قال:
2
إنَّ النوع للشىء قد يصير خاصة لشىء آخر، والخاصة لا تصير خاصة لشىء آخر
3
لكان مستقيما.
4
ومباينة أخرى وهى أن النوع متقدمٌ فى الوجود، والخاصةَ متأخرةٌ؛ وهذا
5
مسلم معقول، كما قد سلف.
6
ثم أورد مباينة أخرى وهى أنَّ النوع موجود بالفعل دائما، وأما الخاصة
7
فتوجد فى بعض الأوقات. وها هنا[*]وها هنا corrupt for وهاهنا تشويش أيضا؛ وذلك أنه إنْ عنى بالخاصة
8
مثل الضحك الذى بالفعل، فقد خرج عن المذهب الذى كان يسلكه إلى
9
الآن؛ وإنْ عنى بالخاصة الاستعدادَ الطبيعى، فذلك موجود بالفعل دائما، فإنَّ
10
كون الإنسان ضحاكا بالطبع موجود له بالفعل دائما. وهذه المباينة ـــ إنْ صحت ـــ
11
فكان يجب أن يذكرها للجنس والفصل مع الخاصة أيضا.
12
ومباينة أخرى هى أنّ حدَّيهما مختلفان، وهذه المباينة موجودةٌ بين الجميع
13
ليست تخص اعتبار الحال بين النوع والخاصة؛ وأمّا النوع والعرض فيعمهما
14
أنهما كليان. قال: ولا يوجد لهما أشياء كثيرة يشتركان فيها لبعد ما بينهما؛
15
وأما المباينة فلأن هذه للماهية وذلك ليس، ولأن الجوهر الواحد نوعه واحد،
16
وأعراضه لايجب أن تكون واحدة. وهذه المباينة توجد أيضا بين الجنس
17
والعرض، وبين النوع والخاصة، وبين الجنس والخاصة. وأيضا فإن النوع
18
قبل العرض وجودا وتوهما، وإن النوع يستوى لموضوعاته المشتركة فيه،
19
والعرض قد لا يستوى، وإنْ كان غير مفارق كسواد الزنوج. وأما الخاصة
20
والعرض الغير المفارق فيشتركان فى أنهما دائمان لموضوعاتهما؛ وقد كان يجب
21
أن لاينسى هذه المشاركة بين النوع وبين العرض الغيرالمفارق. ويختلفان بأن الخاصة
109
1
توجد للنوع وحده، والعرض الغير المفارق يوجد لأكثر من نوع كالسواد للزنجى
2
والغراب ويجب أن تتذكر هذا إذا رجعت إلى ماسلف فى المقاله الأولى.
3
ومباينة أخرى أن الاشتراك فى العرض لايجب أن يكون بالسوية، وفى الخاصة
4
يجب أن يكون بالسوية، وقد عرفت ما فيه.
5
فهذه هى الاشتراكات والمباينات المشهورة التى أوردها أول من أفرد لهذه
6
الخمسة الكليات كتابا، وقد ذكرناها على منهاج ذكره وترتيبه. وجميع ما أورده
7
من المباينات التى ليست مباينة عامة، فيمكن أن يُعَبرعنه فيقال مثلا: الفصل
8
ليس من شأنه أن يكون كذا، ومن شأن بعض ما هو فى طبيعة العرض مثلا أن
9
يكون كذا، فيكون هذا تحسينا لقوله: "ومع ذلك مستمرا". ولو أنه وفق لكان
10
يورد أولا المشاركات التى بين الخمسة، ثم التى بين أربعة أربعة، ثم التى بين
11
ثلاثة ثلاثة، ثم التى بين اثنين اثنين، وكذلك كان يورد المباينات التى بين واحد
12
وبين أربعة، ثم التى بين اثنين وثلاثة، ثم التى بين كل واحدة وواحدة أخرى
13
خاصة، فيكون قد حفظ ما هو الواجب، ولا يكون قد ترك مشاركة ومباينة
14
هى بين اثنين اثنين منها تركا مهملا، ويذكرهما بين اثنين آخرين، ربما كان ذكره
15
فيما أهمله أوقع وأحسن.
