1
1
بسم الله الرحمن الرحيم
2
الفن السادس من الطبيعيات
3
وهوكتاب النفس
4
قد استوفينا فى الفن الأول الكلام على الأمور العامة فى الطبيعيات،
5
نم تلوناه بالفن الثانى فى معرفة السماء والعالم والأجرام
6
والصور والحركات الأولى فى عالم الطبيعة، وحققنا أحوال الأجسام
7
التى لا تفسد والتى تفسد، ثم تلوناه بالكلام على الكون والفساد
8
وأسطقساته ثم تلوناه بالكلام على أفعال الكيفيات الأولى وانفعالاتها
9
والأمزجة المتولدة منها، وبقى لنا أن نتكلم على الأمور الكائنة
10
فكانت الجمادات وما لا حس له ولا حركة إرادية أقدمها وأقربها
11
تكونا من العناصر فتكلمنا فيها فى الفن الخامس، وبقى لنا من
12
العلم النظر فى أمور النباتات والحيوانات، ولما كانت النباتات
13
والحيوانات، متجوهرة الذوات عن صورة هى النفس ومادة هى
14
الجسم والأعضاء وكان أولى ما يكون علما بالشىء هو ما يكون
2
1
من جهة صورته رأينا أن نتكلم أولا فى النفس ولم نر أن نبتر
2
علم النفس فنتكلم أولا فى النفس النباتية والنبات ثم فى النفس
3
الحيوانية والحيوان ثم فى النفس الإنسانية والإنسان، وإنما لم
4
نفعل ذلك لسببين أحدهما أن هذا التبتر مما يوعر ضبط علم
5
النفس المناسب بعضه لبعض والثانى أن النبات يشارك الحيوان
6
فى النفس التى لها فعل النمو والتغذية والتوليد ويجب لا محالة
7
أن ينفصل عنه بقوى نفسانية تخص جنسه ثم تخص أنواعه،
8
والذى يمكننا أن نتكلم عليه من أمر نفس النبات هو ما يشارك
9
فيه الحيوان، ولسنا نشعر كثير شعور بالفصول المنوعة لهذا
10
المعنى الجنسى فى النبات، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن نسبة
11
هذا القسم من النظر إلى أنه كلام فى النبات أولى منه إلى أنه كلام
12
فى الحيوان إذ كانت نسبة الحيوان إلى هذه النفس نسبة النبات
13
إليها، وكذلك أيضا حال النفس الحيوانية بالقياس إلى الإنسان
14
والحيوانات الأخر، وإذ كنا إنما نريد أن نتكلم فى النفس النباتية
15
والحيوانية من حيث هى مشتركة وكان لا علم بالمخصص إلا بعد
16
العلم بالمشترك وكنا قليلى الاشتغال بالفصول الذاتية لنفس نفس
17
ولنبات نبات ولحيوان حيوان لتعذر ذلك علينا فكان الأولى أن
18
نتكلم فى النفس فى كتاب واحد، ثم إن أمكننا أن نتكلم فى النبات
3
1
والحيوان كلاما مخصصا فعلنا، وأكثر ما يمكننا من ذلك يكون
2
متعلقا بأبدانها وبخواص من أفعالها البدنية، فَلَأن نقدم تعرف
3
أمر النفس ونؤخر تعرف أمر البدن أهدى سبيلا فى التعليم من أن
4
تقدم تعرف أمر البدن ونؤخر تعرف أمر النفس، فإن معونة معرفة
5
أمر النفس فى معرفة الأحوال البدنية أكثر من معونة معرفة أمر
6
البدن فى معرفة الأحوال النفسانية على أن كل واحد منهما معين
7
على الآخر، وليس أحد الطرفين بضرورى التقديم إلّا أنا آثرنا أن نقدم
8
الكلام فى النفس لما أبليناه من العذر، فمن شاء أن يغير هذا الترتيب
9
فعل بلا مناقشة لنا معه، فهذا هو الفن السادس، ثم نتلوه فى
10
الفن السابع بالنظر فى أحوال النبات وفى الفن الثامن بالنظر فى أحوال
11
الحيوان، وهناك نختم العلم الطبيعى، ونتلوه بالعلوم الرياضية فى
12
فنون أربعة، ثم نتلو ذلك كله بالعلم الإلهى ونردفه شيئا من علم
13
الأخلاق ونختم كتابنا هذا به.
4
1
المقالة الأولى
2
فصل ١
3
(فى إثبات النفس وتحديدها من حيث هى نفس)
4
نقول إن أول ما يجب أن نتكلم فيه إثبات وجود الشىء الذى
5
يسمى نفسا، ثم نتكلم فيما يتبع ذلك، فنقول إنا قد نشاهد أجساما
6
تحسّ وتتحرك بالإرادة، بل نشاهد أجساما تغتذى وتنمو وتولد
7
المثل وليس ذلك لها لجسميتها فبقى أن تكون فى ذواتها
8
مبادىء لذلك غير جسميتها والشىء الذى يصدر عنه هذه
9
الأفعال، وبالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على
10
وتيرة واحدة عادمة للإرادة فإنا نسميه نفسا، وهذه اللفظة إسم[*]إسم corrupt for اسم
11
لهذا الشىء لا من حيث جوهره ولكن من جهة إضافة ما له أى
12
من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل، ونحن نطلب جوهره والمقولة
13
التى يقع فيها من بعد، ولكنا الآن إنما أثبتنا وجود شىء
14
هو مبدأ لما ذكرنا وأثبتنا وجود شى، من جهة ما له عرض ما،
5
1
ونحتاج أن نتوصل من هذا العارض الذى له إلى أن نحقق ذاته
2
لنعرف ماهيته كأنا قد عرفنا أن لشىء يتحرك محركا ما ولسنا
3
نعلم من ذلك أن ذات هذا المحرك ما هو، فنقول إذا كانت
4
الأشياء التى نرى أن النفس موجودة لها أجساما وإنما يتم وجودها
5
من حيث هى نبات وحيوان بوجود هذا الشىء لها، فهذا الشىء
6
جزء من قوامها، وأجزاء القوام كما علمت فى مواضع هى قسمان
7
جزء يكون به الشىء هو ما هو بالفعل، وجزء يكون به الشىء
8
هو ما هو بالقوة وهو بمنزلة الموضوع، فإن كانت النفس من القسم
9
الثانى ولا شك أن البدن من ذلك القسم فالحيوان والنبات لا يتم
10
حيوانا ولا نباتا بالبدن ولا بالنفس، فيحتاج إلى كمال آخر هو
11
المبدأ بالفعل لما قلنا فذلك هو النفس وهو الذى كلامنا فيه،
12
بل ينبغى أن يكون النفس هو ما به يكون النبات والحيوان بالفعل
13
نباتا وحيوانا، فإن كان جسما أيضا فالجسم صورته ما قلنا، وإن
14
كان جسما بصورة ما فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ،
15
بل يكون كونه مبدأ من جهة تلك الصورة، ويكون صدور تلك
16
الأحوال عن تلك الصورة بذاتها وإن كان بتوسط هذا الجسم فيكون
17
المبدأ الأول تلك الصورة، ويكون أول فعله بوساطة هذا الجسم
18
ويكون هذا الجسم جزأ من جسم الحيوان لكنه أول جزء يتعلق
19
به المبدأ، وليس هو بما هو جسم إلّا من جملة الموضوع،
20
فبين أن ذات النفس ليست بجسم بل هى جزء للحيوان
6
1
والنبات، هى صورة أو كالصورة أو كالكمال، فنقول الآن إن
2
النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال
3
قوة وكذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبله من الصور
4
المحسوسة والمعقولة على معنى آخر قوة، ويصح أن يقال لها
5
أيضا بالقياس إلى المادة التى تحلها فيجتمع منهما جوهر مادى
6
نباتى أو حيوانى صورة، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى
7
استكمال الجنس بها نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة
8
كمال، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم تحصلها
9
طبيعة الفصل البسيط أو الغير البسيط منضافا إليها، فإذا انضاف
10
إليها كمل النوع، فالفصل كمال النوع بما هو نوع، وليس لكل
11
نوع فصل بسيط، قد علمت هذا، بل إنما هو للأنواع المركبة
12
الذوات من مادة وصورة، والصورة منها هو الفصل البسيط لما
13
هو كماله ثم كل صورة كمال وليس كل كمال صورة، فإن الملك
14
كمال المدينة والربان كمال السفينة وليسا بصورتين للمدينة
15
والسفينة، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة
16
للمادة وفى المادة، فإن الصورة التى هى فى المادة هى الصورة
17
المنطبعة فيها القائمة بها، أللهم إلّا أن يصطلح فيقال لكمال
18
النوع صوة النوع، وبالحقيقة فإنه قد استقر الاصطلاح على أن
7
1
يكون الشىء بالقياس إلى المادة صورة وبالقياس إلى الجملة غاية
2
وكمالا وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا وقوة محركة، وإذا كان
3
الأمر كذلك فالصورة تقتضى نسبة إلى شىء بعيد من ذات الجوهر
4
الحاصل منها وإلى شىء يكون به الجوهر الحاصل هو ما هو
5
بالقوة وإلى شىء لا تنسب الأفاعيل إليه، وذلك الشىء هو المادة،
6
لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة، والكمال يقتضى نسبة إلى
7
الشىء التام الذى عنه تصدر الأفاعيل لأنه كمال بحسب اعتباره
8
للنوع، فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال كان
9
أدل على معناها، وكان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع
10
وجوهها ولا تشذ النفس المفارقة للمادة عنه، وأيضا إذا قلنا إن
11
النفس كمال فهو أولى من أن نقول قوة وذلك لأن الأمور الصادرة
12
عن النفس منها ما هو من باب الحركة ومنها ما هو من باب
13
الإحساس والإدراك، والإدراك بالحرى أن يكون لها لا بما لها
14
قوة هى مبدأ فعل بل مبدأ قبول، والتحريك بالحرى أن يكون
15
لها لا بما لها قوة هى مبدأ قبول بل مبدأ فعل، وليس أن
16
ينسب إليها أحد الأمرين بأنها قوة عليه أولى من الآخر، فإن
17
قيل لها قوة وعنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك الاسم،
8
1
وإن قيل قوة واقتصر على أحد الوجهين عرض من ذلك ما قلنا،
2
وشىء آخر وهو أنه لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث
3
هى نفس مطلقا بل من جهة دون جهة، وقد بينا فى الكتب المنطقية
4
أن ذلك غير جيد ولا صواب ثم إذا قلنا كمال اشتمل على
5
المعنيين، فإن النفس من جهة القوة التى يستكمل بها إدراك
6
الحيوان كمال، ومن جهة القوة التى تصدر عنها أفاعيل
7
الحيوان أيضا كمال، والنفس المفارقة كمال والنفس التى لا
8
تفارق كمال، لكنا إذا قلنا كمال لم يعلم من ذلك بعد أنها
9
جوهر أو ليست بجوهر، فإن معنى الكمال هو الشىء الذى
10
بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا والنبات بالفعل نباتا وهذا لا
11
يفهم عنه بعد أنه جوهر أو ليس بجوهر، لكنا نقول لا شك لنا
12
فى أن هذا الشىء ليس جوهرا بالمعنى الذى يكون به الموضوع
13
جوهرا ولا أيضا بالمعنى الذى يكون به المركب جوهرا، فأما
14
جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه، فإن قال قائل إنى أقول للنفس
15
جوهرا وأعنى به الصورة ولست أعنى به معنى أعم من الصورة،
16
بل معنى أنه جوهر معنى أنه صورة، وهذا مما قاله خلق منهم،
17
فلا يكون معه موضع بحث واختلاف البتة، فيكون معنى قوله إن
18
النفس جوهر أنها صورة، بل يكون قوله الصورة جوهر كقوله
19
الصورة صورة أو هيئة أو الإنسان إنسان أو بشر، ويكون
9
1
هذيانا من الكلام، فإن عنى بالصورة ما ليس فى موضوع البتة أى
2
لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشىء الذى سميناه لك موضوعا
3
البتة فلا يكون كل كمال جوهرا، فإن كثيرا من الكمالات هى
4
فى موضوع لا محالة، وإن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركب
5
ومن حيث كونه فيه ليس فى موضوع، فإن كونه جزءا منه لا
6
يمنعه أن يكون فى موضوع، وكونه فيه لا كالشىء فى الموضوع
7
لا يجعله جوهرا كما ظن بعضهم لأنه لم يكن الجوهر ما لا يكون
8
بالقياس إلى شىء على أنه فى موضوع حتى يكون الشىء من
9
جهة ما ليس فى هذا الشىء على أنه فى موضوع جوهرا بل إنما
10
يكون جوهرا إذا لم يكن ولا فى شىء من الأشياء على أنه فى
11
موضوع، وهذا المعنى لا يدفع كونه فى شىء ما موجودا لا فى
12
موضوع فإن ذلك ليس له بالقياس إلى كل شىء حتى إذا قيس إلى
13
شىء يكون فيه لا كما يوجد الشىء فى موضوع صار جوهرا وإن
14
كان بالقياس إلى شىء آخر بحيث يكون عرضا بل هو اعتبار له فى
15
ذاته، فإن الشىء إذا تأملت ذاته ونظرت إليها فلم يوجد لها
16
موضوع البتة كانت فى نفسها جوهرا، وإن وجدت فى ألف شىء لا
17
فى موضوع بعد أن توجد فى شىء واحد على نحو وجود الشىء فى
18
الموضوع فهى فى نفسها عرض، وليس إذا لم يكن عرضا فى شىء
10
1
فهو جوهر فيه، فيجوز أن يكون الشىء لا عرضا فى الشىء ولا
2
جوهرا فى الشىء كما أن الشىء يجوز أن لا يكون واحدا فى
3
الشىء ولا كثيرا لكنه فى نفسه واحد أو كثير، وليس الجوهرى
4
والجوهر واحدا، ولا العرض بمعنى العرضى الذى فى إيساغوجى
5
هو العرض الذى فى قاطيغورياس، وقد بينا لك هذه الأشياء
6
فى صناعة المنطق، فبين أن النفس لا يزيل عرضيتها كونها فى
7
المركب كجزء بل يجب أن تكون فى نفسها لا فى موضوع البتة
8
وقد علمت ما الموضوع، فإن كان كل نفس موجودة لا فى موضوع
9
فكل نفس جوهر، وإن كانت نفس ما قائمة بذاتها والبواقى كل
10
واحدة منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر، وإن
11
كانت نفس ما قائمة فى موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب
12
فهى عرض، وجميع هذا كمال، فلم يتبين لنا بعد أن النفس
13
جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال، وغلط من ظن أن
14
هذا يكفيه فى أن يجعلها جوهرا كالصورة،
15
فنقول إنا إذا عرفنا أن النفس كمال بأى بيان وتفصيل فصلنا
16
الكمال لم نكن بعد عرفنا النفس وماهيّتها بل عرفناها من حيث
17
هى نفس، وإسم[*]وإسم corrupt for واسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها بل من
18
حيث هى مدبرة للأبدان ومقيسة إليها، فلذلك يؤخذ البدن فى
19
حدها كما يؤخذ مثلًا البناء فى حد البانى وإن كان لا يؤخذ
11
1
فى حده من حيث هو إنسان، ولذلك صار النظر فى النفس من العلم
2
الطبيعى لأن النظر فى النفس من حيث هى نفس نظر فيها من حيث
3
لها علاقة بالمادة والحركة، بل يجب أن نفرد لتعرفنا ذات
4
النفس بحثا آخر، ولو كنّا عرفنا بهذا ذات النفس لما أشكل علينا
5
وقوعها فى أى مقولة تقع فيها، فإن من عرف وفهم ذات الشىء
6
فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له لم يشكل عليه وجوده له
7
كما أوضحناه فى المنطق، لكن الكمال على وجهين كمال أول
8
وكمال ثانٍ، فالكمال الأول هو الذى يصير به النوع نوعا بالفعل
9
كالشكل للسيف، والكمال الثانى هو أمر من الأمور التى تتبع
10
نوع الشىء من أفعاله وانفعالاته كالقطع للسيف وكالتمييز والروية
11
والإحساس والحركة للانسان، فإن هذه كمالات لا محالة للنوع
12
لكن ليست أولى، فإنه ليس يحتاج النوع فى أن يصير هو ما
13
هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل، بل إذا حصل له
14
مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صارله هذه الأشياء بالقوة بعد
15
ما لم تكن بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن يحصل قبلها شىء
16
حتى تصير بالحقيقة بالقوة صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل،
17
فالنفس كمال أول، ولأن الكمال كمال لشىء فالنفس كمال
18
لشىء وهذا الشىء هو الجسم، ويجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى
12
1
الجنسى لا المادى كما علمت فى صناعة البرهان، وليس هذا
2
الجسم الذى النفس كماله كل جسم، فإنها ليست كمال الجسم
3
الصناعى كالسرير والكرسى وغيرهما بل كمال الجسم الطبيعى،
4
ولا كل جسم طبيعى فليست النفس كمال نار ولا أرض بل هى
5
فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه كمالاته الثانية بآلات
6
يستعين بها فى أفعال الحياة التى أولها التغذى والنمو، فالنفس
7
التى نحدها هى كمال أول لجسم طبيعى آلى له أن يفعل أفعال
8
الحياة،
9
لكنه قد يتشكّك فى هذا الموضع بأشياء، من ذلك أن لقائل أن
10
يقول إن هذا الحد لا يتناول النفس الفلكية فإنها تفعل بلا آلات،
11
وإن تركتم ذكر الآلات واقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك
12
شيئا فإن الحياة التى لها ليس هو التغذى والنمو ولا أيضا الحسّ
13
وأنتم تعنون بالحياة التى فى الحد هذا، وإن عنيتم بالحياة ما
14
للنفس الفلكية من الإدراك مثلا والتصوّر العقلى والتحريك لغاية إرادية
15
أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس، وأيضا إن كان التغذى
16
حياة فلم لا تسمون النبات حيوانا، وأيضا لقائل أن يقول ما الذى
17
أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا ولم لم يكفكم أن تقولوا إن الحياة
13
1
نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى الذى يصدر
2
عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس،
3
فلنشرع فى جواب واحد واحد من ذلك وحله، فنقول أما
4
الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين، مذهب من يرى أن كل
5
كوكب يجتمع منه ومن عدة كرات قد دبرت بحركته جملة
6
جسم كحيوان واحد فتكون حينئذ كل واحدة من الكرات يتم
7
فعلها بعدة أجزاء ذوات حركة فتكون هى كالآلات، وهذا القول
8
لا يستمرّ فى كل الكرات، ومذهب من يرى أن كل كرة فلها فى
9
نفسها حياة مفردة وخصوصا ويرى جسما تاسعا ذلك الجسم واحد
10
بالفعل لا كثرة فيه، فهؤلاء يجب أن يروا أن إسم[*]إسم corrupt for اسم النفس إذا
11
وقع على النفس الفلكية وعلى النفس النباتية فإنما يقع بالاشتراك،
12
وأن هذا الحد إنما هو للنفس الموجودة للمركبات، وإنه إذا
13
احتيل حتى تشترك الحيوانات والفلك فى معنى إسم[*]إسم corrupt for اسم النفس خرج
14
معنى النبات من تلك الجملة، على أن هذه الحيلة صعبة، وذلك
15
لأن الحيوانات والفلك لا تشترك فى معنى إسم[*]إسم corrupt for اسم الحياة ولا فى معنى
16
إسم[*]إسم corrupt for اسم النطق أيضا لأن النطق الذى هاهنا يقع على وجود نفس لها
14
1
العقلان الهيولانيان وليس هذا مما يصح هناك على ما ترى،
2
فإن العقل هناك عقل بالفعل، والعقل بالفعل غير مقوم للنفس
