77
1
الفن الثالث من الطبيعيّات
2
فى الكون والفساد
3
وهو مقالة واحدة فى خمسة عشر فصلًا
4
الفصل الأول
5
فصل فى
6
اختلاف آراء الأقدمين فى الكون والاستحالة وعناصرهما
7
قد فرغنا من تحديد الأمور العامة للطبيعيات وتعريفها، وفرغنا من تحديد الأجسام
8
التى هى أجزاء أولية للعالم، ومنها ينتظم هذا الكل الذى هو واحد، والأجزاء الأولية للعالم
9
بسايط لا محالة؛ وبينا أن بعض هذه البسايط لا يقبل الكون والفساد، وهى البسايط التى
10
فى جواهرها مبادئ حركات مستدىرة. ولم يتضح لنا من حال الأجسام المستقيمة الحركة
11
أنها قابلة للكون والفساد أو غير قابلة. نعم قد أوضحنا أن الأجسام التى فى طباعها أن تقبل
78
1
الكون والفساد فى طباعها أن تتحرك على الاستقامة. فيجب من ذلك لمن حسن
2
النظر أن بعض الأجسام المتحركة على الاستقامة يقبل الكون والفساد فيكون بعض
3
الأجسام البسيطة قابلة للكون والفساد.
4
وأما أن ذلك كيف يجب فلأن الأجسام المستقيمة الحركة لا مبدأ للحركة
5
المستديرة فيها، وهى فى أمكنتها الطبيعية ساكنة فى الأين والوضع، جميعا،
6
واختصاص الجزء المفروض بجهة مفروضة يكون إما لأمر عارض قاسر وإما للطبع.
7
والأمر العارض القاسر إما أن يكون قد اتفق ابتداء الحدوث هناك، أو بالقرب منه،
8
فاختص به؛ أو اتفق أن نقله ناقل إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر بالطبع، فقد
9
عرفته.ولا يجوز أن يكون ذلك كله لنقل ناقل، حتى لو لم يكن ناقل لما كان لجزء منه
10
اختصاص البتة
11
وبالجملة فأن القسرى يعرض على طبيعى .فلو كانت الأرض أو غيرها من
12
الاسطقات أزلية لم يجب أن يكون مصروفة الأجزاء كلها دائمًا تحت نقل قاسر،
13
ووجب أن يكون لها وضع يقتضيه أمر غير القاسر الناقل؛ بل يجوز أن يكون ذلك
14
فى بعض الأجزاء، فبقى أن يكون العمدة فيه أن الجزء إن كان، فى ابتداء تكونه،
15
حاصلا فى حيز يخصص حدوثه فيه عن بعض العلل لوجود ما يكون عنه به فلما كان
16
أول حدوثه فى ذلك الحيز، أو فى حيز يؤديه التحريك الطبيعى منه إلى ذلك الموضع
17
من موضع كليته، صار ذلك الموضع مختصًا به ما علمته سالفا.
79
1
وأما المركبة فلا شك أنها من حيث هى مركبة فقد تكونت بعد ما لم تكن، فيجب أن
2
يكون فى طباعها، لا محالة، أن تفسد؛ إذ قد بىنا لك أن كل كائن جسمانى فاسد.
3
فقد اتضح من هذا أن الكون والفساد موجود. وقد كان اتضح لك قبل ذلك
4
الفرق بىن الكون وبين الاستحالة، وبين النمو والذبول فى ماهياتها. وإنما بقى لك
5
الآن تعرف وجود كل واحد منها.
6
فمن الناس من منع وجود جميع ذلك؛ بل منع وجود الحركة.
7
أما من أبطل الحركة المكانية والوضعية فلا كثير فائدة لنا فى الاشتغال بمناقضته،
8
وإن كانت العادة قد جرت بها. فإن لنا، بمناقضيه[*]بمناقضيه corrupt for بمناقضته آراء قيلت فى أمور ليس الحكم
9
فيها يبين، شغلا شاغلا عن تكلف ما بيان وجوده يغنى عن إبانته. وأما هذه الباقية
10
فإن الشغل فى إبانة وجودها مما ينبغى أن ىعتد به.
11
فقد منع قوم الكون، وزعموا أن البسائط، مثل الأرض والنار والهواء والماء،
12
فإن جواهرها لا تفسد، بل لاشىء منها يوجد صرفا فى طبيعته، بل هو مركب من
13
الطبيعة التى ينسب إليها ومن طبايع [*]طبايع Middle Arabic for طبائع أخرى. لكنه إنما يسمى بالغالب .فلا أرض صرفًا
14
ولا نار صرفا، ولا ماء صرفا ولا هواء صرفا؛ بل كل واحد منها مختلط من الجميع،
15
و يعرض له فى وقت ملاقاة غيره إياه مما الغالب فيه غير الغالب فيه، أن يبرز ويظهر
16
فيه ما هو مغلوب لملاقاة الذى من جنس المغلوب فيه غالب، وظهوره بأن يتحرك إلى
17
مقاومة ما غلبه وعلاه، فيستعلى عليه. وإذا تحرك إلى ذلك عرض للنظام الذى كان
18
يحصل باجتماع الغوالب والمغلوبات أن يحيل ويستحيل.
80
1
والحس إنما يشاهد من جملة ذلك غالب الأجزاء التى تبرز وتظهر فيحسب أن
2
جميعه استحال إلى الغالب، بأن صارت مثلا، الخشبة أو غيرها نارًا. ولا يشاهد
3
الأجراء التى تتفرق من الجوهر الآخر كالدخان مثلا، نعم إنما يشاهد بقية بقيت من
4
الأول بحالها، أو يشاهد ما يتبقى من الأول ــ وقد تفرق وتشتت، أو بطلت تلك
5
الصورة التى كانت له ــ بقاء الرماد.
6
وأما جوهر الماء فلن يصير نارا البتة، ولا جوهر النار يصير ماءً البتة، بل يتفرق،
7
ويغيب عن الحس فيرى ما يظهر ويبرز للحس، فيظن أنه بجملته استحال.
8
فهؤلاء الطبقة يرون أن النار لا تكون من شىء بل الكائن منها يبرز ويستعلى
9
للحس ليس على أنه حدث، بل على أنه ظهر، ويرون أنه لا استحالة ألبيه، وأن الماء
10
ليس يسخن بالحقيقة من النار، بل تخالطه أجزاء نارية فإذا لقيتها إليه فى أول
11
ما يظنها يستحيل لقاء أجزاء محرقة وأجزاء مبردة لقاء لا يميز الحس بين أفرادها،
12
فيتخيل هناك أمرا بين الحر الشديد والبرد الشديد، وهو الفتور .فإِن كثرت
13
الأجزاء النارية بلغ الأمر إلى أن يحرق.
14
قالوا: وليست الشعرة الواحدة تسود بعينها وتبيض، بل مرة تجرى فيها، ومن
15
غذائها، أجزاء يغلب عليها فى ظاهرها سواد يخالطها ويعلوها فيبيضها. وإن الدكنة
16
ليست لونا متوسطا بين السواد والبياض، بل مختلطا فيها، بل تكون أجزاء تسود
81
1
وأجزاء بيضا فيختلطان ويبرزان، فلا يميز الحس بينهما، وإذا لم يميز الحس تخيل
2
المجتمع لونا واحدًا.
3
ومن هؤلاء من يرى أن الجزء الحار مثلا ليس فيه حامل ومحمول، حتى يكون
4
هناك جوهر وحرارة محمولة فيه؛ بل يجعل الحرارة جزءا بنفسها.
5
ومنهم من يرى أن هناك حاملا ومحمولا، لكنه ليس من شأن الحامل أن يفارقه
6
المحمول البتة.
7
ويشبه أن يكون بإزاء هؤلاء قوم يرون ما يسمى كونا، ولا يرون للاستحالة
8
وجودًا البتة، حتى يمنعوا أن يكون الماء يسخن، وهو ماء، البتة؛ بل إذا سخن فقد
9
استحال ذاته، وأنه مادام ماء، ويرى أنه سخن، فهو مختلط.
10
وقد ألجأ بعض المطالبات واحدا من المتفلسفة، على مذهب نصارى بغداد،
11
إلى أن قال بذلك.
12
وهنا قوم يرون الاستحالة، ولا يرون كونا البتة، وأكثر هؤلاء هم الذين يقولون
13
بعنصر واحد، إما نار. وإما ماء، وإما هواء، وإما شىء متوسط بين هواء
14
ونار وماء.
15
فإن رأوا أن العنصر نار مثلا كونوا عنه الأشياء بالتكاثف فقط؛ حتى أنه إذا
16
تكثف حدًا من التكاثف صار هواء. فإن تعداه إلى حد آخر صار ماء. وإن تعداه
17
إلى آخر حدود التكاثف صار أرضًا، ولا يجوزون، مع ذلك، أن تكون جوهرية
82
1
النارية الذاتية تبطل؛ بل عندهم أن الأرض نار محفوظة فى جوهرها مسلوب عنها عارض
2
التخلخل المفرط.
3
وإن رأوا أن العنصر أرض أقاموا التخلخل بدل التكاثف، وعملوا بالعكس.
4
وإن رأوه شىئًا آخر عملوا فىه الضدين من التكاثف و التخلخل، فجعلوه بحيث، إذا
5
تكاثف، عنصرًا أكثف منه، و إذا تخلخل صار عنصرا ألطف منه وأخف،
6
من غير بطلان جوهريته.
7
وههنا أيضًا قوم ينكرون وجود الكون ويثبتون الاستحالة، مع فرضهم
8
عناصر فوق واحد. فمنهم من يفرض العنصر الأرض والنار؛ ومنهم من يفرضه الأرض
9
والماء؛ ومنهم من يفرضه الأرض والهواء والنار، ويلغى الماء، فأن الماء عنده ليس
10
إلا هواء قد تكاثف.
11
ومنهم من يقول بالأربع و مع ذلك فيقول بالاستحالة: ولا يرى العناصر تقبل
12
كونا البتة.
13
لكن القائلين بهذا القول قد ينقضون قول أنفسهم؛ إذ يبدو لهم أن يجعلوا القوة
14
المسماة عندهم محبة وألفة قوة من شأنها أن تتسلط مرة على العناصر الأربعة فتوحدها
15
جسما متشابه الجوهر يسمونه الكرة. ثم إذا عاد سلطان القوة المضادة لها، وهى التى
16
يسمونها تارة عداوة وتارة غلبه، وتارة بغضه، فرقها طبايع أربع، فتكون العناصر
17
الأربعة إذا حصلت فى سلطان المحبة قد فسدت صورها التى بها هذه الأربع،
18
وقد منع من ذلك.
83
1
وبالجملة فإن طبيعة قوة الانسلاخ وهذا اللبس موجودة فى العناصر، وموقوفة،
2
فى الخروج إلى العقل، على غلبة من محبة موجودة، أو غلبة مفرقة. وهذا شأن القابل
3
للكون والفساد.
4
وأكثر من قال بالعناصر الكثيرة يلزمه أن ينكر الاستحالة فى الكيفيات
5
الفاعلة والمنفعلة، لأن منهم من لا يرى لها وجودًا، ومنهم من يراها نفس العناصر
6
أو لازمة للعناصر لا تفارقها، فكيف تستحيل فيها، وهو لا يرى أن شيئا من
7
العناصر يستحيل؟
8
وههنا قوم يريدون أن يميزوا بين الكون والاستحالة بوجه لا يتميز؛ وذلك لأنهم
9
يضعون مبادئ الأجسام كلها أجرامًا، وغير متجزئة، أو سطوحا.
10
فأما جاعلوها أجراما غير متجزئة فيقولون إنها غير متخالفة إلا بالشكل، وإن
11
جوهرها جوهر واحد بالطبع، وإنها لاتنقسم، لا لأنها لا تقبل القسمة الإضافية؛ بل لا تقبل
12
قسمة الانفصال لصلابتها التى هى عدم تخلل الخلاء عندهم؛ إذ الانفصال بين الملاء والملاء
13
إنما هو عندهم بالخلاء.
14
قالوا، وإن هذه إنما تصدر عنها أفعال مختلفة لأجل أشكال مختلفة. لكن ليس من
15
شأن شىءٍ منها أن ينسلخ عن شكله. ولا يتحاشون أن يجعلوها مختلفة بالصغر والكبر.
16
ثم منهم من يرى الأشكال متناهية، ومنهم من يراها غير متناهية، ويفتنون فى أن
17
الأجزاء غير متناهية، وأنها تتحرك حركات كيف اتفق.
84
1
فمنهم من يرى حركاتها حادثة عن حركات قبلها بلا نهاية، كل حركة عن صدمة عن
2
حركة عن صدمة، وأنها ربما ارتبكت واجتمعت فتحابست عن الحركة.
3
ومنهم من يرى لبعض أشكالها خفة، ولبعضها ثقلا. وكلهم لا يرون لطبائع هذه
4
الأجرام كونا ولا فسادًا. ولكنهم يرون أن للمركبات منها كونًا وفسادًا، وأن كونها
5
عنها وفسادها إليها، وأن الكون هو باجتماعها، و أن فسادها بافتراقها، وأن
6
استحالتها باختلاف الوضع والترتيب لتلك الأجزاء فى المجتمع منها.
7
أما الترتيب فمثاله أن هذه الأجزاء لو كانت حروفًا مثلا، فوقع منها ترتيب
8
فى الجهات على مثال هجاء مليك، ثم حال التركيب، فصار على هجاء كليم. فحينئذ
9
لم يكن عندهم قد فسد؛ إذ لم يتفرق. ولكن يكون عندهم قد استحال.
10
وأما الوضع فأن يكون مثلا كلاهما مليكا، لكن أحدهما قد كتب فيه الحروف
11
على الترتيب المكتوب وجهات رءوس الحروف تلك الجهات لها، والآخر إن حرفت
12
أوضاع الحروف عن ذلك، فكتب مثلا هكذا م يك، حتى صارت اللام جهتها
13
إلى غير جهة الكاف.
14
وهؤلاء قد تعدوا هذا إلى أن جعلوا الاستحالة أمرا بالقياس إلى الإدراك
15
والإحساس، لا على أنها موجودة فى طبائع الأمور .وقالوا، وذلك كاللون المحسوس
16
فى طوق الحمامة. فأنه إذا كان على وضع ما من الناظر إليه رؤى اسود، وإذا صار له
17
منه وضع آخر رؤى أرجوانيا، وأنه ليس فى نفسه سوادًا ولا أرجوانية؛ بل ذلك له
18
بالقياس إلى الناظر.
85
1
فهؤلاء أصحاب الأجرام غير المتجزئة .وأما أصحاب السطوح فأنهم يرون الكون
2
باجتماعها و الاستحالة لشىء قريب مما يقوله هؤلاء. و يجعلون مبادئ السطوح
3
سطوحًا مثلثة.
4
فهؤلاء بالجملة يرون أنهم اثبتوا كونا، ولم يثبتوه. وذلك لأن الطبائع إذا كانت
5
محفوظة فى البسائط متشاكلة فى الجواهر، فلا يفعل الاجتماع و الافتراق أمرًا غير زيادة
6
حجم وعظم ومخالفة هيئة شكل .وذلك إما تغير فى الكم أو فى الكيف.
7
وأما النمو فلم يبلغنا فيه مذهب نذكره خارج عن مذهب الفرقة المنكرة للحركة
8
أصلا، وإن كان النمو من حقه أن تنبعث فيه شكوك.
9
ويكفينا فى عرضنا هذا من تعديد هذه المذاهب ما عددناه. فبالحرى أن نشتغل
10
الآن بتعديد القياسات الفاسدة التى دعت هؤلاء الى اعتقاد هذه المذاهب، ثم نقبل
11
على فسخها وفسخ نتائجها من أنفسها.
86
1
الفصل الثاني
2
فصل فى
3
فى اقتصاص حجة كل فريق
4
أما أصحاب الكمون فقد دعاهم إلى ذلك أنه من المستحيل أن يتكون شىء من
5
لا شىء، إذ اللاشىء لا يكون موضوعا للشىء. فإذا كان كذلك فالمتكون، إن كان
6
موجودا، فتكونه عن شىء. فقد كان الشىء قبل تكونه. والمتكون هو ما لم يكن
7
قبل تكونه. فالمتكون غير متكون، هذا خلف.
8
وإذ قد صح بالعيان أنه قد يكون شىء عن شىء فليس التكون ما يذهب إليه؛
9
بل هو البروز عن الكمون. وحسب بعضهم أن الاستعداد لأكوان بلا نهاية يحوج
10
إلى أن يكون العنصر المستعد له بغير نهاية، فجعل الأجزاء المتشابهة عنده لما يكون عنه
11
أجزاء بلا نهاية، كيلا يضطر تناهى المادة إلى انقطاع الكون.
12
وأما أصحاب الأسطقس الواحد فإن جميعهم اشتركوا، أول شىء، فى حجة
13
واحدة. فقالوا: لما رأيناه الأشياء الطبيعية يتغير بعضها إلى بعض، وكل متغير فإن له
14
سببا ثابتا فى التغير هو الذى يتغير من حال إلى حال، فيجب من ذلك أن يكون لجميع
15
الأجسام الطبيعية شىء مشترك محفوظ، وهو عنصرها.
87
1
ثم مال كل واحد منهم إلى اختيار عنصر واحد. فيشبه أن يكون أقدمهم من رأى
2
أن العنصر الواحد هو الماء. ودعاه إلى ذلك ظنه أن العنصر ينبغى أن يكون مطاوعا
3
للتشكل والتخليق حتى يكون منه ما هو عنصر له. فكل ما هو اشد مطاوعة لذلك
4
فهو أولى بالعنصرية. ثم وجد هذه المطاوعة كأنها فصل خاص بالرطوبة؛ والناس كلهم
5
يعتقدون أن الرطوبة ماء، أو شىء الغالب عليه الماء فجعل الماء البسيط هو العنصر.
6
قال ولهذا ما نرى الحيوانات لا تتخلق إلا من الرطب، وهو المنى.
7
والذين رأوا أن الاسطقس هو الأرض، وهم قليل وغريب، فقد دعاهم إلى ذلك
8
وجود جلّ الكائنات الطبيعية مستقرة على الأرض متحركة إلى مكان الأرض بالطبع،
9
فحكموا من ذلك أن الأرضية هى جوهر الكائنات كلها.
10
ووأما الذين رأوا أن الاسقطس نار فقد دعاهم إلى ذلك ما ظنوه من كبر جوهره،
11
كأنهم استحقروا حجم الأرض والماء والهواء فى جنبته؛ إذ السموات المشعّة
12
والكواكب المضيئة كلها عندهم نارية. وحكموا بأن الجرم الأكبر مقدارا هو الأولى
13
أن يكون عنصرا، وخصوصا ولا جسم أصرف فى طبيعته من النار، وأن الحرارة
14
هى المدرة فى الكائنات كلها، وما هو الهواء إلا نار مفترة ببرد البخار، وما البخار إلا ماء
15
متحلل. وما الماء إلا نار مكثفة، وهواء مكثفا ماء. ولو كان للبرد عنصر يتصور به،
16
ولم يكن البرد أمرا عرضيا يعرض لذلك العنصر الواحد، لكان فى العناصر بارد، برده
17
فى وزن شدة حر النار.
88
1
وأما القائلون بالهواء فقد دعاهم إلى ذلك مثل ما دعا القائلين بالماء إلى القول به.
2
وقالوا إن معنى الرطوبة أثبت فى الهواء منه فى الماء، وذلك لأن مطاوعته للمعنى المذكور
3
أشد. وما الماء إلا هواء متكاثف، والمتكاثف أقرب إلى اليبس منه إلى التخلخل.
4
وأما الأرض فهى ما عرض له التكاثف الشديد، كما نراه من انعقاد كثير من المياه
5
السائلة حجارة. وأما النار فليست إلا هواء اشتدت به الحرارة، فرام سموا.
6
وأما القائلون بالبخار فدعاهم إلى ذلك أنهم رأوا جرما نسبته إلى العناصر نسبة
7
الوسط، وأنه تفضى به درجة من التخلخل إلى الهوائية، ودرجة أخرى إلى النارية،
8
ثم تفضى به درجة من التكاثف إلى المائية، ودرجة أخرى إلى الأرضية، وأنه ليست
9
هذه الخاصية لغيره، وأن الذى تتساوى نسبته إلى غيره لا غير.
10
وهؤلاء كلهم فقد اشتركوا فى حجة واحدة هى التى ذكرناها.
11
وأما القائلون بالأرض والنار فدعاهم إلى ذلك أن سائر الأسطقسات تستحيل آخر
12
الأمر إلى هذين الطرفين، والطرفان لا يستحيلان إلى اسطقسات أخرى خارجة عنهما.
13
فهما اللذان ينحل سائرهما إليهما، ولا ينحلان إلى شىء آخر. فهما الأسطقسان. ولذلك
14
هما البالغان فى طبيعة الخفة والثقل، والآخران يقصران عنهما. وإذا لا حركة أسطقسية
15
إلا اثنتان فالأغلب فى الاثنين هو الأسطقس. والنار والأرض بالقياس إلى غيرهما
16
أغلبان، ولا شىء أغلب معها. ثم الهواء نار خامدة مفترة مثقلة بالماء المتبخر، والماء
17
أرض متحللة سيالة خالطتها نارية، فهى أخف من الأرض.
89
1
وأما القائلون بالأرض والماء فقد دعاهم إلى ذلك تساوى حاجة المركبات إلى الرطب
2
واليابس .فكلما أنها تحتاج إلى الرطب لتقبل التخليق، كذلك تحتاج إلى اليابس
3
ليحفظ التخليق .فإن الرطب كلما أنه سهل القبول لذلك فهو أيضًا سهل الخلع له.
4
واليابس كما أنه صعب القبول لذلك فهو أيضًا صعب الخلع له. وإذا تخمر اليابس بالرطب
5
استفاد المركب من الرطب حسن مطاوعته للتخليق، ومن اليابس شدة استحفاظه له.
6
و اليابس و الرطب فى المشاهدة هما الأرض و الماء لا غير. وإما الهواء فبخارى مائى.
7
وأما النار فهواء أسخنته الحركة.
8
وأما القائل بالأربعة مع الغلبة والمحبة فقد دعاه إلى القول بالأربعة أنه لاشىء[*]لاشىء corrupt for لا شىء منها أولى
9
بأن يجعل عنصرا لصاحبه من صاحبه أن يجعل عنصرًا له، وأن القوى الأولى هى الأربع،
10
والمزاوجات الصحيحة منها هى أربع، على ما سنحقق القول فيه بعد.
11
ثم هذه الأربعة لا تتكون منها الكائنات ولا تفسد إليها إلا باجتماع من أجزائها
12
إلى المركب، وافتراق من المركب إليها. ولن يجتمع منها المركب إلا بافتراق يقع فيها؛
13
وأنه لا سبيل إلى الظن بأن شيئًا ينفعل بنفسه إلى اجتماع أو افتراق؛ إذ كل منفعل
14
فإنما يخرجه من القوة إلى الفعل فاعل؛ وأنه من المستحيل أن تكون طبيعة واحدة
15
بسيطة يصدر عنها فى موضوعات بأعيانها جمع وتفريق معا، وإن كانت الطبيعة المركبة
16
لا يبعد أن يصدر ذلك عنها. ولكن إنما يصدر حينئذ كل واحد منهما عن جزء من
17
المركب خاص، فيكون الجمع يصدر عنه عن جزء، والتفريق عن آخر. ويكون
18
المصدران الأوليان لذينك الفعلين هما الجزءان اللذان يجب أن يكونا مختلفين فى الطباع،
90
1
لأن فعليهما مختلفان فى الطباع، ويكون كل واحد إما قوة مجردة، وإما قوة فى جسم.
2
وأحرى ما تسمى به القوة الجماعة هى الألفة والمحبة، وأولى ما تسمى به القوة المفرقة
3
المشتته الموجبة تباعدا بين المتشاكلات هو الغلبة والبغضة والعداوة.
4
قالوا فيجب ضرورة أن يكون ههنا اسطقسات أربعة تتصرف فيها الغلبة والمحبة،
5
وإذ التصرف إنما هو بالجمع والتفريق، وذلك لا يوجب تغيرا فى الجوهر، فلا يسبب لإيقاع
6
تغير فى جوهر العناصر. فلذلك مالا يرى هذا القائل أن العناصر يستحيل بعضها
7
إلى بعض البتة، ولا يراها تقبل كونا وفسادًا. وليس يقتصر من فصولها على الكيفيات
8
الأربع فقط؛ بل يرى لها فى ذواتها الفصول من جميع الكيفيات الأخرى. لكنه
9
يراها أربعا لا غير. فهى عنده متناهية العدد والمقدار.
10
وأما أصحاب السطوح فيشبه أن يكون داعيهم إلى ذلك هو ما اعتقدوه من أن
11
تكون الأشياء عن العناصر إنما هو بنوع التركيب، وذلك التركيب إنما هو نتيجة
12
الفعل والانفعال، وأن ذلك الفعل والانفعال باللقاء والتماس؛ وأن التماس الأول للأجسام
13
إنما هو بالسطوح. فيكون أول فعل وانفعال عند التركيب إنما هو للسطوح. وما كان
14
أول ذينك فيه فهو العنصر. فالسطوح هى العناصر. ولأن العناصر ينبغى أن تكون
15
بحيث تتركب منها الكائنات تركيبا لا يؤدى الى المحال، والسطوح التى تحيط بها غير
16
الخطوط المستقيمة يؤدى تأليفها لا محالة إلى فرج تبقى بينها، فينبغى أن يكون السطوح
17
الأولى مستقيمة الضلوع. وليس فى المستقيم الأضلاع شىء أقدم من المثلث. ويمكن أن
91
1
يؤلف من المثلث سائر الأشكال المستقيمة الخطوط، كما يمكن أن يحل إليها، فتكون
2
السطوح العنصرية هى السطوح المثلثة، ثم يؤلف منها تأليف يكون منه شكل مائى،
3
وشكل هوائى، وشكل نارى، وشكل أرضى.
4
فأما النارى فهو الذى يحيط به أربع قواعد ومثلثات، فتكون صنوبرية نفاذة
5
قطاعة مستعدة للحركة.
6
وأما الهوائى فالذى يحيط به عشرون قاعدة مثلثات، فكون شديد
7
الانبساط للإحاطة.
8
وأما المائى فالذى يحيط به ثمانى قواعد مثلثات.
9
وأما الأرضى فهو مكعب، والمكعب أضلاعه مربعات تأتلف بالقوة من مثلثات،
10
وهو لتكعيبه غير نافذ، ولا ثاقب. فلذلك هو غير مسخن.
11
فإن جعلوا تأليفه بالفعل أيضًا من مثلثات وجب أن يوجدوا للنار جزءا من
12
الأرض. وكذلك إن جعلوا هذه السطوح منقسمة، وجب أن يمكنوا من إيجاد كل
13
عنصر فى العنصر الآخر.
14
قالوا: وأما السماوى فيحيط به اثنتا عشر قاعدة مخمسات، كل مخمس مؤلف من
15
خمسة مثلثات.
16
ويشبه أن يكون داعيهم إلى ذلك شدة حرصهم على العلوم الرياضية وإيضاح
17
المذاهب فيها لهم، وانغلاق الطبيعة عليهم؛ إذ كان نظرهم فى الطبيعيات، والزمان
92
1
ذلك الزمان والفلسفة فى الابتداء نظر المبتدى[*]المبتدى Middle Arabic for المبتدئ والشادى. والذى لم يتمرن ويتدرب فهو
2
بعد فى الأمانى، فراموا أن يتأولوا المشكل من الواضح.
3
وهذه المخمسات الخمسة ستقف عليها فى إحدى الجمل الرياضية فى هذا الكتاب.
4
ويشبه أن يكون فى تكثير العناصر وتوحيدها مذاهب كثيرة غير ما ذكرناها
5
لم تحضرنا فى الحال.
6
وأما أصحاب الأجرام الغير المتجزئة فأن الفيلسوف الذى هذب مبادئ هذه
7
الصنائع فقد أسهب يثنى عليهم، ويقرظهم، على تخطئته إياهم، ويقدمهم على سائر
8
الطوائف، وخصوصًا على أصحاب السطوح، قائلا إنهم أخذوا مبادئ محسومة مقرا
9
بها ونسقوا عليها القول نوعا من النسق، ثم حافظوا على أصولهم، ولم يزيغوا عنها فى أكثر
10
الأمر. وذلك لأنهم اعترفوا بوجود الحركة، ثم صاروا إلى إثبات الخلاء، لا كالذين
11
أخذوا أخذًا مسلما أن لا خلاء، وأوجبوا منه أن لا حركة .وذلك أن هؤلاء ساعدوا
12
أولئك على ما وضعوه مسلما من أن الحركة والقسمة متعلقة بالخلاء. ثم كان وجود الحركة
13
أظهر وأعرف من عدم الخلاء؛ لأن هذا لا شك فيه صحيح الرأى، وفى ذلك موضع شك
14
كثير. فتشبث هؤلاء إنما هو بجنبته أوضح من جنبة تشبث أولئك .فقد فاقوا أولئك
15
فى هذا الاختبار.