16
[الفصل الرابع]
17
(د) فصل فى مناسبة بعض هذه الخمسة مع بعض
18
وإذْ قد عرفنا هذه الألفاظ الكلية الخمسة، فيجب أنْ نعلم أنَّ الشىء الذى هو
19
منها جنس ليس جنسا لكل شىء، بل لنوعه فقط. وكذلك الفصل ليس يجب
20
أن يكون فصلا لكل شىء، بل إما من حيث هو مقسم فلجنسه، وإما من حيث
21
هو مُقَوِّم فلنوع ذلك الجنس. وأن الشىء الواحد قد يجوز أن يكون جنسا
110
1
أو كجنس، وفصلا ونوعا وخاصة وعرضا؛ فإنّ الحساس كالنوع من المدرك،
2
وجنسٌ للسامع والمبصر، وفصل للحيوان؛ والماشى جنس لذى الرجلين ولذى
3
أربع أرجل، ونوعٌ للمتنقل، وخاصةٌ للحيوانات، وعرضٌ عام للإنسان. وربما
4
اجتمعت الخمسة فى واحد،
5
والجنس ليس جنسا للفصل البتة، ولا الفصل نوعا للجنس، وإلا لاحتاج
6
إلى فصل آخر، بل الفصل معنى خارج عن طبيعة الجنس؛ فإنّ الناطق ليس
7
هو حيوانا ذا نطق، بل شىء ذو نطق، وإن كان يلزم أن يكون ذلك الشىء
8
حيوانا، وأما الحيوان ذو النطق فهو الإنسان؛ ولوكان الحيوان داخلا فى معنى
9
الناطق لكان إذا قلت: حيوان ناطق، فقد قلت: حيوان هو حيوان ذو نطق،
10
فإنّ ذا النطق والناطقَ شىءٌ واحد. وإذا قيل الجنس على الفصل فهو كما يقال
11
العرض اللازم على الشىء الذى يقال عليه ولا يدخل فى ماهيته، لكنه كالمادة
12
للفصل، ونسبة الفصل إليه من وجهٍ كنسبة الخاصة التى توجد فى البعض،
13
لكن الفصل يقومه موجودا بالفعل، وإن لم يدخل فى حده وماهيته دخوله
14
فى إنيته، ككثير من العلل وكالصورة لمادة، هذا إن كان الفصل أخص
15
على الإطلاق من الجنس، ولم يقع خارجا عنه ة أو بالحقيقة، فإنَّ قول كل
16
واحد منهما عند التحصيل هو على النوع. وهذه الأشياء تتحصل لك فى الفلسفة
17
الأولى.
18
والجنس تكون نسبته إلى الفصل كنسبة عارض عام؛ وأما العارض العام
19
فإنه قد يكون بالقياس الى الجنس خاصة، وبالقياس إلى النوع عرضا عاما،
20
مثل الانتقال بالإرادة فإنه خاصة من خواص الحيوان، وعارض عام للإنسان؛
111
1
وربما كان خاصةً لجنس أعلى، مثل البياض فإنه من خواص الجسم المركب،
2
وعارض عام للإنسان، وربما كان من خواص أعلى الأجناس كلها؛ وربما
3
لم يكن العارض العام خاصةً لشىء من الأجناس، إذا كان قد يعرض لغير تلك
4
المقولة، مثل امتناع قبول الأشد والأضعف، فإنه من لوازم الجوهر على سبيل
5
العموم له ولغيره، وليس خاصةً لجنس من أجناسه، إذْ ستعلم أنَّ ذلك قد يقع
6
فى غير أعلى أجناسه. والحيوان نسبته إلى هذا الحيوان ـــ من حيث هو حيوان
7
ألحق به الإشارة ولم يعتبر فيه النطق ـــ نسبة النوع إلى الأشخاص، فإنه مقول
8
عليه قول النوع الذى هو نوع بالقياس إلى الأشخاص فقط على الأشخاص،
9
لا نسبة الجنس، بل إنما هو جنس بالقياس إلى أشخاص الحيوان من حيث
10
صارت ناطقة، وكذلك الناطق بالقياس إلى هذا الناطق غير مأخوذ معه الحيوانية،
11
فإنه كنوع له بالمعنى المذكور لا كفصل، بل هو فصل لأشخاص الحيوان من
12
حيث هى حيوان. والضحاك أيضا فإنه كالنوع لهذا الضحاك من غير أن يعتبر
13
إنسانا، وإنما هو خاصة للإنسان ولأشخاص الناس؛ وكذلك الأبيض أيضا
14
لهذا الأبيض، من حيث هو أبيض مشار إليه، فإنه كالنوع له.