3
الكائنة جزء حد للناطق، وكذلك الحسّ هاهنا يقع على القوة التى
4
تدرك بها المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها،
5
وليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما ترى، ثم إن اجتهد
6
فجعل النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة ومدرك من
7
الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات والنفس الفلكية خرج النبات من
8
تلك الجملة، وهذا هو القول المحصل، وأما أمر الحياة والنفس فحل
9
الشك فى ذلك على ما نقول إنه قد صح أن الأجسام يجب أن
10
يكون فيها مبدأ للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،
11
فإن سمى مسم هذا المبدأ حياة لم تكن معه مناقشة، وأما المفهوم
12
عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران، أحدهما
13
كون النوع موجودا فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه أو كون
14
الجسم بحيث يصح صدور تلك الأفعال عنه، فأما الأول فمعلوم أنه
15
ليس معنى النفس بوجه من الوجوه، وأما الثانى فيدل على معنى أيضا
16
غير معنى النفس، وذلك لأن كون الشىء بحيث يصح أن يصدر
17
عنه شىء أو يوصف بصفة يكون على وجهين، أحدهما أن يكون
15
1
فى الوجود شىء غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل
2
كون السفينة بحيث تصدر عنه المنافع السفينية وذلك مما يحتاج
3
إلى الربان حتى يكون هذا الكون، والربان وهذا الكون ليس
4
شيئا واحدا بالموضوع، والثانى أن لا يكون شىء غير هذا الكون
5
فى الموضوع مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من
6
يجعل نفس هذا الكون الحرارة حتى يكون وجود الحرارة فى الجسم
7
هو وجود هذا الكون، وكذلك وجود النفس وجود هذا الكون
8
على ظاهر الأمر إلّا أن ذلك فى النفس لا يستقيم، فليس المفهوم
9
من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا، وكيف لا يكون كذلك
10
والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال
11
ومبدأ ثم للجسم هذا الكون، والمفهوم من الكمال الأول الذى
12
رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر لأن الكمال الأول ليس له
13
مبدأ وكمال أول، فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس واحدا إذا
14
عنينا بالحياة ما يفهمه الجمهور، وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة
15
مرادفة للنفس فى الدلالة على الكمال الأول لم نناقش، وتكون الحياة
16
إسما[*]إسما corrupt for اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال الأول،
17
فقد عرفنا الآن معنى الإسم[*]الإسم corrupt for الاسم الذى يقع على الشىء الذى سمى
18
نفسا بإضافة له، فبالحرى أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشىء
19
الذى صار بالاعتبار المقول نفسا، ويجب أن نشير فى هذا الموضع
20
إلى إثبات وجود النفس التى لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير
16
1
إشارة سديدة الموقع عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من
2
غير احتياج إلى تثقيفه وقرع عصاه وصرفه عن المغلطات، فنقول
3
بجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا لكنه
4
حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى فى هواء أو خلاء
5
هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما يحوج أن يحسّ،
6
وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل
7
يثبت وجود ذاته فلا يشكّ فى إثباته لذاته موجودة ولا يثبت
8
مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا
9
ولاشيئا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها
10
طولا ولا عرضا ولا عمقا، ولو أنه أمكنه فى تلك الحالة أن يتخيل
11
يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا فى ذاته،
12
وأنت تعلم أن المثبت غير الذى لم يثبت، والمقربة غير الذى لم
13
يقربه، فإذن الذات التى أثبت وجودها خاصية له على أنها هو
14
بعينه غير جسمه وأعضائه التى لم يثبت، فإذًا المتنبه له سبيل
15
إلى أن يتنبه على وجود النفس شيئا غير الجسم بل غير جسم،
16
وأنه عارف به مستشعر له وإن كان ذاهلا عنه يحتاج أن يقرع
17
عصاه،
17
1
فصل ٢
2
(فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها ونقضه)
3
فنقول قد اختلف الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسلك إليه
4
فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة، ومنهم من سلك
5
إليه من جهة الإدراك، ومنهم من جمع المسلكين، ومنهم من
6
سلك طريق الحياة غير مفصلة، فمن سلك منهم جهة الحركة فقد
7
كان يخيل عنده أن التحريك لا يصدر إلّا عن متحرك وأن المحرك
8
الأول يكون لا محالة متحركا بذاته، وكانت النفس محركة أولية
9
إليها يتراقى التحريك من الأعضاء والعضل والأعصاب، فجعل
10
النفس متحركة لذاتها وجعلها لذلك جوهرا غير مائت معتقدا أن
11
ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت، قال ولذلك ما كانت الأجسام
12
السماوية ليست تفسد والسبب فيه دوام حركتها، فمنهم من
13
منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا
14
لذاته، ومنهم من جعلها جسما وطلب الجسم المتحرك بذاته،
15
فمنهم من جعلها ما كان من الأجرام التى لا تتجزأ كريا ليسهل
16
دوام حركتها، وزعم أن الحيوان يستنشق ذلك بالتنفس وأن
18
1
التنفس غذاء للنفس، وأن النفس يستبقى النفس بإدخال بدل ما
2
يخرج من ذلك الجنس من الهباء التى هى الأجرام التى لا تتجزأ
3
التى هى المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ، وأنها متحركة بذاتها كما ترى من حركة
4
الهباء دائما فى الجو، ولذلك صلحت أن تحرك غيرها، ومنهم
5
من قال إنها ليست هى النفس بل إن محركها هو النفس وهى
6
فيها وتدخل البدن بدخولها، ومنهم من جعل النفس نارا ورأى أن
7
النار دائمة الحركة، وأما من سلك طريق الإدراك فمنهم من
8
رأى أن الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له،
9
فوجب أن تكون النفس مبدأ، فجعلها من الجنس الذى كان يراه
10
المبدأ إما نارا أو هواء أو أرضا أو ماء، ومال بعضهم إلى القول
11
بالماء لشدة رطوبة النطفة التى هى مبدأ التكون، وبعضهم جعلها
12
جسما بخاريا إذ كان يرى البخار مبدأ الأشياء، وعلى حسب
13
المذاهب التى عرفتها، فكل هؤلاء كان يقول إن النفس إنما تعرف
14
الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها، وكذلك من رأى
15
أن المبادى هى الأعداد فإنه جعل النفس عددا، ومنهم من رأى
16
أن الشىء إنما يدرك ما هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه
17
المدرك بالفعل فجعل النفس مركبا من الأشياء التى يراها عناصر،
19
1
وهذا هو أنبادقليس فإنه جعل النفس مركبة من العناصر الأربعة
2
ومن الغلبة والمحبة، وقال إنما تدرك النفس كل شىء بشبيهه فيها،
3
وأما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا إن النفس عدد محرك
4
لذاته، فهى عدد لأنها مدركة ومحركة لذاتها لأنها محركة
5
أولية، وأما الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخص فمنهم من قال
6
إن النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها، ومنهم من قال بل برودة
7
وإن النفس مشتق من النفس، والنفس هو الشىء المبرد ولهذا
8
ما نتبرد بالاستنشاق لنحفظ جوهر النفس، ومنهم من قال بل
9
النفس هو الدم لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة، ومنهم من قال
10
بل النفس مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم يتغير صحت الحياة،
11
ومنهم من قال بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر وذلك لأنا نعلم
12
أن تأليفا ما يحتاج إليه حتى يكون من العناصر حيوان، ولأن النفس
13
تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم والأرابيع والطعوم وتلتذ
14
بها، ومن الناس من ظن أن النفس هو الإله ــ تعالى عما يقوله
15
الملحدون ــ وأنه يكون فى كل شىء بحسبه فيكون فى شىء طبعا
16
وفى شىء عقلا وفى شىء نفسا ــ سبحانه وتعالى عما يشركون،
17
فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس،
18
وكلها باطل، فأما الذين تعلقوا بالحركة فأول ما يلزمهم من
20
1
المحال أنهم نسوا السكون، فإن كانت النفس تحرك بأن تتحرك
2
وكان لا محالة تحركها علة للتحريك فلم يخل تسكينها إما أن
3
يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها
4
إلى التسكين والتحريك واحدة، فلم يمكن أن يقال إنّها تحرك بأن
5
تتحرك، وقد فرضوا ذلك، أو يصدر عنها وقد سكنت، فلا تكون
6
متحركة بذاتها، وأيضا قد عرفت مما سلف أنه لا متحرك إلّا من
7
محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته، فلا تكون النفس شيئا
8
متحركا من ذاته، وأيضا فإن هذه الحركة لا يخلوا إما أن تكون
9
مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك، فإن كانت مكانية فلا يخلوا
10
إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية، فإن كانت طبيعية
11
فتكون إلى جهة لا محالة فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة
12
فقط، وإن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها ولا يكون أيضا
13
تحريكها بذاتها، بل الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول
14
وأن يكون هو النفس، وإن كانت نفسانية فالنفس قبل النفس،
15
وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما واحدة لا تختلف فيكون تحريكها
16
على تلك الجهة الواحدة، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت
17
سكونات لا محالة، فلا تكون متحركة لذاتها، وأما الحركة
18
من جهة الكم فأبعد شىء من النفس، ثم لا يكون شىء متحركا
19
من جهة الكم بذاته بل لدخول داخل عليه أو استحالة فى ذاته،
20
وأما الحركة على سبيل الاستحالة فإما أن تكون حركة فى كونها
21
1
نفسا، فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا، وإما حركة فى
2
عرض من أعراض كونها نفسا، فأول ذلك أن لا يكون تحركها
3
من نحو تحريكها بل تكون ساكنة فى المكان حين تحرك فى
4
المكان، والثانى أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك
5
العرض وإذا حصل فقد وقفت الاستحالة، وأيضا فقد تبين لك أن
6
النفس لا ينبغى أن تكون جسما، والمحرك الذى يحرك فى المكان
7
بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة، ولو كان للنفس
8
الحركة والانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم تعود إليه وهؤلاء
9
يجعلون مثل النفس مثل زيبق يجعل فى بعض الأجسام فإذا
10
ترجرج تحرك ذلك الجسم، ويدفعون أن تكون الحركة حركة
11
اختيار، وأيضا فقد علمت أن القول بالهباآت[*]بالهباآت corrupt for بالهباءات هذر باطل،
12
وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى جزاف، ثم من
13
المحال ما قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ما
14
وراءه، فإنا نعلم وندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادلها، وأما بيان
15
ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات فهو أنا نعلم
16
أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها، ولا هى مبدأ
17
للأسطقسات، وهى أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى الوجود
22
1
وإما أن لا يكون، وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية،
2
فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال إن النار والماء وغير ذلك مبادلها[*]مبادلها probably corrupt for مبادئها
3
فنعلمها بها ولا بالعكس، وأيضا إما أن تكون معرفة النفس بما
4
هى مبدأ له إنما تتناول عين ذلك المبدأ أو تتناول الأشياء التى
5
تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ أو تكون بكليهما، فإن كانت
6
إنما تتناول المبدأ أو تتناول كليهما وكان العالم بالشىء يجب
7
أن يكون مبدأ له فتكون النفس أيضا مبدأ للمبدأ وأيضا مبدأ
8
لذاتها لأنها تعلم ذاتها، وإن كانت ليس تعلم المبدأ ولكن تعلم
9
الأحوال والتغيرات التى تلحقه فمن الذى يحكم بأن الماء أو
10
النار أو أحد هذه مبدأ، وأما الذين جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا
11
لأن المبدأ لكل شىء عدد بل قالوا ماهية كل شىء عدد وحده
12
عدد وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان رأيهم فى المبدأ فى
13
موضع آخر وسندل فى صناعة الفلسفة الأولى أيضا على استحالة
14
رأيهم هذا وما أشبهه فإن مذهبهم هاهنا قد يفسد من حيث
15
النظر الخاص بالنفس، وذلك بأن ننظر ونتأمل هل النفس إنما تكون
16
نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة أو بأنها مثلا زوج أو قرد
17
أو شىء أعم من عدد معين، فإن كانت النفس إنما هى ما هى
18
بأنها عدد معين فما يقولون فى الحيوان المجزر الذى إذا قطع
19
تحرك كل جزء منه وأحسّ، وإذا أحسّ فلا محالة هناك تخيل ما،
23
1
وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة عن
2
تخيل ما لا محالة، ومعلوم أن الجزئين يتحركان عن قوتين فيهما
3
وأن كل واحد منهما أقل من العدد الذى كان فى الجملة، وإنما
4
كانت النفس عندهم العدد الذى فى الجملة لا غير، فيكون هذان
5
الجزءان يتحركان لا عن نفس، وهذا محال، بل فى كل واحد منهما
6
نفس من نوع نفس الآخر، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل
7
متكثرة بالقوة تكثرا إلى نفوس، وإنما تفسد فى الحيوان المجزر
8
نفساه ولا تفسد فى النبات لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية
9
لاستبقاء فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المجزر، بل بعض بدن
10
الحيوان المجزر لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس، وفى
11
بعضه الآخر ذلك المبدأ ولكنه يحتاج فى استبقاءه ذلك إلى صحبة
12
من القسم الآخر، فيكون بدنه متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى
13
التعاون على حفظ المزاج، وإن لم تكن النفس عددا معينا بل
14
كانت عددا له كيفية ما وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد
15
نفوس كثيرة، فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى
16
كثير من الأفراد أفرادا وفى كثير من المربعات مربعات، وكذلك
17
سائر الاعتبارات، وأيضا فإن الوحدات المجتمعة فى العدد إما أن
18
يكون لها وضع أو لا يكون لها، فإن كان لها وضع فهى نقط،
24
1
وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة تلك النقط أو لا تكون
2
لذلك بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك، لكنهم جعلوا الطبيعة
3
النفسية مجرد عددية، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس،
4
فيكون كل جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس، وكل
5
جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت فيكون كل جسم من شأنه
6
أن يصير ذا نفس لفرض النقط فيه، وإن كانت عددا لا
7
وضع له وإنما هى آحاد متفرقة فبماذا تفرقت وليس لها مواد مختلفة
8
ولا قرن بها صفات أخر وفصول أخرى، وإنما تتكثرالأشياء المتشابهة
9
فى المواد المختلفة، فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع ولها
10
أبدان شتى، ثم فى الحالين جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات
11
أو النقط معا لأنه إن كان ارتباطها بعضها بعض والتيامها للطبيعة
12
الوحدية والنقطية فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة إلى
13
الاجتماع من أى موضع كانت، وإن كان لجامع فيها جمع واحدة
14
منها إلى الأُخرى وضام ضم بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو
15
يحفظها مرتبطة فذلك الشىء أولى أن يكون نفسا،
16
وأما الذين قالوا إن النفس مركبة من المبادى حتى يصح أن
17
تعرف المبادى وغير المبادى بما فيها منها وإنها إنما تعرف كل
18
شىء بشبهه فيها فقد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء
19
التى تحدث عن المبادى مخالفة لطبيعتها، فإن الاجتماع قد يحدث
25
1
هيئآت[*]هيئآت corrupt for هيئات فى المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ وصورا لا توجد فيها مثل العظمية واللحمية
2
والانسانية والفرسية وغير ذلك، فيجب أن تكون هذه الأشياء
3
مجهولة للنفس إذ ليس فيها هذه الأشياء بل إنما فيها أجزاء المبادى
4
فقط، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا كما فيه
5
نار وارض وغلبة ومحبة فقد ارتكب العظيم، ثم إن كان فى النفس
6
إنسان ففي النفس نفس ففيها مرة أخرى إنسان وفيل، ويذهب
7