16
ومن هنا قالوا: إن مالا خلاء فيه فلا يتكثر، ولا ينقسم. فكل جزء لا ينقسم،
17
وفاقوا أصحاب السطوح بأن أصحاب السطوح قد تذبذبوا، وانبتوا فى الوسط: وذلك
93
1
لأن نسبة الأجرام إلى السطوح هى كنسبة السطوح إلى الخطوط، وكنسبة الخطوط
2
إلى النقط، وإنه إن صح تركيب الأجسام من السطوح فلا مانع من تركيب السطوح من
3
الخطوط والخطوط من النقط. فإما أن يبطل تركيب المتصل من الغير المتجزئات،
4
وإما أن يقال بالتركيب من النقط. فإن بطل التركيب من النقط، فقد بطل التركيب من
5
سائر مالا يتجزأ، من النحو الذى تركب عليه. وبقى أن الجسم يتناهى فى القسمة إلى
6
أجسام لا تتجزأ، وإن صح ذلك النحو من التركيب فالنقط هى الأوايل لا السطوح.
7
ولأن تؤلف الأجسام من أجسام لا تتجزأ صلابة، لا فقدان اتصال ومساحة، أقرب إلى
8
الصواب من أن تؤلف عما لا اتصال له فى جهة التأليف.
9
وهؤلاء أيضًا فقد بذوا عنده سائر الآخرين فى أن كان لهم سبيل إلى التفرقة بين
10
الكون والفساد والاستحالة، ولم يكن لأولئك المذكورين.
11
فأما حجة هؤلاء فقد ذكرناها فيما سلف، وأومأنا إلى سبب الغلط فيها.
94
1
الفصل الثالث
2
فصل فى
3
نقض حجج المخطئين منهم
4
قد بقى الآن أن نشير إلى سبب الغلط فى حجةٍ حجةٍ من الحجج المقتضية.
5
أما القائلون بالكون والتداخل، وأن الكون ظهور الكامن، فالسبب فى غلطهم
6
هو ظنهم أنه إذا كان مسلما أن الشىء لا يكون عن لاشىء فقد صح أن كل شىء يكون عن
7
مشابهة فى الطبع، وأنه إذا كان مسلما أن لاشىء لا يكون موضوعًا لشىء استحال أن
8
يكون الشىء عن لاشىء.
9
أما الأول فلنضعه مسلما، فيجوز أن يكون الشىء لم يتكون عن لاشىء، ولكن
10
تكون عن الشىء، لكن عن شىء ليس مثله فى النوع ولا مشابهة فى الطبع، ويكون مع
11
ذلك لم يتكون عن لاشىء.
12
وما قوله فى اليد والرجل وفى البيت وفى الكرسى؟ هل هذه الأشياء متكونة
13
عن لاشىء؟ فإن كانت عن لاشىء فقد بطلت المقدمة. وإن كانت عن شىء. فهل ذلك
14
الشىء مثل أم ليس بمثل؟ وليس يمكن أن يقال إن الوجه متكون عن الوجه، والكرسى عن
15
الكرسى، تكونا بالحقيقة إلا بالعرض، وعلى أن الشىء عن الشىء يقال كما يقال إن الكرسى
95
1
عن الخشب، وهو غير شبيه. وكيف يكون الموضوع شبيهًا بالمركب منه ومن الصورة،
2
وقد تكوّن كما تكوّن عن شىء قبله بطلت صورته لقبول صورة هذا، كما يتخذ من الباب
3
كرسى، فيكون ليس أيضًا عن الشبيه.
4
وأما المقدمة الأخرى، وهى أن لاشىء موضوعًا للشىء فإنما يصح هذا إذا
5
قيل إنه كان عنه، وهو موجود فيه. وأما إذا كان الوضع أن الشىء كان من لاشىء،
6
أى بعد لاشىء لم يصر لا شىء موضوعًا للشىء، والأولى أن يقال حينئذ لا عن شىء،
7
حتى لا تقع هذه الشبهة. على أنه ليس نقيض قولنا إن الشىء كان عن الشىء هو أن الشىء
8
كان لا عن شىء، أو كان لا عن شىء؛ بل إن الشىء لم يكن. وهذا إذا
9
كان الشىء مرادا به أمرًا بعينه. وأما إن كان مهملا فلا نقيض حقيقيًا له، وإن كان بمعنى
10
العموم، حتى يكون كأنه قال كل شىء يكون عن شىء، فليس نقيضه أن الشىء لا يكون
11
عن شىء. وذلك لأن معنى هذا أن كل شىء لا يكون عن شىء. وهذه المقدمة ضد
12
الأولى، لا نقيضها.
13
وأما الحجة التى يشترك فيها مثبتوا اسطقس واحد، وهى أن هذه المسماة
14
بالأسطقسات يتغير بعضها إلى بعض، فلا بد من شىء ثابت، فإنما أثبتت لهم أن شيئا
15
مشتركا، ولم تثبت أنه جسم طبيعى ذو صورة مقيمة إياه بالفعل، حتى يطلب بعد ذلك
16
أنه أى الأجسام، وترجم فيه الظنون؛ بل يجوز أن يكون ذلك الشىء جوهرًا قابلا
17
لصورة واحدٍ من العناصر يصير جسما طبيعيا بتلك الصورة، وإذا سلخها اكتسب
18
أخرى.
96
1
ثم مرجح الماء من بينهم، لما فيه من قبول الشكل، يفسد اختياره الماء لما فيه من
2
التخلية عن الشكل. فإن جعل تكاثفه حافظًا للشكل فقد جعل تكاثفه مزيلا عنه
3
الصفة التى لها صلحت للأسطقسية، ومرجح الهواء مخاطب بمثل ذلك. ومرجح الأرض
4
يفسد مقدمته لما فى الأرض من امتناع الاجتماع بعد الافتراق والامتناع عن قبول
5
الشكل، وأنه ليس كل متكون فإنما الأرضية غالبة عليه.
6
فههنا متكونات هوائية ومتكونات مائية. وكثير من المتكونات لا يرسب
7
فى الماء، ولو كانت الأرضية غالبه لرسب جميعها. ومع ذلك فليس إذا رسب كل متكون
8
دل على ذلك اكثر من أن الأرضية غالبة فيه؛ ولم يدل على أن لا خليط للأرض
9
فيه. فإن الغالب غير المنفرد فربما كان امتزاج من عدة، وواحد منها غالب
10
بالقوة أو بالكمية.
11
وأما القائلون بترجيح النار فقد اعتمدوا فيه الكبر، وظنوا أنهم صححوا الكبر
12
بكبر السموات وعظمها. فما يدرينا أن السموات كلها نارية حتى عسى أن يصح ما يقولونه؟
13
وما الذى يوجب اختصاص النار بالعنصرية لحاجة الكائنات إلى الحرارة. كأنها
14
لا نحتاج إلى الرطوبة، وكأنها لا تحتاج إلى اعتدال من الحرارة بمزاج البرودة؟
15
وأما فى أن النار قد تمخض نارًا من أنها هى العنصر، فإنه إن كان الماء نارًا مستحيلة،
16
أو كانت الأرض نارا غير محضة، فيكون من النار ما ليس بمحض. وأما إذا أخذت
17
النار التى هى مجاورة للفلك فالذى يدل على محوضتها يدل أيضًا على محوضة الأرض
18
المجاورة للمركز. ومع هذا كله، فما المانع من أن يكون كل واحد من هذه أسطقسا،
97
1
لكن الواقع فى جوار الفلك لا يرتفع إليه من البواقى ما يشوبه، وأما التى عند المركز
2
فإن الشعاعات الفلكية والتأثيرات السماوية تمزج بعضها ببعض بما يفيض من المياه،
3
وما يصعد من الأبخرة والأدخنة الدائمة الحدوث، فلا تبقى صرفه. وهذا لا يستبين
4
من أمره أنه ممتنع محال.
5
وأما القائلون بالبخار لأنه متوسط بين العناصر ونسبته إلى الأطراف البعيدة نسبة
6
واحدة، وإن كانت مختلفة، بالتخلخل والتكاثف، فمن سلم لهم أن الشىء، إذا كانت
7
نسبته إلى أشياء أخرى هذه النسبة كان أولى أن يكون عنصرًا. ولو كان هذا حقًا
8
لكان كل واحد من العناصر بهذه الصفة؛ وذلك لأن الهواء أيضًا إذا يبس كان نارًا،
9
وإذا يبس أشد أرضًا، وإذا برد كان بخارًا، وإذا برد أشد كان ماء. ولا فرق إلا أن
10
الانتقال هناك بمتقابلتين، وهما التكاثف والتخلخل، والانتقال ههنا بغير متقابلين.
11
إلا أنه ليس بينًا بنفسه أنه يجب أن يكون المتوسط الذى ينتقل إلى الأطراف بمتقابلين
12
هو الأسطقس الأول، لا غير.
13
على أن البخار ليس شيئًا إلا ماء قد تفرق وانبسط، كما أنه ليس الغبار والدخان
14
إلا أرضًا تفرق وانبسط. وليس هو عنصرًا خامسًا، أو بعنصر خامس؛ بل هو فتات بعض
15
العناصر وبثاثته، مع بقاء نوعه. وإنه لو انسلخ نوعه فى ذلك الطريق لا نسلخ إلى
16
الهوائية لا غير، ولم ينسلخ إلى البخارية.
17
ولا يُلتفت إلى ما يقوله من يظن أن الأسطقس لا يستحيل إلى آخر إلا بتوسط،
98
1
فلا بد من بخار. فأن المسألة مع البخارية قائمة. ويلزم أن يكون بين كل اسطقسين وسط
2
آخر، وليس كذلك؛ بل الكون أمر يكون دفعه بلا توسط؛ بل البخار مثل الغبار
3
إلا أن البخار والدخان إنما تفرقا عن سبب حار، والغبار عن سبب ساهك. فإذا جعل
4
البخار متوسطا فبالحرى أن يجعل الدخان متوسطا، إن لم يجعل البخار متوسطا من
5
العناصر، لأنه ظاهر من حاله أنه متفرق فقط، وتصير حينئذ الأجسام المعتبر فيها
6
هذه المناسبات ستة .فلا يكون البخار وسطا بين العناصر؛ بل ليس البخار من حيث
7
هو بخار وسطا بين الماء والهواء، وإلا لكان مكانه الطبيعى فوق مكان الماء دون مكان
8
الهواء، فلا يكون خارقا بحركته للهواء والهواء نفسه لا يتحرك فى الهواء؛ بل يقف
9
بالطبع، ولو فى أقرب حيزه من الهواء [*]الهواء corrupt for الماء.
10
فإن قيل: فلأن لا يخرق الهواء، وهو ماء أولى.
11
فنقول: إن الماء يعرض له أن يقسره الحرّ بالتحريك إلى فوق، وربما قسر أجراما
12
ثقل من الماء، كقطع خشب راسبة إذا اشتغلت أصعدتها النار القوية فى الجو.
13
وليس هذا حكم البخار فإنه ليس يكون البخار، على قولهم، شيئا عرض له عارض
14
حرارة مصعدة؛ بل جوهر البخار هذا الجوهر، ومعنى اسمه هذا المعنى، حتى إذا بطل
15
عنه هذا المعنى لم يكن إلا ماء قد كان قسر على التصعد. فإن لم يكن ذلك له بالقسر كان
16
بالطبع. فكان يجب أن لا يكون مكانه الطبيعى إلا فوق الماء دون الهواء؛ فما كانت
17
حركته الطبيعية تجاوز ذلك الحد، وتخرق الهواء، فإن كان هذا التصعد والسخونة
18
عارضين للبخار، بحيث لو زالا بقى البخار، فالقول ما قلناه من أن البخار ماء مبثوث.
99
1
وأما القائل بالمحبة والغلبة فلأنه لا يرى كونا، ولا فسادا للعناصر، ثم ينسى ذلك،
2
فيجعل العناصر قد تستحيل عند غلبة المحبة وتأحيدها إياها، وجمعها لها كرة هى مخالفة
3
فى الطباع للعناصر. وكذلك تستحيل الكرة، فتتفرق إلى العناصر. فيكون الاجتماع
4
عنده يردها إلى المادة المشتركة لا محالة، ويفسخ عنها صورة العناصر، ويكسوها صورة
5
الكرة؛ والافتراق يخلع صورة الكرة عنها إلى صورة العناصر. ويلزم من وجه أن
6
يجعل المحبة محركة حركة خارجة عن الطبع، وهى طبيعة التحريك عنده.
7
أما أنه كيف تصير علة لذلك فلأن الطبيعى من حركات العناصر عند الجميع،
8
وعند قائل هذا القول، يوجب تباعد بعضها عن بعض، ومفارقتها⸣ بأن تنزل الأرض،
9
وتصعد النار؛ وإذا تحركت الى الاتحاد فقد أخرجت عن طبيعتها. والمحبة أيضا،
10
تصير عنده مفرقه، ويتحاشى من ذلك.
11
أما كيف يلزم أن تكون مفرقة فلأنها تفرق بين المادة وصور العناصر، فتكون قد
12
فرقت بين أشد مجاورة من الأجسام المتلاقية أو المتصلة بعضها ببعض.
13
وأيضا فلإنها [*]فلإنها corrupt for فلانها لا تجتمع إلا فرقت أى جمع نسب إليها.
14
وأما القائلون بالأرض والنار فقد أضلهم ظنهم أنه لا استحالة إلا على طريق
15
الاستقامة. وهم، مع ذلك، يسلمون أن الماء له استحالة إلى جهة الأرض، وأخرى
16
إلى جهة الهواء والنار. فلو كان اعتبار الاستحالة مقصورًا على استقامة من جهة إلى جهة،
17
من غير انعكاس، لكانت المائية إنما تتجه فى استحالتها مثلا إلى الهوائية والى النارية،
18
ولا تنعكس، حتى تكون الهوائية تتجه إلى المائية، والمائية إلى الأرضية.
100
1
فإذا كان كذلك فلا واجب أن تكون النار تأخذ فى استحالتها، لو كانت مستحيلة
2
إلى عنصر آخر أخذا مستمرا فى استقامة استحالة الهوائية إليها؛ بل يجوز أن يكون
3
بعكس ذلك، وهو الذى يتصل باستمرار استقامة استحالة الهوائية إلى المائية، حتى
4
تكون النار منعكسة باستحالتها إلى الهوائية.
5
* * *
6
وأما المقتصرون على الأرض والماء فقد جعلوا العنصر هو البرد. ومعلوم أنه
7
لا متكون عن مجرد ماء وأرض إلا الطين، وأن أصناف الطين لن يستغنى فى تميز
8
بعضها عن بعض عن مخالطة الحار الطابخ. وليس إذا كان للمركب شىء به يقبل
9
الصورة، وشىء به يحفظ فقد كفى ذلك؛ فإن أقل ما يحتاج إليه المركب هو الشكل
10
والتخطيط، بل قد يحتاج إلى قوى وأحوال أخرى، خصوصا فى النبات والحيوان.
11
ولاشىء كالحار الغريزى فى إعانة القوى على حفظ النوع والشخص.
12
فأما أصحاب السطوح فقد غلطوا؛ إذ ظنوا أن الانفعال أولا هو فيما يلى الشىء أولا؛
13
بل الانفعال فيما من شأنه أن ينفعل. ولو كان كذلك لكان السطح يتحرك من محرك
14
الجسم بالملاقاة قبل الجسم، وكان البياض أيضا يسخن قبل الجسم، ولكان يجوز أن
15
تكون نفس المماسة منفعلة بالسخونة؛ إذ هى مؤدية إلى ذلك، وبها تنفعل.
101
1
الفصل الرابع
2
فصل فى
3
إبطال قول أصحاب الكمون ومن يقرب منهم
4
ويشاركهم فى نفى الاستحالة
5
وإذ ليس نقض القياس المنتج لمطلوب ما كافيا فى نقض المطلوب نفسه.وكيف
6
وربما أنتج صادق عن مواد كواذب، وربما أنتج صادق لا من قياس صحيح فى
7
صورته؟ فبالحرى أن نشتغل بنقص مذهب مذهب نفسه لنتوصل من ذلك إلى تحقيق
8
التفرقة بين الكون والفساد وبين سائر الحركات، ونستعد لتحقيق القول فى عدد
9
العناصر وطبائعها، وفى الفعل والانفعال، والامتزاج.
10
ولنبدأ بمذهب أصحاب الكمون:
11
أما الطبقة القائلة منهم إن فى كل جسم مزجا من أجزاء كامنة لا تتناهى، فيكذبهم
12
ما علم قبل من امتناع وجود جرم متناه مؤلف من أجزاء فيه بلا نهاية، كانت أجراما
13
أو غير أجرام، كانت متساوية الكبر، إن كانت أجراما، أو مختلفة.
14
وأما القائلة منهم بتناهى ذلك، مجوزة أن يكون عن ماء نار أو أرض أو غير
15
ذلك، على سبيل الانتقاض، فيفسد مذهبها أحاطتنا بأن الماء إذا انتفضت عنه الأجزاء
102
1
النارية المتناهية بقى هناك ماء، إن استحال نارًا لم يكن كون كل نار عن ماء إنما هو
2
بسبيل الانتفاض والتميز، بل على سبيل سلخ الصورة؛ وإن امتنع عن الاستحالة لم يكن
3
كل ماء من شأنه أن يكون عنه نار أو هواء. وأن [*]وأن corrupt for وإن اضطر إلى أن يقول إن هذا الاختلاط
4
بحيث لا يتأتى كمال التميز فيه، لم يخل إما أن يكون جميع الأجزاء النارية التى فى الماء
5
والهواء سواء فى شدة الملازمة للأجزاء المائية، أو بعضها ألزم، وبعضها اسلس طاعة
6
للتميز. فإن كان الجميع سواء فى ذلك، وجازت المفاصلة على جزء جازت أيضا على كل
7
جزء .وإن كان بعض الأجزاء ليس من شأنه أن يفاصل فإن كان ذلك لطبيعة النارية
8
فالآخر مثله؛ وإن كان لطبيعة مضافة إليها فهو غلط آخر، والكلام عليه، وفى مخالطته
9
و مفاصلته ثابت. ومع ذلك، فيبقى الذى لا يفاصل فى طائفة من الماء تصير به تلك
10
الطائفة ماء لا يتكون عنه نار.
11
وأما إن قيل أن الماء يتكون عنه نار أو هواء إلى أن تتميز الأجزاء المائية، ويبقى
12
ماء صرفا لا يتكون عنه نار بعد ذلك ــ وهو قول غير قول المخاطبين فى هذا الوقت ــ
13
فلا يلزم هؤلاء شىء مما قلنا البتة، و كانت مخاطبتهم من وجه آخر، و بالكلام المشترك
14
المخاطبة جميع من رأى أن الأشياء التى نسميها نحن الاستحالة، إنما هى بروز من الكوامن،
15
أو مداخلة مبتدأه. وذلك لأن الماء إذا سخن لمجاورة النار ففيه ظن من يرى أن ناريات
16
فيه قد برزت، وظن من يرى أن ناريات قد نفذت فيه، وداخلته من النار المجاورة.
17
والشركة بين المذهبين إنما هى فى شىء واحد، وهو أن الماء لم يستحل حارًا،
103
1
ولكن الحار نار يخالطه والفرق بينهما أن أحدهما يرى أن النار قد كانت فى الماء، لكنها
2
كانت كامنة، والثانى أن النار لم تكن فيه، ولكن الآن قد خالطته. فيجب أن نوضح
3
فساد كل واحد من المذهبين.
4
فأما المذهب الأول فما يوضح فساده تأمل حال هذا الكون وما معناه. فإن جوزوا
5
فيه تداخل الأجسام فقد ارتكبوا المحال الذى بان فساده من كل وجه. وإن لم يجوزوا
6
ذلك، ولكن أو مأوا إلى مجاورة، ومخالطة تكون، ويكون الكامن هو المستبطن
7
من الأجزاء، وهذا الاستبطان لا يعقل منه إلا انحصارها فى باطن الجسم وبعدها عن
8
بسيطة وظاهره، فيجب أن يكون باطن الماء مكانا للكامن من النيران، وتكون
9
كيفية ذلك المكان مثل كيفيه [sic] الماء المسخن الذى لا يفعل تسخينه أمرًا غير إبراز
10
الكامن فيه إلى ظاهره؛ بل يجب أن يكون أسخن من ذلك بكثير، وذلك لأن
11
الانحصار فى الباطن أجمع من الانتشار فى الظاهر. والمعول على تصديق هذه القضية و تكذيبها
12
هو على الحس. فإن ظاهر الماء وباطنه، وأى حد وجزء أخذت منه، هو من طبيعة
13
واحدة متشابهة.
14
وكذلك حال الأجسام السود والبيض، والحلوة والمرة وغير ذلك؛ فإنها يوجد
15
منها ما يقبل الاستحالة إلى الضد، مع دلالة الحس على تشابه أجزائه، وأنه إذا استحال
16
أيضًا إلى الضد لا يكون ذلك بأن يبرز شىء إلى الظاهر، ويكمن ضده فى الباطن، بل
17
يكون إذا سخن أيضا ظاهر البارد فإن باطنه أيضًا سخين. فإن كان الكامن كافيًا
104
1
بالمداخلة التى هى محالة، فيجب أنها إذا انفكت حتى يخلص البارد من الحار، والحار
2
من البارد، أن تأخذ فى كل حال مكانا أعظم وليس كذلك. فإن الانفكاك الذى
3
يخلص الحار ظاهرا من البارد قد يتبعه ويلزمه العظم. وأما الانفكاك الذى يميز
4
البرد فإنه ينقص الحجم نقصانا بينا للحس: فإن كان ظهور البرد يوجب فرط مداخلة،
5
والمداخلة توجب زيادة خفاء، فيكون الاستعلان استخفاء.
6
على أن المداخلة تقضى على المتداخلين بحكم واحد. فإن حكم كل واحد منهما
7
من الآخر حكم الآخر منه.
8
وإن كان الكامن كامنا بالمجاورة فلا محالة للكامن حيزا يختص به، وأن
9
الكامن باطنه ضد ظاهره، أعنى باطنه الجرمى وليس هذا بموجود فى الحس، وليس هذا
10
الوجود إلا وجودا حسيا. فليس هذا بموجود أصلا. ثم ما بال الماء مثلا إذا أراد
11
أن يبرز الكامن منه من الهواء احتاج ذلك الهواء إلى مكان أعظم من المكان الذى
12
احتاج إليه وهو فى الماء؟ ومعلوم أنه إذا كان على حجمه وقدره المتقدم لم يحتج إلا إلى
13
مثل مكانه. فلا يجوز ما أن تزداد تلك الأجرام حجما، أو يحدث هواء جديد،
14
أو يقع خلاء.
15
لكنها إن ازدادت حجما فقد يعرض للأجزاء المذكورة أن تفعل بغير التميز،
16
وهذا خلاف أصل المذهب. ولا محالة أن ازدياد حجمها تابع لانفعال يعرض لها،
17
أو مقارن يقارنها. وظاهر أن العلة لذلك هو التسخين، وهذا إثبات للاستحالة. وليس
18
للاستحالة عندهم وجه إثبات.
19
وإن صار الهواء أكبر هواء مضاف إليه حدث فقد حدث هواء جديد؛ ولزم
105
1
القول بالكون مع القول بالاستحالة. وكذلك الاعتبار العكسى إذا حدث من الحار
2
بارد، وطلب حجما أصغر.
3
وأما الخلاء ووقوعه فلا هو حق، ولاهم يقولون به. ونحن نشاهد مشاهدة لا يمكن
4
دفعها من استحالة الماء اللطيف حجرا صلدا وهو أرض أو أرضى .فإن كانت هذه
5
الأجزاء الصلبة موجودة فى الماء كامنة فكان يجب أن تفعل فى الماء من
6
الخثورة ما يفعله سحقنا هذا الحجر وتهييئنا إياه وفرجنا إياه بقدر من الماء المقطر المصعد
7
الصافى قدره أضعاف ذلك. وكلما أمعن هذا المزج وزادت الأجزاء تصغرًا ازداد الماء
8
خثورة. فكان يجب أن يكون فى شىء من الماء الأول، ظاهره أو باطنه، خثورة ما
9
لا أقل من الخثورة التى نجدها عند مزجنا إياها به.
10
وكذلك قد يمكن أن تتخذ مياه حارة محل [*]محل probably corrupt for بحلّ الحجارة مياها سيالة فى الحال.
11
ولم لا والمادة مشتركة قابلة لكلا الأمرين؟ فأين هذه الأجزاء السيالة من الحجر فى باطنه
12
أو ظاهره؟ وهل أكبر ما يُظن بالكامن أنه مغلوب، فكيف صار غالبًا ولم تحدث
13
له زيادة باستحالة أو كون. فإن كانت الأجزاء الرطبة مغلوبة المقدار فى الحجم، فكيف
14
صار مقدارها غالبا عند الانحلال ولم يحدث شىء؟
15
وإن كانت مساوية معادلة، و كانت مغلوبة فى الظاهر فلم ليست غالبة فى الباطن.
16
وإن كانت النار الباطنة هى الجسم الذى لا يحرق ولا يسخن، ثم إذا جاوزه فغلب
17
فأبرزه صار محرقًا مسخنا، والماء الباطن على صفة أخرى فقد ثبتت الاستحالة له؛
106
1
إذ صار مالا يحرق بكيفيته محرقا بكيفيته، اللهم إلا أن يلتجئوا إلى أن الحركة تحرق
2
بالشكل النافذ، فيتركوا قولهم.
3
وأيضًا فإن كل واحد من الأجزاء البسيطة فى الخليط لا يخلو إما أن يكون
4
مما لا يتجزأ أصلا كالنقطة، فيلزم أن لا ينتظم منه ومن غيره متصل، وقد فرغ من
5
هذا. وإن كان جسما فيلزمه لا محالة شكل؛ فإن لكل جسم طبيعى شكلا طبيعيًا.
6
ويلزمه أن يكون شكله مستديرًا؛ لأنه بسيط ضرورة، ولأنه لا ينفعل، فلا يغلب على
7
شكله البتة. وإذا كانت أشكالها مستديرة لزم أن يقع هناك فرج خالية. وهذا مخالف
8
للحق، ولمذهبهم جميعًا.
9
ومما يجب أن يؤاخذوا به حال الكامن، وأنه ما الذى يوجب بروزه،
10
أقوة طبيعية له، فيجب أن لا يتأخر إلى وقت، أو سبب من خارج؟ وذلك
11
السبب من خارج إن كان حركة فلا يخلو إما أن يؤثر فيه أثر أو يحدث فيه قوة حركة
12
وانبعاث يتبع ذلك الأثر وتلك القوة حركة منه، فيكون قد انفعل عندهم الشىء
13
انفعالا فى الأثر، واستحال فيه، وصحت الاستحالة، أو يكون تحرك بلا أثر ينفذ من
14
المحرك إلى المتحرك، بل إنما يحرك بجذب أو دفع، أو غير ذلك. فإن كان الجذب
15
أو الدفع بحماسة وجب أن يكون المحرك إلى خارج قد نفذ أولا إلى غور الجسم فلاقى
16
كل جزء من الكامن الذى يبرز. فيجب أن يكون كل مستحيل عندما يستحيل
17
يعظم حجمه لنفوذ الجاذب أو الدافع فيه، وإن كان لا يحتاج إلى مماسة؛ بل إلى حد ما
18
من المجاورة.
107
1
ونحن نشاهد أن مجاورة الحار تسخن، ومجاورة البارد تبرد. ونعلم أن الكامن
2
مكمنه، قوة كثيرة، وإنما تقل فى الظاهر. فإن كان المبرز هو مجاورة الشبيه، كيف
3
كانت، فلم لا تحرك الأجزاء الكامنة المتجانسة المتجاورة بعضها بعضا إلى البروز، إن
4
كان سبب البروز والظهور مجاورة الشبيه؟ وإن كان المجانس ليس سببا للبروز لأنه
5
مجانس فقط؛ بل لأنه مجانس بارز فهو محرك نحو جهته ويميل نحو مقاربة، فلأن ينجذب
6
الكامن إلى مجاورة الأقرب إليه الكامن، أولى من أن ينجذب إلى مجاور تحول بينه
7
وبينه بالضد الآخر، اللهم إلا إن قيل إن السبب فى ذلك أمران:
8
أحدهما: هرب الضد الظاهر إلى خلاف جهة الضد.
9
والثاني: انتقال الضد الآخر الباطن إلى شبيهه الذى هو ضد الهارب.
10
فيجب أيضا أن يكون الظاهر البارز يهرب من الكامن اللهم، إلا أن يجعل الأغلب
11
أجذب. ومعلوم أن الذى يلى جسما من جهة واحدة يتحرك إليها بالاستقامة هو ما يساويه.