15
والعرض العام إنما هو عرضٌ عام للشىء الذى هو موضوعٌ لكونه هذا الأبيض،
16
لا لهذا الأبيض، من حيث هو هذا الأبيض.
17
واعلم أنّ هذه الخمسة قد يتركب بعضها مع بعض تركبا بعد تركب، فالجنس
18
يتركب مع الفصل، فإن المدرك جنس فصل الإنسان الذى هو الناطق مثلا،
19
أو ذو النفس فإنه جنس للناطق، فهو جنس الفصل، وقد عرض له أن كان
20
فصل الجنس، لأنَّ ذا النفس فصلُ بعض الأجناس المتوسطة التى للإنسان.
21
وقد يتركب الجنس مع العرض، مثل أنَّ الملون جنسُ عرض الإنسان الذى هو
22
الأسود والأبيض، لكن هذا التركيب يخالف الأول؛ فإنه ليس يجب أن
112
1
يكون جنس الفصل المقوم جنسا مقوما للنوع، وجنس العرض يجب أن يكون
2
عرضا لاحقا لذلك النوع. نعم قد يكون جنس الفصل فصلا مقوما لجنس
3
النوع، وكذلك قد يكون جنس العرض عرضا لاحقا لجنس النوع.
4
وأما تركيب الجنس مع الخاصة فمثل أنَّ المتعجب بالفعل جنسٌ للضحاك
5
بالفعل الذى هو خاصة، والصَيَّاح جنس للصاهل الذى هو خاصة.
6
والفصل أيضا قد يتركب مع الجنس، كالحساس فإنه فصل جنس الإنسان؛
7
ويتركب مع الخاصة، مثل النسبة إلى قائمتين من قولنا: مساوى الزوايا الثلاث
8
لقائمتين، فإنه فصلُ خاصةِ المثلث؛ وقد يتركب مع العرض، كالمفرق للبصر
9
فإنه فصل عرض القطن.
10
والخاصة قد تتركب مع الجنس، فإن المشى خاصة جنس الإنسان؛ وقد
11
تتركب مع الفصل، فلا تفارق فى كثير من المواضع خاصة النوع، وربما
12
كان أعم من خاصة النوع، وذلك إذا كان الفصل أعم، مثل المنقسم
13
بمتساويين الذى هو فصل الزوج، فإنَّ ذا النصف خاصةٌ لهذا الفصل.
14
وقد تتركب مع العرض العام، فإنَّ المبصر خاصة الملون، والملون عرضٌ
15
عام للإنسان. والعرض قد يتركب مع الجنس فلا يفارق عرضَ النوع، لأنه يكون
16
عرضا للنوع، لكن من أعراض النوع ما هو خاصةَ للجنس، وليس عرضا
17
عاما للجنس بل خاصة، ومنه ما هو عرض عام لها، وكذلك عرض الفصل
18
وعرض الخاصة.
19
تم كتاب إيساغوجى. والحمد لمولى النعم
20
ومرادف الآلاء والقسم