ذلك إلى غير النهاية، وقد يشنع عليه من جهة أنه يجب على هذا
8
الوضع أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من
9
الأشياء، وكلاهما كفر، ومع ذلك فيجب أن يكون غير عالم بالغلبة
10
لأنه لا غلبة فيه، فإن الغلبة توجب التفريق والفساد فيما
11
تكون فيه، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادى[*]بالمبادى Middle Arabic for بالمبادئ، وهذا
12
شنيع وكفر، ثم يلزم من هذا أن تكون الأرض أيضا عالمة
13
بالأرض والماء بالماء وأن تكون الأرض لا تعلم الماء والماء لا
14
يعلم الأرض، ويكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد، ويجب
15
أن تكون الأعضاء التى فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض،
16
وليست كذلك، بل هى غير حساسة لا بالأرض ولا بغيرها وذلك
17
كالظفر والعظم، ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده أولى من أن
18
يتأثر عن شكله، وأنت تعلم أن الإحساس تأثر ما وانفعال ما،
19
ويجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد، فيكون
26
1
البياض والسواد ليس يدركان بحاسة واحدة بل يدرك البياض
2
بجزء من البصر هو أبيض والسواد بجزء منه هو أسود، ولأن
3
الألوان لها تركيبات بلا نهاية فيجب أن يكون قد أعد للبصر
4
أجزاء بلا نهاية مختلفة الألوان، وإن كان لا حقيقة للوسائط وما
5
هى إلّا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر فيجب
6
أن يكون مدرك البياض يدرك البياض صرفا ومدرك السواد يدرك
7
السواد صرفا إذ لا يمكن أن يدرك غيره، فيجب أن لا يشكل
8
علينا بسائط الممتزج ولا يتخيل إلينا الوسائط التى لا يظهر فيها
9
بياض وسواد بالفعل، وكذلك يجب أن ندرك المثلث بالمثلث
10
والمدور بالمدور والأشكال الأُخرى التى لا نهاية لها والأعداد
11
أيضا بأمثالها، فتكون فى الحاسة أمثال بلا نهاية، وهذا كله
12
محال، وأنت تعلم أن الشىء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا
13
للأضداد تعرف به كالمسطرة المستقيمة يعرف بها المستقيم والمنحنى
14
جميعا، وأنه لا يجب أن يعلم كل شىء بشىء خاص،
15
وأما الذين جعلوا النفس جسما يتحرك بحركته المستديرة التى
16
يتحركها على الأشياء ليدرك بها الأشياء فسنوضح بعد فساد قولهم
17
حين نبين أن الإدراك العقلى لا يجوز أن يكون بجسم، وأما
18
الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم فيما سلف بطلان هذا القول،
19
وعلى أنه ليس كل ما تفسد بفساده الحياة يكون نفسا، فإن
27
1
كثيرا من الأشياء والأعضاء والأخلاط وغير ذلك بهذه الصفة،
2
وليس بمنكر أن يكون شىء لا بد منه حتى تكون للنفس علاقة
3
بالبدن ولا يوجب ذلك أن يكون ذلك الشىء نفسا، وبهذا يعلم
4
خطأ من ظن أن النفس دم، فكيف يكون الدم محركا وحساسا،
5
والذى قال إن النفس تأليف فقد جعل النفس نسبة معقولة بين
6
الأشياء، فكيف تكون النسبة بين الأضداد محركا ومدركا،
7
والتأليف يحتاج إلى مؤلف لا محالة، فذلك المؤلف أولى أن
8
يكون هو النفس، وهو الذى إذا فارق وجب انتقاض التأليف،
9
ثم سيتضح فى خلال ما نعرفه من أمر النفس بطلان جميع هذه
10
الأقاويل بوجوه أخرى، فيجب الآن أن نكون نحن وراء طلب
11
طبيعة النفس، وقد قيل فى مناقضة هذه الآراء أقاويل ليست بالواجبة
12
ولا اللازمة وإنما تركناها لذلك،
13
فصل ٣
14
(فى أن النفس داخلة فى مقولة الجوهر)
15
فنقول نحن إنك تعرف مما تقدم لك أن النفس ليست بجسم،
16
فإن ثبت لك أن نفسا ما يصح لها الانفراد بقوام ذاتها لم يقع لك
17
شك فى أنها جوهر، وهذا إنما يثبت لك فى بعض ما يقال له نفس،
18
وأما غيره مثل النفس النباتية والنفس الحيوانية فإن ذلك لا يثبت
19
لك فيه، لكن المادة القريبة لوجود هذه الأنفس فيها إنما هى ما
28
1
هى بمزاج خاص وهيئة خاصة وإنما تبقى بذلك المزاج الخاص
2
بالفعل موجودا ما دام فيها النفس، والنفس هى التى تجعلها بذلك
3
المزاج فإن النفس هى لا محالة علة لتكون النبات والحيوان على
4
المزاج الذى له إذ كانت النفس هى مبدأ التوليد والتربية كما
5
قلنا، فيكون الموضوع القريب للنفس مستحيلا أن يكون هو ما هو
6
بالفعل إلّا بالنفس، وتكون النفس علة لكونه كذلك، ولا يجوز أن
7
يقال إن الموضوع القريب حصل موجودا على طباعه وكان
8
ذلك بسبب غير النفس ثم لحقته النفس لحوق ما لا قسط له بعد
9
ذلك فى حفظه وتقويمه وتربيته كالحال فى أعراض يتبع وجودها
10
وجود الموضوع لها اتباعا ضروريا ولا تكون مقومة لموضوعها بالفعل،
11
وأما النفس فإنها مقومة لموضوعها القريب موجدة إياه بالفعل كما
12
تعلم الحال فى هذا إذا تكلمنا فى الحيوان، وأما الموضوع البعيد
13
فبينه وبين النفس صور أخرى تقومه، وإذا فارقت النفس وجب
14
ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب صير الموضوع بحالة أخرى
15
وأحدث فيه صورة جمادية كالمقابلة للصورة المزاجية الموافقة
16
للنفس ولتلك الصورة، فالمادة لا تبقى بعد النفس على نوعها البتة
29
1
بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذى به كان موضوعا للنفس أو
2
تخلف النفس فيها صورة تستبقى المادة بالفعل على طبيعتها، فلا
3
يكون ذلك الجسم الطبيعى كما كان بل تكون له صورة وأعراض
4
أُخرى ويكون قد تبدل أيضا بعض أجزاءها وفارق مع تغير الكل
5
فى الجوهر، فلا تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة
6
النفس هى كانت موضوعة للنفس والآن هى موضوعة لغيرها فإذن
7
ليس وجود النفس فى الجسم كوجود العرض فى الموضوع، فالنفس
8
إذا جوهر لأنها صورة لا فى موضوع،
9
لكن لقائل أن يقول لنسلم أن النفس النباتية هذه صورتها فإنها
10
علة لقوام مادتها القريبة وأما النفس الحيوانية فيشبه أن تكون
11
النباتية تقوم مادتها ثم يلزمها اتباع هذه النفس الحيوانية إياها،
12
فتكون الحيوانية متحصلة فى مادة تقومت بذاتها وهى علة لقوام هذه
13
التى حلتها أعنى الحيوانية، فلا تكون الحيوانية إلّا قائمة فى موضوع،
14
فنقول فى جواب ذلك إن النفس النباتية بما هى نفس نباتية لا يجب
15
عنها إلّا جسم متغذ مطلقا، ولّا النفس النباتية مطلقة لها وجود إلّا
16
وجود معنى جنسى، وذلك فى الوهم فقط، وأما الموجود فى الأعيان
17
فهو أنواعها، والذى يجب أن يقال إن النفس النباتية سبب له
18
شىء أيضا عام كلى غير محصل وهو الجسم المتغذى النامى
30
1
المطلق الجنسى الغير المنوع، وأما الجسم ذو آلات الحسّ والتمييز
2
والحركة الإرادية فليس مصدره عن النفس النباتبة بما هى نفس
3
نباتية بل بما ينضم إليها فصل آخر تصير به طبيعة أُخرى، ولا يكون
4
ذلك إلّا أن تصير نفسا حيوانية،
5
بل يجب أن نبتدىء[*]نبتدىء corrupt for نبتدئ فنزيد هذا شرحا، فنقول إن النفس
6
النباتية إما أن تعنى بها النفس النوعية التى تخص النبات دون
7
الحيوان، أو يعنى بها المعنى العام الذى يعم النفس النباتية
8
والحيوانية من جهة ما تغذى وتولد وتنمى، فإن هذا قد يسمى
9
نفسا نباتية، وهذا مجاز من القول، فإن النفس النباتية لا تكون
10
إلّا فى النبات، ولكن المعنى الذى يعم نفس النبات والحيوان
11
يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات، ووجوده كما يوجد
12
المعنى العام فى الأشياء، وإما أن تعنى بها القوة من قوى النفس
13
الحيوانية التى تصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد، فإن عنى
14
بها النفس النباتية التى هى بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء
15
نوعية فذلك يكون فى النبات لا غير، ليس فى الحيوان، وإن عنى
16
بها المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى
17
خاص فإن الصانع العام هو الذى ينسب إليه المصنوع العام،
18
والصانع النوعى كالنجار هو الذى ينسب إليه المصنوع النوعى،
19
والصانع المعين هو الذى ينسب إليه المصنوع المعين، وهذا
31
1
شىء قد مرّ لك تحقيقه، فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة
2
من أمر الجسم أنه نام عام، وأما أنه نام بحيث يصلح لقبول
3
الحسّ أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى النفس النباتية من حيث
4
هى عامة، ولا هذا المعنى يتبعها، وأما القسم الثالث فيستحيل
5
أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية تأتى وحدها فتفعل
6
بدنا حيوانيا، ولو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمم جسما
7
نباتيا، وليس كذلك بل إنما تتمم جسما حيوانيا بآلات الحسّ
8
والحركة، فتكون هى قوة لنفس لتلك النفس قوى أُخرى، وهذه
9
القوة من قواها تتصرف على المثال الذى يؤدى إلى استعداد الآلة
10
للكمالات الثانية التى لتلك النفس التى هذه قوتها، وتلك النفس
11
هى الحيوانية، ويتضح من بعد أن النفس واحدة وأن هذه قوى
12
تنشعب عنها فى الأعضاء، ويتأخر فعل بعضها ويتقدم بحسب
13
استعداد الآلة فالنفس التى لكل حيوان هى جامعة أسطقصات بدنه
14
ومؤلفتها ومركبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها، وهى
15
حافظة لهذا البدن على النظام الذى ينبغى فلا يستولى عليه
16
المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه، ولولا ذلك لما
17
بقى على صحته، ولاستيلاء النفس عليه ما يعرض من قوة القوة
18
النامية وضعفها عند استشعار النفس قضايا تكرهها أو تحبها كراهية
32
1
ومحبة ليست ببدنية البتة، وذلك عندما يكون الوارد على النفس
2
تصديقا ما وليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد بل يتبع
3
ذلك الاعتقاد انفعال من سرور أو غم، وذلك أيضا من المدركات
4
النفسانية وليس يعرض للبدن بما هو بدن، فيؤثر ذلك فى القوة
5
النامية الغاذية حتى يحدث فيها من العارض الذى يعرض للنفس
6
أولا ــ وليكن الفرح النطقى ــ شدة ونفاذ فى فعلها، ومن
7
العارض المضاد لذلك ــ وليكن الغم النطقى الذى لا ألم بدنى فيه
8
ــ ضعف وعجز حتى يفسد فعلها، وربما انتقض المزاج به انتقاضا،
9
وكل هذا مما يقنعك فى أن النفس جامعة لقوتى الإدراك واستعمال
10
الغذاء، وهى واحدة لها ليست هذه منفردة عن تلك فبين أن
11
النفس هى مكملة البدن الذى هى فيه وحافظته على نظامه الذى
12
الأولى به أن يتميز ويتفرق إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق
13
مكانا آخر ويستوجب مفارقة لقرينه، وإنما يحفظه على ما هو عليه
14
شىء خارج عن طبيعته، وذلك الشىء هو النفس فى الحيوان،
15
فالنفس إذا كمال لموضوع ذلك الموضوع متقوم به، وهو
16
أيضا مكمل النوع وصانعه فإن الأشياء المختلفة الأنفس تصير بها
17
مختلفة الأنواع ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص، فالنفس إذن
18
ليست من الأعراض التى لا تختلف بها الأنواع ولا يكون لها
19
مدخل فى تقويم الموضوع، فالنفس إذن كمال كالجوهر وليس يلزم
33
1
هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق، فإنه ليس كل جوهر بمفارق،
2
فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة وقد علمت أنت أن الأمر كذلك،
3
فلندل الآن دلالة ما مختصرة على قوى النفس وأفعالها ثم نتبعها
4
بالاستقصاء،
5
فصل ٤
6
(فى تبيين أن اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها)
7
نقول إن للنفس أفعالا تختلف على وجوه، فيختلف بعضها بالشدة
8
والضعف وبعضها بالسرعة والبطوء، فإن الظن اعتقاد ما يخالف
9
اليقين بالتأكيد والشدة والحدس يخالف التلقن بسرعة الفهم،
10
وقد تختلف أيضا بالعدم والملكة مثل أن الشك يخالف الرأى،
11
فإن الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض والرأى اعتقاد أحد طرفى
12
النقيض، ومثل التحريك والتسكين، وقد تختلف بالنسبة إلى أمور
13
متضادة مثل الإحساس بالأبيض والإحساس بالأسود وإدراك الحلو
14
وإدراك المر، وقد تختلف بالجنس مثل إدراك اللون وإدراك
15
الطعم بل مثل الإدراك والتحريك، وغرضنا الآن أن نعرف القوى
16
التى تصدر عنها هذه الأفاعيل، وأنه هل يجب أن يكون لكل نوع
17
من الفعل قوة تخصه أولا يجب ذلك،
18
فنقول أما الأفعال المختلفة بالشدة والضعف فإن مبدأها قوة
19
واحدة لكنها تارة تكون أتم فعلا وتارة تكون أنقص فعلا، ولو
34
1
كان النقصان يقتضى أن يكون هناك للأنقص قوة غير القوة التى
2
للأتم لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان
3
والزيادة التى لا تكاد تتناهى بل القوة الواحدة يعرض لها تارة
4
أن نفعل الفعل أشد وأضعف بحسب الاختيار وتارة بحسب
5
مؤاتاة الآلة ويحسب عوائق من خارج أن يكون أولا يكون
6
وأن يقل أو يكثر، وأما الفعل وعدمه فقد سلف لك فى الأقاويل
7
الكلية أن مبدأ ذلك قوة واحدة، وأما اختلاف أفعالها التى من
8
باب الملكة بالجنس كالإدراك والتحريك وكإدراك وإدراك فذلك
9
مما بالحرى أن يفحص عنه فاحص فينظر مثلا هل القوى المدركة
10
كلها قوة واحدة إلّا أن لها إدراكات بذاتها هى العقليات وإدراكات
11
ما بآلات مختلفة بسبب اختلاف الآلات، فإن كانت العقليات
12
والحسّيات مثلا لقوتين فهل الحسّيات كلها التى تتخيل من باطن
13
والتى تدرك فى الظاهر لقوة واحدة، فإن كانت التى فى الباطن
14
لقوة أو قوى فهل التى فى الظاهر لقوة واحدة تفعل فى آلات
15
مختلفة أفعالا مختلفة، فإنه ليس بممتنع أن تكون قوة واحدة
16
تدرك أشياء مختلفة الأجناس والأنواع كما هو مشهور من حال
17
العقل عند العلماء ومشهور من حال الخيال عندهم بل كما أن
18
المحسوسات المشتركة التى يزعمون أنها العظم والعدد والحركة
19
والسكون والشكل قد تحسّ بكل واحدة من الحواسّ أو بعدة
35
1
منها وإن كانت بوساطة محسوس آخر، ثم هل قوة التحريك هى
2
قوة الإدراك ولم لا يمكن ذلك، وهل قوة الشهوة بعينها هى قوة
3
الغضب فإذا صادفت اللذة انفعلت على نحو وإن صادفت الأذى
4
انفعلت على نحو آخر، بل هل الغاذية والنامية والمولدة شتى من
5
هذه القوى، فإن لم تكن فهل هى قوة واحدة حتى إذا كان الشىء
6
لم يتم تصوره حركت الغذاء إلى أقطاره على هيئة وشكل، فإذا
7
استكمل حركت ذلك التحريك بعينه إلّا أن الشكل قد تم فلا
8
يحدث شكل آخر والعظم قد بلغ مبلغا لا تفى القوة بأن تورد من
9
الغذاء فيه أكثر مما يتحلل منه فيقف، وهناك يفضل من الغذاء
10
فضل يصح للتوليد، فتنفذه إلى أعضاء التوليد كما تنفذ الغذاء
11
إليها لتغذوها به لكنه يفضل عما تحتاج اليه أعضاء التوليد من
12
الغذاء فضل يصلح لباب آخر فتصرفه تلك القوة بعينها إليه كما
13
تفعل بفضول كثير من الأعضاء، ثم تعجز هذه القوة فى آخر
14
الحياة عن إيراد بدل ما يتحلل مساويا لما يتحلل، فيكون ذبول،
15
فلم نفرض قوة نامية ولا نفرض قوة مذبلة واختلاف الأفعال ليس
16
يدل على اختلاف القوى، فإن القوة الواحدة بعينها تفعل الأضداد،
17
بل القوة الواحدة تحرك بإرادات مختلفة حركات مختلفة، بل القوة
18
الواحدة قد تفعل فى موادّ مختلفة أفاعيل مختلفة، فهذه شكوك
36
1
يجب أن يكون حلها مهيأ عندنا حتى يمكننا أن ننتقل ونثبت قوى
2
النفس وأن نثبت أن عددها كذا وأن بعضها مخالف للبعض، فإن
3
الحق عندنا هذا،
4
فنقول أما أولا فإن القوة من حيث هى قوة بالذات وأولا هى
5
قوة على أمر ما ويستحيل أن تكون مبدأ لشىء آخر غيره، فإنها
6
من حيث هى قوة عليه مبدأ له، فإن كانت مبدأ لشىء آخر
7
فليست هى من حيث هى مبدأ فى ذاتها لذلك الأول، فالقوى
8
من حيث هى قوى إنما تكون مبادىء لأفعال معينة بالقصد الأول،
9
لكنه قد يجوز أن تكون القوة الواحدة مبدأ لأفعال كثيرة بالقصد
10
الثانى بأن تكون تلك كالفروع، فلا تكون مبدأ لها أولا، مثل أن
11
الإبصار إنما هو قوة أولا على إدراك الكيفية التى بها يكون الجسم
12
بحيث إذا توسط بين جسم قابل للضوء وبين المضىء لم يفعل
13
المضىء فيه الإضاءة، وهذا هو اللون، ثم اللون يكون بياضا
14
وسوادا، وأيضا القوة المتخيلة هى التى تستثبت صور الأمور
15
المادية من حيث هى مادية مجردة عن المادة نوعا من التجريد غير
16
بالغ كما نذكره بعد، ثم يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو
17
صوتا أو عظما أو غير ذلك، والقوة العاقلة هى التى تستثبت
18
صور الأمور من حيث هى بريئة عن المادة وعلائقها، ثم يتفق أن
37
1
يكون ذلك شكلا ويتفق أن يكون عددا، وقد يجوز أن تكون القوة
2
معدة نحو فعل بعينه لكنها تحتاج إلى أمر آخر ينضم إليها حينئذ حتى
3
يصير لها ما بالقوة حاصلا بالفعل، فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل،
4
فيكون مثل هذه القوة تارة مبدأ للفعل بالفعل وتارة غير مبدأ له
5
بالفعل بل بالقوة مثل القوة المحركة فإنها إذا صح الإجماع من
6
القوة الشوقية بسبب داع من التخيل أو المعقول إلى التحريك
7
حركت لا محالة، وإن لم يصح لم تحرك، وليس يصدر عن قوة
8
محركة واحدة بآلة واحدة إلّا حركة واحدة إذ الحركات الكثيرة
9
لكثرة آلات الحركة التى هى العضل فينا، وفى كل عضلة قوة محركة