12
ثم إن فصل شىء فهو مباين لذلك خارج عنه لا ينفع أن يقال باشتداد القوى عند ازدياد
13
المجاورات وهو استحالة ثم إن لم يكن الضد عند الاستحالة. يكمن، ولكنه يكون مخالطا
14
لضده مخالطة غالبة، فإذا أراد أن يستحيل المستحيل تحلل هو، وفارق ظاهر المستحيل.
15
أو ظاهره وباطنه، فيبقى الضد الآخر صرفا ــ لم يخل إما أن يكون مع تحلله يسد ضده
16
مسده أو لا يسد مسده. فإن لم يسد مسده وجب أن يكون كل مستحيل ينقص حجمه
17
أو يكون كل مستحيل يتخلخل و ينتفش. وإن كان قد يسد ضده مسده على سبيل
108
1
الورود من الخارج، لا على سبيل البروز، فلم صار الشىء الذى يبرد بعد الحرارة ينقص
2
حجمه، اللهم إلا أن يكون الذى يتحلل حاره، ويظهر بارده لا يسد ضده مسده،
3
ويكون الذى يتحلل بارده، بالضد وهذا تحكم. ومع هذا كله، فإن ذلك البارد يسخن
4
مرة أخرى، والحار يبرد مرة أخرى، كل ليس دون الأول، ويجب أن يكون دونه؛ لأن
5
التحلل صرفه ومحضه، أو ترك فيه من الضد شيئا يسيرا.
6
وأما المذهب الذى يخالف الكون، ومع ذلك يشابهه فى أحكام، وهو أن الحار مثلا
7
لن يبرد بالاستكشاف عن بارد كمين، ولكن يرد عليه من خارج ما يخالطه،
8
وهو بارد، فيغلب عليه البارد؛ والبارد لن يسخن بالانكشاف عن حار كمين،
9
لكن يرد عليه من خارج ما يخالطه وهو حار؛ وأنه ربما كان بعض الأجسام قوى
10
القوة فى كيفيته، فيكون القليل منه فى المقدار يظهر قوة كثيرة، كمن يورد عفرانا قليلا
11
على لبن كثير فيصبغه. فربما لم يكن للوارد كبير أثر فى زيادة الحجم، وكان له كبير
12
أثر فى زيادة الأثر.
13
وقد يجوز أن يكون الضد الوارد طاردا لضده، وربما احتاج إلى أن يطرد
14
ما يساويه فى المقدار. وربما احتاج أن يطرد ما هو أكثر منه. وربما بقى أن يطرد
15
ما هو أقل منه، حتى يظهر أثره. وربما لم يحتج أن يطرد شيئا البتة؛ بل جاء بزيادة.
16
وهذا المذهب ليس بمذهب ضعيف.
17
فما يدل على فساد هذا المذهب أن جيلا من كبريت تمسه نار صغيرة قدر شعلة
109
1
مصباح ثم تنحى عنه بعجلة مبعدة، فيشتعل كله نارا. فإن كانت الاستحالة إنما هى ورود
2
المخالط من المجاور، فيجب أن يكون الوارد عليه لا أكثر من جميع تلك الشعلة؛
3
بل نعلم أن المماسة لن تقع غلا فى زمان غير ذى قدر. والمنفعل عن الشعلة المداخل
4
للكبريت لن يكون، إن كان، إلا جزءا لا قدر له. فهذا الآخر كله إما أن يكون
5
حادثا عن الاستحالة، أو يكون على سبيل الكمون المذكور. وقد بطل الكمون
6
فبقيت الاستحالة.
7
وإن كانت الناراليسيرة القد تفعل تسخينا وإحراقا شديدًا لشدة قوتها فعود
8
الشىء إلى البرد لا يخلو إما أن يكون بمفارقة تلك النار اليسيرة، فيجب أن لا يكون
9
نقصان الحجم الكائن عند البرد أمرًا محسوسا؛ بل بقدر ما انفصل. وإن كان بورود
10
البارد، ويحتاج ضرورة إلى بارد كثير حتى يغلب تلك النار اليسيرة أو يخرجها، فيجب
11
أن يكون المقدار محفوظا، إن لم يكن زايدا، اللهم إلا أن تجعل النارية إذا انفصلت
12
استصحبت شيئا كثيرًا من الجسم. فما بالها، إذا سخنت مرة أخرى وجاءت يسيرة
13
صرفة، وليس معها الرقيق المستصحب أعادت ذلك الحجم بحاله؟ وإن كان الجمد
14
إذا وضع عليه شىء فبرد ذلك الشىء تتحلل أجزاء منه ومخالطته إياه، وكان المداخل
15
يطرد مثل نفسه وجب أن تحفظ الحجم أو يطرد أكثر من نفسه وجب أ، يكون المعيد
16
إلى الحالة الأولى بالمخالطة حارا أكثر من البارد الداخل؛ فكان الحار أضعف،
17
فى القوة، من البارد.
110
1
وهذا لا يستمر على هذا الأصل. فإنهم يحوجون إلى أن يجعلوا قليل النارية
2
كثير القوة. ومع ذلك، فما السبب فى انفصال أجزاء الحار عن الحار فى جهة ما يجاوره،
3
وانفصال أجزاء البارد عن البارد فى مثلها؟ فإن كان السبب فيه حركة طبيعية، فيجب
4
أن يكون فى جهة واحدة لا غير. وإن كان السبب فيه أمرا من خارج يسلب تلك
5
الأجزاء عن مقرها فلأن يسلبها عن غير الجنس أولى. فلم لا ينسلب عن المجاور؛
6
بل يتمكن فيه وينسلب عن الأصل؟ وكيف يتسخن الهواء بالحركة الصرفة، أو الماء
7
بالخضخضة ويزداد حجمه، حتى إن [*]إن corrupt for ان المخضخض ينشق، وليس هناك وارد البتة ؟ وكيف
8
يرد هناك وارد، والجسم يشاهد أنه متحرك عن مركزه، منسبطا [*]منسبطا corrupt for منبسطا بحيث يرى متدافعا
9
من كل جهة، لا من جهة واحدة، بحيث يقوى على أن يدفع شيئا إذا أراد أن ينفذ فيه؟
10
وكيف ينفذ جسم فى جسم وهو مملوء دافع عن نفسه، إلا بقوة شديدة أقوى من قوته
11
فى مستقره، فيقدر على تفريق اتصاله ونفوذه فيه، وليس يحيط بالجسم المحرَّك الممخوض
12
أو المخضخض شىء حاله هذه الحالة؟
13
وجملة النار المسخن بها ما يسخن أيضا ضعفية المقاومة تدفع بأدنى قوة. فكيف
14
يكون لها، لو كان التسخين بها لا بالمخض، أن تقدر أجزاؤها على خرق الجسم المجتمع
15
فى الإناء الصلب وتحريكه والنفود فيه، حتى تختلط به، ثم تبلغ أن توجب تمّوجه
16
بالمداخلة تمويجا انبساطيا يقاوم كل الصلب؟ ثم كيف يدخل منه فى الإناء الصلب إلا قدر
17
ما يسع، إما فى خلاء أو فى مكان أخلاه عن غيره لنفسه؟ فإذا امتلأ لم يكن يدخل،
18
فلم يجب انشقاق؛ لأنه الانشقاق هو بسبب أن المحشو فى الإناء ليس يسع الإناء
111
1
وما لم يدخل فى حشوه، بعد ذلك، شىء فمن المحال أن يكون باطنه لا يسع غيره، بحيث
2
ينشق عنه؛ بل إنما يكون لا يسعه، بحيث لا يدخل فيه. فإن دافع فإنما يدافع المداخل.
3
فيجب إما أن يقل الإناء، وإما أن يشقه حيث المدخل. وربما كان الإقلال أيسر مؤونة
4
من شق آنية من حديد أو نحاس. فلم لا يقل، بل يشق فى موضع غير مدخله؟
5
وأنت إذا تأملت تولّد نفاخات الغليان المحشوة جرما مندفعا إلى فوق ينشق عنه
6
الغالى، ويتفشى هو فى الجو، تولدا بعد تولد، بحيث لو جمع حجم الجميع لبلغ أمرًا
7
عظيما، صدقت بأن ذلك ليس لنار تداخله، وصدقت بصحة القول بالاستحالة فى
8
الكيف، والاستحالة فى الكم، ورايت الشىء يصير أضعافا مضاعفة بنفسه من غير
9
زيادة جرم عليه.
112
1
الفصل الخامس
2
فصل فى
3
مناقضة أصحاب المحبة والغلبة، والقائلين إن الكون والفساد
4
بأجزاء غير الأجزاء الغير المتجزئة من السطح
5
واجتماعها وافتراقها
6
وأما مذهب صاحب القول بالمحبة والغلبة فالحق ينقصه بما يشاهد من استحالة
7
العناصر بعضها إلى بعض، وهو نفسه ينقص قوله؛ إذ يرى أن للمحبة سلطانا عليها
8
يجمعها إلى طبيعة واحدة؛ فلا تكون نارًا ولا هواء ولا ماء، ولا أرضًا. ثم إذا عادت
9
الغلبة متسلطة فرقت، فأحدثت العناصر فتكون صور هذه العناصر من شأنها أن
10
تنسلح عنها باستيلاء المحبة.
11
ثم يجب أن تكون، على مذهب، الألوان لا أكثر من أربعة؛ لأنها تكون بعدد
12
العناصر. وكذلك الطعوم، وكذلك سائر القوى النباتية والحيوانية.
13
وأما مذهب من يرى أن عنصرًا واحدًا، يوجب الاستحالة بالفعل والانفعال،
14
ولا يوجب كونا، فقد يبطل بما نتحققه من أن اليابس وحده لا يتكون منه الكائنات
113
1
إن لم يخالطه رطب، و لا الرطب وحده، إن لم يخالطه يابس؛ و لا الرطب واليابس
2
ولا حرّ هناك، ولا برد؛ وأنه لا كون للمتولدات لا عن بارد صرف، ولا عن حار
3
صرف. فإن الكائنات لو كانت إحدى هذه لم يكن إلا نارًا، أو أرضًا، أو هواء،
4
أو ماء فى طبيعته. وليس الأمر كذلك.
5
فإذا كانت هذه العناصر والأصول نسبتها إلى الكائنات النسبة وأما نسبة بعضها
6
إلى بعض، كما يعترفون به، كافتهم، أو يلزمهم، وإن لم يعترفوا به ــ أن كل واحد منها إذا
7
فرض الاسطقس الأول كان راجعًا إلى الآخر بالاستحالة، ومرجوعا إليه ــ فلا يكون
8
كونه أصلا أولى من كونه فرعًا.
9
فإن كانت نسبة بعضها إلى بعض، فى كون بعضها عن بعض، وبطلان كيفية
10
الكائن عنه عند وجود كيفية الكائن الآخر، نسبة واحدة، ونسبتها إلى الكائنات
11
نسبة واحدة ــ فليس بعضها أقدم فيما بينها من بعض، ولا بالقياس إلى الكائن.
12
فكفى بهذا المذهب خطأ أن يجعل النار عارضة للماء، وهو ماء، أو المائية
13
عارضة للنار، وهى نار.
14
فلننقض الآن مذهب القائلين بالأجرام الغير المتجزئة.
15
أما مذهب السطوح فهو أرك وأضعف. وقد سلف من أقاويلنا ما هو كفاية
16
فى إبطاله.
17
وإما ما قيل فى مناقضتهم إن السطح، لو كان له ثقل، لكان يجب له أن يكون
114
1
للخط. ثم للنقطة ثقل. ثم اشتغل بأن النقطة لا ثقل لها، بأنها لا تنقسم وبغير ذلك
2
مما لا يوضح عدمها للثقل ــ فليس ذلك بيانا برهانيا بل نوعًا، بل نوعًا من التمثيل والأحرى
3
والأولى. فلا حاجة بنا إلى سلوك ذلك المسلك.
4
وأما مذهب القائلين بالأجرام الغير المتجزئة وأشكالها فنقض مذهبهم
5
من وجوه:
6
من ذلك أنهم إذا جعلوا هذه الأجرام متشابهة الطبع وفى غاية الصلابة، حتى
7
لا تنقسم، فلا يخلو، بعد وضعهم ذلك، أن أشكال هذه الأجرام ومقاديرها
8
أمور لا تقتضيها طبيعتها؛ بل تعرض لها من خارج. فإن كانت تقتضيها طبيعتها،
9
وطبيعتهما واحدة، فيجب أن تكون أشكالها ومقاديرها واحدة غير مختلفة. وإن كان
10
ذلك قد عرض لها من خارج فطباعها مستعدة لأن تقبل التقطيع والتشكيل من خارج،
11
فطباعها بحيث تقبل القسمة والاتصال، فيجب أن يكون كل جزء منها بحيث يجوز
12
عليه الفصل فى نفسه والوصل بغيره.
13
وأيضًا إذ كانت هذه الأجزاء مختلفة بالصغر والكبر فغير مستحيل أن تنقسم
14
سطوحها المحيطة بمماسات سطوح أخرى؛ فتكون حينئذ سطوح من جسم واحد غير
15
سطوح أحدهما لا محالة، ويكون المحاط بسطوح أحدهما، لا محالة، غير المحاط بسطوح
16
التى هى غير لها. وتكون متصلة مع الغيرية بأن لها حدًا مشتركا. وطبيعة كل جسم
17
طبيعة جرم منها خارج عنها. فتكون الجائرات عليها واحدة، فيكون من طبيعة ذلك
115
1
الخارج جواز الاتصال بما اتصل به منها من طبيعته. فإن لم يتصل به فلعائق
2
قسرى غريب.
3
وقد قالوا أيضًا: إن هذه الأجرام يتألف منها أولا الهواء والماء والأرض والنار.
4
ثم بعد ذلك تتألف منها سائر المركبات بتأليف ثان، وإن الهواء والماء والأرض
5
والنار تتكون بعضها من بعض على سبيل الافتراق والاجتماع، وإن كان قوم منهم قالوا
6
إن النار لا يتكون منها شىء آخر.
7
وقالوا: إن هذه الأربعة العناصر قد تتقوم من أجرام متشاكلة الشكل، مختلفة
8
فى العظم والصغر. فالمثلثات المقومة للهواء مخالفة فى العظم للمثلثات المقومة للماء، وأنه
9
ليس الأرض كلها من مكعبات؛ بل قد يكون فيها مثلثات، لكنها كبيرة،
10
ولا الهواء كله فى مثلثات؛ بل قد يكون فيها مكعبات، لكنها صغيرة. وبعضهم
11
جعل للنار أجزاء كريه، وبعضهم جعلها من مثلثات صنوبرية تحفظ شكلها. وبعضهم
12
لم يجعل لها شكلا محفوظا منها؛ بل جعلها متبدلة الأشكال بما فيها من لطافة
13
تنبسط بها وتلتحم.
14
ومن جعل النار كرية، لتتمكن من سرعة الحركة. و لم يعلم أن الكرية
15
تعين فى التدحرج، وإن الزاوية الحادة أعون منها فى النفود [*]النفود probably corrupt for النفوذ سويا، وأن النار لا تسمو
16
متدحرجة.
17
ومن جعلها صنوبرية جعل طرفها الذى يلى فوق حاد التقطع.
18
وجعلوا الأرض مكعبة لتكون باردة وغير نافذة. ولم يعلموا أن الأرض أيضًا
116
1
سريعة الحركة إذ فارقت مكانها أسوة النار، وأن النار تسكن أيضًا. ولم يعلموا أيضًا
2
أن الإحراق، وإن كان بتفريق الزاوية للاتصال، والتكعب بعدم ذلك، فيجب
3
فى الأرض أن لا تحرق فقط، لا أن توجب ضده، وهو أن يبرد. ولم يعلموا أنه إن
4
كان الإحراق بالزاوية فالتبريد يجب أن يكون بضد شكل الزاوية. ولا شكل يضاد
5
شكلا. ولم يعلموا أن الصنوبرى يلاقى بتسطيحه أكثر مما يلاقى بزاويته.
6
وكان يجب أن يكون أكثر أحوال النار أن لا يخرق، وذلك بأن يلاقى بالبسيط.
7
وإذ قد حكينا صورة مذهبهم فلنرجع إلى الوضع الذى فارقناه من إلزامهم بغير هذه
8
الأجرام، فنقول:
9
إنهم إذا كونوا من الهواء ماء لزمهم، ضرورة، أن يصغروا المثلثات وينقصوها،
10
والنقصان عندهم لا يكون إلا بأخذ شىء وهضمه من المنقوص، فيجب أن ينقسم
11
بالانفصال.
12
وكيف جوزوا أن يكون من الأرض ماء، والأرض من مكعبات والماء من مثلثات.
13
وكأنهم جوّزوا أن يتثلث المكعب. فقد وجب، كما قلناه بديا.
14
وأيضًا، فإن ذا العشرين قاعدة، وهو الهواء إذا استحال ماء يتركب ثمانية ثمانية من
15
أجزائه، وفضلت أربعة لا تستحيل ماء. وليس شىء من أجزائه أولى بأن ينبعث
16
إلى تركيب الهوائية منه من الآخر، حتى يفضل أربعة بأعيانها يلزم أن يتركب منها
17
لا محالة نار أو جسم آخر، إن أمكن أو يتعطل تركيبه ولا يكون شيئا البتة. وعندهم
117
1
أن لا تركيب إلا هو أحد هذه العناصر أو المركبات منها. والماء إذا صار هواء صار
2
أعظم حجما، وصارت المثلثات أكبر. فكيف يكون ذلك إلا أن يكون قد تخللها جسم
3
غريب، فلا يكون ذلك هواء بسيطا، أو يكون قد تخللها خلاء تباعدت به تباعدا يحصل
4
به الحجم الهوائى؟ فيلزم من ذلك أن يكون نوع من الجمع والتفريق يوجب أن يكون
5
بين الأجرام بعد فلانى محدود، ونوع آخر يوجد خلافه، حتى يكون الجمع والنضد
6
والتأليف نفسه مما يوجب فى طباع تلك الأجرام أن يهرب بعضها من بعض هربا إلى بعد
7
غير محدود؛ فيحدث لها حركات عن طبايعها، لا عن قاسر هى حركات متضادة
8
متخالفة بها ينبسط إلى حد محدود، وهذا كله محال.
9
فإن كان الماء إنما كان ماء من قبل أن صار هواء بأشياء تخلفت الآن عند
10
استحالته هواء ولم يستحل هواء، وتلك الأشياء المتخلفة كانت هى الجامعة المفرقة ما بين
11
الأجزاء التى تباعدت عند استحالتها هواء، فلَم يستحيل الهواء مرة أخرى من غير أن
12
يكون فيه تلك المتخلفات، ومن غير أن يأتيها شىء من خارج؟
13
ثم إن كانت التراكيب من هذه الأجرام من غير أحوال وشروط أخرى وحدود
14
توجب الطبيعة تقديرها على حدود محدودة من القرب والبعد توجب مغايرة فى الطبايع [*]الطبايع Middle Arabic for الطبائع
15
فواجب، ضرورة، أن يكون التغاير فى الطباع غير متناه ضرورة؛ لأنه وإن كان
16
لنا أن نجعل لكل طبيعة حدا فى اللطافة والتخلخل، وفى وقوع الخلاء فى خلله فلذلك
17
الحد عرض إذا تعداه صار فى تخوم غيره. فيكون كل واحد من ذلك متناهيا، لا سيما
18
إن كانت العناصر هى الأربعة على ما سلموها، وكان لكل منها فى ذلك منها حد لا يعدوه،
19
فكانت الحدود، ولا محالة، محدودة بين أطراف.
118
1
فإذا أخدنا بين الأجرام بعدًا أكثر من البعد الذى بين أجزاء النار مثلا وجب
2
أن يحدث نوع آخر من التأليف خارجا عن تأليف الأربعة. وليس لازدياد حدود
3
الأبعاد حد ونهاية، اللهم إلا أن يجعلوا لبعض الأربعة حدا فى التخلخل. غير متناه،
4
حتى إذا كانت أجزاء أربعة يكون منها الصنوبرية النارية، وواحد منها بالحجاز
5
والآخر بالعراق والباقيان على مثل ذلك من بعد، ما كان من الجملة نار واحدة.
6
والعجب العجيب تجويزهم أن يكون جسم واحد من أجزاء متباعدة متفرقة
7
فى الخلاء ولو ببعد قريب. فإن الافتراق إذا حصل لم تحصل منه نار واحدة ولا أرض
8
واحدة إلا فى غلط الحس. وإذا لم تكن نار واحدة موجودة لم تكن نيران كثيرة
9
بالفعل. فما معنى تأليف النار والهواء من تلك الأجزاء، والصورة هذه الصورة؟
10
ثم لو اضطر أجزاء المؤلف من أربع قواعد مثلثاث [*]مثلثاث corrupt for مثلثات، حتى اجتمعت وتلاقت،
11
لم يخل إما أن تبقى النارية، فتكون النارية ليس التخلخل بالخلاء شرطا فى وجودها،
12
أو تبطل، فيكون تأليف موجود، وليس عنصر أولى به من عنصر. وقد منعوه وبئس
13
ما عملوا؛ إذ كانت هذه الأجرام بأفرادها لا كيفية لها عندهم، وتحدث كيفيتها بالاجتماع.
14
وكان يجب أن يكون تأكيد الاجتماع أعمل فى تظاهرها على حدوث الكيفية منها.
15
ثم من العجائب أن يكون الأجرام لا كيفية لواحد واحد منها فى مجموعها حرارة
16
أو برودة. وليس ذلك البتة فى فرد فرد من ذلك المجموع، حتى لو مست الجملة،
119
1
ولم يشك أن كل واحد من اجزائها إنما يلاقى حينئذ ما يساويه، فإن كان ذلك الواحد
2
لا يؤثر فيما يلاقيه، وكذلك كل واحد آخر، فيكون ليس عن آحاد المتماسات فعل
3
وانفعال؛ بل سلامة، والجملة غير سالمة ولا مسلمة. وإن كان الاجتماع يوجب أن تحدث
4
الحرارة سارية فى الجميع، حتى تكون فى كل فرد أيضا لمجاورة قرينه ما لو انفرد عنه
5
لم يكن. فيكون من شأنها أن يستحيل فى الكيف. وقد امتنعوا من ذلك، وهو
6
يضاد متوخاهم فى مذهبهم.
7
ثم لا يشك فى أن للأجرام حركات طبيعية. فإن كانت الحركات الطبيعية تصدر
8
عن جواهرها وجب أن تكون حركاتها متفقه، وأن لا يكون فى العالم حركتان
9
طبيعيتان متضادتان. وإن كانت تصدر عنها لأشكالها، وأشكالها غير متناهية عند
10
بعضهم، فالحركات الطبيعية كثيرة جدا، وليس كذلك على ما علمت، وأيضا فإن
11
الحركات الطبيعية غير متناهية. وقد أوضحنا أنها لا تكون إلا متناهية. وهى متناهية
12
عند آخرين منهم، ولكن كثيرة جدا، فوجب أن تكون أصناف الحركات الطبيعية
13
المتضادة موجودة. وقد عرف من حالها أنها إنما تصدر عن قوى متضادة، فيجب أن
14
يكون فى الأشكال أشكال متضادة. وقد منع ذلك.
15
وأما ما ظنوه من أن عديم الزاوية ضد لذى الزاوية فيجب أن يكون للمستدير ضد،
16
وليس كذلك؛ فإنه إن كان للمستدير ضد ففرضنا المستدير نوعا واحدا، أو فرضنا
17
من المستدير نوعا واحدا وجب أن يكون إصدار المستدير أنواعا من الأشكال بغير نهاية،
18
وأمرا جنسيا أعم من كل شكل مضلع منوع، وضد الواحد فى النوع واحد فى النوع.
120
1
وأما كون هذه الأجزاء غير متناهية، وخصوصا على قول من يقول أن صورها
2
متناهية، فإن ذلك بيّن البطلان مما قيل فى أمر غير المتناهى.
3
فأما الذى يعترضون على هؤلاء، ويقولون أن الاجتماع والافتراق لا يغير الطبايع [*]الطبايع Middle Arabic for الطبائع
4
والصور، كما أن الذهب إذا سحل ثم جمع فإن هذا ليس باعتراض صحيح. فإنهم يقولون
5
إن السحل لا يرد الذهب إلى أول التأليف الذى يكون به ذهبا؛ بل هذا الذهب المحسوس
6
عندهم ذهب كثير وهذا الماء المحسوس عندهم مياه كثيرة متجاورة، وإن أول
7
اجتماع ذهبى ودمائى [*]ودمائى corrupt for مائى غير محسوس، فكيف يحس بالتفريق إذا وقع فيه. وتركيب
8
الترياق من أدوية مختلفة يحدث فيها صورة الترياقية بالاجتماع، ثم لا يقدر بعد امتزاجها
9
على أن يقسمها الحس، البتة، قسمه بحيث تخرج الأقسام عن الترياقية؟ وليس فى ذلك
10
أن الترياقية لم يحدث عن اجتماع وامتزاج.
11
وكذلك الذى يقال لهؤلاء إن الهواء لا شكل له والماء لا شكل له، وإنه يقبل
12
كل شكل. أما أولا فهو كاذب. فإن الماء إذا لم يعرض له عارض باللقاء تشكل كريا.
13
وكذلك الهواء وجميع البسائط.
14
وأما ثانيا فإن هؤلاء إنما يوجبون الشكل المذكور للماء الواحد بالتأليف الأول،
15
وما بعد ذلك فلا يمنعون البتة أن تتألف الجملة الكثيرة منه على أشكال يتفق لها،
17
ولا يوجبون لمجموع المياه شكلا يوجبونه لأول تأليف المياه.
18
وكذلك ما قيل من أن الجسم السايل[*]السايل Middle Arabic for السائل ينعقد حجرا، والمتحجر يستحيل ماء من غير
121
1
اجتماع، ولا افتراق، ولا انقلاب من هيئة ووضع. فإنه إن زيد فى هذه المقدرة شرط
2
الإدراك بالحس، حتى يصدق ويسلم، لم يلزم شىء؛ لأنه ليس يجب، إذا لم يكن
3
افتراق واجتماع محسوس، أن لا يكون البتة. وإن لم يشترط بل ادعى أنه لم يحدث
4
فيها اجتماع وافتراق واختلاف ترتيب ووضع، ولا ما لا يدركه الحس، لم يسلم.
5
فهذه الاعتراضات عليهم أشبه بالتكلف والتعتت، فلنرجع الآن إلى التفرقة
6
بين الكون والاستحالة.
122
1
الفصل السادس
2
فصل فى
3
الفرق بين الكون والاستحالة
4
قد علم أن غرضنا فى مناقصة هؤلاء إنما كان بسبب تفصيل أمر الكون
5
والاستحالة، ثم أحوجنا، لذلك، إلى أن تكلمنا فى أمر العناصر، وناقضنا مذاهب
6
فى العناصر بعين مناقضتنا إياها على غرض لنا آخر، وهو معرفة العناصر. والأولى بنا أن
7
نقدم أول شىء، أمر الكون والاستحالة فنقول:
8
إن المشاهدة تؤدى بنا إلى أن نحكم بأن ماء سيالا يتحجر. وقد دلت التجربة على
9
أن قوما يسيلون الحجارة ماء، ويعقدون المياه حجارة، وأن الهواء الصافى من غير
10
انجذاب بخارات إليه ينعقد سحابا، فيسيل ماء وثلجا. وهذا شىء يشاهد فى قمم الجبال
11
الباردة، وقد شاهدنا الهواء الصافى أصفى ما يكون. وبالجملة، على ما يكون فى الشتاء
12
من الصفاء، ينعقد دفعة من غير بخار يتصعد إليه، أو ضباب ينساق نحوه؛ فيصير
13
سحابا أسحم، ويلقى الأرض ويرتكم عليه ثلجا بكليته، ومقدار ذلك مقدار رمية
14
فى رمية، فيعود الهواء صافيًا لحظة، ثم ينعقد. ويدوم هذا الدور حتى إنه ينتضد،
15
من هذا الوجه، على تلك البقعة ثلج عظيم، لو سال لغمر واديا كبيرا، وليس إلا هواء
16
استحال ثلجا وماء.
123
1
وقد يوضع القدح فى الجمد مهندما فيه، ويترك فلا يزال يجتمع على صفحته الباطنة
2
من القطر، اجتماعا بعد اجتماع، حتى يمتلئ ماء.وليس ذلك على سبيل الرشح. فإن الرشح
3
من الماء الحار أولى. وأيضًا فإن هذا القدح، أو آلة أخرى تجرى مجراه، إذا لم يهندم كله
4
فى الجمد؛ بل بقى منه طرف مجاوز، لا على الجمد، اجتمع أيضا على طرفه القطر؛
5
لأن البرد ينتهى إليه. فيكون ذلك على سبيل إحالة الهواء ماء على سبيل الرشح؛
6
إذ الرشح تكون حيث يلاقى الإناء الراشح فقط. وربما كان ذلك الجمد لم يتحلل منه شىء
7
ولم يعدم؛ بل كلما كان الجمد أبعد من التحلل كان هذا المعنى اغزر، وبعكس هذا
8
يستحيل الماء هواء بالتسخين.
9
وأما استحالة الأجرام نارًا فمثل الكير إذا ألح عليه بالنفخ وخنق الهواء، فلم يترك
10
أن يخرج ويدخل؛ فأنه، عن قريب، يستحيل ما فيه نارا محرقة.
11
وقد علمت كيف يستحيل دهن البلسان فى دفعة واحدة نارا. وليس ذلك
12
إلا باستحالة ما فيه من العناصر. والحطب إذا كان رطبا عصى النار، فاجتمع منه دخان
13
كثير هو الأجزاء العاصية منه. وإذا كان يابسالم يجتمع منه شىء، إو كان قليل الاجتماع
14
بالنسبة إلى ما يجتمع من الرطب. وليس يمكن أن ينسب هذا إلى أن الأجزاء الأرضية
15
فى الرطب أكثر، فالثقيل الذى يصعد بالقصر فيه أغزر، فإنه ربما كان اليابس أثقل،
16
ويكون ما يندخن منه وما يترمد جميعًا أقل؛ بل المائية عسرة الاستحالة إلى النار لشدة
17
المضادة، ومانعة لما يقارنها من الاستحالة، والأرضية اليابسة أشد استحالة إلى النارية
124
1
ولو كانا لا يستحيلان معًا؛ بل يتصعدان فقط لكان الدخان عنهما واحد إذا جمع.
2
فأذنْ [*]فأذنْ corrupt for فإذنْ الدخان فى أحدهما أقل، مع أنه ليس فى الترمد أكثر. فقد استحال ما فيه من
3
الأرضية إلى غير الأرضية، ولا غالب هناك إلا النار، فقد استحال إلى النارية.
4
وظاهر بيّن من هذا وما أشبهه بأن هذا، إذا لم يكن على سبيل الكمون، ولا على
5
سبيل الاجتماع والافتراق، لم يكن إلا على سبيل الاستحالة فى الجوهر. فالعناصر
6
يستحيل بعضها إلى بعض. والمركبات قد تستحيل ما كان من هذا النوع إلى نوع آخر.
7
كالحنطة تستحيل دما، والدم يستحيل عظما ودماغا وغير ذلك.
8
فما كان من هذه الجملة يبقى نوع الجوهر من حيث هذا المشار إليه ثابتا، كالماء
9
يسخن وهو ثابت بشخصه فهو استحالة. وما كان لا يبقى نوعه عند تغيره، كما ضربناه
10
من المثل، فهو فساد.
11
فالكون المطلق هو الكون الجوهرى، والكون المفيد[*]المفيد corrupt for المقيد كقولهم كان أبيض
12
أو كان أسود فهو استحالة؛ أو شىء آخر من التغييرات التى ليست فى الجوهر
13
وهذا شىء بحسب المواضعة.
14
وقد كان بعضهم يرى كون اشرف الاسطقسين وأكثرهما وجودية عن أحسنهما
15
كونا مطلقا وعكسه كونا مقيدا. وقد رأوا أيضًا آراء أخرى لا حاجه بنا إلى
16
اقتصاصها ونقضها فإن إضاعة…… من التبذير.
17
ثم لايجوز[*]لايجوز corrupt for لا يجوز أن يكون كون الجرم واقعا عن لاجرم. فأنك تعلم أن ما يكون عنه
18
الجسم لا يكون إلا الجوهر المادى والجوهر المادى لا ينفرد مجردا.
125
1
وكل جرم يقبل كله أو بعضه الكون والفساد فليس بأزلى أما إن قبل بكليته
2
فلا شك فيه. وإن قبل جزء منه، وهو مشارك له فى نوعه، فطبيعة نوعه قابلة للكون
3
والفساد.
4
وقد بينا من قبل إن ما كان كذلك فليس غير كائن؛ وما ليس غير كائن مما هو
5
موجود فليس بأزلى .فعناصر الكون والفساد غير أزلية، بل وجودها عن كون بعضها
6
من بعض.
7
فحرى بنا الآن أن نتعرف الفعل والانفعال كيف يجرى بين هذه.
8
والفعل فى هذا الموضع يعنى به تحريكا فى الكيف ويعنى بالانفعال تحركا فيه،
9
على نحو ما علمت من صورة ذلك فى مواضع أخرى. فنقول أن ذلك يكون بمماسة. فأنه
10
لو لم يكن بسبب مماسة لم يخل أما أن يكون بنسبة أخرى وضعية، أو يكون كيف اتفق.
11
ولا يجوز أن يقال إن ذلك كيف اتفق، وإلا لكان الجرم يسخن قبلنا مما يسخنه قبلنا
12
بالمضادة، كيف كان وضعه منه. فكان الجسم يسخن لأن نارًا مثلا موجودة تبعد
13
عشرين فرسخًا عنه.
14
فأما إن كان على نسبة وضع آخر غير المماسة يقتضى نوعًا من المحاذاة والقرب فإن
15
المتوسط، إذا كان لا يسخن ولا يبرد لم يسخن المنفعل إلا بعد أيضًا، ولم يبرد.
16
وإن سخن المتوسط فهو المؤثر القريب ويؤثر بمماسة لا محالة.
17
فالفعل والانفعال إنما يجرى بين الأجسام التى عندنا الفاعل بعضها فى بعض،
126
1
إذا كانت بينهما مماسة، ولأجل ذلك جرت العادة بأن يخص هذا المعنى فى هذا الوضع بالمماسة،
2
حتى إذا التقى جسمان، ولم يؤثر أحدهما فى الآخر، لم يسم فى هذا الوضع، مماسة. وإن
3
كان أحدهما لا يؤثر ولا يتأثر قيل إنه يماس المتأثر عنه، ولا يماسه المتأثر. فكأن
4
المماسة فى هذا الوضع ملاقاة مؤثر. ولا بد من أن يكون له وضع. ويلزمه أن يكون ذا
5
ثقل وخفة؛ إذ قد تبين أن الأجسام القابلة للتركيب والمزج. لهذه الصفة .وقد يطولون
6
فى هذا المعنى بما لا فائدة فيه.
7
فالفاعل من هذه الأجسام يفعل بالمماسة.
8
وقال قوم من الأقدمين إن الفاعل ما لم ينفذ فى ثقب خالية من المنفعل لم يفعل فيه.
9
ولم يدروا أن غاية ما تفيده هذه الثقب هى التمكن من زيادة اللقاء فإن حصل اللقاء من
10
غير ثقب حصل الفعل فى المنفعل، وكان المغيّر بالذات هو اللقاء والمماسة. لكن الفاعل
11
كلما كان اكثر مخالطة. كان الانفعال أفشى، والأجسام العنصرية إذا تلاقت فعل بعضها
12
فى بعض فكان كل واحد منها يفعل بصورته، وينفعل بمادته، كالسيف يقطع بحدته
13
ويفل وينثلم بحديده. ويغفل [*]ويغفل corrupt for يفعل كل واحد منهما فى ضده فى النوع الشبيه له فى الجنس
14
المشارك فى قوة مادته. وهذا الانفعال لا يزال يستمر إلى أحد أمرين:
15
إما أن يغلب بعضها بعضًا، فيحيله إلى جوهره، فيكون كونًا فى نوع الغالب
16
وفسادًا للمغلوب.
17
وإما أن لا يبلغ الأمر بأحدهما. أن يغلب على الآخر حتى يحيل جوهره؛ بل يحيل
18
كيفيته إلى حد ليستقر الفعل والانفعال عليه، ويحدث كيفية متشابهة فيها تسمى
127
1
المزاج، وهذا الاجتماع يسمى الامتزاج. فإن وقع اجتماع كما بين دقيق الحنطة والشعير، ولم
2
يجر فيما بينهما فعل أو انفعال فلم يسم ذلك امتزاجًا، بل تركيبًا واختلاطًا .ومن الناس
3
من يستعمل فى هذا الموضع لفظة الاختلاط مكان لفظة الامتزاج.
4
ثم قد أجمع المشاءون عن آخرهم أن الامتزاج لا يقع إذا كان البسيطان محفوظين،
5
ولو كانت البسائط تحفظ عن حالها لما كان يوجب اجتماعهما لحمية أو عظمية؛ بل لكان
6
المركب إنما تخفى بسائطه حسًا، وهى موجودة فيه، حتى لو كان الحس البصرى فى غاية القوة
7
على الإدراك، لكان ذلك الإنسان يرى فى اللحم ماء وأرضًا ونارًا وهواء متميزات.
8
فلا يكون حينئذ اللحم بالحقيقة لحمًا؛ بل بحسب رؤية إنسان دون إنسان. قالوا: ولا إذا
9
فسد أحدهما، ولا إذا فسد كلاهما؛ فإن الفاسدين لا يصلح أن يقال لهما ممتزجين،
10
ولا الفاسد والباقى.
11
ثم قال المعلم الأول، بعد ذلك، فالممتزجات ثابتة بالقوة. وقال ولكن الممتزجات
12
قوتها ثابتة، وعنى بالقوة الفعلية التى هى الصورة ولم يعن أنها تكون موجودة بالقوة
13
التى تعتبر فى الانفعالات التى تكون للمادة فى ذاتها. فإن الرجل إنما أراد أن يدل
14
على أمر يكون لها، مع أنها لا تفسد. وإنما يكون ذلك إذا بقيت لها قوتها التى هى
15
صورتها الذاتية. وأما القوة التى بمعنى الاستعداد فى المادة فإنها تكون مع الفساد
16
والرجوع إلى المادة، أو قد تكون مع الفساد. فإنها لو فسدة أيضا لكانت ثابتة
17
بتلك القوة. فإن الفاسد هو، بالقوة، بشىء الذى كان أولا، ويرجع إليه.
18
ولكن المفسرون يتبلبلون فى ذلك بسبب اضطرارهم بالتفرقة بين الصور
128
1
والأعراض الدالة على التفرقة بين الصور الطبيعية لهذه الأجرام وبين كيفياتها. ولظنهم
2
أن هذه الكيفيات كلها أو بعضها صور لهذه الأجرام، مع أنها تقبل الاشتداد
3
والضعف، فيقول أمثلهم طريقه: إن كيفياتها تكون محفوظة ومكسورة السورات،
4
فتكون الأجسام بالقوة خوالص.
5
فلننظر فى قولها هذا، فنقول: لا يخلو إما يعنوا بها، وهى مثلا ماء وأرض ثابتة
6
بالقوة، ماء وأرضًا، او على حكم كمالات الماء والأرض.
7
فإن جعلوها بالقوة ماء وأرضًا فقد فسدت. لسكنهم يقولون إنها لا تفسد؛ بل سوراتها
8
تنكسر وحمياتها تضعف .ومع ذلك فإن بعضهم يرى أن النار العنصرية غير ذات
9
سورة. ولا محالة أن سوراتها تنكسر بتغير. وذلك التغير إما أن يكون لسلخ الماء،
10
مثلا، الصورة المائية، حتى يصير لا ماء، أو مع بقاء الصورة المائية حتى يكون الماء ماء
11
والأرض أرضًا. فإن صارت بهذا التغير غير ماء وغير أرض فهذا فساد. وإن كان
12
الماء ماء والأرض أرضًا، ولم تبطل عن كل واحد منهما صورته التى إذا بطلت لم تكن
13
ذلك ماء، وهذا أرضًا، لم تكن الاستحالة فى طبيعة النوع، وخصوصًا وقد سلموا أن
14
الصور الجوهرية لا تقبل الأشد والأضعف.
15
وإن كانت الأرض قد انتفضت أرضيتها حتى صارت أرضًا ناقصة، وكانت
16
الأرضية تقبل الأشد والأضعف، فإنما تنتقص أرضيتها لا محالة، بدخول طبيعة أخرى،
17
لولا دخولها كانت تلك الطبيعة خالصة. والآن إنما دخل شطر منها، فتكون مع أنها
18
أرض ناقصة، شيئًا آخر كنار أو ماء مثلا ناقصًا، فيكون شىء واحد نارًا أو أرضًا معًا
129
1
ناقصتين. ويكون بالقياس إلى النار الصرفة أرضًا، وبالقياس إلى الأرض الصرفة نارًا،
2
وهذا محال. فإن النار فى عرض ناريتها ليست أرضًا البتة، والأرض فى عرض أرضيتها
3
أرض ليست نارًا البتة.
4
على أنهم يعترفون أن هذا الانكسار ليس إلا فى الحر والبرد والرطوبة واليبوسة.
5
وأنت تعلم أن الماء لا تزول مائيته بأن يسخن شديدًا، ويغلى فضلا عن أن يفتر، فيكون
6
التغير الذى يعرض، إنما هو فى الكمال الثانى للماء، لا الكمال الأول الذى هو به ماء.
7
فإذا كانت هذه الاستحالة لا تبطل طبيعة النوع فليست هذه هى الاستحالة التى
8
فى الجوهر. فهى لا محالة فى كيف جوهر غير محفوظ فى أنه مكيف.
9
وأما المعلم الأول فقال إن قواها لا تبطل، وعنى بها صورها وطبائعها التى هى مبادئ
10
لهذه الكمالات الثانية التى، إذا زال العائق، صدرت عنها الأفعال التى لها.
11
فحسب هؤلاء أنه يعنى القوى الاستعدادية، ولو أن الهيولى الأول كان يجوز
12
أن تبقى مجردة لكانت قوى الاسطقسات الاستعدادية، التى بها يقال للشىء إنه بالقوة نار
13
أو أرض أو غير ذلك، لا تبطل، فضلا عن المزاج الذى يصرح أنه ليس فيه فساد.
14
فما تكون الفائدة فى هذا الكلام؟.
15
فينبغى لنا أن نصرح، عن الذى يحومون [حوله]، ولا يدركونه، أن كل واحد من
16
الاسطقسات له صورة جوهرية بها هو ما هو، ويتبع هذه الصورة الجوهرية كمالات
17
من باب الكيف ومن باب الكم، ومن باب الأين، فيتخصص كل جسم منها ببرد أو حر
18
من جهة تلك الصورة، ويبس ورطوبة من جهة المادة المقترنة بالصورة، وبقدر من الكم
130
1
طبيعى، وبحركة طبيعية وسكون طبيعى، فتكون تلك الصورة يفيض عنها فى ذات ذلك
2
الجسم قوى، بعضها مما لها بالقياس إلى المنفعل، كالحرارة والبرودة الطبيعيتين؛ وبعضها
3
بالقياس إلى الفاعل للشكل كاليبوسة والرطوبة الطبيعيتين؛ وبعضها بالقياس إلى الأجسام
4
المكتنفة له، كالحركة والسكون الطبيعيين.
5
وإن الماء إنما يفيض، فى جوهره عنه البرد إذا كان على طبيعته، ولم يعق عائق
6
كماء ينحدر إذا كان على طبيعته ولم يعق، وإنه قد تفوته هذه الكيفية بقاسر فيسخن،
7
كما تفوته تلك الحركة وميلها بقاسر راج إلى فوق محدث فيه ميلا غريبًا.
8
وكما أن الماء إذا سخن فتصعد بالسخونة، أو سخنت الأجزاء الأرضية أيضًا
9
فتصعدت بالسخونة، وكانت السخونة محدثة للميل إلى فوق، لذلك إذا انبعثت السخونة
10
عن الطباع أحدثت ذلك الميل عن الطباع. هذا إن سلم أن صعود الماء وصعود أجزاء
11
الأرض إنما هو لتسخنها، لا بمخالطة النارية المصعدة إياها .وسنوضح ذلك فى فن آخر.
12
وإنما أوردنا ما أوردناه من ذلك تمثيلا لا وضعًا.
13
لو كانت البرودة المحسوسة صورة المائية لكانت المائية تفقد صورتها وهى مغلاة،
14
وليس كذلك؛ بل هى عند الغليان ماء بعد. ولو كانت الرطوبة المحسوسة أيضًا صورة الماء
15
لكان الجامد قد خرج عن طبيعة الماء وصورته، وصار إما أسطقسا آخر، وإما مركبًا.
16
وليس أحدهما.
17
ولو كان الميل الذى بالفعل صورة الماء لكان الماء المرجوج إلى فوق، وقد صحّ أنه
131
1
ينفذ، بعد مفارقة الراج، بميل يحدث فيه، إما فاقد الصورة المائية، وإما مجتمعًا فيه بالفعل
2
ميلان: ميل مصعد وميل مهبط، كل منهما بالفعل.
3
وقد بان، مما سلف، أن الطبيعة غير هذا الميل؛ بل هى مبدأ لهذا الميل. وكذلك
4
فاعلم أن الطبيعة غير الكيف المذكور؛ بل هى مبدأه. وقد علمت أن الطبيعة، ليست
5
مبدأ للحركة المكانية والسكون فيها فقط؛ بل هى مبدأ لجميع الحركات التى بالطبع،
6
والسكونات التى بالطبع .وكذلك فاعلم أن طبيعة الماء هى التى تغير الماء إلى هذا
7
الكيف وتحفظه عليه؛ وإن تلك الطبيعة، إذ لا اسم لها، فيستعار لها من الفعل الصادر
8
عنها اسم، فتارة تسمى ثقلا، وتارة تسمى برودة ورطوبة. فإنها إذا اعتبر ما صدر
9
عنها من الميل المهبط سميت ثقلا، وإنما هى مبدأ للثقل. وإذا اعتبر ما يصدر عنها من
10
الكيفية سميت بردًا، وإنما هى مبدأ البرد. وهذا كما يسمى قوة فى الإنسان نطقًا
11
أو ضحكًا، وإنما هى مبدأ النطق والضحك.
12
وإذا قدمنا هذه المقدمات فنقول: إن الطبيعة المائية محفوظة فى الممتزج .وأما
13
الكيفيات فهى منتقصة، لا باطلة بطلانًا تامًا. فهذا القدر هو القدر من الاستحالة التى
14
يوجبها المزاج، فتكون الكمالات التى تكون لكل نوع من العناصر معدومة بالفعل
15
موجودة بالقوة القريبة، كقول النار على الضوء، لا قوة الماء على الضوء. فلا تكون
16
العناصر موجودة بحالها مطلقًا، محفوظة على ما هى عليه، ولا فاسدة كلها، ولا فاسدة
17
بعضها. فيكون كل اسطقس من جهة نوعه، أنه ماء مثلا جسمًا طبيعيًا بصفة؛ ومن جهة
132
1
كماله الثانى، أنه مثلا بارد بالفعل، ركنا من أركان العالم كاملا؛ ومن جهة أنه انكسر
2
بالمزاج اسطقسا فى المركب. وكلما كانت الأجزاء أشد تصغرا كان أقرب إلى المزاج؛
3
لأن كل واحد يكون أذعن للانفعال عما يكفيه، ويكون كل واحد أوصل فى التأثير
4
إلى كل واحد. فلذلك ما كانت الرطوبة أسهل امتزاجا إذا لم تكن لزجة. فإن اللزجة
5
أعسر انفصالا وانقساما. وأما الكبير مع الكبير فمما يعسر وقوع الانفعال بينهما
6
لضد ما قلناه فى الصغير. والكبير مع الصغير يفسد الصغير، ولا يختلط به. وربما
7
كان الصغير يؤثر فى الكبير من غير أن يكون له قدر محسوس، حتى يقال إنه قد
8
اختلط به، كما يفعله أصحاب دعوى الأكسير. فإنهم يبيضون نحاسا كثيرا برصاص
9
مكلس يسير، وبزرنيخ مصعد يسير، فيكون كأنه يفعل فيه بلا زمان ويختلط به.
133
1
الفصل السابع
2
فصل فى
3
إبطال مذهب محدث فى المزاج
4
ولكن قوما قد اخترعوا، فى قرب زماننا، مذهبا غريبا عجيبا، و قالوا إن
5
البسائط إذا امتزجت وانفعل بعضها ببعض، تأدى ذلك بها إلى أن تخلع صورها،
6
فلا يكون لواحد منها صورته الخاصة، وتلبس حينئذ صورة واحدة، فيصير لها هيولى
7
واحدة وصورة واحدة.
8
فمنهم من جعل تلك الصورة أمرا متوسطا بين صورها ذات الحمية، ويرى أن
9
الممتزج يستعد بذلك لقبول الصورة النوعية التى للمركبات.
10
ومنهم من جعل تلك الصورة صورة أخرى هى صورة النوعيات، وجعل المزاج
11
أمرا عارضا لا صورة.
12
ولو كان هذا الرأى حقا، لكان المركب، إذا تسلطت عليه النار فعلت فيه فعلا
13
متشابها، فلم يكن القرع والإنبيق يميزه إلى شىء قاطر متبخر لا يثبت على النار البتة،
14
وإلى شىء أرضى لا يقطر البتة. فأنه، إن كان كل جزء منه كالآخر، تساوى
134
1
الاستعداد فى جمعيه؛ أو إن اختلف فعسى أن يكون اختلافه بالأشد والأضعف، حتى
2
كان بعض الأجزاء أسرع استعدادا، وبعضها أبطأ استعدادا. ومع ذلك، فما كان
3
يكون ذلك فيها، وهى متلبسة صورة واحدة لا تمايز بينها؛ بل لا بد من تمايز. وذلك
4
التمايز لا يخلو إما أن يكون بأمور عرضية، أو صور جوهرية.
5
فإن كانت أمورا عرضية فأما أن تكون من الأعراض التى تلزم طبيعة الشىء،
6
أو من الأعراض الواردة من خارج.
7
فإن كانت من الأعراض التى تلزم طبيعة الشىء فالطبايع [*]فالطبايع Middle Arabic for فالطبائع التى تلزمها أعراض
8
مختلفة هى مختلفة.
9
وإن كانت من أعراض وردت عليها من خارج فإما أن تكون الأجزاء الأرضية،
10
مثلا، تقتضى، فى كل مثل ذلك التركيب، أن تكون، إذا امتزجت، يعرض لها
11
من خارج دائما مثل ذلك العارض، أو لا يقتضى. فإن كانت تقتضى وجب من ذلك
12
أن يكون لها، عند الامتزاج، خاصية استعداد لقبول ذلك، أو خاصية استعداد لحفظ
13
ذلك، ليس ذلك لغيرها.
14
وذلك الاستعداد إما أن يكون أمرًا جوهريًا، فيتمايز الجوهر،فتكون البسايط [*]البسايط Middle Arabic for البسائط
15
متميزة فى المركب بجواهرها، أو أمرا عرضيا، فيعود الكلام من رأس.
16
وإما أن لا تكون الأجزاء الأرضية، مثلا، تقتضى، فى كل مركب، مثل ذلك
17
التركيب، أن تكون إذا امتزجت يلزمها من خارج؛ بل ذلك قد يتفق فى بعضها
135
1
اتفاقا. ولو كان كذلك لكان ذلك الأقل، ولم يكن كل مثل ذلك التركيب موجبا
2
لاختلاف ذلك التميز، وكان يمكن أن يوجد من اللحوم لحم من نوعه يقطر كله،
3
أو يرسب كله، ولا يقطر. وكذلك كان يجب أن لا يكون التحليل معينا [*]معينا corrupt for مفنيا [according to Van Riet 1987, 72 fn.] للحيوانات
4
والنبات بإفناء مادة وإبقاء مادة، أغنى فناء المتحلل الرطب، وإبقاء اليابس.
5
ثم لننظر أن العناصر، إذا اجتمعت، فما الذى يبطل صورها الجوهرية.
6
فلا يخلو إما أن يظن أن النار، مثلا، تبطل صورة الأرض منها أو شىء خارج عنها،
7
يكون ذلك الشىء من شأنه أن يبطل صورتها إذا اجتمعت. فإن كانت النار تبطل
8
صورة الأرض، فإما أن تكون مبطلة لصورة الأرض وناريتها موجودة، أو مبطلة
9
وناريتها معدومة.
10
فإن أبطلت، والنار معدومة، فيكون إبطالها الصورة الأرضية بعد عدم النارية
11
أو مع عدم النارية. وعدم ناريتها فى هذا الموضع إنما هو أيضا بسبب الأرض. والكلام
12
فى ذلك هو الكلام بعينه. فيكون حاصل ما ذكرناه أنه لما عدمت النارية والأرضية
13
أبطلت إحداهما صورة الأخرى، وهذا محال.
14
وإمّا أن يكون شىء آخر خارج هو الذى يبطل صورة كل واحد منها إذا اجتمعت.
15
فإن كان يحتاج فى أبطال الصورة النارية، مثلا، وإعطاء الصورة الأخرى، إلى
16
الأرض، والأرض موجودة، أو الأرض معدومة، فقد دخلت الأرض فى هذه المعونة،
17
وعاد الكلام من رأس.
18
وإن كان لا يحتاج فلا حاجة إلى المزاج فى سلب الصورة النارية وإعطاء الصورة
19
الأخرى، بل البسيط يجوز أن تتكون عنه الكائنات بلا مزاج.
136
1
وأما الاستحالة فلا يلزم فيها مثل هذا القول. فإن النار، مثلا، إذا كانت علة
2
لتسخين مادة الأرض كانت علة، وهى نار بالفعل؛ وتسخن بسخونة موجودة فيها، وإن
3
انتقصت؛ لأنها أيضا تقبل البرد بمادتها عن الأرض بالفعل. فتكون فاعلة بهيئة
4
ومنفعلة بمادة. وتكون الهيئة، عندما تفعل فى المادة، موجودة، والمادة عندما تنفعل
5
موجودة، فلا يعرض فيها هذا الشك.
6
لكن من الأمور المشكلة التى بالحرى أن تورد شكا يؤيد القول الذى يختاره
7
ويورده أصحاب هذا المذهب المحدث هو أنه إن كان الممتزج لا تتغير جواهر بسائطه،
8
وإنما تتغير كمالاتها، فتكون النار فيه موجودة ولكنها مفترة قليلا، والماء موجودًا،
9
ولكنه مسخن قليلا، ثم يستفيد بالمزاج صورًا زائدة على صور البسائط، وتكون تلك
10
الصور ليست من الصور، التى لا تسرى فى الكل، من الصور الاجتماعية، مثل صورة
11
التأليف كالأشكال والأعداد. فإن المغناطيسية واللحمية مثلا ليست من الصور التى
12
تكون من هيئات اجتماع آحاد عدد أو آحاد مقادير، حتى تكون للجملة، أولا لواحد
13
من آحاد الجملة. وإذا كان كذلك كانت هذه الصور سارية فى كل جزء، وكان الجزء
14
الموجود من الأسطقسات فى المركب، وهو نار مستحيلة ولم تفسد، قد اكتسب صورة
15
اللحمية، فيكون من شأن النار فى نفسها، إذا عرض لها نوع من الأستحالة، أن تصير
16
لحما. وكذلك كل واحد من البسائط، فيكون نوع من الكيف المحسوس، وحد من
137
1
حدود التوسط فيه بين الرطب واليابس، والحار والبارد يعدّ الأجسام العنصرية لقبول
2
اللحمية، ولا تمنعها عن ذلك صورها، كما لا يمنع صورة الأرض فى الجزء المتدخن أن
3
تقبل حرارة مصعدّة[*]مصعدّة corrupt for مصعدة. فيكون حينئذ من شأن البسائط أن تقبل صورة هذه الأنواع
4
وإن لم تتركب؛ بل إذا استحالت فقط. فلا يكون إلى التركيب والمزاج حاجة البتة، فنقول:
5
أما أولا فليس اعتراض هذه الشبهة على أحد المذهبين أولى من اعتراضها على
6
الآخر. فإن صاحب هذا المذهب المخترع أيضًا يرى أن اجتماع العناصر شرط فى حصول
7
الصورة للتركيب بسبب ما يقع بينها من الفعل والانفعال، وأنها أول ا يعرض لها الفعل
8
والانفعال فى كيفياتها، ثم يعرض لها أن تخلع صورة، وتلبس صورة، و لولا ذلك
9
لما كان لتركيبها فائدة. وإذا تركبت فإنما يقع بينها تغير فى كيفياتها بالزيادة و النقصان،
10
حتى تستقر على الأمر الذى هو المزاج. ثم تحدث صورة أخرى يعد لها المزاج؛ إذ
11
لا يكون ما يظن أنه وارد بعد المزاج إلا المفرد. وكيف ما كان فذلك لاستحالتها فى
12
كيفيتها، فيجب أيضًا من ذلك أن تلك الاستحالة إذا عرضت للمفرد منها قبل المفرد
13
وحده تلك الصورة، أو إن كان لا يقبلها؛لأن تلك الاستحالة يستحيل فيها إلا أن تتصغر
14
أجزاؤها، إلا أن تتجاوز فاعلة و منفعلة على أوضاع مخصوصة، وأن تكون تلك
15
الصورة مستحيلة أن تستحفظ إلا بتلك المجاورة، وأن الصورة لا تحل مادة لا تستحفظها،
16
أو غير هذا من العلل والمعاذير ــ فهو جواب مشترك للطائفتين معًا.