10
جزئية لا تحرك إلّا حركة بعينها، وقد تكون القوة الواحدة أيضا
11
يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة والآلات المختلفة، وهذا
12
ظاهر،
13
فنقول الآن إن أول أقسام أفعال النفس ثلاثة، أفعال يشترك
14
فيها الحيوان والنبات كالتغذية والتربية والتوليد، وأفعال تشترك
15
فيها الحيوانات أو جلها ولاحظ فيها للنبات مثل الإحساس والتخيل
16
والحركة الإرادية، وأفعال تختص بالناس مثل تصور المعقولات
17
واستنباط الصنائع والروية فى الكائنات والتفرقة بين الجميل والقبيح،
18
فلو كانت القوى النفسانية واحدة وكانت الأفعال النباتية تصدر عن
38
1
القوة التى تصدر عنها الحيوانية صدورا أوليا لكان عدم الأجسام
2
النباتية وأعضاء الحيوان التى تغتذى ولا تحسّ مما هو صلب أولين
3
للإحساس إما أن يكون بسبب عدم القوة أو بسبب أن المادة
4
ليست تنفعل عنها، ومحال أن يقال إن المادة ليست تنفعل عن
5
الحرّ والبرد ولا تتأثر عنهما وعن الطعوم القوية والروائح القوية،
6
فإنها تنفعل عنها، فبقى أن يكون ذلك بسبب عدم القوة الفعالة
7
لذلك، وقد وجدت القوة الغاذية، فإذن القوتان مختلفتان، وأيضا
8
فإن تحريك النفس لا يخلوا إما أن يكون على سبيل نقل مطلق، وكل
9
جسم قابل للنقل مطلقا، وإما أن يكون النقل على سبيل قبض وبسط،
10
وفى أجسامنا أعضاء هى أقبل لذلك من العضل، وفيها حياة التغذى،
11
وليس يمكن تحريكها، فالسبب فى ذلك ليس من جهتها بل من جهة
12
فقدانها القوة المحركة، وكذلك بعض الأعصاب تنفذ فيه قوة الحسّ
13
وفى أجسامنا أعضاء هى أقبل لذلك من العضل، وفيها حياة التغذى،
14
بشىء يعتد به، بل قد يوجد ما يشاكل ما ينفذ فيه الحسّ ويزيد
15
عليه فى الكيف وينقص قد تنفذ فيه قوة الحركة، وقد يوجد ما هو
16
كذلك وليس تنفذ فيه قوة الحسّ، وكذلك يمكنك أن تعلم أن
39
1
العين ليست دون اللسان فى أن تفعل عن الطعوم المجاورة، ولا
2
تحسّ العين بالطعم من حيث هو مذوق ــ لست أقول من حيث
3
كيفية ــ ولا بالصوت، وأما القوة الإنسانية فسنبين من أمرها
4
أنها متبرئة الذات عن الانطباع فى المادة ونبين أن جميع الأفعال
5
المنسوبة إلى الحيوان يحتاج فيها إلى آلة، فإذن الحواسّ والتخيلات
6
لقوة أُخرى مادية غير القوة المحركة وإن كانت تفيض عنها،
7
وقوى الحركة أيضا متعلقة من وجه كما سنبين بقوى الحسّ والتخيل،
8
فإذا فهمت هذا وما أعطيناك من الأصول سهل عليك أن تعرف فرقان
9
ما بين القوى التى نحن فى ترتيبها وتعديدها، وتعلم أن كل قوة لها
10
فعل أولى فلا تشارك قوة أُخرى لها فعل أولى مخالف لفعلها الأولى،
11
فصل ٥
12
(فى تعديد قوى النفس على سبيل التصنيف)
13
لنعد الآن قوى النفس عدا على سبيل الوضع ثم لنشتغل بيان حال
14
كل قوة، فنقول القوى النفسانية تنقسم بالقسمة الأولى أقساما ثلاثة،
15
أحدها النفس النباتية، وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من
16
جهة ما يتولد وينمى ويغتذى، والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه
17
بطبيعة الجسم الذى قيل إنه غذاءه فيزيد فيه مقدار ما يتحلّل
18
أو أكثر أو أقل، والثانى النفس الحيوانية وهى الكمال الأول لجسم
40
1
طبيعى آلى من جهة ما يدرك الجزيئات ويتحرك بالإرادة، والثالث
2
النفس الإنسانية وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما
3
ينسب إليه أنه يفعل الأفاعيل الكائنة بالاختيار الفكرى والاستنباط
4
بالرأى ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية، ولو لا العادة لكان
5
الأحسن أن يجعل كل أول شرطا مذكورا فى رسم الثانى إن اردنا أن
6
نرسم النفس لا القوة النفسانية التى للنفس بحسب ذلك الفعل،
7
فإن الكمال مأخوذ فى حد النفس لا فى حد قوة النفس، وأنت ستعلم
8
الفرق بين النفس الحيوانية وبين قوة الإدراك والتحريك، وبين النفس
9
الناطقة وبين القوة على الأمور المذكورة من التمييز وغيره، فإن
10
أردت الاستقصاء فالصواب أن تجعل النباتية جنسا للحيوانية
11
والحيوانية جنسا للانسانية وتأخذ الأعم فى حد الأخص، ولكنك
12
إذا التفت إلى الأنفس من حيث القوى الخاصة لها فى حيوانيتها
13
وإنسانيتها فربما قنعت بما ذكرناه،
14
وللنفس النباتية قوى ثلاث، الغاذية وهى قوة تحيل جسما
15
غير الجسم الذى هى فيه إلى مشاكلة الجسم الذى هى فيه
16
فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه، والقوة المنمية وهى قوة تزيد فى
17
الجسم الذى هى فيه بالجسم المتشبه به زيادة متناسبة فى أقطاره
18
طولا وعرضا وعمقا ليبلغ به كمال النشوء، والقوة المولدة وهى
41
1
قوة تأخذ من الجسم الذى هى فيه جزءا هو شبيهه بالقوة فتفعل
2
فيه باستمداد أجسام أُخرى تتشبه به من التخليق والتمزيج ما يصيره
3
شبيها به بالفعل،
4
وللنفس الحيوانية بالقسمة الأولى قوتان محركة ومدركة،
5
والمحركة على قسمين إما محركة بأنها باعثة على الحركة وإما
6
محركة بأنها فاعلة، والمحركة على أنها باعثة هى القوة النزوعية
7
الشوقية، وهى القوة التى إذا ارتسمت فى التخيل الذى سنذكره
8
بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها بعثت القوة المحركة الأُخرى
9
التى نذكرها على التحريك، ولها شعبتان، شعبة تسمى قوة شهوانية
10
وهى قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية
11
أو نافعة طلبا للذة، وشعبة تسمى قوة غضبية وهى قوة تبعث على
12
تحريك يدفع به الشىء المتخيل ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة،
13
وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهى قوة تنبعث فى الأعصاب
14
والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات
15
المتصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ أو ترخيها أو تمدها
16
طولا فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ، وأما القوة
17
المدركة فتنقسم قسمين منها قوة تدرك من خارج ومنها قوة
18
تدرك من داخل، والمدركة من خارج هى الحواسّ الخمس أو
19
المدركة فتنقسم قسمين منها قوة تدرك من خارج ومنها قوة
20
صورة ما ينطبع فى الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات
21
اللون المتأدية فى الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام
42
1
الصقيلة، ومنها السمع وهى قوة مرتبة فى العصب المتفرق فى سطح
2
الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليه من تموج الهواء المنضغط بين
3
قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث عنه صوت فيتأدى
4
تموجه إلى الهواء المحصور الراكد فى تجويف الصماخ ويحركه
5
بشكل حركته وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع، ومنها
6
الشم وهى قوة مرتبة فى زائدتى مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتى
7
الثدى تدرك ما يؤدى إليها الهواء المستنشق من الرائحة الموجودة
8
فى البخار المخالط له أو الرائحة المنطبعة فيه بالاستحالة من جرم
9
ذى رائحة، ومنها الذوق وهى قوة مرتبة فى العصب المفروش
10
على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحلّلة من الأجرام المماسة له
11
المخالطة للرطوبة العذبة التى فيه مخالطة محيلة، ومنها اللمس
12
وهى قوة مرتبة فى أعصاب جلد البدن كله ولحمه تدرك ما يماسه
13
ويؤثر فيه بالمضادة المحيلة للمزاج أو المحيلة لهيئة التركيب،
14
ويشبه أن تكون هذه القوة عند قوم لا نوعا أخيرا بل جنسا لقوى
15
أربع أو فوقها منبثة معا فى الجلد كله، وإحداها حاكمة فى التضاد
16
الذى بين الحار والبارد، والثانية حاكمة فى التضاد الذى بين
17
الرطب واليابس، والثالثة حاكمة فى التضاد الذى بين الصلب
18
واللين، والرابعة حاكمة فى التضاد الذى بين الخشن والأملس إلّا
43
1
أن اجتماعها فى آلة واحدة يوهم تأحدها فى الذات، وأما القوى
2
المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات وبعضها
3
تدرك معانى المحسوسات، ومن المدركات ما يدرك ويفعل معا،
4
ومنها ما يدرك ولا يفعل، ومنها ما يدرك إدراكا أوليا ومنها ما
5
يدرك إدراكا ثانيا، والفرق بين إدراك الصورة وإدراك المعنى أن
6
الصورة هو الشىء الذى يدركه الحسّ الباطن والحسّ الظاهر معا،
7
الصورة هو الشىء الذى يدركه الحسّ الباطن والحسّ الظاهر معا،
8
الشاة لصورة الذئب أعنى لشكله وهيئته ولونه، فإن الحسّ الباطن
9
من الشاة يدركها لكن إنما يدركها أولا حسّها الظاهر، وأما المعنى
10
فهو الشىء الذى تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه
11
الحسّ الظاهر أولا مثل إدراك الشاة للمعنى المضاد فى الذئب أو
12
للمعنى الموجب لخوفها إياه وهربها عنه من غير أن يدرك الحسّ ذلك
13
البتة، فالذى يدرك من الذئب أولا الحسّ الظاهر ثم الحسّ الباطن
14
فانه يخص فى هذا الموضع باسم الصورة، والذى تدركه القوى
15
الباطنة دون الحسّ فيخص فى هذا الموضع باسم المعنى، والفرق
16
بين الإدراك مع الفعل والإدراك لا مع الفعل أن من أفعال بعض
17
القوى الباطنة أن يركب بعض الصور والمعانى المدركة مع بعض
18
ويفصله عن بعض، فيكون قد أدرك وفعل أيضا فيما أدرك، وأما
19
الإدراك لا مع الفعل فهو أن تكون الصورة أو المعنى يرتسم فى
20
الشىء فقط من غير أن يكون له أن يفعل فيه تصرفا البتة،
21
والفرق بين الإدراك الأول والإدراك الثانى أن الإدراك الأول هو
44
1
أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشىء
2
من نفسه، والإدراك الثانى هو أن يكون حصولها للشىء من جهة
3
شىء آخر أداها إليه، فمن القوى المدركة الباطنة الحيوانية قوة
4
بنطاسيا وهى الحسّ المشترك وهى قوة مرتبة فى التجويف الأول
5
من الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة فى الحواسّ الخمس
6
المتأدية إليه، ثم الخيال والمصورة وهى قوة مرتبة أيضا فى
7
آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من
8
الحواسّ الجزئية الخمس ويبقى فيه بعد غيبة تلك المحسوسات،
9
واعلم أن القبول لقوة غير القوة التى بها الحفظ، فاعتبر ذلك من
10
الماء فان له قوة قبول النقش والرقم وبالجملة الشكل وليس له
11
قوة حفظه، على أن نزيدك لهذا تحقيقا من بعد، وإذا أردت أن
12
تعرف الفرق بين فعل الحسّ العام الظاهر وفعل الحسّ المشترك
13
وفعل المصورة فتأمل حال القطر التى تنزل من المطر فترى خطا
14
مستقيما وحال الشىء المستقيم الذى يدور فيرى طرفه دائرة ولا
15
يمكن أن يدرك الشىء خطا أو دائرة إلّا ويرى فيه مرارا، والحسّ
16
الظاهر لا يمكن أن يراه مرتين بل يراه حيث هو، لكنه إذا ارتسم
17
فى الحسّ المشترك وزال قبل أن تنمحى الصورة من الحسّ المشترك
18
أدركه الحسّ الظاهر حيث هو، وأدركه الحسّ المشترك كأنه كائن
19
حيث كان فيه وكائن حيث صار إليه، فرأى امتدادا مستديرا أو
45
1
مستقيما، وذلك لا يمكن أن ينسب إلى الحسّ الظاهر البتة، وأما
2
المصورة فتدرك الأمرين وتتصورهما وإن بطل الشىء وغاب، ثم
3
القوة التى تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية ومفكرة بالقياس
4
إلى النفس الإنسانية وهى قوة مرتبة فى التجويف الأوسط من الدماغ
5
عند الدودة، من شأنها أن تركب بعض ما فى الخيال مع بعض
6
وتفصل بعضه عن بعض بحسب الإرادة، ثم القوة الوهمية وهى القوة
7
المرتبة فى نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعانى الغير
8
المحسوسة الموجودة فى المحسوسات الجزئية كالقوة الموجودة فى الشاة
9
الحاكمة بأن هذا الذئب مهروب عنه وأن هذا الولد هو المعطوف
10
عليه، ويشبه أن تكون هى أيضا المتصرفة فى المتخيلات تركيبا
11
وتفصيلا، ثم القوة الحافظة الذاكرة وهى قوة مرتبة فى التجويف
12
المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعانى الغير
13
المحسوسة فى المحسوسات الجزئية، ونسبة القوة الحافظة إلى القوة
14
الوهمية كنسبة القوة التى تسمى خيالا إلى الحسّ، ونسبة تلك القوة
15
إلى المعانى كنسبة هذه القوة إلى الصور المحسوسة، فهذه هى قوى
16
النفس الحيوانية،
17
وأما النفس الناطقه الإنسانية فتنقسم قواها إلى قوة عاملة وقوة
18
عالمة وكل واحدة من القوتين تسمى عقلا باشتراك الاسم أو
19
تشابهه، فالعاملة قوة هى مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل
20
الجزئية الخاصة بالروية على مقتضى آراء تخصها اصطلاحية، ولها
46
1
اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية، واعتبار بالقياس إلى
2
القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة، واعتبار بالقياس إلى نفسها،
3
فاعتبارها بحسب القياس إلى القوة الحيوانية النزوعية هو القبيل
4
الذى تحدث منه فيها هيئات تخص الإنسان يتهيأ بها لسرعة
5
فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء وما أشبه
6
ذلك، واعتبارها الذى بحسب القياس الى القوة الحيوانية المتخيلة
7
والمتوهمة هو القبيل الذى ينحاز إليها إذا اشتغلت باستنباط
8
التدابير فى الأمور الكائنة الفاسدة واستنباط الصناعات الإنسانية،
9
واعتبارها الذى بحسب القياس إلى نفسها هو القبيل الذى تتولد
10
فيه بين العقل العملى والعقل النظرى الآراء التى تتعلق بالأعمال
11
وتستفيض ذائعة مشهورة مثل أن الكذب قبيح والظلم قبيح لا على
12
سبيل التبرهن وما أشبه ذلك من المقدمات المحدودة الانفصال
13
عن الأوليات العقلية المحضة فى كتب المنطق وإن كانت إذا
14
برهن عليها صارت من العقلية أيضا على ما عرفت فى كتب
15
المنطق، وهذه القوة يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على
16
حسب ما توجبه أحكام القوة الأُخرى التى نذكرها حتى لا تنفعل
17
عنها البتة بل تنفعل تلك عنها وتكون مقموعة دونها لئلا
18
تحدث فيها عن البدن هيئآت انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية
19
وهى التى تسمى أخلاقا رذيلية، بل يجب أن تكون غير منفعلة
47
1
البتة وغير منقادة بل متسلطة فتكون لها أخلاق فضيلية، وقد يجوز
2
أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية أيضا، ولكن إن كانت هى
3
الغالبة تكون لها هيئة فعلية ولهذا العقل هيئة انفعالية، ولتسم
4
كل هيئة خلقا، فيكون شىء واحد يحدث منه خلق فى هذا وخلق فى
5
ذلك، وإن كانت هى المغلوبة تكون لها هيئة انفعالية ولذلك هيئة
6
فعلية غير غريبة، فيكون ذلك أيضا هيئتين وخلقين، أو يكون الخلق
7
واحدا له نسبتان، وإنما كانت الأخلاق التى فينا منسوبة إلى هذه
8
القوة لأن النفس الإنسانية كما يظهر من بعد جوهر واحد وله نسبة
9
وقياس إلى جنبتين، جنبة هى تحته وجنبة هى فوقه، وله بحسب
10
كل جنبة قوة بها تنتظم العلاقة بينه وبين تلك الجنبة فهذه القوة
11
العملية هى القوة التى له لأجل العلاقة التى الى الجنبة التى دونه
12
وهو البدن وسياسته وأما القوة النظرية فهى القوة التى له لأجل العلاقة
13
إلى الجنبة التى فوقه لينفعل ويستفيد منها ويقبل عنها، فكأن
14
للنفس منا وجهين، وجه إلى البدن ويجب أن يكون هذا الوجه غير
15
قابل البتة أثرا من جنس مقتضى طبيعة البدن، ووجه إلى المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ
16
العالية ويجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هناك والتأثر
17
منه، فمن الجهة السفلية تتولد الأخلاق ومن الجهة الفوقانية تتولد
18
العلوم، فهذه هى القوة العملية،
48
1
وأما القوة النظرية فهى قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية
2
المجردة عن المادة، فإن كانت مجردة بذاتها فأخذها لصورتها
3
فى نفسها أسهل، وإن لم تكن فإنها تصير مجردة بتجريدها إياها
4
حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شىء، وسنوضح كيفية هذا
5
من بعد، وهذه القوة النظرية لها إلى هذه الصور نسب مختلفة،
6
وذلك لأن الشىء الذى من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة
7
قابلا له وقد يكون بالفعل قابلا له، والقوة تقال على ثلاثة معان
8
بالتقديم والتأخير، فيقال قوة للاستعداد المطلق الذى لا يكون
9
خرج منه بالفعل شىء ولا أيضا حصل ما به يخرج كقوة الطفل
10
على الكتابة، ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشىء
11
إلّا ما يمكنه به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة كقوة
12
الصبى الذى ترعرع وعرف الدواة والقلم وبسائط الحروف على
13
الكتابة، ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة وحدث مع الآلة
14
أيضا كمال الاستعداد بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلا
15
حاجة إلى الاكتساب بل يكفيه أن يقصد فقط كقوة الكاتب
16
المستكمل للصناعة إذا كان لا يكتب، والقوة الأولى تسمى مطلقة
17
وهيولانية، والقوة الثانية تسمى قوة ممكنة، والقوة الثالثة تسمى
18
كمال القوة، فالقوة النظرية إذن تارة تكون نسبتها إلى الصور