17
على أنه يشبه أن تكون الحدود المحتاج إليها من المزاج فى تهيئة المادة لقبول الصورة
138
1
التركيبية لا تحصل ولا تبقى إلا بالمزاج. فهذا هو الذى يجب أن يعقل من أمر وجود البسائط
2
فى المركبات؛ والذى يقع من الاضطراب فى إعراب القدماء عنه هو مالا[*]مالا corrupt for ما لا يتميز لبعضهم
3
الصور التى بها النار نار والماء ماء عن هذه الكمالات التابعة.
4
على أن هؤلاء إذا سئلوا فقيل لهم: ما تعنون بقولكم إن الماء بارد ورطب إذا حد؟
5
ثم الماء هل هو برد بالفعل أم برد بالقوة؟
6
فيقولون إنا نعنى بذلك بردًا بالقوة، و لسنا نعنى به البرد بالفعل. فيكون أخذهم البرد
7
فى حد الماء مصروفًا إلى وجود معنى فى المائية يقوى الماء على أن يبرد؛ ومحال أن يبرد،
8
ولا يتبرد. فيكون المأخوذ فى حد الماء هو القوة التى يصدر عنها التبريد بالفعل للماء و لما
9
يجاوره. و ليس هذه القوة على البرد بالفعل كقوة النار على البرد بالفعل. و ذلك لأن
10
النار تحتاج إلى أن تنسلخ صورتها عن مادة وتلبس صورة أخرى حتى تكون لها
11
هذه القوة.
12
وأما الماء فهذه القوة فيه قريبة جدًا من الفعل لا تحتاج، فى صدور الفعل منها إلا
13
إلى زوال المانع. فهذه القوة ليست قوة الهيولى؛ بل هى صورة زايدة على الهيولى،
14
فاعلة للبرد فى الماء. وفيما ينفعل عنه بتوسطه.
15
وهم إذا قالوا إن العناصر بالامتزاج تنكسر حمياتها، وتصير بالقوة هى ما هى إنما
16
يعنون هذه القوة القريبة. فهذه القوة القريبة هى فصل حد كل واحد منهما. وإذا بقى
17
للشىء فصل حده لم تفسد صورته لا محالة.
139
1
فهم، من وجه، قد يشيرون إلى هذا، وإن لم يتفق لهم التصريح به.
2
ثم هذا المزاج على وجوه:
3
إما أن يكون الحار من البسايط يسخن البارد مقدار ما يبرد الحار، حتى
4
يحصل أمر متوسط بين حميتى البرد والحر، وكذلك بين الرطوبة واليبوسة،
5
فيسمى هذا الامتزاج معتدلا مطلقًا.
6
فإن كان اعتدال بين الحر والبرد، ولم يكن بين الرطوبة واليبوسة؛ بل غلبت
7
الرطوبة، قيل مزاج رطب، أو غلبت اليبوسة، قيل مزاج يابس.
8
وإن كان الأمر بالعكس، فكان اعتدال بين الرطوبة واليبوسة، ولم يكن بين
9
الحرارة والبرودة؛ بل غلب الحر أو البرد قيل مزاج حار، أو مزاج بارد.
10
فتكون هذه أمزجة خارجة عن الاعتدال خروجًا بسيطًا، وذلك إذا استقر الفعل
11
والانفعال على غلبة من أحد طرفى مضاد وعلى اعتدال بين الطرفين الآخرين. و بازائها
12
أربعة أخرى مركبة، وذلك عندما لا يقع بين طرفى مضادة من المضادين اعتدال؛
13
بل يكون الاستقرار على غلبتين، فيكون حار يابس، وبارد يابس، وحار رطب، وبارد
14
رطب؛ فتكون جميع الأمزجة تسعة، معتدلة، وأربعة بسائط، وأربعة مركبات.
15
فإذا قد قلنا فى الكون والاستحالة وما يتصل بهما، وفرغنا من جميع ذلك
16
فبالحرى أن نتكلم فى النمو.
140
1
الفصل الثامن
2
فصل فى
3
الكلام فى النمو
4
فإنه لا يكون إلا بزيادة ما، ولا كل زيادة. فإن المتكاثف، كالماء، إذا
5
استحال هواء، فزاد حجمه، فقد فسد وحدث شىء آخر مع حجمه، ولم يكن موصوفًا
6
بحركة الازدياد التى عرضت؛ ولا أيضًا إذا كان الموصوف باقيًا ولم ينضف إليه زيادة
7
من خارج مثل الماء إذا تخلخل عند استحالته إلى السخونة، وهو ماء بعد؛ ولا كل
8
زيادة منضمة فإنه إذا التصق بالجسم، أو زيد على ماء ماء، وكل واحد من المزيد
9
عليها ساكن، لم يستحل شيئًا؛ وإنما انضاف إليه زيادة، فلا يكون ذلك حركة النمو؛ بل
10
يجب أن يكون الشىء الباقى بالنوع تحرك بكليته إلى الازدياد بما يدخل عليه، ولا كل
11
ما كان أيضًا كذلك؛ فإن الشيخ بعد وقوف النمو قد يسمن،كما أن النامى فى سن
12
النمو قد يهزل. وليس زيادة السمن من النمو، كما ليس نقصان الهزل من الذبول؛ بل
13
يجب أن يكون ذلك الازدياد مستمرًا على تناسب مؤد إلى كمال النشوء، ويكون الوارد
14
قد فسد واستحال إلى مشاكله المورود عليه، والمورود عليه قد نما ممتدًا فى الأقطار
15
متجهًا إلى كمال النشوء.
16
فيجب أن يكون هذا الوارد يداخل المورود عليه، نافذًا فى خلل تحدثه فى جسمه
141
1
يندفع له المورد عليه إلى أقطاره على نسبة واحدة فى نوعه، والنوع باق فى شخصه.
2
ولو كان نفوذه فى الخلاء لما كان يحتاج الجسم، فى أن يزداد، إلى امتلاء ما فيه من
3
الأبعاد الخالية؛ بل كان حجمه واحدًا، كانت الأبعاد خالية أو لم تكن.
4
وهذه الحركة مما تنسب إلى المتحرك بها من النبات والحيوان من جهة الحر. فإن
5
الحيوان، والنبات أيضًا، قوامه من نفس وبدن. وهذا إنما يعرض العروض الأول
6
للبدن، ويعرض لبدنه من جهة مقداره. فههنا هيولى النامى الحامل لصورة جسيمة،
7
وهاهنا المقدار الذى لتلك الهيولى، وههنا الصورة الشكلية الخلقية المحيطة بذلك المقدار.
8
والهيولى دائمة التبدل، فيشكل من أمرها. ولا يبعد أن يظن أنها عساها أن تأبى
9
التحلل على كل قديم منها، ويحصل للشخص فى وقت من الأوقات جملة مادة غير الجملة
10
الأولى. فلا تكون مادته هى الباقية الثابتة، حتى يكون النمو والزيادة منسوبا إليها
11
نسبة أولية.
12
فمن هذا لا يبعد أن لا ينسب النمو إلى مادة واحدة بعينها. وأيضًا، فإن المادة
13
لا تنمو، لأن مادة واحدة بعينها، وإن بقيت بقاء الدهر، فإنها لا تصير بسبب النمو
14
أعظم؛ بل الأعظم هو المجتمع منها ومن الزيادة. وهى مع الزيادة على القدر الذى كانت
15
عليه قبل الزيادة. وإنما الأزيد هو شىء آخر، وهو هذا المجموع؛ وهذا المجموع من حيث
16
هو مجموع إنما حدث الآن بانضمام الزيادة إلى الأصل. فلا المادة نامية ولا الزيادة.
17
وأيضًا فإن المقدار المحمول فى المادة حكمه، فى الأمرين جميعًا، هذا الحكم.
142
1
والصورة أيضًا يقبح ما يظن فيها من أنها تحفظ تبديل المادة، حتى يكون البناء المركب
2
من الآجر إذا انتزع منه آجره آجره، حتى يبدل الآجر كله يكون هو بعينه البناء الأول
3
بالعدد، ويكون الشكل والصورة، تنتقل، وهى واحدة بعينها بالعدد من مادة إلى
4
أخرى. وهذا من المحال؛ بل إنما يتم ذلك بأن تبطل الصورة الأولى من البناء مع
5
انتفاض حاملها، وتحدث صورة أخرى شبيهة بالأولى. وهذا شىء قد سلف منا بيانه.
6
وأيضًا إن تبدل بعض المادة، فيجب أن يعلم أن الصورة ليست واحدة بعينها.
7
ولا يلتفت إلى ما يقولون. وذلك أن الباقى من الصورة فى بعض الباقى من المادة هو
8
جزء الصورة. ولعمرى إنه لم يحدث إلا من جهة ليس كلامنا فى مثلها. وإما البعض
9
الآخر من الصورة، وهى التى فى المادة المتجددة، فليس هو الأول بعينه، كما علمت فى
10
متبدل المادة بأسرها، وإنما هو مثل الأول. وإذا كان صورة الكل فى هذا الموضع
11
هى جملة الباقية والحادثة، وليست هى الجملة الباقية، والصورة الباقية بجملتها هى جملة باقية،
12
فليست الصورة باقية عند النمو. فينبغى لنا أن نطلب المخلص من هذه الشبهة، فنقول:
13
يجب أن نعلم أن أنواع النبات والحيوان لا يستبدل البتة منها جميع المادة، ولا
14
يتحلل عنها جميع المادة؛ بل يتحلل، فى أول الأمر، اللطيف المتحلل منه، ويستمد
15
بدله. وإن تحلل الكثيف منه فإنما يتحلل آخر الأمر. ويتحلل القليل منه، ويبقى
16
فى الجملة على استمرار ما يستحفظ القوى والصور الواجبة. والنفس إن كانت محتاجة
17
فى قوامها إلى المادة، أو كانت محتاجة، فى أفعالها الأول، إلى المادة، فإن انضم إليها
143
1
شىء استحال إليها، وزاد فيها وفى كمالات القوة المستحفظة بالأولى التى هى قائمة بالمادة.
2
فيكون كأن فى كمالات تلك القوة شيئًا قديمًا وشيئا منضافا إليه، أو تكون الصورة
3
والقوة هى تلك القديمة، وإنما انضاف اليها كمالاتها، وتكون الجملة ليست هى القديمة
4
بل حادثة من القوى، ويكون الأول لم يبطل؛ وإنما انضاف إليه ما صار به أكمل.
5
ولو كانت المادة تتبدل لكانت الأنداب والشامات قد تبدلت. فالباقى فى الشخص
6
من مادته هو ما تستحفظ به الصورة الأولى الأصلية. ومن الصور القائمة فى المادة التى
7
لا تتبدل بتمامها صورة النوع. وأما القوى التى هى الكمالات الثانية لصورة النوع فقد
8
ينضاف إليها الزيادة والمقادير. فقد تكون الأولى منها المحفوظة بالمادة المحفوظة باقية،
9
وتنضاف إليها زيادة تتميز عن الأول فى القوام والاستحكام لتأخره. فيكون هو أيضا
10
معرضا للتحلل قبل المادة الأولى.
11
وأما الشكل والخلقة فمن جملة أمور عارضة لازمة للصورة النوعية، أو عارضة
12
غير لازمة.
13
فالباقى فى هذه الحركة التى هى النمو، هو الصورة النوعية، والزايد هو المقدار
14
فى أول الأمر، ثم الصورة الشكلية والخلقية لأجل المقدار. فإنها تصير أزيد لأن الصورة
15
الواحدة الشكلية بعينها تصير أصغر وأكبر. فإنها تكون فى المقدار الذى هو أنقص
16
أصغر، وفى الأزيد أكبر. والمقدار أيضا كذلك قد لا يكون أولا ناقضا، ثم إذا
17
أضيف إليه الغذاء المنمى صار أعظم؛ لأنه مجموع مقدارين، لا أن المضاف إليه نفسه
18
صار أعظم؛ بل هو كما كان. إنما الأعظم هو االمجموع. وأما الشىء الذى له هذه المادة،
144
1
حين له هذا الشكل، فهو نوع الشىء، وهو باق واحدا بعينه بلا اختلاف، وهو الذى
2
تصير مادته مادة مضافا إليها زيادة ولا ينمو. فإن النمو والازدياد فى الحجم ليس
3
مما يعرض لمثلها من الصور الطبيعية التى ليست مقدارا ولا عرضا من الأعراض
4
الذاتية للمقدار.
5
ولا المقدار نفسه ينمو. فإنه كما كان فى نفسه، والزيادة لم تجعله أعظم؛ بل أحدثت
6
مجموعا منه، ومعها عظيما.
7
وأما الصورة الشكلية فهى التى تنمى، أى أن كل جزء من الصورة يصير أعظم
8
مما كان، ولا كذلك المادة ولا المقدار.
9
فالمتحرك أولا هو النوع، وحركته هى فى صورة الشكل والخلقة بوساطة المادة
10
ثم المقدار النامى. فالنوع هو النامى، أى هو الزائد فى مقدار خلقته بسبب مادته ومقدارها.
11
فهكذا ينبغى أن يعقل أمر النمو. والمنمى هو الغذاء. وهو غذاء ومنم. وهو غذاء
12
من جهة ما هو شبيه بالشىء بالقوة يقوم بدل ما يتحلل منه. وهو منم من جهة ماله
13
مقدار يزيد فى مقدار النامى. والغذاء هو الذى يقوم بدل ما يتحلل بالاستحالة إلى نوعه.
14
فقد يقال له غذاء، وهو بعد بالقوة مثل الحنطة. وقد يقال له غذاء إذا لم يحتج إلى غير
15
الالتصاق والانعقاد فقط، وقد حصل له التشبه فى الكيف. وقد يقال له غذاء، وقد
16
غدا وصار لحما. والغذاء تتم منفعته فى كونه غذاء بأن يتشبه ويلتصق، فأنمى بدل
17
ما يتحلل. فإن لم يتشبه كمادة البرص، كان غذاء، لا فى كمال أحواله. وإن تشبه
145
1
ولم يلتصق كمادة الاستسقاء الزقى لم يكن غذاء بالفعل نافعا فى كمال أحواله؛ بل يجب أن
2
يتشبه ويلتصق معا، حتى يغذو غذاء طبيعيا.
3
والغذاء الأول، أعنى التشبه بالقوة هو جوهر لا محالة. فإنه يستحيل أن يكون
4
غير الجوهر جوهرا بالقوة. ويجب أن يكون جوهرا غير ممتنع عن إن يكون له مقدار
5
طبيعى، وإلا لم يتكون عنه جسم طبيعى. فلا يخلو إما أن يكون ذلك له بالفعل عند
6
ما هو شبيه بالقوة، أو يكون بالقوة. فإن كان بالقوة فهو هيولى مجردة، ويستحيل
7
قوامها إلا مقارنا لصورة جسمانية .فهى، إذن، تكون مقارنة لصورة جسمانية، وتلك
8
الصورة الجسمية تزول عند قبولها هذه الصورة.
9
ولا نطول الكلام فى بيان أن تلك الصورة تكون صورة جسمية له، لا لغيره،
10
وإلا كان مع هذه الهيولى هيولى أخرى فى صورة واحدة، وصار جسمان فى جسم،
11
وغير ذلك.
12
فليس إلى ذلك للمحصلين حاجة؛ بل يكفينا أن نعلم أن تلك الهيولى، لمّا قارنها
13
صورة جسمية، قبل هذه، فقد كانت الجسمية موجودة لها قبل، وكان الشبيه بالقوة
14
جسما بالفعل، ولا يجوز أن يكون الجسم الكلى العام؛ فإن ذلك لا وجود له إلا فى الوهم؛
15
بل هو جسم ما شخصى. فغذاء كل جسم شخصى، ومبدأ إحالة الغذاء موجود فى المغتذى؛
16
لأن القوة المشبهة موجودة فيه؛ ومبدأ النمو، وهو الذى يلصق بالنامى ما هو يزيد فى كميته،
17
هو أيضا فى النامى. لكن كمية الغذاء شىء يصير أيضا كمية المغتذى أكبر. فهو أيضا
18
مبدأ للنمو، وهو فى الغذاء.
146
1
وقد يتفق أن يكون الذى به يقع النمو محيلا. وذلك إذا لم تقدر القوة المشبهة أن
2
تكمل تشبيهه فى جوهره وكيفه، أو يكون أول ما يرد يؤثر فى البدن، ثم يكر عليه
3
البدن فيؤثر فيه، ويحيله إذا كان قد استرخت قوته فى موافقة من المغتذى، مثل
4
الثوم؛ فإنه يغذو النامى ويسخنه معا. والمربى بالفعل شبيه بالفعل، والمربى الذى هو
5
بعد غذاء لم يستحل شبيه بالقوة. وربما كان ضدًا أو متوسطًا، وربما لم يكن ضدًا؛
6
فإن الحنطة ليست ضدًا للدم، وإنما هى غذاء من طريق ما هى حنطة، لا من طريق
7
ما هى حار وبارد فقط.
8
فليكن هذا كافيًا فيما يجب أن نقول فى أمر المربى والمنمى وهو الغذاء من حيث له
9
مقدار يزيد فيما يغذوه. فحرى بنا الآن أن ننتقل إلى إيضاح القول فى الأسطقسات وعددها.
147
1
الفصل التاسع
2
فصل فى
3
إبانة عدد الأسطقسات
4
وقد سبق منا القول إنه لا يصح أن يكون الأسطقس واحدًا، وكيف يكون ذلك.
5
وقد علمت أنه لا يصح أن يكون ما هو فى جوهره نار ماء، أو ماء نارا، أو أرض هواء،
6
أو هواء أرضا. وكيف يكون ذلك، وههنا فعل وانفعال بقوى متضادة لا تنبعث عن
7
صورة متفقة؛ بل إنما تنبعث عن صورة مختلفة. والصورة المختلفة تستحق تنويعات
8
مختلفة، ولا فضل لصورة على أخرى، حتى يجعل تركيبها مع العنصر اسطقسا بالتخصيص
9
دون غيره.
10
وإذ هذا من المتضح الذى لا شك فيه فمتضح، لاشك فيه، أن الأسطقس ليس بواحد.
11
فهو إذن كثير. ومعلوم أنه ليس بكثير غير متناه. فبقى أن تكون الأسطقسات
12
كثيرة متناهية.
13
وينبغى أن تكون ذات صور يصدر عنها، فيما بينها، فعل وانفعال، حتى تكون
14
أسطقسات تتكون منها المركبات بالامتزاج، وإن تكون الكيفيات الصادرة عن صورها
15
أقدم الكيفيات المتفاعلة، ولأنها أسطقسات لهذه الأجسام المحسوسة ليست أسطقسات
148
1
للأجسام الموهومة، فيجب أن تكون الكيفيات التى تخصها كيفيات محسوسة.
2
ومن شأن الحاس أن يشعر بفعلها فيه.
3
والكيفيات المحسوسة متصنفة بحسب تصنيف الحواس، لكن الكيفيات التى
4
تخص حس البصر كالألوان، أو حس السمع كالأصوات، أو حس الشم كالروايح،
5
أو حس الذوق كالطعوم، ليست من الكيفيات الأولى فى هذه الأجسام العنصرية،
6
ولا من المشترك فيها. فإن المركبات أنفسها قد توجد خالية عن أطرافها ووسايطها[*]ووسايطها Middle Arabic for ووسائطها.
7
وإنما تحدث فى المركبات، بعد تفاعل يقع منها فى كيفيات قبلها. وهذا يدل عليه
8
الاستقراء الصناعى.
9
وأما الكيفيات الملموسة فلا يخلو عنها وعن وسايطها [*]وسايطها Middle Arabic for وسائطها جسم من الأجسام المستقيمة
10
الحركة. ولا جسم منها إلا وطرف من أطراف مضادتها موجود فيه، أو ضده، أو هو
11
قابل له لضده. فينبغى أن تكون الفصول الأولى للأجسام الأولى منها محصلة بهذه
12
الكيفيات، دون الطعوم والروائح والألوان.
13
وأما الكيفيات الأخرى المتقدمة لساير [*]لساير Middle Arabic for لسائر الكيفيات مما لا يحس إحساسًا أوليًا باللمس
14
مثل الشكل، ومثل الخفة والثقل، وأشياء سنعدها، فإنها لا تفيد الفصول التى نحن
15
فى طلبها.
16
أما الشكل فلأن الطبيعى فيه متشابه البسايط [*]البسايط Middle Arabic for البسائط، فلا ينفصل به؛ ولو كان مختلفًا أيضًا
17
لما صلح أن يقع به فعل أو انفعال. والقسرى أبعد من ذلك.
18
وأما الخفة والثقل فبالحرى أن تفيد الفصول للأجسام الأسطقسية. لكنه لا يفيد
149
1
ولا واحد منهما الفصل الذى هو به أسطقس .فإن الفصل الذى به الأسطقس أسطقس
2
هو الذى به يفعل وينفعل الفعل والانفعال الذى به يتم المزاج، وذانك فى الكيف،
3
لأن الأسطقس إنما هو أسطقس للممتزج، ولا فعل ولا انفعال، فى باب الكيف،
4
يصدر عن الخفة والثقل. وإنما توجب الخفة والثقل بالذات انفعالا فى الحركة المكانية.
5
ويجب ههنا أن نتذكر ماسلف من قولنا إن الماء مثلا، ليس كونه ماء هو كونه
6
أسطقسا، وليس كونه أسطقسا هو كونه جزءا من العالم، وله قياس إلى تقويمه العالم
7
وله قياس إلى تقويمه المركب. ومن حيث هو ماء يجب أن يكون فى طباعه أن يرجحن، وأن
8
يكون باردا رطبا إذا لم يعق، ومن حيث هو جزء من العالم فالأنفع له الثقل المحصل له فى حيزه
9
الطبيعى، وهو الأعون له على استكمال معنى كونه جزءا من العالم. ومن حيث هو جزء من المركب
10
وأسطقس فلا يعين فيه الثقل الذى له، ولا الخفة التى له، اللذان بهما تصير، إلى موضعه،
11
كل المعونة؛ بل كأنهما يناقضان مناقضة ما للمنفعة المطلوبة فى الأسطقس من حيث هو
12
أسطقس عند كونه أسطقسا إنما يكون الأولى به مفارقته لمكانه الطبيعى، ومصيره إلى
13
مشابكة أضداده؛ بل إنما يكون الأنفع له والأعوان إن كان ماء، أن يكون باردا رطبا يفعل
14
بهما وينفعل، حتى يستفيد المزاج. وإن كان نارا فضد ذلك، وهو أن يكون حارا يابسا.
15
وأما ثقل ذاك وخفة هذا فقليلا النفع أو مضادا النفع فيما يحتاج إليه فى المزاج؛ لأنهما يدعوان
16
إلى التباين والتأنى، لا إلى الاجتماع والتلازم، ولا لهما فى الاجتماع تأثير فى المجتمع سار فيه.
150
1
وكذلك إن كانت من الكيفيات كيفيات، مثل الثقل والخفة، لا تقع فى الفعل
2
والانفعال، فلا تكون داخلة فى الفصول التى بها تصير الأجسام البسيطة أسطقسات
3
من حيث تصير أسطقسات.
4
ثم إن الكيفيات المنسوبة الى اللمس مختلفة المراتب. فليس كلها فى درجة واحدة؛
5
بل بعضها أقدم من بعض. ويشتمل على جملتها هذا التعديد؛ وذلك أن الكيفيات
6
الملموسة هى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، واللطافة والغلظ، واللزوجة والهشاشة
7
والجفاف والبلة، والصلابة واللين، والخشونة والملاسة.
8
واللطف يقع على معنيين: أحدهما رقة القوام، والآخر قبول القسمة إلى أجزاء صغيرة
9
جدا. والغلط يقابلهما ويشبه أن يكون التخلخل مشابها للّطيف بالمعنى الأول، إلا أن
10
التخلخل يستدعى معنى زائدًا على الرقة، وإن كان تابعًا لها، حتى تكون الرقة تدل عليه
11
دلالة الملزوم.
12
والتخلخل يدل عليه دلالة المتضمن. وذلك لأن التخلخل هو اسم واقع على معنيين.
13
أحدهما: أن تكون المادة انبسطت فى الكم مترققة .فيتضمن هذا المعنى مع الرقة
14
إزدياد حجم، وتكون فيه إضافة إلى شىء آخر، أو غير يكون أصغر حجما.
15
وأما الآخر فكالماء للهواء. أما الغير فكالماء الواحد لنفسه، إذا كان أشد
16
تكاثفا فصار أشد تخلخلا، ولو لم تكن هذه الإضافة لكان الأولى بالمعنى اسم
17
اللطافة والرقة.
18
ويقال نخلخل لتباعد أجزاء الجسم بعضها عن بعض على فرج يشغلها ما هو ألطف
19
من الجسم، وتكون جملة الاتصال بينها لم تفقد؛ بل بين أجزائها تعلق ثابت،
151
1
فلا يتبرأ بعضها من بعض تبرؤا تاما. وهذا غير مشتغل به فى هذا الغرض.
2
لكن اللطيف، والمتخلخل على أول الوجهين، وفيه الكلام،غير نافع فى الفعل
3
والانفعال إلا بالعرض، وهما جاريان مجرى الخفة والثقل؛ ويكادان يلازمانهما، حتى أن
4
كل ما هو أثقل فهو أغلظ وأشد تكاثفا.
5
وأما اللزوجة فإنها كيفية مزاجية لا بسيطة. وذلك أن اللزج هو ما يسهل تشكله،
6
بأى شكل أزيد [sic] ، ويعسر تفريقه، بل يمتد متصلا. فهو مؤلف من رطب ويابس شديدى
7
الالتحام والامتزاج. فإذ عانه من الرطب، واستمساكه من اليابس، وإنك إن
8
أخذت ترابا وماء، وجهدت فى جمعها بالدق والتخمير، حتى اشتد امتزاجهما، حدث
9
لك جسم لزج.
10
والهش، الذى يخالفه، هو الذى يصعب تشكله. ويسهل تفريقه. وذلك لغلبة
11
اليابس فيه، وقلة الرطب، مع ضعف المزاج.
12
وأما البلة فمعلوم أن سببها رطوبة جسم رطب يمازج غيره. فإن ههنا رطب الجوهر
13
ومبتلا ومنتقعا.
14
فرطب الجوهر هو الجسم الذى كيفية الرطوبة تقارن مادته، ويكون كونها له كونا
15
أوليا، مثل الماء.
16
وأما المبتل فهو الذى إنما يرطب برطوبة جسم غيره. وتلك الرطوبة لذلك الجسم
17
أولية. لكن ذلك الجسم قد قارنه، فقيل إنه مبتل، فيصلح أن يخص باسم المبتل
152
1
ما كان هذا الاسم على ظاهره و يصلح أن يقال على التعميم، حتى يكون المبتل
2
هو كل جسم مترطب رطوبة غريبة.
3
لكن المنتفع لا يكون منتقعا إلا بأن يكون الرطب الغريب جرى فيه، ونفذ إلى باطنه.
4
فالمنتقع من الوجه الأول كالنوع من المبتل، ومن الوجه الثانى هو مباين له، غير
5
داخل فيه.
6
وقد يكون الجسم اليابس رطبا أو منتقعا، ولا سواء رطوبة الغصن النضير،
7
ورطوبة الذاوى اليابس النقيع. فان جوهر هذا يابس، وقد نفذ فيه رطب غريب،
8
وذلك جوهره رطب من نفسه، فالجاف بازاء المبتل، كما أن اليابس بإزاء الرطب.
9
والصلابة واللين أيضاًَ من الكيفيات المزاجية. وذلك أن اللين هو الذى يقبل
10
الغمز إلى باطنه، ويكون له قوام غير سيال ينتقل عن وضعه، ولا يقبل امتداد اللزج
11
ولا يكون له سرعة تفرقه وتشكله. فيكون قبوله الغمز من الرطوبة، وتماسكه
12
من اليبوسة.
13
وأما الملاسة فمنها ما هو طبيعى؛ ومنها ماهو مكتسب. والطبيعى لازم لكل جسم
14
بسيط، لوجوب إحاطة سطح واحد به تمييز مختلفة الأجزاء فى النتوء، والانخفاض،
15
وبالجملة غير مختلفة الوضع، فلا تختلف به الأجسام البسيطة.
16
لكن الملاسة قد تعتبر فى طبيعة الأجسام من جهة أخرى. وذلك أن من الأجسام
17
ما يسهل تفريقه على الملاسة حتى يكون تمليسه سهلا على أى تفريق كان. فتكون
18
الفصول التى تقع فيه إما أملس وإما سهل الحركة إلى الملاسة، وهذا يتبع رطوبة
19
جوهر الشىء.
153
1
والخشونة، فى الجملة، تقابل ذلك. فالملاسة والخشونة بالجملة، لا يدخلان
2
فى الفعل والانفعال.