19
المجردة التى ذكرناها نسبة ما بالقوة المطلقة، وذلك حينما تكون
49
1
هذه القوة التى للنفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذى بحسبها
2
وحينئذ تسمى عقلا هيولانيا، وهذه القوة التى تسمى عقلا هيولانيا
3
موجودة لكل شخص من النوع، وإنما سميت هيولانية تشبيها إياها
4
باستعداد الهيولى الأولى التى ليست هى بذاتها ذات صورة من
5
الصور، وهى موضوعة لكل صورة، وتارة نسبة ما بالقوة الممكنة
6
وهى أن تكون القوة الهيولانية قد حصل فيها من المعقولات
7
المعقولات الأولى التى يتوصل منها وبها إلى المعقولات الثانية،
8
أعنى بالمعقولات الأولى المقدمات التى يقع بها التصديق لا
9
باكتساب ولا بأن يشعر المصدق بها أنه كان يجوز له أن يخلو
10
عن التصديق بها وقتا البتة مثل اعتقادنا بأن الكل أعظم من
11
الجزء وأن الأشياء المساوية لشىء واحد بعينه متساوية، فما دام
12
إنما حصل فيها من معنى ما بالفعل هذا القدر بعد فإنها
13
تسمى عقلا بالملكة، ويجوز أن تسمى هذه عقلا بالفعل
14
بالقياس إلى الأولى لأن القوة الأولى ليس لها أن تعقل شيئا
15
بالفعل، وأما هذه فإن لها أن تعقل إذا أخذت تبحث بالفعل،
16
وتارة تكون نسبة ما بالقوة الكمالية، وهو أن يكون حصل فيها
17
أيضا الصور المعقولة المكتسبة بعد المعقولة الأولية إلّا أنه ليس
18
يطالعها ويرجع إليها بالفعل، بل كأنها عنده مخزونة فمتى شاء
19
طالع تلك الصور بالفعل فعقلها وعقل أنه قد عقلها، ويسمى عقلا
50
1
بالفعل لأنه عقل يعقل متى شاء بلا تكلف اكتساب وإن كان
2
يجوز أن يسمى عقلا بالقوة بالقياس إلى ما بعده، وتارة تكون النسبة
3
نسبة ما بالفعل المطلق وهو أن تكون الصور المعقولة حاضرة فيه
4
وهو يطالعها بالفعل، فيعقلها ويعقل أنه يعقلها بالفعل، فيكون
5
ما حصل له حينئذ عقلا مستفادا، وإنما سمى عقلا مستفادا لأنه
6
سيتضح لنا أن العقل بالقوة إنما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو
7
دائما بالفعل وأنه إذا اتصل العقل بالقوة بذلك العقل الذى
8
بالفعل نوعا من الاتصال انطبع فيه نوع من الصور تكون مستفادة
9
من خارج، فهذه أيضا مراتب القوى التى تسمى عقولا نظرية،
10
وعند العقل المستفاد يتم الجنس الحيوانى والنوع الإنسانى منه،
11
وهناك تكون القوة الإنسانية قد تشبهت بالمبادى[*]بالمبادى Middle Arabic for بالمبادئ الأولية
12
للوجود كله،
13
فاعتبر الآن وانظر إلى حال هذه القوى كيف يرؤس بعضها
14
بعضا وكيف يخدم بعضها بعضا، فإنك تجد العقل المستفاد رئيسا،
15
ويخدمه الكل، وهو الغاية القصوى، ثم العقل بالفعل يخدمه
16
العقل بالملكة، والعقل الهيولانى بما فيه من الاستعداد يخدم
17
العقل بالملكة، ثم العقل العملى يخدم جميع هذا لأن العلاقة
18
البدنية كما سيتضح بعد لأجل تكميل العقل النظرى وتزكيته
19
وتطهيره، والعقل العملى هو مدبر تلك العلاقة، ثم العقل العملى
20
يخدمه الوهم، والوهم يخدمه قوتان، قوة بعده وقوة قبله، فالقوة
21
التى بعده هى القوة التى تحفظ ما أداه الوهم أى الذاكرة،
51
1
والقوة التى قبله هى جميع القوى الحيوانية، ثم المتخيلة، تخدمها
2
قوتان مختلفتا المأخذين، فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار لأنها
3
تبعثها على التحريك نوعا من البعث، والقوة الخيالية تخدمها
4
بعرضها الصور المخزونة فيها المهيأة لقبول التركيب والتفصيل،
5
ثم هذان رئيسان [sic] لطائفتين، أما القوة الخيالية فتخدمها فنطاسيا
6
وفنطاسيا تخدمها الحواسّ الخمس، وأما القوة النزوعية فتخدمها
7
الشهوة والغضب، والشهوة والغضب تخدمهما القوة المحركة فى
8
العضل، فهاهنا تفنى القوى الحيوانية، ثم القوى الحيوانية
9
تخدمها النباتية، وأولها ورأسها المولدة، ثم النامية تخدم المولدة،
10
ثم الغاذية تخدمهما جميعا، ثم القوى الطبيعية الأربع تخدم هذه،
11
والهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة والجاذبة من جهة،
12
والدافعة تخدم جميعها، ثم الكيفيات الأربع تخدم جميع ذلك،
13
لكن الحرارة تخدمها البرودة، فإنها إما أن تعد للحرارة مادة أو
14
تحفظ ما هيأته الحرارة ولا مرتبة للبرودة فى القوى الداخلة فى
15
الأعراض الطبيعية إلّا منفعة تابع تال، وتخدمهما جميعا
16
اليبوسة والرطوبة، وهناك آخر درجات القوى،
52
1
المقالة الثانية
2
فصل ١
3
(فى تحقيق القوى المنسوبة إلى النفس النباتية)
4
فلنبدأ بتعريف حال القوى المذكورة قوة قوة ولنعرفها من جهة
5
أفعالها، وأول ذلك أفعال القوى النباتية، وأولها حال التغذية،
6
فنقول قد علمت فيما سلف نسبة الغذاء الى المغتذى وحد كل واحد
7
منهما وخاصيته، فنقول الآن إن الغذاء ليس إنما يستحيل دائما
8
إلى طبيعة المغتذى دفعة، بل أولا يستحيل استحالة ما عن كيفيته
9
ويستعد للاستحالة إلى جوهر المغتذى، فتفعل فيه قوة من خدم
10
القوة الغاذية، وهى الهاضمة وهى التى تذيب الغذاء فى الحيوان،
11
وتعده للنفوذ المستوى، ثم إن القوة الغاذية تحيله فى الحيوان
12
الدموى أول الإحالة إلى الدم والأخلاط التى منها قوام البدن على ما
13
بينا فى مواضع أخرى، وكل عضو فإنه يختص بقوة غاذية تكون
14
فيه وتحيل الغذاء إلى مشابهته الخاصة فتلصقه به، فالقوة الغاذية
15
تورد البدل أى بدل ما يتحلّل وتشبه وتلصق، وإنه وإن كان
16
الغذاء أكثر منافعه أنه يقوم بدل ما يتحلّل فإنه ليست الحاجة إلى
17
الغذاء لذلك فقط بل قد تحتاج اليه الطبيعة فى أول الأمر للتربية،
18
وإن كان بعد ذلك إنما تحتاج إلى وضعه موضع المتحلّل فقط،
19
فالقوة الغاذية من قوى النفس النباتية تفعل فى جميع مدة بقاء
20
الشخص وما دامت موجودة تفعل أفاعيلها وجد النبات والحيوان
53
1
باقيين، فإن بطلت لم يوجد النبات والحيوان باقيين، وليس
2
كذلك حال سائر القوى النباتية، والنامية تفعل فى أول كون
3
الحيوان فعلا ليس هو التغذية فقط، وذلك لأن غاية التغذية ما
4
حددناه، وأما هذه القوة فإنها توزع الغذاء على خلاف مقتضى
5
القوة الغاذية، وذلك لأن الذى للقوة الغاذية لذاتها أن تؤتى كل
6
عضو من الغذاء بقدر عظمه وصغره وتلصق به من الغذاء بمقداره
7
الذى له على السواء، وأما القوة النامية فإنها تسلب جانبا من
8
البدن من الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة فى جهة أُخرى فتلصقه
9
تلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أُخرى مستخدمة
10
للغاذية فى جميع ذلك، ولو كان الأمر إلى الغاذية لسوت بينها أو
11
لفضلت الجهة التى نقصتها النامية، مثال ذلك أن الغاذية إذا
12
انفردت وقوى فعلها وكان ما تورد أكثر مما يتحلّل فإنها تزيد فى
13
عرض الأعضاء وعمقها زيادة ظاهرة بالتسمين ولا تزيد فى الطول
14
زيادة يعتد بها، وأما المربية فإنها تزيد فى الطول أكثر كثيرا مما
15
تزيد فى العرض والزيادة فى الطول أصعب من الزيادة فى العرض،
16
وذلك لأن الزيادة فى الطول يحتاج فيها إلى تنفيذ الغذاء فى
17
الأعضاء الصلبة من العظام والعصب تنفيذا فى أجزاءها طولا
18
لتنميها وتبعد بين أطرافها، والزيادة فى العرض قد تغنى فيها
19
تربية اللحم وتغذية العظم أيضا عرضا من غير حاجة إلى تنفيذ
20
شىء كثير فيه وتحريكه، وربما كانت أعضاء هى فى أول النشوء
54
1
صغيرة وأعضاء هى فى أول النشوء كبيرة، ثم يحتاج فى آخر النشوء
2
أن يصير ما هو أصغر أكبر وما هو أكبر أصغر، فلو كان التدبير
3
إلى الغاذية لكان يستمرّ ذلك على نسبة واحدة، فالقوة الغاذية من
4
حيث هى غاذية تأتى بالغذاء وتقتضى إلصاقه بالبدن على النحو
5
المستوى أو القريب من المستوى وعلى الوجه الذى فى طبعها أن
6
تفعله عند الإسمان[*]الإسمان corrupt for الاسمان، وأما النامية فتوعز إلى الغاذية بأن تقسم
7
ذلك الغذاء وتنفذه إلى حيث تقتضى التربية خلافا لمقتضى الغاذية،
8
والغاذية تخدمها فى ذلك لأن الغاذية لا محالة هى الملصقة لكنها
9
تكون متصرفة تحت تصريف القوة المربية، والقوة المربية إنما
10
تنحو نحو تمام النشوء، وأما المولدة فلها فعلان، أحدهما تخليق
11
البزر وتشكيله وتطبيعه، والثانى إفادة أجزاءه فى الاستحالة الثانية
12
صورها من القوى والمقادير والأعداد والأشكال والخشونة والملاسة
13
وما يتصل بذلك متسخرة تحت تدبير المنفرد بالجبروت، فتكون
14
الغاذية تمدّها بالغذاء والنامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة،
15
فهذا الفعل يتم منها فى أول تكون الشىء، ثم يبقى التدبير مفوضا
16
إلى النامية والغاذية، فإذا كاد فعل النامية يستتم فحينئذ تنبعث
17
القوة المولدة فى توليد البزر والمنى لتسكنهما القوة التى هى
18
من جنسها مع الخادمتين، وبالجملة فإن القوة الغاذية مقصودة
19
ليحفظ بها جوهر الشخص، والقوة النامية مقصودة ليتم بها جوهر
55
1
الشخص، والقوة المولدة مقصودة ليستبقى بها النوع إذ كان
2
حب الدوام أمرا فائضا من الإله على كل شىء فما لم يصلح
3
أن يبقى بشخصه ويصلح أن يبقى بنوعه فإنه تنبعث فيه قوة إلى
4
استجلاب بدل يعقبه ليحفظ به نوعه، فالغاذية تورد بدل ما
5
يتحلّل من الشخص والمولدة تورد بدل ما يتحلّل من النوع، وقد
6
ظن بعضهم أن الغاذية نار لأن النار تغتذى وتنمو، وقد أخطأ من
7
وجهين، أحدهما من جهة أن الغاذية ليست تغتذى بنفسها بل
8
تغذو البدن وتنميه، والنار إن كانت تغتذى فهى إنما تغذى
9
وتنمى نفسها، ومن وجه آخر أن النار ليست تغتذى بل تتولد شيئا
10
بعد شىء ويطفأ ما تقدم، ثم لو كانت تغتذى وكان حكمها حكم غذاء
11
الأبدان لما كان يجب أن يكون للأبدان وقوف فى النمو، فإن النار
12
ما دامت تجد مادة لم تقف بل تزيدت إلى غير نهاية، وأعجب
13
من هذا ما قال صاحب هذا القول إن الأشجار تعرق من أسفل
14
لأن الأرضية تتحرك إلى أسفل وتفترع إلى فوق لأن النار
15
تتحرك إلى فوق، فأول غلطه هو أن كثيرا من النبات أغصانه
16
أقل من عروقه، وثانيا أنه لم لا ينفصل بهذه الحركة فيفارق
17
الثقيل الخفيف، فإن كان ذلك لتدبير النفس فليجعل التعريق
18
والتفريع أيضا للنفس، وعلى أنه يشبه أن يكون الفوق فى
19
النبات حيث رأسه، ورأس النبات عروقه ومنه منشأه، ثم إن آلة
20
هذه القوة الأولية هى الحار الغريزى، فإن الحار هو المستعد
56
1
لتحريك المواد ويتبعه البرد لتسكينها عند الكمالات من الخلق
2
مختومة عليها، وأما من الكيفيات المنفعلة فآلتها الأولية الرطوبة،
3
فإنها هى التى تتخلق وتتشكل وتتبعها اليبوسة، فإنها تحفظ الشكل
4
وتفيد التماسك، والقوة النباتية التى فى الحيوان فإنها تولد جسما
5
حيوانيا، وذلك لأنها نباتية تتعلق بها قوة الحيوان، وهى الفصل
6
الذى لها مما يشاركها فى كونها ذات قوة التغذية والنمو فتمزج
7
الأركان والعناصر مزاجا يصلح للحيوان إذ ليس تتولى مزاجها القوة
8
المشتركة بين النبات والحيوان من حيث هى مشتركة، فإنها من
9
حيث هى مشتركة لا توجب مزاجا خاصا، بل إنما توجب مزاجا
10
خاصا فيها لأنها مع أنها غاذية هى أيضا حيوانية فى طباعها
11
أن تحسّ وتحرك إذا حصلت الآلة، وهى بعينها حافظة لذلك
12
التأليف والمزاج حفظا إذا أضيف إلى ذوات التأليف كان قسريا، لأنه
13
ليس من طباع العناصر والأجسام المتضادة أن تأتلف لذاتها بل
14
من طباعها الميل إلى جهات مختلفة، وإنما تؤلفها النفس الخاصة
15
مثلا فى النخلة نفس نخلية وفى العنب نفس عنبية وبالجملة النفس
16
التى تكون صورة لتلك المادة، والنفس إذا صارت نخلية كان لها
17
مع أنها نفس النمو زيادة أنها نفس نخلية وفى العنب أنها نفس
18
عنبية، وليست النخلة تحتاج إلى نفس نباتية ونفس أخرى تكون
19
بتلك النفس نخلة وإن كان ليس لها أفعال خارجة عن أفعال
57
1
النبات، بل تكون نفسها النباتية فى نباتيتها أنها نخلية، وأما
2
النفس النباتية التى فى الحيوان فإنها تعد خلقة الحيوان نحو
3
أفعال غير أفعالها وحدها من حيث هى نباتية، فهى مدبرة
4
نفس حيوانية، بل هى بالحقيقة غير نفس نباتية أللهم إلّا أن يقال
5
إنها نفس نباتية بالمعنى الذى ذكرنا أعنى العام، فالفصل المقوم
6
الذى عنه نفس نفس من النفوس النباتية أعنى الفصول التى لنبت
7
ما دون نبت ما لا يكون إلّا مبدأ فعل نباتى مخصص فقط، وأما
8
النفس النباتية الحيوانية ففصلها القاسم إياها المقوم لنوع نوع
9
تحتها هو قوة النفس الحيوانية المقارنة لها التى يعد لها
10
البدن، وهو فصل على نحو الفصول التى تكون للبسائط لا التى
11
تكون للمركبات، وأما النفس الإنسانية فلا تتعلق بالبدن تعلقا صوريا
12
كما نبين، فلا تحتاج أن يعد لها عضو، نعم قد تتميّز الحيوانية
13
التى لها عن سائر الحيوانات وكذلك الأعضاء المعدة لحيوانيتها
14
أيضا،
58
1
فصل ٢
2
(فى تحقيق أصناف الإدراكات التى لنا)
3
فلنتكلم الآن فى القوى الحاسة والدراكة ولنتكلم فيها كلاما كليا،
4
فنقول يشبه أن يكون كل إدراك إنما هو أخذ صورة المدرك بنحو
5
من الأنحاء، فإن كان الإدراك إدراكا لشىء مادى فهو أخذ صورته
6
مجردة عن المادة تجريدا ما، إلّا أن أصناف التجريد مختلفة
7
ومراتبها متفاوتة، فإن الصورة المادية يعرض لها بسبب المادة
8
أحوال وأمور ليست هى لها بذاتها من جهة ما هى تلك الصورة،
9
فتارة يكون النزع عن المادة نزعا مع تلك العلائق كلها أو بعضها
10
وتارة يكون النزع نزعا كاملا، وذلك بأن يجرد المعنى عن
11
المادة وعن اللواحق التى له من جهة المادة، مثاله أن الصورة
12
الإنسانية والماهية الإنسانية طبيعة لا محالة يشترك فيها أشخاص
13
النوع كلها بالسوية، وهى بحدها شىء واحد وقد عرض لها أن
14
وجدت فى هذا الشخص وذلك الشخص فتكثرت، وليس ذلك لها
15
من جهة طبيعتها الإنسانية، ولو كان للطبيعة الإنسانية ما يجب
16
فيها التكثر لما كان يوجد إنسان محمولا على واحد بالعدد، ولو
17
كانت الإنسانية موجودة لزيد لأجل أنها إنسانيته لما كانت
18
لعمرو، فإذن أحد العوارض التى تعرض للإنسانية من جهة
59
1
المادة هو هذا النوع من التكثر والانقسام، ويعرض لها أيضا
2
غير هذا من العوارض، وهو أنها إذا كانت فى مادة ما حصلت
3
بقدر من الكم والكيف والأين والوضع، وجميع هذه أمور غريبة
4
عن طباعها، وذلك لأنه لو كانت الإنسانية هى على هذا الحد أو حد
5
آخر من الكم والكيف والأين والوضع لأجل أنها إنسانية لكان يجب
6
أن يكون كل إنسان مشاركا للآخر فى تلك المعانى، ولو كانت لأجل
7
الإنسانية على حد آخر وجهة أُخرى من الكم والكيف والأين والوضع
8
لكان كل إنسان يجب أن يشترك فيه، فإذن الصورة الإنسانية
9
بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شىء من هذه اللواحق العارضة لها
10
بل من جهة المادة لأن المادة التى تقارنها تكون قد لحقتها هذه
11
اللواحق، فالحسّ يأخذ الصورة عن المادة مع هذه اللواحق ومع
12
وقوع نسبة بينها وبين المادة إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ،
13
وذلك لأنه لا ينزع الصورة عن المادة نزعا محكما بل يحتاج
14
إلى وجود المادة أيضا فى أن تكون تلك الصورة موجودة له، وأما
15
الخيال والتخيل فإنه يبرىء[*]يبرىء corrupt for يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة تبرئة
16
أشد، وذلك لأنه يأخذها عن المادة بحيث لا تحتاج فى وجودها
17
فيه إلى وجود مادتها لأن المادة وإن غابت أو بطلت فإن الصورة
18
تكون ثابتة الوجود فى الخيال، فيكون أخذه إياها قاصما للعلاقة
60
1
بينها وبين المادة قصما تاما، إلّا أن الخيال لا يكون قد جردها
2
عن اللواحق المادية، فالحسّ لم يجردها عن المادة تجريدا تاما
3
ولا جردها عن لواحق المادة، وأما الخيال فإنه قد جردها عن
4
المادة تجريدا تاما ولكن لم يجردها البتة عن لواحق المادة لأن
5
الصورة التى فى الخيال هى على حسب الصورة المحسوسة وعلى
6
تقدير ما وتكييف ما ووضع ما، وليس يمكن فى الخيال البتة أن
7
تتخيل صورة هى بحال يمكن أن يشترك فيها جميع أشخاص ذلك
8
النوع، فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس، ويجوز أن
9
يكون ناس موجودين ومتخيلين ليسوا على نحو ما تخيل الخيال
10
ذلك الإنسان، وأما الوهم فإنه قد يتعدى قليلا هذه المرتبة فى
11
التجريد لأنه ينال المعانى التى ليست هى فى ذاتها بمادية وإن
12
عرض لها أن تكون فى مادة، وذلك لأن الشكل واللون والوضع وما
13
أشبه ذلك أمور لا يمكن أن تكون إلّا لمواد جسمانية وأما الخير والشر
14
والموافق والمخالف وما أشبه ذلك فهى أمور فى أنفسها غير مادية،
15
وقد يعرض لها أن تكون مادية، والدليل على أن هذه الأمور غير
16
مادية أن هذه الأمور لو كانت بالذات مادية لما كان يعقل خير
17
وشر أو موافق ومخالف إلّا عارضا لجسم، وقد يعقل ذلك بل
18
يوجد، فبين أن هذه الأمور هى فى أنفسها غير مادية وقد عرض لها
19
أن كانت مادية، والوهم إنما ينال ويدرك أمثال هذه الأمور، فإذن
20
الوهم قد يدرك أمورا غير مادية، ويأخذها عن المادة كما يدرك
61
1