3
وبعد ذلك، فالطبيعى لا تختلف به الأجسام، والمواتى[*]والمواتى Middle Arabic for والمؤاتى والعاصى يتبع الرطوبة واليبوسة
4
التى فيه. فيرجع أكثر هذه الأشياء إلى الرطوبة واليبوسة، لكن الرطوبة قد تقال
5
للبلّة، وقد تقال للكيفية، وكلامنا فى رطوبة الكيفية.
6
ويتبع بعض الأجسام الرطبة الجوهر أمر، وهو الملاصقة والملازمة لما يمسه من جنسه
7
كما للماء، حتى أن الجمهور يظنون أن الرطوبة حقيقتها هذا. لكنهم يشاهدون أن الجسم
8
كلما كان أَرق كان أقل التصاقا واستمساكا بما يلامسه، وكلما كان أغلظ كان أشد
9
وأكثر ملازمة.
10
والماء اللطيف الجيد إذا غمر فيه الإصبع كان مايلزم الأصبع[*]الأصبع corrupt for الإصبع منه أقل مما يلزم من الماء
11
الغليظ أو الدهن أو العسل. فإذن هذه الخاصية لا تلزم الجسم من جهة ما هو رطب
12
مطلقا، وإلا لكان ما هو أرطب وأرق من الرطوبات أشد لزوما والتصاقًا؛ بل هو لازم
13
للكثافة والغلظ إذا اقترن بالرطوبة؛ بل تبقى للرطوبة سهولة التحدد بغيرها والتشكل
14
بغيرها، مع سهولة الترك وضعف الإمساك، كما أن اليابس يلزمه الثبات على ما يؤتاه من
15
الشكل، مع معاوقة فى قبوله.
16
فيجب أن يتحقق أن الرطوبة هى الكيفية التى بها يكون الجسم قابلا النحو الأول
17
من القبول، واليبوسة هى التى بها يكون الجسم قابلا النحو الثانى من القبول.
18
فلا يستبعد أن يكون الهواء رطبا، وإن كان لا يلتصق؛ إذ الالتصاق ليس لنفس
154
1
كون الشىء رطبا؛ بل للغلظ. والهواء إذا غلظ، فصار ماء، صار أيضًا على صفة الملازمة
2
والالتصاق.
3
فالكيفيات الملموسة الأولى هى هذه الأربعة:
4
اثنتان منها فاعلتان، وهما الحرارة والبرودة، ولكونهما فاعلتين ماتحدان
5
بالفعل، بأن يقال إن الحرارة هى التى تفرق بين المختلفات، وتجمع بين المتشكلات،
6
كما تفعله النار. والبرودة هى التى تجمع بين المتشاكلات وغير المتشاكلات كما يفعل الماء.
7
واثنتان منفعلتان وهما الرطوبة واليبوسة. ولكونهما منفعلتين ماتحدان بالانفعال
8
فقط. فيقال إن الرطوبة هى الكيفية التى بها يكون الجسم سهل الانحصار والتشكل
9
بشكل الحاوى الغريب، وسهل الترك له. واليبوسة هى الكيفية التى بها يعسر انحصار
10
الجسم وتشكله من غيره، وبها يعسر تركه لذلك. ولذلك فإن الجسمين الرطبين يسهل
11
اتصالهما مع التماس، ويصعب، أو لا يمكن، تفريقهما عن التماس المحفوظ إلى أن
12
يتفرقا بل عن الاتصال بسهولة جدا. واليابس بالخلاف من ذلك.
13
فلهذا ما تسمى تانك فاعلتين وهاتان منفعلتين، وإن كان الحار والبارد كل واحد
14
منهما يفعل فى الآخر. كما ينفعل منه. وكذلك كل واحد من الرطب واليابس يفعل
15
فى الآخر، وينفعل منه. لكنه إذا قيس الحار والبارد إلى الرطب واليابس وجد
16
الرطب واليابس لا يؤثران فيهما، ووجدا يؤثران فى الرطب واليابس، مما نعلمه بعد
17
من حال الحل والعقد وغير ذلك.
155
1
فهذه الأربعة هى الأوايل. ويتركب منها أربع مزاوجات صحيحة. فيكون من الأجرام
2
البسيطة جرم تتبع طبيعة كيفية الحر واليبوسة، وآخر تتبع طبيعة الحر والرطوبة؛
3
وآخر تتبع طبيعة كيفية البرد والرطوبة؛ وآخر تتبع طبيعة البرد واليبوسة. فتكون
4
هذه الأسطقسات.
5
والأرض هى الجسم الظاهر من أمره أنه بسيط يابس. وبمخالطته يكون كل جسم
6
يابسا. والماء ظاهر من أمره أنه بارد رطب، وبمخالطته، يكون غيره باردا رطبا.
7
والهواء ظاهر من أمره أنه بسيط رطب.
8
والنار ظاهر من أمرها أنها بسيطة حارة.
9
لكن الأرض فى طبيعتها البرد أيضًا، وذلك أنها إذا تركت وطباعها، وأزيل عنها
10
تسخين الشمس، أو سبب آخر، وجدت باردة اللمس. وإنما تسخين بسبب غريب.
11
وكيف لا، والثقل لا يوافق الحرارة؟ وجميع الأجسام الغالب فيها الأرضية تبرد
12
الأبدان.
13
والهواء إذا ترك وطباعه، ولم يبرد بسبب مخالفة أبخرة تزول عنها الحرارة المصعدة،
14
وتعود إلى طبيعية الماء، كان حارا. وكيف لا يكون كذلك والماء إذا أريد أن يحال هواء
15
سخن فضل تسخين؟ فإذا استحكم فيه التسخين كان هواء.
16
وأما النار فإنها ليست سهلة القبول للأشكال؛ بل هى منحصرة بذاتها. فهى
17
يابسة. لكن إثبات حرّ الهواء ويبس النار، وخصوصًا يبس النار، وإيضاح القول فيه
18
يصعب. وسنأتى فيه بالممكن.
156
1
وقد قيل إن اللهيب والغليان لما كان كل واحد منها إفراط حرارة، وكان الجمود
2
إفراط برد، وكان الجمود خاصة البارد والرطب؛ فكذلك اللهيب والغليان خاصة الحار
3
اليابس. وهذا قول لست أفهمه حق الفهم، وعسى أن يكون غيرى يحققه ويفهمه.
4
وذلك لأن الغليان فليس إفراط حر؛ بل إن كان ولا بد فهو حركة تعرض للرطب عن
5
الحر المفرط. ولا اللهيب إفراط الحر؛ بل إضاءة تعرض عن إفراط الحر فى الدخان فإن
6
سمى اشتداد الحر لهيبًا فيه. والجمود ليس إفراط برد؛ بل أثر يعرض من
7
إفراط البرد لا فى كل جسم؛ بل فى الرطب. ولا الجمود ضد الغليان لأن الغليان حركة
8
إلى فوق. وتضادها الحركة إلى أسفل إذا كانت تضعه. فأما الجمود فليس هو حركة.
9
فلعل الواجب أن يجعل الجمود اجتماع المادة الى حجم صغير مع عصيان على الحاصر
10
المشكل، والغليان انبساطها إلى حجم كبير مع ترقق وطاعة المشكل. فإن كان
11
كذلك كان الخلاف بينهما ما بين التكاثف والتخلخل.
12
ولم يستمر ما يقولونه. ثم ليس مما يجب ضرورة أن يكون الضد يعرض للضد؛
13
فإن الأضداد قد تشترك فى أمور منها الموضوع.
14
وقد علمت فى كتب المنطق أن مثل هذا الكلام كلام مقنع لا محقق، وجدلى
15
لا برهانى. ويشبه أن يكون لما تشككت به على هذا القول جواب، لكنى لم أحصله
16
بعد، ولم أفهمه. فالأولى أن نشتغل بتبيين يبس النار، ونجعل الطريق إليه إبانة أنها
17
لا تقبل الحصر والتحديد. ويكون بيانا أنها لا تقبل الحصر والتحديد، لا من جهة
18
المحسوس؛ وذلك لأن النار المحسوسة غير صرفة. ومع ذلك، فإنه يعرض للأجسام فى
157
1
غير مواضعها الطبيعية أن تحفظ أشكالها المواتية [*]المواتية Middle Arabic for المؤاتية للحركة، كالماءِ المصبوب فى انصبابه؛
2
بل نجعل بياننا ذلك بضرب من القياس، وهو أن النار لا يشك فى أنها حارة. فلا يخلو
3
إما أن تكون حارة رطبة أو حارة يابسة لا تسهل طاعة طباعها للحصر من غيرها.
4
فإن كانت حارة رطبة فهى من جوهر الهواء، وإذا كانت من جوهر الهواء لزم
5
أن يكون مكانها مكان الهواء، فيلزم أن لا تكون النار هاربة عن حيز الهواء إلى حيز
6
آخر، فهى إذن حارة يابسة.
7
وقد يقول على هذا قائل إن الهواء نفسه، إذا سخن، ارتفع عن حيّز هذا الهواء
8
المعتدل الحر، والبخار أيضًا يرتفع، ويطلب مكانا فوق مكان الهواء، وهو بعد أشبه
9
بالماء من الهواء بالماء، وإنما يصعده الحر المفرط، فالحر المفرط هو سبب أن تكون
10
النار هاربة عن حيّز هذا الهواء، الذى ليس حرّه بمفرط، وإن كان من طبيعته
11
كالماء، الذى هو دونه فى المكان، إذا سخن فإنه يهرب عن موضع الماء والهواء جميعا
12
هربا إلى فوق، كالهواء نفسه إذا سخن، فما كان من الهواء اسخن من سائر الهواء
13
فهو هارب عن حيزه المعتدل بسخونته.
14
فنقول مجيبين: إن الحيز المطلوب إن كان من طبيعة الحيز المهروب عنه لا يخالفه
15
فطلب ذلك والهرب عن هذا محال.
16
وإن كان ليس من طبيعته، فهو، لا محالة، حيز لغير الهواء. وليس يمكن
17
أن يكون حيزا إلا لمفرط الحرارة إذا كان هذا المتصعد إنما يتصعد لأنه مفرط الحرارة.
18
فيكون حيز ما هو مفرط الحرارة حيزا غير حيز الهواء. ولاشك أن ذلك هو حيز
158
1
النار، فتكون النار غير الهواء فى الطبع، والهواء المتسخن هو يطلب غير حيز الهواء،
2
كما أن الماء المتسخن يطلب غير حيز الماء. ولكن ذلك الحيز حيز لجرم آخر لا محالة،
3
بالغ فيه الكيفية المصعدة للهواء وللماء عن حيزهما، وليس يطلب شىء منها
4
حيز نفسه. وفى طلبهما حيزًا آخر إثبات حيز آخر لجسم آخر، وهو النار. ولا يجوز
5
أن يكون الحيز واحدا إلا أن الأسخن يطلب منه ما هو أرفع؛ وذلك لأن الأرفع إما أن
6
يتحدد بحد جسم شامل، أو حد جسم مشمول؛ إذ لا وجه لإثبات الخلاء،
7
ولا لاثبات الأبعاد.
8
فإن كان ذلك الأرفع والأدون يتحدد بتحديد جسم شامل متعين، أو مشمول
9
متعين ليس هو حد جسم شامل للأدنى، أو مشمول فى الأدنى، فالأرفع والأدنى
10
مكانان مختلفان، فلهما جسمان، بالطبع، مختلفان. وإن كان يتحدد بشامل واحد
11
فى الطباع فلا مكان أرفع رأدون؛ بل المكان ذلك أو أجزاؤه إن أخذت على وجه
12
التوسع، وأجزاؤه متفقة فى القرب والبعد، والعلو السفل.
13
فبين من هذا أن النار حارة يابسة. لكن سلطان النار الحرارة وسلطان الهواء
14
الرطوبة، وسلطان الماء البرودة، وسلطان الأرض اليبوسة. وبالحرى أن يكون الماء
15
والأرض بالقياس إلى الهواء يابسين .فإن اليرد [*]اليرد corrupt for البرد يقتضى الجمود والتكاثف ولولا الحرارة
16
الخارجة لكن الماء جامدا". لكنه بالقياس إلى الأرض رطب. فإنه إما سيال بذاته،
17
وإما شديد الاستعداد للسيلان، من أدنى سبب خارج، والبرد الذى يجمد به الماء
159
1
إن أردت الحق وترك العادات فليس إلا بردًا مستفادًا فى الهواء من الماء والأرض.
2
فإذا صار الهواء بحيث لا يسيل الماء استولت طبيعية الماء والأرض على الماء،
3
وعاونهما الهواء، إما بالتبريد وإما بإزالة التسخين، فجمد من الماء ظاهره أولا لاحتقان
4
الحار فى باطنه، ثم لا يزال يجمد حتى يستولى الجمود على جميعه لطبيعة البرد الذى أولى
5
العناصر به الماء، وأولى الآثار به الإجماد.
6
وطبيعة الماء والأرض هما اللذان يحدثان بردًا فى الهواء، يعود ذلك البرد معينا
7
لطبيعة الماء على إحداث كيفية البرد فى نفس الماء على قدرٍ يتأدى إلى الإجماد.
8
والنار والهواء، بالقياس إلى الجامدات، متخلخلان رطبان، لكن النار،
9
بالقياس إلى الهواء، يابسة؛ لأنها ابعد عن قبول التشكيل والاتصال مع المماسة من الهواء.
10
فهذا هو الحق الذى يجب أن يعتقد.
11
وقد يمتعض لسماع هذا الفصل الأخير قوم لا نشغل قلوبنا بهم. ويزيدهم امتعاضًا
12
ما نريد أن نذكره من تحقيق ذلك فيما يستقبلنا من الكلام. ثم ههنا شكوك.
160
1
الفصل العاشر
2
فصل قى
3
فى ذكر شكوك تلزم ما قيل
4
بالحرى أن تبع هذا الفصل بذكر شكوك لم نتعرض لها، ثم نعقبها بالكلام الفصل [*]الفصل corrupt for للفصل [according to Van Riet 1987, 104 fn.].
5
من ذلك أمر حدود الكيفيات الأربع ورسومها.
6
فإن الحرارة ليست إنما تفرق المختلفات؛ بل قد تفرق المتشاكلة، كما تفعل بالماء.
7
فإنها تفرقه تصعيدًا. وأيضًا فإن النار قد تجمع المختلفة. فإنها تزيد بياض البيض وصفرتها
8
تلازمًا، ثم بالحقيقية. ولا أحد الفعلين لها فعل أول وذلك لأن فعلها الأول تسييل الجامد
9
من الرطوبات بالبرد وتحليله، ثم تصعيده وتبخيره.
10
فإن كانت المجتمعات مختلفة فى قبول التحليل والتبخر، بأن كان بعضها أسرع فيه،
11
وبعضها أبطأ، أو كان بعضها قابلا، وبعضها غير قابل، عرض عن ذلك أن بادر
12
الأسرع دون الأبطأ، والقابل دون غير القابل إلى التصعد والتبخر، فيعرض
13
منه الافتراق.
14
ولو كانت هذه الأشياء متشاكلة فى الاستعداد لهذا المعنى لم يمكن النار أن تفرق
161
1
بينها. وأيضًا فإن الحار يفعل فى البارد والبارد فى الحار، ولا يفعل الحار فى الحار
2
ولا البارد فى البارد. وكذلك الرطب فى اليابس، واليابس فى الرطب،ولا يفعل
3
الرطب فى الرطب، ولا اليابس فى اليابس. وإذا كان الحار والبارد يفعل كل منهما
4
فى الآخر، وكل واحد منهما أيضا ينفعل عن الآخر، وكذلك الرطب واليابس، فليس
5
إحدى الطبيعتين أولى بأن تخص بالفعل من الأخرى، ولا أولى بأن تخص بالانفعال
6
من الأخرى.
7
ومن ذلك الشك فى أمر النار ويبسها، والهواء وحره، والأرض وبردها.
8
فإن لقايل[*]لقايل Middle Arabic for لقائل أن يقول: إنه ليس يجب أن يكون جميع ما توجبه القسمة، ولا ينكره العقل
9
فى أول النظر، حاضرًا موجودًا. فعسى أن لا يمكن أن يكون شىء هو حار رطب، أو شىء
10
هو بارد يابس؛ ليس لأن العقل وحده يمنع عن اجتماع الحرارة والرطوبة، والبرودة
11
واليبوسة، منعه عن اجتماع الحار والبارد، والرطب واليابس، ولكن الأمر ليس يعقل
12
بديهة. فإن ههنا أمور لا تمنع الازدواجات عن وجودها، ولا بديهة العقل، ويمنع الحق
13
وجودها. فإنه ليس يمتنع، فى أول العقل، أن يكون حار، بالطبع، فى غاية الثقل،
14
وليس هذا بموجود البتة.
15
ولو كانت القسمة تعتبر ويلتفت إليها لكان يجوز أن نقول: إن من العناصر ما هو
16
حار يابس خفيف، ومنها ما هو حار يابس ثقيل، ومنها ما هو حار رطب خفيف، ومنها
17
حار رطب ثقيل،وكنا نحكم أن كل ما لا تمنع القسمة الجمع بينه، كما بين الحرارة والثقل
18
فى أول العقل، فإن المستحصل منه بالقسمة موجود فى الأعيان. فكما أن الثقل لا يخالط
162
1
الحرارة مع كونه غير مضاد للحرارة، ولا مقابل، ولا محكوم عليه ببديهة العقل أنه
2
مناف؛ فكذلك يجوز أن تكون الرطوبة واليبوسة لا تخالط الحرارة، ولا تخالط
3
البرودة، فيكون، حينئذ، للوجود أنقص من المقسوم.
4
ومع هذا،فلم يستوف أصحاب هذه القسمة قسمتهم؛ بل بخسوا القسمة حقها، وذلك
5
لأنه لا يخلو إما أن تكون الحرارة والبرودة واليبوسة الأسطقسية لا تكون
6
إلا خالصة صرفة، أوقد تكون منكسرة.
7
فإن كانت لا تكون إلا خالصة صرفة وجب أن تكون حرارة أسطقس أقل من
8
حرارة أسطقس آخر. فإن الذى هو أقل حرارة ليست حرارته خالصة بالقياس إلى حرارة
9
ما هو أشد حرارة؛ بل الأقل حرارة يكون، بالقياس إلى الخالص الحرارة، فاترًا أو باردًا،
10
وإن كان قد تكون فى الكيفيات الأول كيفية غير خالصة، ويكون منها ما هو دون النهاية.
11
وقد حصل ههنا قسم قد ضيّع، وذلك أن أصول اللمزاوجات [*]اللمزاوجات corrupt for المزاوجات حينئذ لا تكون أربعة؛
12
بل تكون أكثر من ذلك. فيكون حار وبارد ومتوسط أو منكسر، ورطب ويابس
13
ومتوسط أو منكسر. فينبغى أن تتحدد المزاوجات من هناك. فتكون حينئذ الازدواجات
14
أكثر من العدد المذكور. ثم يكون الهواء، مثلا، رطبا معتدلا فى الحر والبرد؛ والنار
15
حارة معتدلة فى الرطوبة واليبوسة، والأرض يابسة معتدلة فى الحر والبرد. وعلى
16
أن يكون ههنا عناصر أخرى منها ما هو بارد ومعتدل فى الرطوبة واليبوسة، ويكون
17
حار رطب غير الهواء، وكأنه البخار أو شىء آخر؛ ويابس غير الأرض، وكأنه الجمد
18
أو شىء آخر؛ وحار شديد اليبوسة، وكأنه الدخان أو شىء آخر.
163
1
ثم من الواجب أن ننظر فى أمر النار التى يدعى أنها تحت الفلك، وأنها فى هيئة
2
الجو، ولكنها شديدة الحر، حتى أنها تحرق ما يصل إليها، هل تلك الحرارة لها من
3
جوهرها، أم تعرض لها بسبب تحريك الفلك؟
4
فإن كانت بسبب تحريك الفلك، فما جوهر ذلك الجسم فى نفسه الذى عرض
5
له ما عرض؟ فإن كان جوهره هواء لكنه سخن، فيشبه أن تكون نسبة النار إلى
6
الهواء هى بعينها نسبة الجمد إلى الماء، فلا يكون مفارقا له بالفصل؛ بل تكون مفارقته
7
له بعرض من الأعراض.
8
وإن كان الحق ما يدعى قوم من أنها فاترة لا تحرق، فبماذا تفارق الجو؟ وأما النار التى
9
عندنا فهى بالاتفاق غير تلك النار.
10
فإن كانت هذه التى عندنا تلك، وقد عرض لها اشتداد فى الحر للحركة،
11
وإضاءة للاشتعال فى الدخان، فبماذا تخالف الهواء، حتى تنسل عنه، وتطفو عليه حارة
12
فى الحركة المسخنة، فيسخن لذلك؟
13
وإن كان معنى النار فى هذه غير معنى النار هناك فهذا إما أسطقس وإما مركب.
14
فإن كان أسطقسا فقد زاد عدد الأسطقسات. وإن كان مركبا فلم صار المركب فى كيفيته
15
أقوى من البسيط؟ ولم صار الحر يصعّد ما مكانه الطبيعى هو السفل، كما يصعد الماء
16
والدخان وفيها طبيعة مهبطة، لكنها تغلب بهذه الكيفية؟
17
ثم البرد لا يفعل ضد ذلك فى إهباط النار.
164
1
وهل يجوز من هذا أن يقال: ليست النار إلا هواء سخن جدا، فهو يرتفع عما
2
هو أبرد منه كالبخار؛ فإنه ماء سخن جدا، فهو يرتفع عما أبرد منه، وليس العنصر
3
إلا الهواء والماء والأرض؟ فالمسخن من الهواء نار، والمسخن من الماء بخار، والمسخن
4
من الأرض دخان. وكل مسخن فإنه يصعد إلى فوق، لكن مسخن الماء شىء هو
5
فى طبيعته قوى البرد، سريع إليه التبرد، فيقصر عن مسخن الأرض الذى هو أقل تبردا،
6
فى الطبع، وإبطاء. وكلاهما يقصر عن مسخن الهواء، الذى هو إما معتدل وإما إلى الحر.
7
فمسخن الهواء يسبق ذنيك إلى الحيز الذى ليس فيه إلا الهواء المسخن جدا بالحركة،
8
حتى هو نار.
9
هذا، وأيضًا لم لا نقول إن الأجسام التى تحت الفلك كلها جسم واحد من مادة وصورة
10
توجب الكون تحت الفلك، ثم تعرض لها بعد ذلك هذه الكيفيات؟ فما يلى الفلك،
11
ويكون حيث الحركة، يلطف ويسخن بسبب من خارج، لا من جوهره، وما يبعد،
12
ويكون حيث السكون يبرد، ويثقل بضد ذلك السبب. فيعرض من ذلك أن يختلف
13
ذلك الواحد اختلافا بكيفيات تعرض له من خارج، لا من طبيعته وصورته .فإن طبيعته
14
وصورته هى التى صار بها جسما طبيعيا متحيزًا فى ضمن الفلك؛ لأنه لا يقتضى طبعا غير
15
ذلك الوضع.
16
ومما يحق أن نورد شكا، على ما قيل فى إثبات هذه الأربع، أن الخلوص إلى إثبات
17
الكيفيات الأربع المذكورة، حتى ظن بسببها أن المزواجات [*]المزواجات corrupt for المزاوجات أربع، وأن العناصر لذلك
18
أربعة ــ إنما كان بسبب الرجوع إلى الحس وتقديم اللمس على غيره، ورجوع الكيفيات
165
1
الملموسة الى هذه الأربع. فيجب أن يكون المعنى الذى نسميه رطوبة هو المعنى الملموس،
2
لا معنى آخر يشاركه فى هذا الاسم. ثم المعنى الذى يشترك فيه الماء والهواء، الذى يسمى
3
رطوبة، ليس هو الرطوبة الملموسة. وذلك لأن هذا المعنى، الذى يسمونه الرطوبة،
4
ليس وجوده فى الهواء وجود الحرارة والبرودة المحسوستين، فى أن هاتين قد يجوز أن
5
يستحيل الهواء من كل واحدة منهما إلى أخرى، ويكون الهواء هواء. فإن الهواء،
6
إذا سخن، أو برد، لم يجب بذلك أن يكون قد استحال بجوهره وأما الهواء، إذا بلغ
7
من تكاثفه إلى أن ييبس، أو من تخلخله حتى يصير نارا عندكم، لم يكن حينئذ هواء.
8
فالهواء الحاصر، الذى نسميه هواء، لا يباينه المعنى الذى نسميه رطوبة الذى يشارك فيه
9
الماء عندكم.
10
فإذا كانت الحال كذلك وجب أن يكون الهواء دائما بحيث تلمس رطوبته،
11
وإن كان لا يجب دائما أن تلمس حرارته أو برودته؛ أإذ تانك تزايلانه، وهذا يلازمه.
12
ولو كانت هذه الرطوبة ملموسة لكان يجب، إذا كان هواء معتدل، لا حار ولا بارد،
13
وكان ساكنا لا حركة فيه، أن يكون اللامس تلمس رطوبته؛ إذ الرطوبة لا تفارقه،
14
كما يلمس ما تسميه العامة رطوبة من الماء.
15
ولو كان الهواء دائما بحيث تلمس رطوبته لكان الهواء دائما محسوسا، ولو كان
16
الهواء دائما محسوسا لكان الجمهور لا يشكون فى وجوده، ولا يظنون هذا الفضاء الذى
17
بين الأرض والسماء، خاليا إذا لم يوجد فيه ريح أو غيم، وما ينسب إليه حر وبرد. كما إذا
18
برد أو سخن أحسوا به على أنه مؤثر فى البدن بردًا أو حرًا، أو أن هناك بردًا أو حرا.
166
1
فبين أن سبيل هذه الرطوبة، فى أنها ملموسة، خلاف سبيل الحرارة والبرودة
2
فى أنها ملموسة .فإذا كان كذلك لم يكن البناء على أمر صحيح.
3
ثم ما معنى قول القائل إن الرطوبة سريعة كذا، أو عسرة كذا وكذا، وإن
4
اليبوسة بالضد فى الأمرين؟ فإن السريع والعسير وما يقابلهما إنما هو بالقياس إلى غيره،
5
وليس له حد محدود. فيجب أيضًا أن لا يكون الشىء مطلقا رطبا أو يابسا؛ بل بالقياس إلى
6
غيره. على أن صناعة المنطق منعت أن توجد فى حدود الأمور غير المضافة معان
7
مضافة على أنها أجزاء لحدها.
8
فهذه، وما أشبهها، شبه من حقها أن تحل، أو يشعر بها، حتى يكون القضاء على
9
الأمر بحسب مراعاة جانبها.
10
فلنتشغل [*]فلنتشغل probably corrupt for فلنشتغل الآن بما يجب أن نعتمده.
167
1
الفصل الحادى عشر
2
فصل فى
3
حل شطر من هذه الشكوى
4
نقول إن تحديدنا الأمور التى هى محسوسة بالحقيقة تحديد بحدود ناقصة. وأعنى
5
بالمحسوس بالحقيقة ما ليس إحساسه بواسطة محسوس، أو بالعرض. فإن تكلفنا لها
6
حدودًا، أو شروح أسماء، فربما حددناها أو رسمناها بإضافات أو اعتبارات لا يدل شىء منها،
7
بالحقيقة، على ما هياتها؛ بل على أمور تلزمها.
8
ولذلك من البعيد أن يقدر على أن تُحدّ الصفرة والحمرة والخضرة، بل السواد
9
والبياض. لكنه إذا كان السواد والبياض طرفين رسما بسهولة لتأثيرهما فى الإبصار على
10
الاطلاق الذى يحتاج أن يقدر مثله من الأوساط، فيعسر. وذلك التأثير بالحقيقة أمر ليس
11
هو مقوما لماهية السواد والبياض؛ ولا مَن فهم ذلك فهم أن الشىء سواد وبياض،
12
اللهم إلا أن يكون قد أحس السواد وتخيله، ثم أحس هذا الفعل منه فجعله علامة له.
13
ولذلك يجب أن يعرف حال البرودة والحرارة بالحقيقة، وأن الحدود التى قيلت
14
حدود غير محققة، ولا محكمة؛ بل إنما تقال بقياسها إلى أفعال لهما فى أمور من المركبات
15
عندنا أو فى البسائط، وإلا فلا اقتدار على تحديدهما تحديدًا حقيقيًا.
168
1
وبالحرى أن تكون الحرارة، كما تجمع بعض المتجانسات، فقد تفرق بعض
2
المتجانسات، كما ترمد الحطب، وتفرقه. لكن يجب أن يفهم ما قالوه على ما أقوله:
3
إن الحرارة تفعل فى الأجسام البسيطة وتفعل فى الأجسام المركبة؛ والجسم الواحد
4
البسيط يجتمع، فيستحيل أن يقال إن النار تجمعه؛ لأن قولنا كذا يجمع كذا معناه أنه
5
يجمع ما ليس بمجتمع. والبسيط المذكور مجتمع الأجزاء متشاكلها. وأما أمر التفريق
6
فلا مدخل له فى اعتبار البسيط؛ وذلك لأن التفريق إنما قيل بالقياس إلى الأشياء المختلفة
7
فهذا الفصل المنسوب إلى الحار من جمع وتفريق إنما يقال بالقياس إلى جسم فيه
8
متشاكلات متفرقة، ومختلفات مجتمعة.