أيضا معانى غير محسوسة وإن كانت مادية، فهذا النزع إذن أشد
2
استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين إلّا أنه مع ذلك
3
لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة لأنه يأخذها جزئية وبحسب
4
مادة مادة وبالقياس إليها ومتعلقة بصورة محسوسة مكنوفة بلواحق
5
المادة وبمشاركة الخيال فيها، وأما القوة التى تكون الصور
6
المستثبتة فيها إما صور موجودات ليست بمادية البتة ولا عرض لها
7
أن تكون مادية أو صور موجودات مادية ولكن مبرأة عن علائق
8
المادة من كل وجه فبين أنها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجردا
9
عن المادة من كل وجه، أما ما هو متجرد بذاته عن المادة فالأمر
10
فيه ظاهر، وأما ما هو موجود للمادة إما لأن وجوده مادى وإما
11
عارض له ذلك فتنزعه عن المادة وعن لواحق المادة معها وتأخذه
12
أخذا مجردا حتى يكون مثل الإنسان الذى يقال على كثيرين وحتى
13
يكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة، وتفرزه عن كل كم وكيف وأين
14
ووضع مادى ولو لم تجرده عن ذلك لما صلح أن يقال على الجميع،
15
فبهذا يفترق إدراك الحاكم الحسى وإدراك الحاكم الخيالى
16
وإدراك الحاكم الوهمى وإدراك الحاكم العقلى، وإلى هذا
17
المعنى كنا نسوق الكلام فى هذا الفصل،
18
فنقول إن الحاس فى قوته أن يصير مثل المحسوس بالفعل إذ
19
كان الإحساس هو قبول صورة الشىء مجردة عن مادته فيتصور بها
20
الحاس، فالمبصر مثل المبصر بالقوة وكذلك الملموس والمطعوم
62
1
وغير ذلك، والمحسوس الأول بالحقيقة هو الذى يرتسم فى آلة
2
الحس، وإياه ندرك، ويشبه أن يكون إذا قيل أحسست الشىء
3
الخارجى كان معناه غير معنى أحسست فى النفس، فإن معنى قوله
4
أحسست الشىء الخارجى أن صورته تمثلت فى حسى ومعنى
5
أحسست فى النفس أن الصورة نفسها تمثلت فى حسى، فلهذا
6
يصعب إثبات وجود الكيفيات المحسوسة فى الأجسام، لكنّا نعلم
7
يقينا أن جسمين واحدهما يتأثر عنه الحسّ شيئا والآخر لا يتأثر
8
عنه ذلك الشىء أنه مختص فى ذاته بكيفية هى مبدأ إحالة
9
الحاسة دون الآخر، وأما ديمقراطيس وطائفة من الطبيعيين فلم
10
يجعلوا لهذه الكيفيات وجودا البتة بل جعلوا الأشكال التى يجعلونها
11
للأجرام التى لا تتجزأ أسبابا لاختلاف ما يتأثر فى الحواسّ باختلاف
12
ترتيبها ووضعها، قالوا ولهذا ما يكون الإنسان الواحد قد يحسّ
13
لونا واحدا على لونين بحسب وقوفين منه يختلف بذلك نسبته
14
من أوضاع المرئى الواحد كطوق الحمامة فإنها ترى مرة شقراء
15
ومرة أرجوانية ومرة على لون الذهب وبحسب اختلاف المقامات،
16
فلهذا ما يكون شىء واحد عند إنسان صحيح حلوا وعند إنسان
17
مريض مرا، فهؤلاء هم الذين جعلوا الكيفيات المحسوسة لا حقائق
18
لها فى أنفسها إنما هى أشكال، وههنا قوم آخرون أيضا ممن لا
19
يرون هذا المذهب لا يجعلون لهذه الكيفيات حقيقة فى الأجسام،
20
بل يرون أن هذه الكيفيات إنما هى انفعالات للحواسّ فقط من غير
21
أن يكون فى المحسوسات شىء منها، وقد بينا فساد هذا الرأى
63
1
وبينا أن فى بعض الأجسام خاصية تؤثر فى اللسان مثلا الشىء الذى
2
نسميه إذا ذقناه حلاوة، ولبعضها خاصية أُخرى من جنسها، وهذه
3
الخاصية نسميها الطعم لا غير، وأما مذهب أصحاب الأشكال فقد
4
نقضنا أصله فى ما سلف، ثم قد يظهر لنا سريعا بطلانه، فإنه لو كان
5
المحسوس هو الشكل لكان يجب إذا لمسنا الشكل وأدركناه خصوصا
6
بالحدقة أن نكون رأينا أيضا لونه، فإن الشىء الواحد من جهة
7
واحدة يُدرَك شيئا واحدا، فإن أُدْرك من جهة ولم يُدرَك من جهة
8
فالذى لم يُدرّك منه غير المدرك، فيكون اللون إذا غير الشكل،
9
وكذلك أيضا الحرارة غير الشكل أللهم إلّا أن يقال إن الشىء
10
الواحد يؤثر فى شيئين أثرين مختلفين، فيكون أثره فى شىء ما ملموسا
11
وأثره فى شىء آخر مرئيا، فإذا كان كذلك لم يكن الشكل نفسه
12
محسوسا بل أثر مختلف يحدث عنه فى الحواس المختلفة غير
13
نفسه، والحاس أيضا جسم، وعنده أنه لا يتأثر إلّا بالشكل، فيكون
14
أيضا الحاس إنما يتأثر بالشكل، فيكون الشىء الواحد يؤثر فى آلة
15
شكلا ما وفى آلة أُخرى شكلا آخر، لكن لا شىء من الأشكال عنده
16
إلّا ويجوز أن يلمس، فيكون هذا المرئى أيضا يجوز أن يلمس، ثم
17
من الظاهر البين أن اللون فيه مضادة وكذلك الطعم وكذلك أشياء
18
أُخرى، ولا شىء من الأشكال بمضاد لشىء، وهؤلاء بالحقيقة
19
يجعلون كل محسوس ملموسا، فإنهم يجعلون أيضا البصر ينفذ فيه
20
شىء ويلمس، ولو كان كذلك لكان يجب أن يكون المحسوس
64
1
بالوجهين جميعا هو الشكل فقط، ومن العجائب غفلتهم عن أن
2
الأشكال لا تدرك إلّا أن يكون هناك ألوان أو طعوم أو روائح أو
3
كيفيات أُخرى، ولا يحسّ البتة بشكل مجرد، فإن كان لأن الشكل
4
المجرد إذا صار محسوسا أحدث فى الحسّ أثرا من هذه الآثار غير
5
الشكلية فقد صح وجود هذه الآثار، وإن لم تكن هذه الآثار إلّا
6
نفس الشكل وجب أن يحسّ شكل مجرد من غير أن يحسّ معه شىء
7
آخر،
8
وقال قوم من الأوائل إن المحسوسات قد يجوز أن تحسّ بها
9
النفس بلا وسائط البتة ولا آلات، أما الوسائط فمثل الهواء مثلا
10
للإبصار، وأما الآلات فمثل العين للإبصار، وقد بعدوا عن الحق،
11
فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات
12
لكانت هذه الآلات معطلة فى الخلقة لا ينتفع بها، وأيضا فإن
13
النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع فيستحيل أن
14
يكون بعض الأجسام قريبا منها ومتجها إليها وبعضها بعيدا عنها
15
ومحتجبا منها فلا يحسّ، وبالجملة يجب أن لا يكون اختلاف فى
16
أوضاع الأجسام منها وحجب وإظهار، فإن هذه الأحوال تكون
17
للأجسام عند الأجسام، فيجب أن تكون النفس إما مدركة لجميع
18
المحسوسات وإما غير مدركة وأن لا تكون غيبة المحسوس تزيله
19
عن الإدراك لأن هذه الغيبة غيبة عند شىء لا محالة هى خلاف
20
الحضرة منه، فيكون عند ذلك الشىء غيبة مرة وحضور مرة،
21
وذلك مكانى وضعى، فيجب أن تكون النفس جسما، وليس ذلك
65
1
بمذهب هؤلاء، وسنبين لك بعد أن الصور المدركة التى لا يتم
2
نزعها عن المادة وعلائق المادة يستحيل أن تستثبت بغير آلة
3
جسدانية، ولو لم تحتج النفس فى إدراك الأشياء إلى المتوسطات
4
لوجب أن لا يحتاج البصر إلى الضوء وإلى توسط الشاف ولكان
5
تقريب المبصر من العين لا يمنع الإبصار ولكان سد الأذن لا يمنع
6
الصوت ولكانت الآفات العارضة لهذه الآلات لا تمنع الإحساس،
7
ومن الناس من جعل المتوسط عائقا، وقال إنه لما كان المتوسط
8
كلما كان أرق كان أدل فلو لم يكن بل كان خلاء صرف لتمت
9
الدلالة ولأبصر الشىء أكثر مما يبصر حتى كان يمكن أن تبصر
10
نملة فى السماء، وهذا كلام باطل، فليس إذا أوجب رقته
11
زيادة أن يكون عدمه يزيد أيضا فى ذلك، فإن الرقة ليس هو
12
طريقا إلى عدم الجسم، وأما الخلاء فهو عدم الجسم عندهم،
13
بل لو كان الخلاء موجودا لما كان بين المحسوس والحاس المتباينين
14
موصل البتة، ولم يكن فعل ولا انفعال، ومن الناس من ظن
15
شيئا آخر وهو أن الحاس المشترك أو النفس متعلق بالروح
16
وهو جسم لطيف سنشرح حاله بعد وآلة الإدراك وأنه وحده يجوز
17
أن يمتد إلى المحسوسات فيلاقيها أو يوازيها أو يصير منها بوضع
18
ذلك الوضع يوجب الإدراك، وهذا المذهب أيضا فاسد، فإن الروح
19
لا يضبط جوهره إلّا فى هذه الوقايات التى تكنفه وأنه إذا
66
1
خالطه شىء من خارج أفسد جوهره مزاجا وتركيبا، ثم ليس له
2
حركة انتقال خارجا وداخلا، ولو كان له هذا لجاز أن يفارق
3
الإنسان ويعود إليه، فيكون للإنسان أن يموت وأن يحيى باختياره
4
فى ساعته، ولو كانت الروح بهذه الصفة لما احتيج إلى الآلات
5
البدنية، فالحق أن الحواس محتاجة إلى الآلات الجسدانية وبعضها إلى
6
وسائط، فإن الإحساس انفعال ما لأنه قبول منها لصورة المحسوس
7
واستحالة إلى مشاكلة المحسوس بالفعل، فيكون الحاس بالفعل مثل
8
المحسوس بالفعل والحاس بالقوة مثل المحسوس بالقوة، والمحسوس
9
بالحقيقة القريب هو ما يتصور به الحاس من صورة المحسوس،
10
فيكون الحاس من جهة ما يحسّ ذاته لا الجسم المحسوس لأنه
11
المتصور بالصورة التى هى المحسوسة القريبة منها، وأما الخارج
12
فهو المتصور بالصورة التى هى المحسوسة البعيدة، فهى تحسّ
13
ذاتها لا الثلج وذاتها لا القار إذا عنينا أقرب الإحساس الذى لا
14
واسطة فيه، وانفعال الحاس من المحسوس ليس على سبيل الحركة
15
إذ ليس هناك تغيّر من ضد إلى ضد بل هو استكمال أعنى أن
16
يكون الكمال الذى كان بالقوة قد صار بالفعل من غير أن بطل
17
فعل إلى القوة، وإذ قد تكلمنا على الإدراك الذى هو أعم من
18
الحسّ ثم تكلمنا فى كيفية إحساس الحسّ مطلقا فنقول إن كل حاسة
19
فإنها تدرك محسوسها وتدرك عدم محسوسها، أما محسوسها فبالذات
67
1
وأما عدم محسوسها كالظلمة للعين والسكوت للسمع وغير ذلك
2
فلأنها تكون بالقوة لا بالفعل، وأما إدراك أنها أدركت فليس
3
للحاسة فإن الإدراك ليس هو لونا فيبصر أو صوتا فيسمع ولكن
4
إنما يدرك ذلك بالفعل العقلى أو الوهم على ما يتضح من حالهما
5
بعد،
6
فصل ٣
7
(فى الحاسة اللمسية)
8
وأول الحواس الذى يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس، فإنه
9
كما أن كل ذى نفس أرضية فإن له قوة غاذية ويحوز أن يفقد قوة
10
قوة من الأخرى ولا ينعكس كذلك حال كل ذى نفس حيوانية فله
11
حسّ اللمس ويجوز أن يفقد قوة قوة من الأُخرى، ولا ينعكس،
12
وحال الغاذية عند سائر قوى النفس الأرضية حال اللمس عند سائر
13
قوى الحيوان، وذلك لأن الحيوان تركيبه الأول هو من الكيفيات
14
الملموسة فإن مزاجه منها وفساده باختلافها، والحسّ طليعة للنفس
15
فيجب أن تكون الطليعة الأولى هو ما يدل على ما يقع به الفساد
16
ويحفظ به الصلاح وأن تكون قبل الطلائع التى تدل على أمور
17
تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام أو مضرة خارجة عن الفساد،
18
والذوق وإن كان دالا على الشىء الذى به تستبقى الحياة من
19
المطعومات فقد يجوز أن يعدم الذوق ويبقى الحيوان حيوانا، فإن
20
الحواسّ الأُخرى ربما أعانت على ارتياد الغذاء الموافق واجتناب
68
1
الضار، وأما الحواسّ الأُخرى فلا تعين على معرفة أن الهواء المحيط
2
بالبدن مثلا محرق أو مجمد، وبالجملة فإن الجوع شهوة اليابس الحار
3
والعطش شهوة البارد الرطب، والغذاء بالحقيقة ما يتكيف بهذه
4
الكيفيات التى يدركها اللمس، وأما الطعوم فتطيبات، فلذلك كثيرا
5
ما يبطل حسّ الذوق لآفة تعرض ويكون الحيوان باقيا، فاللمس هو
6
أول الحواسّ، ولا بد منه لكل حيوان أرضى، وأما الحركة فلقائل أن
7
يقول إنها أخت اللمس للحيوان، وكما أن من الحسّ نوعا متقدما
8
كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدم، وأما المشهور
9
فهو أن من الحيوان ما له حسّ اللمس وليس له قوة الحركة مثل
10
ضروب من الأصداف، لكنا نقول إن الحركة الإرادية على ضربين
11
حركة انتقال من مكان إلى مكان، وحركة انقباض وانبساط للأعضاء
12
من الحيوان وإن لم يكن به انتقال الجملة عن موضعه، فيبعد
13
أن يكون حيوان له حسّ اللمس ولا قوة حركة فيه البتة فإنه كيف
14
يعلم أن له حسّ اللمس إلّا بأن يشاهد فيه نوع هرب من
15
ملموس وطلب لملموس، وأما ما يتمثلون هم به من الأصداف
16
والإسفنجات وغيرها فإنا نجد للأصداف فى غلفها حركات انقباض
17
وانبساط والتواء وامتداد فى أجوافها وإن كانت لا تفارق أمكنتها،
18
ولذلك نعرف أنها تحسّ بالملموس، فيشبه أن يكون كل ما له لمس
19
فله فى ذاته حركة ما إرادية إما لكليته وإما لأجزائه،
69
1
والأمور التى تلمس فإن المشهور من أمرها أنها الحرارة والبرودة
2
والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة والثقل والخفّة، وأما الصلابة
3
واللين واللزوجة والهشاشة وغير ذلك فإنها تحسّ تبعا لهذه المذكورة،
4
فالحرارة والبرودة كل منهما يحسّ بذاته لا لما يعرض فى الآلة من
5
الانفعال بها، وأما الصلابة واللين واليبوسة والرطوبة فيظن أنها لا
6
تحسّ لذاتها بل يعرض للرطوبة أن تطيع لنفوذ ما ينفذ فى جسمها
7
ويعرض لليبوسة أن تعصى فتجمع العضو الحاس وتعصره، والخشونة
8
أيضا يعرض لها مثل ذلك بأن تحدث الأجزاء الناتية منه عصرا
9
ولا تحدث الغائرة شيئا، والأملس يحدث ملاسة واستواء، وأما
10
الثقل فيحدث تمددا إلى أسفل والخفّة خلاف ذلك، فنقول لمن يقول
11
هذا القول إنه ليس من شرط المحسوس بالذات أن يكون الإحساس
12
به من غير انفعال يكون منه، فإن الحار أيضا ما لم يسخن لم
13
يحسّ وبالحقيقة ليس إنما يحسّ ما فى المحسو بل ما يحدث منه فى
14
الحاس حتى أنه إن لم يحدث ذلك لم يحسّ به، لكن المحسوس
15
بالذات هو الذى يحدث منه كيفية فى الآلة الحاسة مشابهة لما فيه
16
فيحسّ، وكذلك الانعصار عن اليابس والخشن، والتملس من الأملس،
17
والتمدد إلى جهة معلومة من الثقل والخفيف، فإن الثقل والخفّة
18
ميلان والتمدد أيضا ميل إلى نحو جهة ما، فهذه الأحوال إذا حدثت
19
فى الآلة أحسّ بها لا بتوسط حر أو برد أو لون أو طعم أو غير ذلك
20
من المحسوسات حتى كان يصير لأجل ذلك المتوسط غير محسوس
21
أولى أو غير محسوس بالذات بل محسوسا ثانيا أو بالعرض، ولكن
70
1
هاهنا ضرب آخر مما يحسّ مثل تفرق الاتصال الكائن بالضرب
2
وغير ذلك، وذلك ليس بحرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا
3
صلابة ولا لين ولا شىء من المعدودات، وكذلك أيضا الإحساس
4
بالملذات اللمسية مثل اللذة التى للجماع وغير ذلك، فيجب أن
5
ينظر أنها كيف هى وكيف تنسب إلى القوة اللمسية وخصوصا
6
فقد ظن بعض الناس أن سائر الكيفيات إنما تحسّ بتوسط ما يحدث
7
من تفرق الاتصال، وليس كذلك فإن الحار والبارد من حيث يتغير
8
به المزاج يحسّ على استواءه وتفرق الاتصال لا يكون مستويا
9
متشابها فى جميع الجسم، لكنا نقول إنه كما أن الحيوان متكون
10
بالامتزاج الذى للعناصر كذلك هو متكون أيضا بالتركيب،
11
وكذلك الصحة والمرض، فإن منهما ما ينسب إلى المزاج ومنهما
12
ما ينسب إلى الهيئة والتركيب، وكما أن من فساد المزاج ما هو
13
مفسد كذلك من فساد التركيب ما هو مهلك، وكما أن اللمس حسّ
14
يتقى به ما يفسد المزاج كذلك هو حسّ يتقى به ما يفسد
15
التركيب، فاللمس أيضا يدرك به تفرق الاتصال ومضاده وهو
16
عوده إلى الالتئام،
17
ونقول إن كل حال مضادة لحال البدن فإنها يحسّ بها عند
18
الاستحالة وعند الانتقال إليها، ولا يحسّ بها عند حصولها واستقرارها،
71
1
وذلك لأن الإحساس انفعال ما أو مقارن لانفعال ما والانفعال إنما
2
يكون عند زوال شىء وحصول شىء، وأما المستقرّ فلا انفعال به،
3
وذلك فى الأمزجة الموافقة والرديئة معا، فإن الأمزجة الرديئة إذا
4
استقرت وأبطلت الأمزجة الأصلية حتى صارت هذه الرديئة كأنها
5
أصلية لم يحسّ بها، ولذلك، لا يحسّ بحرارة الدق وإن كانت
6
أقوى من حرارة الغب، وأما إن كانت الأصلية موجودة بعد وهذه
7
الطارئة مضادة لها أحسّ بها، ويسمى هذا سوء المزاج المختلف
8
وهذا المستقرّ يسمى سوء المزاج المتفق، والألم والراحة من الألم
9
أيضا من المحسوسات اللمسية، ويفارق اللمس فى هذا المعنى سائر
10
الحواسّ، وذلك لأن الحواسّ الأُخرى منها ما لا لذة له فى محسوسه
11
ولا ألم، ومنها ما يلتذ ويألم بتوسط أحد المحسوسات، فأما التى
12
لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان ولا يألم بل النفس تألم
13
من ذلك وتلتذ من داخل، وكذلك الحال فى الأذن، فإن تألمت
14
لأذن من صوت شديد والعين من لون مفرط كالضوء فليست تألم
15
من حيث تسمع أو تبصر بل من حيث تلمس لأنه يحدث فيها ألم
16
لمسى وكذلك يحدث فيها بزوال ذلك لذة لمسية وأما الشم
17
والذوق فيألمان ويلتذان إذا تكيفا بكيفية منافرة أو ملائمة، وأما
18
اللمس فإنه قد يألم بالكيفية الملموسة ويلتذ بها، وقد يألم ويلتذ
19
بغير توسط كيفية هى المحسوس الأول بل بتفرق الاتصال والتيامه،
20
ومن الخواص التى للّمس أن الآلة الطبيعية التى يحسّ بها وهى
21
لحم عصبى أو لحم وعصب تحسّ بالمماسة وإن لم يكن بتوسط
72
1
البتة فإنه لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات وإذا
2
استحال أحسّ، ولا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها، وليس
3
يجب أن يظن أن الحساس هو العصب فقط فإن العصب بالحقيقة
4
مؤد للحسّ اللمسى إلى عضو غيره وهو اللحم، ولو كان الحساس
5
نفس العصب فقط لكان الحساس فى جلد الإنسان ولحمه شيئا
6
منتشرا كالليف وكان حسّه ليس لجميع أجزاءه بل أجزاء ليفية فيه،
7
بل العصب الذى يحسّ اللمس مؤد وقابل معا، والعصبة المجوفة
8
مؤدية للبصر ولكنها غير قابلة إنما القابل ما إليه تؤدى وهو البردية
9
أو ما هو مسئول عليها وهو الروح، فبين إذا أن من طباع
10