9
والجسم الذى جُعل فعل الحار بالقياس غليه هو المركب القابل لفعل النار. وهذا
10
المركب لا يجوز أن تكون أجزاؤه متشابهة الانفعال التحريكى عن الحار. فإن الجسم
11
المتشابه الانفعال عن تحريك قوة واحدة محركة، كالحار، هو بسيط من حيث الاستعداد
12
لذلك الانفعال. وكيف لا يكون بسيطا، ولو كان مركبا كانت أجزاؤه مختلفة فى استحقاق
13
الأماكن الطبيعية الخاصة بها. والحار إذا فرّق فإنما يفرّق بتحريك يحدث فى الأجزاء
14
المختلفة؛ ولا سواء قبول الخفيف والثقيل للتحريك إلى الجهات. فإذن يجب أن يكون
15
هذا المركب مختلف الاستعداد .فيكون أول ما يستحيل أجزاؤه؛ ويستحيل بالسخونة.
16
وكل جزء أسرع فيه التسخن كان أسرع إلى التصعد. فيعرض أن ينفصل بعض الأجزاء
17
إلى حيز العلو أسرع، وبعضها أبطأ، أو لا يقبل بعضها ما يتصعد به. فليس كل الأجسام
169
1
يقبل التصعيد والتبخير بالذات. نعم قد يتفق أن يكون مالا [*]مالا corrupt for ما لا يقبل التصعيد مخالطا لما
2
يتصعد مخالطة شديدة، فيسبق تصعيد الحار بما يخالطه تفريقه بينهما؛ ويكون المتصعد
3
أغلب، فيصعد ذلك الآخر تبعا له. وإذا فعلت الحرارة هذا الفعل عرض أن تفاصلت
4
المختلطات ضرورة، وصار كل حيز واحد يليق به، فيجتمع فيه. فإن كانت رطبة
5
الجواهر قابلة للاتصال بسهولة كان اجتماعها اتصالا؛ وإن كانت يابسة لا تتصل بسرعة
6
كان اجتماعها حصولها فى حيز واحد، وإن لم يكن اتصالا.
7
على أن النار فى قوتها أن تسيل أكثر الأجسام حتى الرماد والطلق والنورة والملح
8
والحديد تسييل إذابة، وخصوصًا إذا أعينت بما يزيدها اشتعالا كالكبريت والزرنيخ
9
والأملاح الحادة.
10
وأما ماظُن من أن النار تفرق الماء فليس كذلك. فإن النار لا تفرق الماء ماء؛
11
بل إذا أحالت جزءا منه هواء فرقت بينه وبين الماء الذى ليس من طبعه. ثم يلزم من
12
ذلك أن تختلط بذلك الهواء أجزاء مائية، فتصعد مع الهواء، ويكون مجموع ذلك بخارا.
13
على أَن من الناس من ظن أن البخار هو طبيعة أخرى غير الماء والهواء وغير
14
المختلط منهما. وأما ما يتعلق به من عقد البيض فليس عقدة جمعه؛ بل هو إحالة له فى
15
قوامه. ثم إن النار ستفرق ذلك عن قريب، يعرف ذلك أصحاب حل التقطير.
16
وأما الذهب فإنه ليس لا يفرقه النار إذا أذابته، لأنه متشابه الجوهر، ولا لأنه
17
متشابه الانفعال، ولا لأن النار من شأنها أن لا تفرق المركبات، ولكن لأن الامتزاج
170
1
فى جوهر الذهب والتلازم بين بسائطه شديدان جدا، فكلما مال شىء منه إلى التصعد
2
حبسه المائل إلى التحدر، فيحدث من ذلك حركة دوران وغليان، فتكون النار قد
3
أوجبت تأثيرًا مختلفًا. لكن هناك عائق آخر، والأمور التى تنسب إلى القوى
4
والكيفيات الطبيعية، وخصوصًا العنصرية، تنسب إليها بشرط ألا يكون عائق. فإن الخفة
5
إنما يقال لها إنها تصعد بشرط ألاَّ يكون عائق، والثقل كذلك إنما يقال له ينرل بشرط
6
أن لا يكون عائق ومانع. فكذلك المأخوذ فى حد النار من تفريق كذا، وجمع كذا.
7
وأما ما قيل فى حديث الفعل والانفعال فلعمرى إن الاعتبار إذا توجه نحو الأضداد
8
كانت متفاعلة، وكانت نسبة الحر إلى البرد فى الفعل والانفعال قريبة من نسبة الرطب إلى
9
اليابس فى الفعل والانفعال، وإن كان لقائل أن يقول: ليس يجب أن تكون
10
الأضداد كلها متفاعلة؛ بل من الأضداد ما يتبع أضدادًا أخرى، مثل الأبيض والأسود.
11
فإن اللون الأبيض لا يحيل الأسود إلى البياض، ولا بالعكس؛ بل بالمخالطة، فتكون
12
استحالتهما تابعة لاستحالة الحال فى أضداد قبلها.
13
ولا يبعد أن يكون له أن يقول: يشبه أن يكون الرطب واليابس من ذلك القبيل.
14
فإنا لم نشاهد رطبًا رطّب اليابس، أو يابسًا يبس الرطب بالإحالة دون المخالطة؛ أما الرطب
15
فبلاّ، وأما اليابس فنشفا، وأما الحار والبارد فيفعل أحدهما فى الآخر بالإحالة، من غير
16
أن يتغير الجوهر فى نوعه أصلا، كما قد صححنا من إحالة الحار للبارد أنه ليس كله على
17
سبيل نفوذ ومخالطة. فيشبه أن يكون، على قول هذا القائل، أن تكون استحالة الأجسام
171
1
البسيطة فى الرطوبة واليبوسة تابعة لاستحالة أخرى، أو لكون وفساد. ولا يكون للرطب
2
أن يحيل إلى اليبوسة من غير فساد الجوهر، أو من غير استحالة تتقدمها، ولا لليابس
3
أن يحيل إلى الرطوبة من غير فساد أو استحالة، كما للحار أن يحيل البارد، وللبارد أن
4
يحيل الحار، وغير ذلك. فإن الماء إذا صار أرضًا لم يكن ذلك لاستحالة أولية فى رطوبة
5
أو يبوسة؛ بل لاستحالة الصورة الجوهرية التى تتبعها الكيفيات على ما بيناه. فيكون
6
لما استحالت الصورة الجوهرية استحال ما يتبعها، بأن فاض عن الصورة الجوهرية الحادثة
7
ضد كل ما كان فاض عن الصورة الجوهرية الفاسدة، كما أن الهواء إذا استحال ماء، فترل،
8
لم تكن الحركة المتسفلة حادثة عن ضد الحركة المتصعدة الأولى؛ بل عن الصورة المعاندة
9
للصورة الموجبة للتصعد.
10
وأما الماء إذا جمد، ويبس، فليس ذلك له عن يبوسة فعلت فى رطوبة؛ بل عن
11
البرد. فيكون البرد هو الذى أوجب اليبس. ويكون الحر بإزائه هو الذى يوجب
12
الترطيب والتسييل. فتكون هاتان الكيفيتان منفعلتين عن الحر والبرد، ولا تنفعل
13
إحداهما عن الأخرى انفعالا أوليًا، والحر والبرد ينفعل أحدهما عن الآخر انفعالا أوليًا.
14
فهذا قول، إن أراد مريد أن يدفع الشك به، عسرت مقاومته.
15
لكنا نسلم أن الرطب من شأنه أن يرطب اليابس، واليابس من شأنه أن ييبس
16
الرطب. ونقول بعد ذلك أولا، إلى أن نورد جوابًا آخر، إن هذا النحو من الفعل
17
والانفعال لا يصلح أن يلتفت إليه فى التحديدات، وإنما تحد القوى بانفعال وانفعالات
172
1
على غير هذا النمط، وذلك لأنا إذا أردنا أن نحد الرطب استحال أن نأخذه فى حد نفسه،
2
واستحال أيضًا أن نأخذ ضده فى حده؛ وذلك لأن ضده ليس بأعرف منه، فكيف
3
نفسه؟ وإنما يجب أن يؤخذ فى الحدود والرسوم ما هو أعرف من الشىء. وأيضًا إذا
4
أخذنا ضده فى حده، وكان ضده أيضًا إذا حدّ على نحو حدَّه، حدَّ به، وأخذ هو فى حده ــ
5
نكون قد أدرنا التعريف، وعاد الأمر إلى تعريف الشىء بنفسه .مثاله إذا أردنا أن
6
نحد الحرارة، فقلنا هو الذى يسخن البارد، ونكون قد أخذنا التسخين وهو التحرير
7
الذى هو إثارة الحرارة، فى حد الحرارة، فنكون قد أخذنا الحرارة فى حد الحرارة،
8
وأخذنا أيضًا البارد فى حد الحرارة. وكذلك الحال فى جانب البارد، والبارد ليس بأعرف
9
من الحر، ولا الحر من البرد.
10
وإذا كان قانون الحد ما ذكرناه، وكنا نجد الحرارة من حيث فعلها، أو نعرفها من
11
حيث فعلها ذلك الفعل الذى فى ضدها، فقلنا إن الحار ما يسخن البارد، واحتجنا أن
12
نقول: والبارد ما يبرد الحار، فنكون قد أخذنا الحار فى حد البارد المأخوذ فى حد
13
الحار. وهذا أمر مردود.
14
فبين أن نحو هذه الأفعال لا تؤخذ فى حدّ هذه القوى، ولا فى تعريفاتها التى تناسب
15
الحدود؛ بل إنما تنسب القوى فى حدودها إلى أفعال وانفعالات تصدر عنها يكون تفهمها
16
ليس دائرًا على تفهم الحدود. فإن الحار والبارد تصدر عنهما أفعال ليست نفس
17
التسخين والتبريد، ولا دائرًا عليهما. وتلك الأفعال مشهورة.
173
1
والرطب واليابس ليسا كذلك البتة، ولا يتصور الرطب إلا من جهة سهولة
2
قبول الشكل، وسهولة الاتصال، وسهولة تركهما. واليابس من جهة عسر قبول الأمرين
3
وعسر الترك لهما. وهذه الأحوال منسوبة إلى الانفعال. فإن أريد أن يعرّف الفعل
4
الذى لكل واحد منهما، على حسب التضاد، أو الانفعال الذى على حسب ذلك
5
إن سلَّم ذلك، لم يكن تعريفًا حقيقيًا به.
6
وأما الحار والبارد فإن عرّفا بالانفعال المذكور، الذى يجرى بينهما، لم يكن تعريفًا
7
حقيقيًا؛ يل [*]يل corrupt for بل يجب أن يكون تعريفهما على النحو الذى قيل فى الحار والبارد؛ يقال لهما
8
كيفيتان فاعلتان ليس بالقياس إلى كل شىء؛ ولكن بالقياس إلى هذه الأجسام المركبة
9
المشاهدة. فإنها تفعل فيها أفعالا ظاهرة مما قيل، ولا تنفعل انفعالا إلا عن الضد. وإذا
10
قيل للرطب واليابس انفعاليان فليس بالقياس إلى كل شىء؛ بل القياس إلى هذه الأجسام
11
المشاهدة. فإنها لا تفعل فيها إلا ما ينسب إلى الفعل والانفعال التضادى، ولا تفعل فيها
12
شيئًا آخر؛ بل تنفعل منها بسهولة أو عسر.
13
وبعد هذا، فالذى يجب أن يعتمد فى هذا شىء آخر، وهو أن قولنا كيفية انفعالية
14
يعنى بذلك الكيفية التى بها يكون الجوهر مستعدًا لانفعال ما، إما على سهولة أو على
15
صعوبة. ونعنى بقولنا كيفية غير انفعالية ما ليس بها يكون هذا الاستعداد. ونعنى بالفعلية
16
الكيفية التى بها يفعل فى المستعد فعلا ما.
17
وأما بالجملة فإن الكيفية نفسها لا تنفعل البتة، ووحدها لا تفعل؛ إذ لا توجد وحدها.
174
1
وإنما تفعل بأن تماس أو تحاذى، أو يكون لها النسبة [فى النصبة] التى بها يصح الفعل.
2
ثم الحرارة والبرودة ليستا من الكيفيات التى بها يستعد الجوهر لانفعال ما، خصوصًا
3
ما أورد فى الشك. وذلك لأن الحر ليس استعداد للبرد لأنه حار، كيف والبرد يبطل
4
الحر؟ وما دام هو حارا فيمتنع أن يصير باردًا. فالحر يمنع وجود البرد، لا أن يعدّ له المادة؛
5
بل المادة مستعدة بنفسها لقبول البرد المعدوم فيها. لكنه يتفق أن يقارن تلك الحالة
6
وجود الحر الذى يضاد البرد، ويمانعه، ويستحيل وجوده معه.
7
وكذلك حال الرطوبة عند اليبس. وليست الرطوبة انفعالية؛ لأن الرطب قد ينفعل
8
إلى اليبس، وهو رطب؛ بل بأن تزول رطوبته. وهذا النمط لا يجعل الكيفية انفعالية؛
9
بل نحو النمط الذى للرطوبة فى قبول جسمها التشكيل والتوصيل بسهولة. فإن الجوهر
10
يقبل بالرطوبة هذا التأثير، وهو رطب، ويبقى له ذلك ما بقيت الرطوبة.
11
ومع ذلك، فإن اليابس والرطب موضوعان للحر والبرد، ويفعل كل واحد منهما
12
فيه فعلا تابعًا للتسخين والتبريد. والرطب واليابس لا يفعلان فى الحار والبارد شيئًا
13
إلا بالعرض، مثل الخنق المنسوب إلى الرطوبة. والخنق هو إما على وجه يضطر الحار
14
إلى هيئة من الاجتماع والتشكل مضادة لمقتضى طبيعته، إذا كانت يابسة، فلا يجيب
175
1
إلا إذا بطلت، وإما على سبيل أن لا ينفعل الرطب لكثرته إذا قوبلت بالقوة
2
المحيلة، فلا يستحيل إلى مادة تحفظ الحار، فلا يتولد حار بعد. وإذا انفصل الحاصل
3
من الحار، صاعدًا، لم يكن مدد يحفظ اتصاله، كما يعرض عند كثرة دهن السراج.
4
وهذا فى المركبات .وإذا شئت أن تتحقق فعلية الحار والبارد، ولا فعلية الرطب
5
واليابس، فانظر ما يعتريك من ملامسة الطبيعتين.
176
1
الفصل الثانى عشر
2
فصل فى
3
حل قطعة أخرى من هذه الشكوك
4
وأما الشك، الذى أورد بعد هذا، فالجواب عنه أن إيجابنا وجود عناصر أربعة
5
ليس المعول فيه كله على القسمة؛ بل على قسمة يتبعها وجود. فإن الشىء إذا أورده العقل
6
فى القسمة، ثم دل عليه الوجود، لم يكن أظهر منه.
7
وقد وجدنا الحر والبرد يلائمان الكيفيتين المنفعلتين، ليس إنما يلائم الواحد
8
منهما الرطوبة دون اليبوسة، أو اليبوسة دون الرطوبة.فقد رأينا اليابس يسخن،
9
ورأيناه يبرد. وكذلك رأينا الجسم الرطب يسخن، ورأيناه يبرد. فلم يكن اجتماع البرد
10
مع الرطوبة واليبوسة، أو اجتماع الحر مع الرطوبة واليبوسة، مستنكرًا، فى العقل المفطور،
11
وفى الوجود المحسوس، إذا كانت المادة تحتمل ذلك، وكانت ازدواجات ممكنة فى الوجود.
12
وأما حديث التكثير بازدواجات تقع من مفرط ومعتدل، فنقول فى جوابه إن
13
المادة البسيطة، إذا كانت قوة مسخنة، وكان من شأنها أن تقبل السخونة،
14
فمن المحال أن لا تسخن السخونة التى فى طباعها أن تقبلها إلا لعائق. وذلك لأن
15
من شأن المسخن، إذا بقى ما ليس فيه سخونة، وهو يقبلها، أن تحدث فيه سخونة.
16
والسخونة مسخنة؛ إذ من شأن السخونة، إذا لاقت مادة، أن تحدث فيها سخونة
177
1
أخرى. فكيف إذا كانت فى نفس المادة واحتملت سخونة أخرى؟ فهذه القوة
2
المسخنة، إذا أحدثت حدًا من السخونة، فبعد ذلك إذا لم تفد سخونة، والسخونة
3
الموجودة أيضًا فى المادة إذا لم تفد سخونة بعد التى أفادت، فإما لأصل أن طباعها ليس
4
تفيد السخونة فى القابل إلا وقتًا ما، ويحال ما، وقد فرضنا القوة مسخنة بطباعها، وكذلك
5
السخونة الحاصلة منها التى تحدث عنها سخونة فيما يلاقيها؛ وإما لأن المادة لا تقبل، وقد
6
فرضنا أنها تقبل أكثر من الحد الموجود فى الفاتر والمعتدل؛ بل نحسها كذلك. وإذا
7
كانت حارة كان إمعانها فى التسخين، عند وجود ما بوجوده تكون السخونة، أولى منها
8
إذا كانت باردة؛ وأما لعائق. ونحن لا نمنع ذلك. إنما نتكلم على مقتضى الطباع. فإن
9
القوة المبردة فى الماء يجوز أن تعاق فى التبريد أصلا، فضلا عن أن يبالغ فى التبريد؛ فربما
10
كان العائق داخلا، وربما كان خارجًا. فإذ لا عائق، ولا امتناع قبول فى المادة عن أن
11
تسخن زيادة سخونة عن تلك القوة بعينها، وعن السخونة الحادثة فيها إلى الغاية التى
12
من شأنها أن تبلغها حادئًا فيها السخونة عن السخونة التى لا حائل بينها وبينها، التى هى
13
أولى أن تحدث فيها سخونة من سخونة خارجة قائمة فاعلة فى جسم ملاق إحداث الميل
14
الطبيعى للميل بعد الميل، على سبيل الحتمية، كما قد عرفته ــ فواجب أن يكون الأمر
15
فيها بالغًا الغاية. وليس هذا، كما يعلم، من حال القوة المصعدة للنار الصغيرة فإنها
16
لا تبلغ الغاية الممكنة فى الإسراع. فإن ذلك لعائق من خارج، وهو ما فيه الحركة؛ فإنه
17
يمتنع عن الانحراق له، ويقاومه، فلا يقدر مثل تلك القوة أن تحرق فوق ذلك.
178
1
فيغرض فى فعله من العائق قصور لا يعرض لما هو أكثر وأقل قبولا للمقاومة. ولو لم
2
تكن مقاومته من جهة المتوسط لكانت الحركات كلها متشابهة، كما مر لك فى مواضع
3
أخرى.
4
وكذلك لو لم تكن فى الماء مقاومة للتسخن لكان يسخن بلا فتور غاية السخونة
5
عند لقاء المسخن.
6
فيجب من هذا أنه إذا لم يكن مانع كانت المواد المتسخنة عن القوة المسخنة الموجودة
7
فيها تتسخن على السوية. فإذا كان بعض الأسطقسات لا يبلغ فى التسخن الطبيعى
8
عن طبيعته، وليس عائق من خارج، فهناك عائق من أمر فيه عن طبعه. وليس يجوز
9
أن تكون الطبيعة وحدهما عائقة، وموجبة أن يكون بوساطة أمر آخر يفيض
10
عنها. فتكون القوة، إذا كان من شأنها أن تسخن وترطب معًا عاقت الرطوبة المادة
11
عن أن تقبل السخونة عن تلك القوة ألى غاية الحد؛ بل قعدت بها وكانت المادة لا تبقى
12
رطبة إذا أفرط فيها الحر، فتكون الرطوبة التى تفيض عن القوة تجعل للمادة حدًا
13
محدودًا فى استعداد قبول الحرارة.
14
ولقائل أن يقول إن المادة، وإن كانت مستعدة، فإنها لا تخرج إلى الفعل إلا عن
15
قوى تقوى على إخراجها إلى الفعل. فإن المتوسط مستعد أيضًا للانحراق الأشد. والماء
16
مستعد للتسخن الأشد، ولا كيفية ذلك ما لم يكن قوة تقوى عليه، لأنه مستعد لأمر
179
1
عن علة فاعلة ذات قوة محدودة. فإذا كانت القوة ليس لها أن تسخن أكثر من حد،
2
أو يحرق أكثر من حد، لم يكف استعداد المادة.
3
فنقول: إن تصور ما قلناه، على الحقيقة، يغنى عن إيراد هذا الشك؛ وذلك لأن
4
القوة إذا كان من شأنها أن تسخن، ووجد القابل المستعد بلا معاوقة، استحال
5
أن لا يسخن، وأن لا يقوى على أن لا يسخن. فهذه القوة، بعد أن وجدت منها السخونة،
6
لم يبطل عنها أنها توجد السخونة فى القابل للتسخن عنها كل وقت. ووجود ما وجد من
7
السخونة المقدرة عنها لا يمنع القابل عن أن يكون قابلا للسخونة. وكذلك السخونة
8
الموجودة فيها من شأنها أن توجد السخونة فى أى مادة لاقتها قابلة للسخونة
9
ولا مانع لها.
10
فإذا كانت المادة الخارجة تسخن عن تلك السخونة فالمادة الملاقية أولى لا محالة.
11
فيجب أن يحدث عن القوة فى المادة، بعدما حدث من السخونة، سخونة زايدة، فى
12
طباعها أن تقبلها، وفى طباع القوة والسخونة أن تحدثها، لا من حيث هى زيادة أولية،
13
بل من حيث هى سخونة. فإن تلك الزيادة سخونة، لا شىء آخر، كما أن لو سخنا
14
آخر انضاف إليه لكان يفيد سخونة.
15
والقوة والسخونة من شأنها أن توجد السخونة كل وقت لذاتها، لا لسبب إن كان
16
عنها سخونة أو لم يكن. والسخونة التى وجدت عنها لا تمنع أن تفيض عنها أيضًا
17
السخونة فى طبعها. ذلك والتأخر إلى وقت ثان، على سبيل الوقوف، لا معنى له. فإن
180
1
فى الزمان الذى بينهما لم يكن عائق زال، فيجب أن يحدث ذلك بلا تأخير
2
يفعله وقوف.
3
وليس حال الحرق كذلك. فإن الحرق وجوده أن يكون شيئًا بعد شىء؛ إذ لا قرار
4
للحركة، ولا لما يجرى مجرى الحركة. ثم النحرق [*]النحرق corrupt for المنحرق، وإن كان قابلا بمادته فهو مقاوم بصورته
5
مقاومة شديدة أو غير شديدة .ولهذا لا ينحرق الماء والهواء عن الشوط إذا رام إسراع
6
الحرق وترك طريق الرفق، لأنه يقبل قليلا قليلا لما فيه من المقاومة وتسخين الماء إنما
7
يكون شيئًا بعد شىء؛ لأن فى أول الملاقاة يكون الماء باردًا، والبرد يمنع استعداد المادة
8
للضد مادام ثابتًا، فيحدث أولا فى زمان تفرضه أولا حرارةٌ ما بقدر الاستعداد المعوق.
9
ثم يكون الفاعل، بعد ذلك، حرارة من خارج وحرارة فى الماء يتعاونان على الإحالة.
10
ويكون البرد المعاوق أقل، فيكون فى الزمان الثانى يستحيل أسرع وأشد؛ وذلك لأن
11
حال الفاعل والقابل معًا فى الزمانين مختلفان.
12
وليس هكذا الحال فى مسألتنا نحن. على أننا لا نناقش فى أن يستمر ازدياد
13
التسخن فى مادة الهواء عن القوة وعن السخونة الحاصلة فى زمان على الاتصال. ولكن
14
ذلك أيضًا غير موجود.
15
وقول القائل إن السخونة تسخن إلى حد ما لا يقوى على أكثر من ذلك، وأن
16
كان ممكنًا فى الوجود وفى طباع المادة، قول لا يلتفت إليه. فإن ذلك إنما يكون إذا
17
قيس إلى مقاوم. وأما إذا لم يكن مقاوم فهذا القول محال؛ لأنه إذا حدثت فيه سخونة
181
1
لم تكن عائقة عن أن حدث عنه أخرى إلى أن يستوفى الحد الذى فى قوة المادة قبوله،
2
إذا لم يكن مانع، وهو الحد الذى للنار مثلا، فلا يكون هناك تحدّد دون النهاية البالغة.
3
وإذا قد بيّنا هذا فبالحرى أن نعود إلى مسألتنا فنقول:
4
قد بان أن بعض الأجسام البسيطة، إذا كانت فيه قوة تسخن وترطب بالطبع،
5
وكان فى جسم آخر أيضًا مثلها، لم يجز أن يكون أحد الجسمين حارًا رطبًا على حد،
6
والآخر أقل فى أحدهما أو كليهما، أو أكثر؛ بل يجب أن لا يتشابها فى ذلك إلا لعائق
7
فإن لم يتشابها، ولا عائق من خارج، فإنما يجوز أن لا يتشابها فى كيفية واحدة حين
8
لا يكون هناك عائق من خارج إلا لعوق من الكيفية الثانية، فيكون العائق وجود
9
الكيفية الثانية التى تفيض عن تلك القوة بعينها. فإنها تمنع المادة منعًا ما، وتعاوقها
10
عن الاستكمال، وتنقص الاستعداد النقص المنسوب إلى المعاوقة، فتصير لها المادة
11
غير قابلة إلا بشدة وعسر، وإن كانت الطبيعة فاعلة.
12
لكن لقائل أن يقول: إن العوق أيضًا يجب أن يبلغ الغاية، [أولا يكون
13
أصلا، فإن نسبة العوق إلى القوة والمادة نسبة التسخين إليهما، وكما أن التسخين يبلغ الغاية
14
إذا لم يكن عوق، كذلك العوق يجب أن يبلغ الغاية]:
15
فنقول: نعم إذا لم يكن للعوق عائق. وإما القوة المسخنة فمعاوقة للعوق، فلا تبلغ
16
الحد الأقصى.
17
وإذا كان كذلك انحل الشك المذكور.
182
1
ولقائل أن يقول: إنه كيف يمكن أن ينبعث عن مبدأ واحد قوتان تعاوق إحداهما
2
الأخرى، وتتقابلان وتتنازعان، والمادة واحدة غير مختلفة؟
3
فنقول: إن ذلك ليس على سبيل المقابلة؛ بل على سبيل تقدير استعداد المادة،
4
ومعنى العوق هو هذا المعنى، وهو أن وجوده يجعل المادة محدودة الاستعداد. وذلك
5
لأن الحرارة، إذا أخذت مرة صرفة، ومرة متوسطة، فلأن إحداهما تكون مع يبوسة،
6
والأخرى مع الرطوبة. وكذلك البرودة. فحينئذ تعود الأقسام إلى الأربع.
183
1
الفصل الثالث عشر
2
فصل فى
3
حل باقى الشكوك
4
وأما الشك المذكور فى التماس البيان لإثبات كون النار مفارقة للهواء، لا بأنها أشد
5
منه سخونة، وهى من طبعه؛ بل بالفصل الذاتى، فقد ُفرِِغ من ذلك.
6
وبين أن هناك مكانًا لجسم طبيعى غير الهواء وإنه حار.
7
وأما ما أخذ فى التشكك كالمتسلم من فتور النار البسيطة فأمر لا يقول به إلا المقصّر
8
فى الصناعة .فلذلك لا يلزم إلا من قال إن المركب أقوى من البسيط فى الكيفية.
9
على أن يقال أن يقول متأولا: إن المركب قد يعرض له أن يكون أقوى من
10
البسيط فى الكيفية، إذا كانت هناك أسباب أخرى. توجب الازدياد فى الكيفية غير
11
الذى فى الطبع، فيتظاهر الطبع والوارد والمرفد إياه على تقوية الكيفية، وإن كان هذا
12
القول ربما لم يلتفت إليه.
13
وأما ما سئل عن أمر النار التى هناك، أعنى عند الفلك، وهل السخونة أمر
14
يعرض لها من حركة الفلك، وهى فى نفسها غير حارة، أم هى فى نفسها حارة
15
فى طبيعتها؟ فقول:
184
1
إنه لا يمتنع أن يكون التحريك يسخن ما ليس بسخين فى طبيعته وتكون مع ذلك،
2
طبيعته الذاتية محفوظة، ويكون ما تغير المتسخن إلا فى السخونة. ولا يمتنع أن يكون
3
التحريك يحيل طبيعة المتحرك إلى الصورة النارية ابتداء، لو وجد خاليًا عنها، أو يكون
4
التحريك سبب دوامها مدة وجودها، مثل الحك المشعل. فإنه لشدة التسخين يعدّ المادة
5
لقبول الصورة النارية، ويعاوق الاستعداد المقابل له فيكون الحك سببًا، بوجه ما،
6
للصورة النارية، لا لتسخن أول شىء له طبيعة قائمة غير موجبة للسخونة. وإنما يسخن
7
من خارج فقط بل لإفادة الطبيعة التى هى مبدأ السخونة بنفسها، حتى لو تُوهِم
8
الحك زائلا، والتحريك باطلا، بقى الجسم على الصورة النارية، إلا أن يرد شىء مفسد
9
للصورة النارية مقاوم لها. ولو كانت هذه النسبة من المحاكة والتحريك دائمة لكان
10
وجوب لبس الصورة النارية دائما.