اللحم أن يقبل الحسّ وإن كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر ومن
11
قوة عضو آخر يتوسط بينهما العصب، وأما إن كان المبدأ موجودا
12
فيه فهو حساس بنفسه وإن كان لحما وذلك كالقلب وإن انتشر فى
13
جوهر القلب ليف عصبى فلا يبعد أن يكون ليلتقط عنه الحسّ
14
ويؤديه إلى أصل واحد يتأدى عنه إلى الدماغ وعن الدماغ إلى
15
أعضاء أخرى كما سنوضح بعد كالحال فى الكبد من جهة انبثاث
16
عروق ليفية فيه ليقبل عنه ويؤدى إلى غيره، ويجوز أن يكون
17
انبثاث الليف فيه ليقوى قوامه ويشتد لحمه وسنشرح هذه الأحوال
73
1
فى موضع آخر نستقبله، ومن خواص اللمس أن جميع الجلد الذى
2
يطيف بالبدن حساس باللمس، ولم يفرد له جزء منه وذلك لأن هذا
3
الحسّ لما كان طليعة تراعى الواردات على البدن التى تعظم مفسدتها
4
إن تمكنت من أى عضو وردت عليه وجب أن يجعل جميع البدن
5
حساسا باللمس، ولأن الحواسّ الأُخرى قد تتأدى إليها الأشياء من
6
غير مماسة ومن بعيد فيكفى أن تكون آلتها عضوا واحدا إذا ورد
7
عليه المحسوس الذى يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته وتنحت
8
بالبدن عن جهته فلو كانت الآلة اللامسة بعض الأعضاء لما شعرت
9
النفس إلّا بما يماسها وحدها من المفسدات، ويشبه أن تكون قوى
10
اللمس قوى كثيرة كل واحدة منها تختص بمضادة، فيكون ما
11
يدرك به المضادة التى بين الثقيل والخفيف غير الذى ما يدرك
12
به المضادة التى بين الحار والبارد فإن هذه أفعال أولية للحسّ
13
يجب أن يكون لكل جنس منها قوة خاصة إلّا أن هذه القوى لما
14
انتشرت فى جميع الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة كما لو كان
15
اللمس والذوق منتشرين فى البدن كله انتشارهما فى اللسان لظن
16
مبدأهما قوة واحدة، فلما تميزا فى غير اللسان عرف اختلافهما،
17
وليس يجب أن يقال ضرورة أن يكون لكل واحدة من هذه
18
القوى آلة تخصها بل يجوز أن تكون آلة واحدة مشتركة لها،
74
1
ويجوز أن يكون هناك انقسام فى الآلات غير محسوس، وقد اتفق
2
فى اللمس أن كانت الآلة الطبيعية بعينها هى الواسطة، ولما كان
3
كل واسطة يجب أن يكون عادما فى ذاته لكيفية ما يؤديه حتى إذا
4
قبلها وأداها أدى شيئا جديدا فيقع الانفعال عنه ليقع الإحساس به
5
والانفعال لا يقع إلّا عن جديد كان كذلك أيضا آلة اللمس، لكن
6
المتوسط الذى ليس هو مثلا بحار ولا بارد يكون على وجهين أحدهما
7
على أنه لا حظ له من هاتين الكيفيتين أصلا، والثانى ما له
8
حظ منهما ولكن صار فيه إلى الاعتدال فليس بحار ولا بارد بل
9
معتدل متوسط، ثم لم يمكن أن تكون آلة اللمس خالية أصلا
10
عن هذه الكيفيات لأنها مركبة منها، فوجب أن يكون خلوها عن
11
هذه الأطراف بسبب المزاج والاعتدال لتحسّ ما يخرج عن القدر
12
الذى لها، وما كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى الاعتدال كان
13
ألطف إحساسا، ولما كان الإنسان أقرب الحيوانات كلها من الاعتدال
14
كان ألطف لمسا، ولما كان اللمس أول الحواسّ وكان الحيوان
15
الأرضى لا يجوز أن يفارقه وكان لا يكون إلّا بتركيب معتدل
16
ليحكم به بين الأضداد فبين من هذا أنه ليس للبسائط وما يقرب
17
منها حسّ البتة ولا حياة إلّا النمو لبعض ما يقرب من البسائط،
18
فليكن هذا مبلغ ما نقوله فى اللمس،
75
1
فصل ٤
2
(فى الذوق والشم)
3
وأما الذوق فإنه تال للّمس ومنفعته أيضا فى الفعل الذى به يتقوم
4
البدن وهو تشهية الغذاء واختياره، ويجانس اللمس فى شىء وهو أن
5
المذوق يدرك فى أكثر الأمر بالملامسة ويفارقه فى أن نفس الملامسة
6
لا يؤدى الطعم كما أن نفس ملامسة الحار مثلا يؤدى الحرارة بل
7
كأنه محتاج إلى متوسط يقبل الطعم ويكون فى نفسه لا طعم له،
8
وهو الرطوبة اللعابية المنبعثة من الآلة المسماة الملعبة، فإن كانت
9
هذه الرطوبة عديمة الطعوم أدت الطعوم بصحة، وإن خالطها طعم كما
10
يكون للممرورين من المرارة ولمن فى معدته خلط حامض من الحموضة
11
شابت ما تؤديه بالطعم الذى فيها فتحيله مرا او حامضا،
12
ومما فيه موضع نظر هل هذه الرطوبة إنما تتوسط بأن يخالطها
13
أجزاء ذى الطعم مخالطة تنتشر فيها ثم تنفذ فتغوص فى
14
اللسان حتى تخالط اللسان فيحسّها، أو تكون نفس الرطوبة تستحيل
15
إلى قبول الطعم من غير مخالطة، فإن هذا موضع نظر، فإن كان
16
المحسوس هو المخالط فليست الرطوبة بواسطة مطلقة بل واسطة
17
تسهل وصول الجوهر المحسوس الحامل للكيفية نفسها إلى الحاس،
18
وأما الحسّ نفسه فإنما هو بملامسة الحاس للمحسوس بلا واسطة،
19
وإن كانت الرطوبة تقبل الطعم وتتكيف به فيكون المحسوس بالحقيقة
76
1
أيضا هو الرطوبة، ويكون أيضا بلا واسطة، ويكون الطعم إذا
2
لاقى آلة الذوق أحسّته، فيكون لو كان للمحسوس الوارد من خارج
3
سبيل إلى المماسة الفائضة من غير هذه الواسطة لكان ذوق لا
4
كالمبصر الذى لا يمكن أن يلاقى آلة الإبصار بلا واسطة، وإذا
5
مست الآلة المبصر لم يدرك، لكنه بالحرى أن تكون هذه الرطوبة
6
للتسهيل وأنها تتكيف وتختلط معا، ولو كان سبيل إلى الملامسة
7
المستقصاة من غير هذه الرطوبة لكان يكون ذوق، فإن قيل ما
8
بال العفوصة تذاق وهى تورث السدد وتمنع النفوذ فنقول إنها
9
أولا تخالط بوساطة هذه الرطوبة ثم تؤثر أثرها من التكثيف وقد
10
خالطت، والطعوم التى يدركها الذوق هى الحلاوة والمرارة
11
والحموضة والقبض والعفوصة والحرافة والدسومة والبشاعة والتفه،
12
والتفه يشبه أن يكون كأنه عدم الطعم وهو كما يذاق من
13
الماء ومن بياض البيض، وأما هذه الأُخرى فقد تكثرت بسبب أنها
14
متوسطات، وأنها أيضا معما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا
15
فيتركب من الكيفية الطعمية ومن التأثير اللمسى شىء واحد لا
16
يتميز فى الحسّ فيبصر ذلك الواحد كطعم واحد متميز، فإنه يشبه
17
أن يكون طعم من الطعوم المتوسطة بين الأطراف يصحبه تفريق
18
وإسخان ويسمى جملة ذلك حرافة، وآخر يصحبه طعم وتفريق من
19
غير إسخان وهو الحموضة، وآخر يصحبه مع الطعم تجفيف وتكثيف
20
وهو العفوصة، وعلى هذا القياس ما قد شرح فى الكتب الطبية،
21
وأما الشم فإنه وإن كان الإنسان أبلغ حيلة فى التشمم من سائر
77
1
الحيوانات ــ فإنه يثير الروائح الكامنة بالدلك وهذا ليس لغيره
2
ويتقصى فى تجسسها بالاستنشاق وهذا يشاركه فيه غيره ــ فإنه
3
لا يقبل الروائح قبولا قويا حتى يحدث فى خياله منها مثل ثابتة
4
كما يحصل للملموسات والمطعومات بل يكاد أن تكون رسوم
5
الروائح فى نفسه رسوما ضعيفة، ولذلك لا يكون للروائح عنده
6
أسماء إلّا من جهتين، إحداهما من جهة الموافقة والمخالفة بأن
7
يقال طيبة ومنتنة كما لو قيل للطعم إنه طيب وغير طيب من
8
غير تصور فصل وتسمية، والجهة الأُخرى أن يشتق لها من
9
مشاكلتها للطعم اسم فيقال رائحة حلوة ورائحة حامضة كأن الروائح
10
التى اعتيد مقارنتها لطعوم ما تنسب إليها وتعرف بها، ويشبه أن
11
يكون حال إدراك الروائح من الناس كحال إدراك أشباح الأشياء
12
وألوانها من الحيوانات الصلبة العين فإنها تكاد أن تكون إنما
13
تدركها كالتخيل الغير المحقق وكما يدرك ضعيف البصر شبحا
14
من بعيد، وأما كثير من الحيوانات الصلبة العين فإنها قوية جدا
15
فى إدراك الروائح كالنمل، ويشبه أن لا يحتاج أمثالها إلى
16
التشمم والتنشق بل يتأدى إليها الروائح فى الهواء،
17
وواسطة الشم أيضا جسم لا رائحة له كالهواء والماء يحمل
18
رائحة المشمومات، وقد اختلف الناس فى الرائحة، فمنهم من زعم
19
أنها تتأدى بمخالطة شىء من جرم ذى الرائحة يتحلّل فيتبخر
20
فيخالط المتوسط ومنهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من المتوسط
78
1
من غير أن يخالطه شىء من جرم ذى الرائحة متحلّل عنه، ومنهم
2
من قال إنها تتأدى من غير مخالطة شىء من جرمه ومن غير
3
استحالة من المتوسط، ومعنى هذا أن الجسم ذا الرائحة يفعل فى
4
الجسم عديم الرائحة وبينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل
5
فى المتوسط بل يكون المتوسط ممكّنا من فعل ذلك فى هذا على
6
ما يقال فى تأدى الأصوات والألوان، فحرى بنا أن نحقق هذا
7
ونتأمله، ولكن لكل واحد من المدعين لشىء من هذه المذاهب
8
حجة، فالقائل بالبخار والدخان يحتج ويقول إنه لو لم تكن الرائحة
9
تسطع بسبب تحلّل شىء ما كانت الحرارة وما يهيج الحرارة من
10
الدلك والتبخير وما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح ولا كان
11
البرد يخفيها، فبين أن الرائحة إنما تصل إلى الشم ببخار يتبخر
12
من ذى الرائحة ويخالط الهواء وينفذ فيه، ولهذا إذا استقصيت
13
تشمّم التفاحة ذبلت لكثرة ما يتحللّ منها، والقائلون بالاستحالة
14
حتجوا وقالوا إنه لو كانت الروائح التى تملأ المحافل إنما تكون
15
بتحلّل شىء لوجب أن يكون الشىء ذو الرائحة ينقص وزنه ويقل
16
حجمه مع تحلّل ما يتحلّل منه، وقال أصحاب التأدية خصوصا إنه
17
لا يمكننا أن نقول إن البخار يتحلّل من ذى الرائحة فيسافر مائة
18
فرسخ فما فوقه، ولا أيضا يمكننا أن نحكم أن ذا الرائحة أشد
19
إحالة للأجسام من النار فى تسخينها، والنار القوية إنما تسخن ما
20
حولها إلى حد وإذا بلغ ذلك غلوة فهو أمر عظيم، وقد نجد من
79
1
وصول الروائح إلى بلاد بعيدة ما يزيل الشك فى أن وصولها لم يكن
2
بسبب بخار انتشر أو استحالة فشت، فقد علم أن بلاد اليونانيين
3
والمغاربة لا يرى فيها رخمة البتة ولا تأوى إليها وبينها وبين
4
البلاد المرخمة مسافة كبيرة تقارب ما ذكرناه، وقد اتفق فى بعض
5
السنين أن وقعت ملحمة بتلك البلاد فسافرت الرخم إلى الجيف ولا
6
دليل لها إلّا الرائحة، فتكون الرائحة قد دلت من مسافة بعدها بعد
7
لا يجوز معه أن يقال إن الأبخرة أو الاستحالات من الهواء وصلت
8
إليها،
9
فنقول نحن إنه يجوز أن يكون المشموم هو البخار ويجوز أن
10
يكون الهواء نفسه يستحيل من ذى الرائحة فيصير له رائحة
11
فيكون حكمه أيضا حكم البخار فيكون كل شىء لطيف الأجزاء
12
من شأنه أن ينفذ إذا بلغ آلة الشم ولا قاها ــ كان بخارا أو هواء
13
مستحيلا إلى الرائحة ــ أحسّ به، وقد علمت أن كل متوسط
14
يوصل إليه بالاستحالة فإن المحسوس أيضا لو تمكن من ملاقاة
15
الحاس لأحسّ به بلا وساطة، ومما يدل على أن الاستحالة لها
16
مدخل فى هذا الباب أنا مثلا نبخر الكافور تبخيرا يأتى على
17
جوهره كله فيكون منه رائحة منتشرة انتشارا إلى حد قد يمكن أن
18
تنتشر منه تلك الرائحة فى أضعاف ذلك الموضع بالنقل والوضع
80
1
جزء جزء من ذلك المكان كله حتى يتشمّم منه فى بقعة بقعة صغيرة
2
ضيقة من تلك الأضعاف مثل تلك الرائحة، فإذا كان فى كل واحدة
3
من تلك البقاع الصغيرة يتبخر منه شىء فيكون مجموع الأبخرة
4
التى تتحلّل منه فى جميع تلك البقاع التى تزيد على البقعة المذكورة
5
أضعافا مضاعفة للبخار كله الذى يكون بالتبخير أو مناسبا له،
6
فيجب أن يكون النقصان الوارد عليه فى ذلك قريبا من ذلك أو
7
مناسبا له، ولا يكون، فبين أن هاهنا للاستحالة مدخلا ما، وأما
8
حديث التأدية المذكورة فأمر بعيد، وذلك لأن التأدية لا تكون إلّا
9
بنسبة ما ونصبة للمؤدى عنه إلى المؤدى إليه، وأما الجسم ذو الرائحة
10
فليس يحتاج إلى شىء من ذلك، فإنك لو توهمت الكافور قد نقل
11
إلى حيث لا تتأدى إليك رائحته بل قد عدم دفعة لم يمنع أن
12
تكون رائحته باقية بعده فى الهواء، فذلك لا محالة لاستحالة أو
13
مخالطة، وأما حديث الرخم فإنه قد يجوز أن تكون رياح قوية
14
تنقل الروائح والأبخرة المتحلّلة عن الجيف إلى المسافة المذكورة
15
فى أعلى الجو فيحسّ بها ما هو أقوى حسّا من الناس وأعلى مكانا مثل
16
الرخم وغيره، وأنت تعلم أن الروائح وإن كانت قد تصل إلى
17
كثير من الحيوانات فوق ما تصل إلى الناس بكثير فقد تتأدى
18
إليها المبصرات من مسافات بعيدة وهى تحلق فى الجو
81
1
حتى يبلغ إبصارها فى البعد مبلغا بعيدا جدا وحتى يكون ارتفاعها
2
أضعاف ارتفاع قلل الجبال الشاهقة، فقد رأينا قلل جبال شاهقة
3
جدا وقد جاوزتها النسور محلقة حتى يكاد أن يكون ارتفاعها ضعف
4
ارتفاع تلك الجبال، وقل تلك الجبال قد ترى من ست سبع مراحل،
5
وليس نسبة الارتفاع إلى الارتفاع كنسبة بعد المرئى إلى بعد
6
المرئى فإنك ستعلم فى الهندسة أن النسب فى الأبعاد التى منها
7
يبرى أعظم وأكبر، فلا يبعد أن تكون الرخم قد علت فى الجو بحيث
8
ينكشف لها بعد هذه المسافة فرأت الجيف فإن كان يستنكر تأدى
9
أشباح هذه الجيف إليها فتأدى روائحها التى هى أضعف تأديا أولى
10
بالاستنكار، وكما أنه ليس كل حيوان يحتاج إلى تحريك الجفن
11
والمقلة فى أن يبصر كذلك ليس يحتاج كل حيوان إلى استنشاق
12
حتى يشم فإن كثيرا منها يأتيها الشم من غير تشمّم،
13
فصل
14
(فى السمع)
15
وإذ قد تكلمنا فى أمر اللمس والذوق والشم فبالحرى أن نتكلم
16
فى أمر السمع، فنقول إن الكلام فى أمر السمع يقتضى الكلام فى
17
أمر الصوت وماهيته، وقد يليق بذلك الكلام فى الصدا، فنقول إن
18
الصوت ليس أمرا قائم الذات موجودا ثابت الوجود يجوز فيه ما
82
1
يجوز فى البياض والسواد والشكل من أحكام الثبات على أن يصح
2
فرضه ممتد الوجود وأنه مثلا لم يكن له مبدأ وجود زمان كما
3
يصح هذا الفرض فى غيره، بل الصوت بين واضح من أمره أنه
4
أمر يحدث، وأنه ليس يحدث إلّا عن قلع أو قرع، أما القرع فمثل
5
ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت، وأما القلع فمثل ما يقلع
6
أحد شقى مشقوق عن الآخر كخشبة تنحى عليها بأن تبين أحد
7
شقيها عن الآخر طولا، ولا تجد أيضا مع كل قرع صوتا، فإن
8
قرعت جسما كالصوف بقرع لين جدا لم تحسّ صوتا، بل يجب أن
9
يكون للجسم الذى تقرعه مقاومة ما وأن يكون للحركة التى
10
للمقروع به إلى المقروع عنف صادم فهناك يحسّ، وكذلك إذا
11
شققت شيئا يسيرا يسيرا وكان الشىء لا صلابة له لم يكن
12
للقلع صوت البتة، والقرع بما هو قرع لا يختلف والقلع أيضا بما
13
هو قلع لا يختلف لأن أحدهما إمساس والآخر تفريق، لكن
14
الإمساس يخالف الإمساس بالقوة والسرعة، أو التفريق أيضا يخالف
15
التفريق بمثل ذلك، ولأن كل صاير[*]صاير Middle Arabic for صائر إلى مماسة شىء فيجب أن يفرغ
16
لنفسه مكان جسم آخر كان مماسا له لينتقل إليه وكل مقلوع عن
17
شىء فقد يفرغ مكانه حتى يصار إليه وهذا الشىء الذى فيه هذه
18
الحركات شىء رطب سيال لا محالة إما ماء وإما هواء فيكون مع كل
83
1
قرع وقلع حركة للهواء أو ما يجرى مجراه إما قليلا قليلا وبرفق
2
وإما دفعة على سبيل تموج أو انجذاب بقوة، فقد وجب أن هاهنا
3
شيئا لا بد أن يكون موجودا عند حدوث الصوت وهو حركة قوية
4
من الهواء أو ما يجرى مجراه، فيجب أن نتعرف هل الصوت هو
5
نفس القرع أو القلع أو هو حركة موجبة[*]موجبة probably corrupt for متموّجة تعرض للهواء من ذلك أو
6
شىء ثالث يتولد من ذلك أو يقارنه، أما القرع والقلع فإنهما يحسّان
7
بالبصر بتوسط اللون ولا شىء من الأصوات يحسّ بتوسط اللون فليس
8
القرع والقلع بصوت بل إن كان ولا بد فسببا الصوت، وأما الحركة
9
فقد يشكّك من أمرها فيظن أن الصوت نفس تموج الهواء، وليس
10
كذلك أيضا، فإن جنس الحركة يحسّ أيضا بسائر الحواسّ وإن كان
11
بتوسط محسوسات أُخرى، والتموج الفاعل للصوت قد يحسّ حتى
12
يؤلم، فإن صوت الرعد قد يعرض منه أن يدك الجبال وربما ضرب
13
حيوانا فأفسده، وكثيرا ما يستظهر على هدم الحصون العالية بأصوات
14
البوقات، بل حسّ اللمس كما أشرنا إليه قبل أيضا قد ينفعل من
15
تلك الحركة من حيث هى حركة، ولا يحسّ الصوت، ولا أيضا من
16
فهم أن شيئا حركة فهم أنه صوت، ولو كانت حقيقة الصوت
17
حقيقة الحركة لا أنه أمر يتبعها ويلزم عنها لكان من عرف أن صوتا
18
عرف أن حركة، وهذا ليس بموجود، فإن الشىء الواحد النوعى لا
19
يعرف ويجهل معا إلّا من جهتين وحالتين، فجهة كونه صوتا فى
20
ماهيته ونوعيته ليس جهة كونه حركة فى ماهيته ونوعيته، فالصوت
84
1
إذا عارض يعرض من هذه الحركة الموصوفة يتبعها ويكون معها،
2
فإذا انتهى التموج من الهواء أو الماء إلى الصماخ وهناك تجويف
3
فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهى إليه ووراءه كالجدار مفروش
4
عليه العصب الحاس للصوت أحسّ بالصوت،
5
ومما يشكل من أن الصوت هل هو شىء موجود من خارج تابع
6
لوجود الحركة أو مقارن أو إنما يحدث من حيث هو صوت إذا
7
تأثر السمع به فإنه لمعتقد أن يعتقد أن الصوت لا وجود له من
8
خارج وأنه يحدث فى الحسّ من ملامسة الهواء المتموج بل كل
9
الأشياء التى تلامس ذلك الموضع بالمس أيضا يحدث فيه
10
صوتا، فهل ذلك الصوت حادث بتموج الهواء الذى فى الصماخ
11
أو لنفس المماسة، وهذا أمر يصعب الحكم فيه، وذلك لأن نافى
12
وجود الصوت من خارج لا يلزمه ما يلزم نافى باقى الكيفيات
13
الأخرى المحسوسة لأن هذا له أن يثبت للمحسوس الصوتى خاصية