11
فالمادة التى هناك ملبسة صورة النارية بمعاضدة من حركة الفلك، ولا مضادة
12
فى طباعها لذلك. ولو كان فى طبيعة ذلك الجسم شىء مضاد لذلك لكان التحريك
13
الذى هناك يبطل تلك الطبيعة المضادة بفرط التسخن الذى هناك. هذا إن كان التحريك
14
مسخنا، وإن لم يكن مسخنا فالشبهة زائلة من كل وجه؛ إذ كانت الشبهة فى أن ذلك
15
الجوهر الذى هناك، إذ قد عرض له التسخن من خارج، فليس ذلك له طبيعيا.
16
وذلك لأنه عرض له الحك فسخنه. والحك عرضى فالسخونة عرضية.
17
فالمجيب عن ذلك يقول:
18
إن السبب الخارج العارض قد يكون سببا لصورة طبيعية يتنوع بها المادة.
185
1
ويتضح هذا فضل إيضاح فى الصناعة الحكمية الإلهية. ونعم ما أوجبت العناية
2
الإلهية إسكان النار فى حيز الحركة، وإلا لكان كل ما نتوهمه أنه يحصل هناك،
3
مما ليس بنار من الأجسام العنصرية ينقلب نارًا فيتحرك إلى حيز النار الأخرى،
4
إن لم يكن حيزه تلك المجاورة، ويعقبه غيره. فلا تزال النارية تتضاعف حتى
5
تفسد ما ليس بنار.
6
وأما التشكك المبنى على أن الحار ما باله يصعد قبل استحالة صورته الطبيعية،
7
كما يصعد البخار والدخان. والبارد لا يفعل ذلك، فقد يمكن أن يجاب عنه بوجوه
8
من الأجوبة:
9
من ذلك أن الحار، فى الجملة، أقوى من البارد. ولذلك مالا يطاق النار.
10
والماء والجمد لا يبلغ واحد منهما من برده الطبيعى أن لا يطاق، وقد يبلغ ذلك من
11
حره العرضى، فكيف الشىء الذى فى طبيعته حار! فيشبه أن يكون الحار لقوته
12
يغلب مقتضى جوهر الشىء وطبيعته، ولا يقدر عليه البارد؛ أو يشبه أن يكون
13
البرد يهبط أيضًا ما يعرض له، وإن لم يحل المعروض له عن جوهره، ولم يغيره،
14
كما إذا استحال الهواء ضبابا عن برد فانحدر، وهو بعد ضباب. فلا يبعد أن يقال
15
إن الضباب هواء قد برد، ومال إلى أسفل، ولم تبطل صورته الذاتية، كما لم تبطل
16
صورة الماء فى الجمد، أو يكون الشىء البارد الذى يتصعد بالتسخين هو أرض وماء
17
قد يقبلان حرا أشد من حر الهواء، ولا يكونان قد فسدا فسادًا تاما. فيظهر صعودهما
18
فى الهواء، ومجاورتهما إياه.
186
1
ولعل الهواء والنار ليسا يقبلان من البرد ما يصيران به أبرد من الماء، حتى يريا
2
نافذين فى الماء هبوطا. ولعل ما يبرد من النار يعرض له أن ينحدر من حيزه إلى حيز
3
الهواء .لكنه إذا انحدر لم يكن ذلك محسوسًا؛ لأن النار البسيطة غير محسوسة.
4
ولعل الضباب هواء متبرد متكاثف، لكنه ليس مستحيلا بعد إلى المائية.
5
وأيضا فلقائل أن يقول إن البخار والدخان يصعدان على سبيل مرافقة النارية
6
وبالقسر على ما قلنا قبل.
7
وبالجملة إن صعدا بالمرافقة لم يلزم السؤال، وإن صعدا، لا بالمرافقة؛ بل للاستحالة
8
فى الكيفية فقط، فالفرق ما قيل.
9
***
10
وأما الشك المبنى على استحالة أن يكون ما تحت الفلك طبيعة واحدة، وإنما يختلف
11
بالأعراض، فيبطله وجود الحركات الطبيعية متضادة لوجود المركز والمحيط. والجسم
12
المتشاكل الطبيعية النوعية لا تختلف حركاته الطبيعية؛ إذا لا تختلف قواه الأصلية.
13
وأما ما تظن أن الكون يبرد الحركة؛ إذ الحركة تسخن فذلك باطل. فإنا قد بينا
14
أن السكون عدم الحركة، وعدم العلة علة لعدم المعلول، لا لضد مقابل له، فإن الحركة
15
إذا كانت توجب حرارة، كان لا يكون حركة هو أن لا توجد حرارة.
16
وأما أن توجد برودة، فيحتاج إلى علة، فيشبه أن يكون الجسم الساكن البعيد
187
1
من الحركة قوى الاستعداد لقبول القوة المبرزة [*]المبرزة corrupt for المبردة من الأشياء الكاسية للمواد صورها،
2
ويكون ضعيف الاستعداد لقبول الطبيعة المسخنة، بل يحتاج إلى معاون من حرارة مماسة
3
أو حركة، حتى يستعد، فينال من واهب الصور ما يستعد له. وسنطنب فى هذا حين
4
نتكلم فى الفلسفة الأولى.
5
***
6
وأما الشبهة المبينة على حال اللمس فيجب أن نقدم لحلها مقدمة، ونقول: إن قولنا
7
إن الرطوبة سهلة القبول والترك هو على سبيل التجور [sic] . فإن السهل والصعب يكاد أن
8
يكون من المضاف. وليست الرطوبة من المضاف.
9
ولكن يجب أن نعلم أن الرطب هو لا مانع له، فى طباعه، البتة عن قبول الشكل
10
والانحصار والاتصال؛ وعن رفضه، مع زوال القاسر راجعا إلى الجهة التى له أن يتحرك
11
إليها، والشكل الذى له أن يتشكل بالطبع به.
12
واليابس هو الذى فى طباعه ممانع، إلا أن فى طباعه إمكان قبول ذلك عند تكلف
13
بجشمه القاسر إياه، فتكون نسبة الرطوبة، من هذا الوجه، ومن حيث هى هكذا،
14
إلى اليبوسة قريبا من نسبة الأمر العدمى إلى الأمر الوجودى. فيكون الإحساس
15
بالرطوبة ليس إلا أن لا يُرى مانع ومقاوم.وباليبوسة أن يُرى مانع ومقاوم.
16
فالرطوبة وحدها لا تثبت عند الحس من جهة اللمس وحده جسما، واليبوسة
17
تثبت ذلك.
188
1
وإذا نسبنا أحد الطرفين إلى الحس بالذات كفانا أمر مقابله العدمى فى أمر المزاوجة
2
بل لو وجدنا بالحس اللمسى كيفيتين لتمت المزاوجة الرباعية من مضادتين وبين
3
قنية وعدم.
4
فليكن هذا مبلغ ما نقوله فى حل الشكوك المذكورة على الاختصار.
189
1
الفصل الرابع عشر
2
فصل فى
3
انفعالات العناصر بعضها من بعض، واستحالاتها فى حال البساطة وفى حال
4
التركيب، وكيفية تصرفها تحت تأثير الأجسام العالية
5
فقد تبين مما سلف أن العناصر للكائنات الفاسدات أربعة لا غير. وإذا
6
اعتبر المعتبر صادف النبات والحيوانات المتكونة فى حيز الأرض مستمدة من
7
الأرض ومن الماء ومن الهواء، ووجودها يتم باتحاد [*]باتحاد corrupt for بالحارّ المنضج. فالأرض تفيد الكائن
8
تماسكا وحفظا لما يفاد من التشكيل والتخليق؛ والماء يفيد الكائن سهولة قبول للتخليق
9
والتشكيل، ويستمسك جوهر الماء بعد سيلانه بمخالطة الأرض، ويستمسك جوهر الأرض
10
عن تشتته لمخالطة الماء، والهواء والنار يكسران عنصرية هذين ويفيدانهما اعتدال
11
الامتزاج. والهواء يخلخل ويفيد وجود المنافذ والمسام، والنار تنضج وتطبخ وتجمع.
12
وهذه الأربعة قد ظهر أنها يتكون بعضها من بعض، وأن لها عنصرا مشتركا،
13
وإن ذلك بالحقيقة هو العنصر الأول. ومع ذلك فإن تكون بعض منها من بعض أسهل،
14
وتكوّن بعض منها من بعض أعسر، وتكون لبعض منها من بعض وسط.
190
1
فأما السهل فاستحالة عنصر إلى مشاركة فى إحدى الكيفيتين وهو فيها ضعيف،
2
مثل استحالة الهواء إلى الماء. فإن الهواء يشارك الماء فى كيفية الحرارة، وكيفية الحرارة
3
فيه ضعيفة،والبرد فى الماء قوى. فإذا قوى عليه الماء، وحاول أن يحيله باردا فى طعمه،
4
انفعل سهلا، وبقيت رطوبته، وكان ماء، ليس لأن استحالته فى الكيفية هى كونه
5
ماء؛ بل يستحيل، مع ذلك، فى صورته التى شرحنا أمرها.وصورته أشد إذعانا للزوال
6
عن مادته إلى الصورة المائية من صورة النار.
7
وأما العسر فأن يحتاج المتكون إلى استحالة الكيفيتين جميعا فى طبعه. وأما الوسط
8
فيحتاج إلى استحالة كيفية واحدة فقط، لكنها قوية مثل ما تحتاج إليه الأرض
9
فى استحالتها إلى النارية، والماء فى استحالته إلى الهوائية.
10
ولكل واحد من هذه العناصر عرض فى قبوله الزيادة والنقصان فى كيفيته.
11
فإنه قد يزيد فى كيفيته الطبيعية أو العرضية وينقص، وهو حافظ بعد لصورته ونوعه.
12
لكن للزيادة والنقصان فى ذلك طرفان محدودان، إذ جاوزهما بطل عن المادة التهيؤ التام
13
لصورته، واستعدت استعدادًا تاما لصورة أخرى. ومن شأن المادة إذا استعدت
14
استعدادًا تاما لصورة أن تفاض تلك الصورة عليها من عند واهب الصور للمواد
15
فتقبلها. وبسبب ذلك ما يتخصص المواد المتشابهة فى أنها ماد لصور مختلفة، وذلك
16
من عند واهب الصور.
191
1
ويجب أن نعلم أن القوة شىء، وأن الاستعداد التام شىء آخر. والمادة فيها جميع
2
الأضداد بالقوة، لكنها تختص بواحد من الأضداد، من جملة الأمور المختلفة بما يحدث
3
فيها من استعداد تام يخصصه بها أمر. فإن المحكوك والمحرك معد لقبول الحرارة إِعدادًا
4
خاصًا، وإن كان أيضا فى طبعه قابلا للبرودة.
5
وليس هذا للعناصر وحدها؛ بل للمتكونات أيضًا، ولكل واحد منها مزاج.
6
ومزاجه يقبل الزيادة والنقصان إلى حد ما محصور العرض بين طرفين. وإذا جاوز ذلك
7
بطل استعداده لملابسته لصورته.
8
وهذه المركبات تختلف أمزجتها لاختلافها فى مقادير العناصر فيها:
9
فمن الكائنات ما الأرضية فيه غالبة، وهى جميع ما ترسب فى الهواء والماء من المعدنيات
10
والنبات والحيوان. وقد يجوز ألا يرسب بعض ما الأرضية فيه غالية [*]غالية corrupt for غالبة. فإنه يجوز أن
11
تكون الأرضية غالبة لمفرد أسطقس وليس غالبا لمجموع أسطقسين خفيفين.
12
ومنها ما المائية فيه غالبة. ومنها ما الهوائية. ويعسر امتحان ذلك من جهة الطفو
13
والرسوب. وذلك لأن الجسم، وإن كانت المائية فيه غالية، وفيه هواء ونار قليل
15
فهو، لا محالة، لا يكون بسبب مائيته أثقل من الماء، حتى يرسب فيه، إلا أن تكون
16
أرضيته كثيرة تزيد ثقلا على مائيته:
17
ومنه ما النارية فيه غالبة. وهذا جميع ما يعلو فى الجو. وقد يجوز أن يكون فيه
18
ما لا يعلو لنظير ما قلناه فى الغالب فيه الأرضية. وهذه الغلبة قد تكون بالفعل،
192
1
وقد تكون بالقوة. والذى بالقوة فهو الذى، إذا فعل فيه الحار الغريزى من أبدان
2
الحيوان؛ استحال إلى غلبة بعض الأسطقسات.
3
ولهذه الأسطقسات غلبة فى المركب من وجهين: أحدهما بالكم والآخر بالكيف
4
والقوة. وربما كان أسطقس مغلوبا فى الكمية، لكنه قوى فى الكيفية، وربما كان
5
بالعكس. ويشبه أن يكون الغالب فى الكم يغلب فى الميل لا محالة، وإن كان
6
قد لا يغلب فى الكيف الفعلى والانفعالى. فإن الميل، عندما يلزم من الصورة،
7
يكون شديد اللزوم للصورة أشد من لزوم الكيف الفعلى والانفعالى. وإن لم يكن دائم
8
اللزوم للصورة فإنه قد يبطل إذا عرض عائق قوى.
9
والممتزج فكثيرًا ما يعرض له من الأسباب الخارجة أن يغلب من أسطقساته ما ليس
10
بغالب. فإنها ذا عادنت [*]ذا عادنت corrupt for إذا عاونت كيفية غير الغالب، حتى قوى، غلب، وأحال الآخر إلى
11
مشابهته، فظهر سلطانه.
12
فنقول الآن: إن الكون والفساد والاستحالة أمور مبتدأة [*]مبتدأة corrupt for مبتدئة، ولكل مبتدأة [*]مبتدأة corrupt for مبتدئة سبب
13
ولا بد، على ما أوضحناه فى الفنون الماضية، من حركة مكانية.فالحركة المكانية هى مقربة
14
الأسباب ومبعدتها، ومقوية الكيفيات ومضعفها. ومبادىء [*]ومبادىء Middle Arabic for ومبادئ الحركات كلها، كما وضح،
15
من المستديرة.
16
فالحركات المستديرة السماوية المقربة لقوى الأجرام العالية والمبعدتها [sic] هى أسباب
17
أولى إلى الكون والفساد. وعوداتها، لا محالة، أسباب لعود أدوار الكون والفساد.
18
والحركة الحافظة لنظام الأدوار والعودات، الواصلة بينها، والمسرعة بما لو ترك لأبطأ
193
1
ولم يعدل تأثيره، هى الحركة الأولى. ونشرح هذا المعنى فنقول:
2
إنه لو لم يكن للكواكب حركة فى الميل لكان التأثير يختص ببقعة واحدة على جهة
3
واحدة،فيخلو ما يبعد عنها، ويتشابه فيها ما يقرب منها. فيكون السلطان هناك لكيفية
4
واحدة يوجبها ذلك الكوكب؛ فإن كانت حارة أفنت مواد الرطوبات، وأحالت الأجسام
5
التى تحاذيها الكواكب إلى النارية فقط، ولم يكن مِزاج به تتكون الكائنات الهوائية،
6
ولم يثبت شىء من النباتية ثباتا يُعتدُّ به؛ بل صار حظ ما يحاذيه الكوكب فى الغالب
7
كيفية، وحظ ما لا يحاذيه فى الغالب كيفية مضادة لها، وحظ المتوسط فى الغالب كيفية
8
متوسطة. فيكون فى موضع ميل صيف شديد دائم، وفى آخر ميل شتاء شديد دائم، وفى آخر
9
ربيع دائم أو خريف دائم. وفى ميل الربيع والخريف لا يتم النضج، وفى الشتاء تكون
10
النهوة [*]النهوة Middle Arabic for النهوءة، وفى دوام الصيف الاحتراق.
11
وعلى هذا، فيجب أن تعتبر حال الكيفيات الأخرى، والقوى الأخرى:
12
ولو لم تكن عودات متتالية، وكان الكوكب يتحرك حركته البطيئة بميل،
13
أو بغير ميل، لكان الميل قليل الغناء والتأثير، شديد الإفراط لا يتدارك بالضد
14
المخالط، وكان التأثير مقيما فى بقعة صغيرة مدة طويلة لا يدور فى البقاع كلها، إلا فى مدد
15
متراخية، وكان يعرض أيضا قريب مما يعرض، لو لم يكن مثل ما ذكرناه.
16
وكذلك لو كانت الكواكب تتحرك بنفسها الحركة السريعة من غير ميل عرض ما قيل؛
17
وإن كانت السرعة مع ميل عرض ذلك أيضًا، وكان مدار الميل وما يقرب منه وما يبعد
18
بالصفات المذكورة. فوجب أن يكون ميل تحفظه حركة غريبة مدة ما، ثم تزيله إلى جهة
194
1
أخرى بقدر الحاجة فى كل جهة. فوجب أن يبطىء المائل فى جهة ميله، حتى يبقى،
2
فى كل برهة، ليتم بذلك تأثيره، وأن يتكرر على المدار، مع ذلك، ليتشابه فعله
3
فى جميع الجهة التى هو مائل إليها، ولا يفرط تأثيره فى بقعة يقيم عليها. وبالجملة ليكون
4
جميع الجهة ينال منه التأثير نيلا معتدلا غير مفسد، ولا يزال كذلك إلى تمام الحاجة.
5
وذلك إنما يتم بحركة أخرى سريعة ضرورة. فجعل لذى الميل حركة بطيئة، وجعلت
6
له حركة أخرى تابعة لحركة سريعة، حتى يوجد الغرضان.
7
واعتبر هذا من الشمس. فإن الشمس تميل بحركتها إلى الشمال، فتبقى مدة فى تلك
8
الجهة، لا دائمة على سمت واحد، بل متكررة اتباعا للحركة الأولى .فإنها إن بقيت
9
دائما أفسدت، كما لو دام هجيرها، ولقصر أيضا فعلها وتأثيرها عن جميع الأقاليم
10
الأخرى. فلما جعل لها ذلك التكرر صار للشمس أن تحرك المواد إلى غذو النبات
11
والحيوانات، حتى إذا فعلت فعلها فى الشمال، وجذبت المواد الكامنة فى الأرض زالت
12
إلى الجنوب، قبل أن تفسد بالإحراق والتجفيف، ففعلت هناك فعلها ههنا، وبرد، وجه
13
الأرض ههنا، فاحتقنت الرطوبات، واجتمعت فى باطن الأرض، كأنها تخزن وتعد لعود
14
الشمس مرة أخرى لتنفق على النبات والحيوانات نفقة بالقسط. وبين الأمرين تدريج
15
ربيع وخريف، لئلا ينتقل من إفراط إلى إفراط دفعة، وليكون الفعل مدرجا فيه.
16
فسبحان الخالق المدير بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية.
17
وبالحرى أن يلحق بهذا القول فى الأدوار والآجال.
195
1
الفصل الخامس عشر
2
فصل فى
3
أدوار الكون والفساد
4
من الكائنات ما يكفى فى تكونه جزء دورة واحدة. وربما كانت مدته متمة تلك
5
الدورة فما دونهما، كضرب من الحيوانات القرقسية والنبات الزغبى، فيكون فى يوم
6
واحد، وفسد فيه.
7
ومن الكائنات ما يحتاج، فى تكونه، إلى أدوار من الفلك، ومنها ما يحتاج
8
إلى عودات جملة جملة من أدوار، حتى يتم تكونها، وكل كائن، كما ظهر، فاسد،
9
وله مدة ينشو [*]ينشو Middle Arabic for ينشؤ فيها، ومدة يقف فيها، ومدة يضمحل وينتهى إلى أجله.
10
ولا يمكننا أن نقول قولا كليا فى نسب هذه المدد بعضها إلى بعض .فهى مختلفة
11
لا تضبط. ومن رام حصر ذلك صعب عليه. والذى سمعنا فيه لم يقنعنا، فلعلنا لم نفهمه
12
حق الفهم؛ وعسى أن يكون غيرنا يفهمه على وجهه.
13
ولكل كائن أصل يستحقه بقوته المدبرة لبدنه. فإنها قوة جسمية متناهية بتناهى
14
فعلها ضرورة. ولو كانت غير متناهية لكانت المادة لا تحفظ الرطوبة، إلا إلى أجل
15
لأسباب محللة للرطوبة خارجة وباطنة، وأسباب عائقة عن الاعتياض مما يتحلل. ولكل
196
1
قوة من قوى البدن، ولكل مادة، حد يقتضيه كل واحد منهما، ولا يحتمل مجاوزته،
2
وذلك إن جرت أسبابها على ما ينبغى، هو الأجل الطبيعى.
3
وقد تعرض أسباب أخرى من حصول المفسد أو فقدان النافع المعين، فيعرض لتلك
4
القوة أن تقصر فى فعلها عن الأمد. فمن الآجال طبيعة، ومنها اخترامية، وكل بقدر.
5
وجميع الأحوال الأرضية منوطة بالحركات السماوية، وحتى الاختيارات والإرادات
6
فإنها، لا محالة أمور تحدث بعد ما لم تكن. ولكل حادث بعدما لم يكن علة وسبب
7
حادث. وينتهى ذلك إلى الحركة؛ ومن الحركات إلى الحركة المستديرة.
8
فقد فرغ من إيضاح هذا. فاختياراتنا أيضًا تابعة للحركات السماوية. والحركات
9
والسكونات الأرضية المتوافية على اطراد متسق، تكون دواعى إلى القصد وبواعث
10
عليه، وهذا هو القدر الذى أوجبه القضاء.
11
والقضاء هو الفعل الأولى الإلهى الواحد المستعلى على الكل الذى منه ينشعب
12
المقدرات. وإذا كان كذلك، فالحرى لأن يشكل على الناظرين أمر العود، وأنه هل
13
يجب، إذا عاد إلى فلك شكل بعينه كما كان، أن تعود الأمور الأرضية إلى مثل ما كان
14
أما عود ما بطل بعينه بالشخص فذلك مما لا يكون، ولا الشكل بعينه يعود بالعدد،
15
ولا الأمور الأرضية تعود بأعيانها بالعدد؛ فإن الغائب لا يعود بعينه. والذى يخالف
16
فى هذا فسبيله أن يستحى من نفسه، إلى أن تكشف فضيحته فى الفلسفة الأولى.
17
فمن الناس من أوجب هذا العود المماثل.
197
1
ومن الناس من لم يجوز هذا العود، واحتج بأن الأمور العالمية مختلطة من طبيعية واختيارية
2
مثل كثير من النسل والحرث. وعود الشكل السماوى، إن أوجب إعادة، فإنما يوجب إعادة
3
الأمر الطبيعى لا الاختيارى، ولا المركب من الطبيعى والاختيارى .وإذا لم يجب عود
4
واحد من الأسباب المبنى عليها مجرى الكل اختل العود كله فلم يجب أن يكون كما كان.
5
وذهب عليه الاختيار أيضا مما يجب عوده، إن كانت العودة تصح.
6
فإن الاختيار مستند أيضًا إلى الأسباب الأول.
7
والذى عندى فى هذا أنه إن كان يتفق أن يعود تشكل واحد بعينه، كما هو، فستعود
8
الأمور إلى مثل حالها. لكن السبيل إلى إثبات عود الشكل الواحد مما لا يمكن بوجه من
9
الوجوه. وذلك أنه إنما يمكن أن تقع للأمور المختلفة عودات جامعة، إذا كانت نسبة العودات
10
الخاصة بعضها إلى بعض نسبة عدد إلى عدد فكانت مشتركة فى واحد يعدها، فيوجد حينئذ
11
لجميعها عدد يعدها؛ مثلا أن تكون إحدى العودات عددها خمسة والآخر سبعة والثالث
12
عشرة تشترك فى الوحدة، فيكون عدد السبعين عودا مشتركا يعده هذه الأعداد .فيكون
13
إذا عاد صاحب الخمسة أربع عشرة عودة، أو صاحب السبعة عشرة، وصاحب العشرة
14
سبعًا، اجتمع الجميع معا. ثم جعل يعود فى المدد المتساوية أشكال متشابهة، لما سلف،
15
وإن تكن نسبة مدد العودات نسبة عدد إلى عدد ــ وذلك جائز لأن المدد متصلة،
16
لا منفصلة .ولا يستحيل أن يكون المتصل مباينا للمتصل، كان مستقيما أو مستديرا ــ
17
فلا تكون نسبته إليه نسبة عدد إلى عدد. فقد صح وجودها هذا فى المقادير، فيصح
18
فى الحركات والأزمنة لا محالة. واستحال وجود شىء جامع تشترك فيه؛ إذ قد ثبت
198
1
فى صناعة الهندسة أن المقادير التى تشارك مقدارا فهى مشتركة، والمتباينات غير مشتركة،
2
فلا تشارك مقدارا واحدا، فلا يوجد لها مقدارا مشترك يعد جميعها. وإذا لم يوجد استحال
3
عود التشكل بعينه.
4
فإن كانت الحركة الأولى، ثم حركة الثوابت، ثم حركات الأوجات والجوزهرات،
5
ثم حركة السيارات، تتشارك مدد عوداتها الخاصية فى واحد يعدها، فستكون الإعادة
6
المدعاة واجبة.
7
وإن كان كلها، أو واحد منها، غير مشارك لم يكن ذلك.
8
لكن طريق إحاطتنا بهذه الأمور هو الرصد، والرصد هو على التقريب بأجزاء
9
الآلات المقسومة. ومثل هذا التقريب لا يحصّل التقدير الحقيقى. وحساب الأوتار
10
والقسى وما يبنى عليها أيضا مستعمل فيها الجذور الصم. وقد سومح فى أجزائها مجرى
11
المنطقيات والتفاوت بين المنطق والأصم مما لا يضبطه الحس، فكيف يحققه الرصد.
12
فإذن لا سبيل إلى إدراك ذلك من جهة الرصد والحساب المبنى عليه. وليس عندنا
13
فيه سبيل غيره.
14
وأما تقسيم العلماء الزمان بالشهور وألايام والساعات وأجزائها، وتقسيمهم الحركة
15
بإزائها، وايقاعهم بينهما نسبة عددية، فذلك على جهة التقريب، مع علمهم بأنه غير
16
ضرورى، إلا أنه مما لا يظهر تفاوته فى المدد المتقاربة. لكنه، وان لم يظهر فى المدد
17
المتقاربة، فيشبه أن يظهر فى المدد المتباعدة.
199
1
وأكثر ما يمكن أن يُحدَس فى هذا هو أنه يجوز أن تكون عودات متقاربة
2
الأحوال، وإن لم تكن متشابهة بالحقيقة. ويكون حال الكلى منها قريبا من حال
3
العودات الجزئية، كصيف يشبه صيفا، وربيع يشبه ربيعا، أو يكون أشد مشابهة من ذلك،
4
أو لعل الأمر يكون بخلاف هذا الحدس.
5
فإذ قد فرغنا من هذا البيان أيضا فبالحرى أن تختم هذا الفن بإشارة مختصرة
6
إلى علل الكون والفساد، فنقول:
7
إن لكل كائن مادة وصورة، وعلة فاعلة، وغاية تخصه يؤخذ ذلك بالاستقراء،
8
وعلى سبيل الوضع.
9
فأما جملة الكون والفساد واتصاله فعلته الفاعلية المشتركة التى هى أقرب، هى
10
الحركات السماوية، والتى هى أسبق فالمحرك لها.
11
والعلة المادية المشتركة هى العنصر الأول.
12
والعلة الصورية المشتركة هى الصورة التى للمادة قوة على غيرها مما لا يجتمع معها.
13
والعلة الغائية استبقاء الأمور التى لا تبقى بأعدادها واستحفاظها بأنواعها.
14
فإن المادة العنصرية لما كانت كما تلبس شيئا قد خلعت غيره، وكان الشىء كما
15
يكون هو قد فسد غيره، ولا سبيل إلى بقاء الكائنات بأشخاصها، دبرّ فى استبقاء أنواعها
16
بالتناسل والتحارث والتعاقب المتعلق بالكون والفساد.
200
1
والأسبق من ذلك هو الجود الإلهى المعطى كل موجود ما فى وسع قبوله، وإبقاؤه
2
إياه، كما يحتمله، إما بشخصه، كما للأجرام السماوية، وإما بنوعه، كما للعنصريات.
3
تم الفن الثالث من الطبيعيات بحمد الله ومّنه.