14
معلومة هى تفعل الصوت، وتلك الخاصية هى التموج، فيكون
15
نسبة التموج من الصوت نسبة الكيفية التى فى العسل إلى ما
16
يتأثر منه فى الحسّ، لكنه يختلف الأمر هاهنا لأن الأثر الذى
17
يحصل من العسل فى الحاسة ومن النار فى الحاسة هو من
85
1
جنس ما فيهما، ولذلك فإن الذى يحسّ الحرارة قد يسخن أيضا
2
غيره إذا ثبت فيه الأثر، وليس الصوت والتموج حالهما كذا فإن
3
التموج شىء والصوت شىء، والتموج يحسّ بآلة أُخرى وتلك الكيفية
4
لا تحسّ بآلة أُخرى، وليس يجب أيضا أن يكون كل ما يؤثر أثرا
5
ففى نفسه مثل ذلك الأثر، فيجب أن يتعرف حقيقة الحال فى
6
هذا، فنقول مما يعين على معرفة أن العارض المسموع له وجود
7
من خارج أيضا أنه لو كان إنما يحدث فى الصماخ نفسه لم يخل
8
إما أن يكون التموج الهوائى يحسّ بالسمع من حيث هو تموج أولا
9
يحسّ، فإن كان التموج الهوائى يحسّ بالسمع ــ لست أقول يحسّ
10
بلمس آلة السمع ــ حسّا من حيث هو تموج فإما أن يحسّ به أولا
11
أو بتوسط الصوت، فلو كان يحسّ به أولا والمحسوس الأول بالسمع
12
هو الصوت وهذا مما لا يشك فيه كان التموج من حيث هو تموج
13
صوتا، وقد أبطلنا هذا، ولو كان يحسّ به بتوسط الصوت لكان كل
14
من سمع الصوت علم أن تموجا كما أن كل من أحسّ لون
15
المربع والمربع بتوسطه علم أن هناك مربعا، وليس كذلك، وإن
16
كان إنما يحسّ باللمس عرض أيضا منه ما قلنا، فإذن ليس بواجب
17
أن يحسّ التموج عند سماع الصوت، فلنظر ما يلزم بعد هذا
18
فنقول إن الصوت كما يسمع يسمع له جهة، فلا يخلوا إما أن
19
تكون الجهة تسمع لأن الصوت مبدأ تولده ووجوده فى تلك
20
الجهة ومن هناك ينتهى، وإما لأن المنتقل المتأدى إلى الأذن
21
الذى لا صوت فيه بعد أن يفعل الصوت إذا اتصل بالأذن ينتقل
86
1
من تلك الجهة ويصدم من تلك الجهة فيخيل أن الصوت ورد من تلك
2
الجهة، وإما للأمرين جميعا، فإن كان لأجل المنتقل وحده فمعنى
3
هذا هو أن المنتقل نفسه محسوس فإنه إذا لم يشعر به كيف يشعر
4
بجهة مبدئه، فيلزم أن يحسّ بالسمع عند إدراك جهة الصوت تموج
5
الهواء، وقد قلنا إن ذلك ليس بواجب، وإن كان لأجلهما جميعا عرض
6
من ذلك هذا المحال أيضا، وصح أن الصوت كان يصحب التموج،
7
فبقى أن يكون ذلك لأن الصوت نفسه تولد هناك ومن هناك انتهى،
8
ولو كان الصوت إنما يحدث فى الأذن فقط لكان سواء أن سببه عن
9
اليمين أو اليسار، وخصوصا وسببه لا يحسّ به، وهاهنا مؤثر مثل
10
نفسه قد لا يدرك جهته لأنه إنما يدرك عند وصوله فكيف ما لا
11
حدوث له إلّا عند وصول سببه فقد بان أن للصوت وجودا ما من
12
خارج لا من حيث هو مسموع بالفعل بل من حيث هو مسموع بالقوة،
13
وأمر كهيئة ما من الهيئآت[*]الهيئآت corrupt for الهيئات للتموج غير نفس التموج،
14
ويجب أن يحقق الكلام فى القارع والمقروع، فنقول إنه لا بد فى
15
القرع من حركة قبل القرع و حركة تتبع القرع، فأما الحركة
16
قبل القرع فقد يكون من أحد الجسمين وهو الصائر إلى الثانى وقد
17
يكون من كليهما، ولا بد من قيام كل واحد منهما أو أحدهما فى
18
وجه الآخر قياما محسوسا، فإنه إن اندفع أحدهما كما يمس بل
19
فى زمان لا يحسّ لم يكن صوت، والقارع والمقروع كلاهما
87
1
فاعلان للصوت لكن أولاهما به ما كان أصلبهما وأشدهما مقاومة،
2
فإن حظه فى ذلك أشد، وأما الحركة الثانية فهو انفلات الهواء
3
وانضغاطه بينهما بعنف، والصلابة تعين على شدة ضغط الهواء
4
والملاسة أيضا لئلا ينتشر الهواء فى فرج الخشونة والتكاثف أولى
5
بذلك لئلا ينفذ الهواء فى فرج التخلخل، وربما كان الجسم
6
المقروع فى غاية الرطوبة واللين لكنه إذا حمل عليه بالقوة وكلف
7
الهواء المتوسط أن ينفذ فيه أو ينضغط فيما بينهما لم يكن ذلك
8
الجسم أيضا بحيث يمكن الهواء المتوسط أن ينفذ فيه ويشقه فى
9
زمان قصير بل قاوم ذلك فلم يندفع فى وجه ذلك الهواء المتوسط
10
بل وقاوم أيضا القارع لأن القارع كان يسومه انخراقا كثيرا فى
11
زمان قصير جدا، وليس ذلك فى قوة القابل ولا فى قوة الفاعل
12
القارع فامتنع من الانخراق، فقام فى وجه القارع وضغط معه
13
المتوسط فكانت المقاومة فيه مكان الصلابة، وأنت تعلم هذا إذا
14
اعتبرت إمرارك السوط فى الماء برفق فإنه يمكنك أن تشقه شقا
15
من حيث لا يلزمك فيه مؤونة، فإن استعجلت استعصى عليك
16
وقاوم، فالهواء أيضا كذلك بل قد يجوز أن يكون الهواء نفسه
17
يصير جزء منه مقاوما وجزء بينه وبين المزاحم القارع منضغطا
18
بل يجوز أن يصير الهواء أجزاء ثلثة جزء منه قارع كالريح
19
وجزء مقاوم وجزء منضغط فيما بينهما على هيئة من التموج،
88
1
وليست الصلابة والتكاثف علة أولية لإحداث هذا التموج بل ذلك
2
لهما من حيث يعينان على المقاومة، والعلة الأولية هى المقاومة،
3
فالصوت يحدث من تموج الجسم الرطب السيال منضغطا بين
4
جسمين متصاكين متقاومين من حيث هو كذلك، وكما أن الماء
5
والهواء والفلك تشترك فى طبيعة أداء الألوان، وتلك الطبيعة لها
6
إسم[*]إسم corrupt for اسم وهو الشفيف فكذلك الماء والهواء لهما معنى يشتركان فيه من
7
حيث يحدث فيهما الصوت، وليكن إسمه[*]إسمه corrupt for اسمه قبول التموج، وليس ذلك
8
من حيث المتوسط ماء أو هواء كما أن الإشفاف لم يكن من حيث
9
المتوسط فلك أو هواء، ويشبه أن يكون الماء والهواء لهما أيضا
10
من حيث يؤديان الرائحة أو الطعم معنى كذلك لا إسم[*]إسم corrupt for اسم له، فلتكن
11
الرطوبة المؤدية للطعم العذوبة وأما ما يشترك فيه نقل الرائحة
12
فلا إسم[*]إسم corrupt for اسم له،
13
وأما الصدا فإنه يحدث من تموج يوجبه هذا التموج، فإن هذا
14
التموج إذا قاومه شىء من الأشياء كجبل أو جدار حتى وقفه لزم
15
أن ينضغط أيضا بين هذا التموج المتوجه إلى قرع الحائط أو
16
الجبل وبين ما يقرعه هواء آخر يرد ذلك ويصرفه إلى خلف بانضغاطه
17
ويكون شكله الشكل الأول وعلى هيئته كما يلزم الكرة المرمى
18
بها الحائط أن تضطرّ الهواء إلى التموج فيما بينهما وأن ترجع
19
القهقرى، وقد بينا فيما سلف ما العلة فى رجوع تلك الكرة قهقرى،
20
فلتكن هى العلة فى رجوع الهواء، وقد بقى علينا أن ننطر هل
21
الصدا هو صوت يحدث بتموج الهواء الذى هو التموج الثانى
89
1
أو هو لازم لتموج الهواء الأول المنعطف النابى نبوا، فيشبه أن
2
يكون هو تموج الهواء المنعطف النابى، ولذلك يكون على صفته
3
وهيئته وأن لا يكون القرع الكائن من هذا الهواء يولد صوتا من
4
تموج هواء ثان يعتد به، فإن قرع مثل هذا الهواء قرع ليس
5
بشديد، ولو كان شديدا بحيث يحدث صوتا لأضر بالسمع، ويشبه
6
أن يكون لكل صوت صدا ولكن لا يسمع كما أن لكل ضوء عكسا،
7
ويشبه أن يكون السبب فى أن لا يسمع الصدا فى البيوت والمنازل
8
فى أكثر الأمر أن المسافة إذا كانت قريبة بين الصوت وبين عاكس
9
الصوت لم يسمعا فى زمانين متباينين بل يسمعان معا كما يسمع
10
صوت القرع الذى معه وإن كان بعده بالحقيقة، وأما إذا كان
11
العاكس بعيدا فرق الزمان بين الصوتين تفريقا محسوسا، وإن كان
12
صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس منه بسبب قوة النبو يبقى زمانا
13
كثيرا كما فى الحمامات، ويشبه أن يكون هذا هو السبب فى أن
14
يكون صوت المغنى فى الصحراء أضعف وصوت المغنى تحت السقوف
15
أقوى لتضاعفه بالصدا المحسوس معه فى زمان كالواحد، ويجب
16
أن تعلم أن التموج ليس هو حركة انتقال من هواء واحد بعينه بل
17
كالحال فى تموج الماء يحدث بالتداول بصدم بعد صدم مع سكون
18
قبل سكون، وهذا التموج الفاعل للصوت سريع لكنه ليس بقوى
19
الصك، ولمتشكّك أن يتشكّك فيقول إنه كما قد تشكّكتم فى اللمس
20
فجعلتموه قوى كثيرة لأنه يدرك متضادات كثيرة فكذلك السمع
21
أيضا يدرك المضادة التى بين الصوت الثقيل والحاد، ويدرك
22
المضادة التى بين الصوت الخافت والجهير والصلب والأملس
23
والمتخلخل والمتكاثف وغير ذلك فلم لا تجعلونه قوى، فالجواب
90
1
عن ذلك لأن محسوسه الأول هو الصوت وهذه أعراض تعرض
2
لمحسوسه الأول بعد أن يكون صوتا، وأما هناك فكل واحدة من
3
المتضادات تحسّ لذاتها لا بسبب الآخر، فليكن هذا المبلغ فى
4
تعريف الصوت والإحساس به كافيا،
91
1
المقالة الثالثة
2
(فى الإبصار)
3
فصل ١
4
(فى الضوء والشفيف واللون)
5
وحرى بنا أن نتكلم فى الإبصار، والكلام فيه يقتضى الكلام فى
6
الضوء والمشف واللون وفى كيفية الاتصال الواقع بين الحاس
7
والمحسوس البصرى، فلنتكلم أولا على الضوء، فنقول إنه يقال ضوء
8
ويقال نور ويقال شعاع، ويشبه أن لا يكون بينها فى وضع اللغة
9
كثير تفاوت، لكنا نحتاج فى استعمالنا إياها أن نفرق بينها لأن
10
هاهنا معانى ثلاثة متقاربة، أحدها الكيفية التى يدركها البصر فى
11
الشمس والنار من غير أن يقال إنه سواد أو بياض أو حمرة أو
12
شىء من هذه الألوان، والثانى الأمر الذى يسطع من هذا الشىء
13
فيتخيل أنه يقع على الأجسام فيظهر بياض وسواد وخضرة، والآخر
14
الذى يتخيل على الأجسام كأنه يترقرق وكأنه يستر لونها
15
وكأنه شىء يفيض منها، فإن كان فى جسم قد استفاد ذلك من
16
جسم آخر سمى بريقا كما يحسّ فى المرآة وغيرها، وإن كان فى
17
الجسم الذى له بذاته سمى شعاعا، ولسنا نحتاج الآن إلى الشعاع
18
والبريق بل نحتاج إلى القسمين الأولين، فليكن أحدهما ــ وهو
19
الذى للشىء من ذاته ــ ضوءا وليكن المستفاد نورا وهذا الذى
92
1
نسميه ضوءا مثل الذى للشمس والنار فهو المعنى الذى يرى لذاته،
2
فإن الجرم الحامل لهذه الكيفية إذا وجد بين البصر وبينه شىء
3
كالهواء والماء رُؤى ضرورة من غير حاجة إلى وجود ما يحتاج إليه
4
الجدار الذى لا يكفى فى أن يرى على ما هو عليه وجود الهواء
5
والماء وما يشبههما بينه وبين البصر بل يحتاج إلى أن يكون الشىء
6
الذى سميناه نورا قد غشيه حتى يرى حينئذ، ويكون ذلك النور تأثيرا
7
من جسم ذى ضوء فيه إذا قابله وكان بينهما جسم ليس من شأنه أن
8
يحجب تأثير المضىء فى قابل النور كالهواء والماء فإنه يعين ولا
9
يمنع،
10
فالأجسام بالقسمة الأولى على قسمين، جسم ليس من شأنه هذا
11
الحجب المذكور وليسم الشاف، وجسم من شأنه هذا الحجب
12
كالجدار والجبل، والذى من شأنه هذا الحجب فمنه ما من شأنه
13
أن يرى من غير حاجة إلى حضور شىء آخر بعد وجود المتوسط
14
الشاف وهذا هو المضىء كالشمس والنار، ومثله غير شفاف بل هو
15
حاجب عن إدراك ما وراءه، فتأمل إظلال المصباح عن المصباح،
16
فإن أحدهما يمنع عن أن يفعل الثانى فيما هو بينهما، وكذلك
17
يحجب البصر عن رؤية ما وراءه، ومنه ما يحتاج إلى حضور شىء
18
آخر يجعله بصفة وهذا هو الملون، فالضوء كيفية القسم الأول من
19
حيث هو كذلك، واللون كيفية القسم الثانى من حيث هو كذلك،
20
فإن الجدار لا يمكن المضىء أن ينير شيئا خلفه ولا هو بنفسه
21
منير، فهو الجسم الملون بالقوة، واللون بالفعل إنما يحدث بسبب
93
1
النور، فإن النور إذا وقع على جرم ما حدث فيه بياض بالفعل أو
2
سواد أو خضرة أو غير ذلك، فإن لم يكن كان أسود فقط مظلما،
3
لكنه بالقوة ملون إن عنينا باللون بالفعل هذا الشىء الذى هو
4
بياض وسواد وحمرة وصفرة وما أشبه ذلك، ولا يكون البياض
5
بياضا والحمرة حمرة إلّا أن تكون على الجهة التى تراها ولا تكون
6
على هذه الجهة إلّا أن تكون منيرة، ولا تظن أن البياض على
7
الجهة التى تراها والحمرة وغير ذلك يكون موجودا بالفعل فى
8
الأجسام لكن الهواء المظلم يعوق عن إبصاره فإن الهواء نفسه
9
لا يكون مظلما إنما المظلم هو الذى هو المستنير، والهواء
10
نفسه وإن كان ليس فيه شىء مضىء فإنه لا يمنع إدراك المستنير
11
ولا يستر اللون إذا كان موجودا فى الشىء تأمل كونك فى غار
12
وفيه هواء كله على الصفة التى تظنه أنت مظلما، فإذا وقع النور
13
فى جسم خارج موضوع فى الهواء الذى تحسبه نيرا فإنك تراه
14
ولا يضرك الهواء المظلم الواقف بينك وبينه بل الهواء عندك فى
15
الحالين كأنه ليس بشىء، وأما الظلمة فهو حال أن لا ترى
16
شيئا وهو أن لا تكون الكيفيات التى إذا كانت موجودة فى الأجرام
17
التى لا تشف صارت مستنيرة فهى مظلمة وبالقوة، فلا تراها ولا
18
ترى الهواء، فيتخيل لك ما يتخيل لك إذا أغمضت عينيك
19
وسترتهما، فيتخيل لك ظلمة مبثوثة تراها كما يكون من حالك
94
1
وأنت محدق فى هواء مظلم، وليس كذلك ولا أنت ترى وأنت
2
مغمض هواء مظلما، أو ترى ما ترى من الظلمة شيئا فى جفونك،
3
إنما ذلك أنك لا ترى، وبالجملة فإن الظلمة عدم الضوء فيما من
4
شأنه أن يستنير، وهو الشىء الذى قد يرى لأن النور مرئى وما
5
يكون فيه النور مرئى، والشاف لا يرى البتة، فالظلمة فى محل
6
الاستنارة وكلاهما أعنى المحلين جسم لا يشف، فالجسم الذى من
7
شأنه أن يرى لونه إذا كان غير مستنير كان مظلما ولم يكن فيه
8
بالحقيقة لون بالفعل، ولم يكن ما يظن أن هناك ألوانا ولكنها
9
مستورة بشىء فإن الهواء لا يستر وإن كان على الصفة التى يرى
10
مظلما إذا كانت الألوان بالفعل، لكنه إن سمى إنسان الاستعدادات
11
المختلفة التى تكون فى الأجسام التى إذا استنارت صار واحد منها
12
الشىء الذى تراه بياضا والآخر حمرة ألوانا فله ذلك إلا أنه يكون
13
باشتراك الإسمان[*]الإسمان corrupt for الاسمان، فإن البياض بالحقيقة هو هذا الذى يكون على
14
الصفة التى ترى، وهذا لا يكون موجودا وبينك وبينه شفاف
15
يشف ولا تراه، لأن الشفاف قد يكون شفافا بالفعل وقد يكون
16
شفافا بالقوة، وليس يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى استحالة فى
17
نفسه بل إلى استحالة فى غيره أو إلى حركة فى غيره، وهذا مثل
18
المسلك والمنفذ فإنه لا يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى أمر فى نفسه
19
بل إلى وجود السالك والنافذ بالفعل، فأما الاستحالة التى يحتاج
20
إليها الشفاف بالقوة إلى أن يصير شفافا بالفعل فهى استحالة
21
الجسم الملون إلى الاستنارة وحصول لونه بالفعل، وأما الحركة
22
فأن يتحرك الجسم المضىء إليه من غير استحالة فيه، وقد عرفت
95
1
كنه هذا فيما سلف، فإذا حصل أحد هذين الأمرين تأدى المرئى
2
وصار هذا شفافا بالفعل لوجود غيره، فحرى بنا أن نحقق أمر هذا
3
التأدى إلّا أن الواجب علينا أن نؤخر الأمر فيه إلى أن نذكر شكوكا
4
تعرض فيما قلناه يسهل من حلها تصحيح ما قلناه،
5
فصل ٢
6
(فى أن النور ليس بجسم بل هو كيفية تحدث فيه وفى مذاهب
7
وشكوك فى أمر النور والشعاع
8
من الناس من ظن أن النور الذى يشرق من المضىء على
9
الأجسام ليس كيفية تحدث فيها بل أجساما صغارا تكون منفصلة
10
من المضىء فى الجهات ملازمة لأبعاد مفروضة عنه تنتقل بانتقاله
11
فتقع على الأجسام فتستضىء بها، ومن الناس من ظن أن هذا
12
النور لا معنى له البتة وإنما هو ظهور من الملون، بل من الناس
13
من ظن أن الضوء فى الشمس ليس إلّا شدة ظهور لونها لكنه
14
يغلب البصر، فيجب علينا أولا أن نتأمل الحال فى هذه المذاهب،
15
فنقول إنه لا يجوز أن يكون هذا النور والشعاع الواقع على
16
الأجسام من الشمس والنار أجساما حاملة لهذه الكيفية المحسوسة
17
لأنها إما أن تكون شفافة فلا يخلوا إما أن يزول شفيفها بتراكمها
18
كما تكون الأجزاء الصغار من البلور شفافة ويكون الركام منها
19
غير شفاف وإما أن لا يزول شفيفها، فإن كانت شفافة لا يزول
20
شفيفها لم تكن مضيئة إذ قد فرغنا من الفرق بين الشفاف وبين
96
1
المضىء وإن كانت تعود بالارتكام غير شفافة كان ارتكامها يستر ما
2
تحتها وكلما ازدادت ارتكاما ازدادت سترا، والضوء كلما ازداد ارتكاما
3
ــ لو كان له ارتكام ــ ازداد إظهارا للّون، وكذلك إذا كانت هذه
4
المضيئات فى الأصل مضيئات غير شفافة كالنار وما أشبهها، فبين أن
5
الشعاع المظهر للألوان ليس بجسم، ثم لا يجوز أن يكون جسما
6
ويتحرك بالطبع إلى جهات مختلفة، ثم إن كانت هى أجساما تنفصل
7
من المضىء وتلقى المستنير فإذا غمت الكوة لم يخل إما أن يتفق
8
لها أن تعدم أو تستحيل أو تسبق الغام، والقول بسبق الغام
9
اعتساف فإن ذلك أمر يكون دفعة، والعدم أيضا بالستر من ذلك
10
الجنس فإنه كيف يحكم أن جسما إذا تخلّل بين جسمين عدم
11
أحدهما، وأما الاستحالة فتوجب ما قلناه وهو أنها تستنير بمقابلة النير
12
فإذا غم استحالت، فما الحاجة ــ إن كان الأمر على هذا ــ إلى
13
مسافرة أجسام من جهة المنير ولم لا تكون هذه الأجسام تستحيل
14
بنفسها بالمقابلة تلك الاستحالة، وأما الحجج التى تتعلق بها أصحاب
15
الشعاع فمن ذلك قولهم إن الشعاع لا محالة ينحدر من عند الشمس
16
ويتجه من عند النار، وهذه حركة، ولا حركة إلّا للجسم، وأيضا
17
فإن الشعاع ينتقل بانتقال المضىء، والانتقال للجسم، وأيضا فإن
18
الشعاع يلقى شيئا فينعكس عنه إلى غيره، والانعكاس حركة جسمانية
19
لا محالة، وهذه القياسات كلها فاسدة ومقدماتها غير صحيحة، فإن
20
قولنا الشعاع ينحدر أو يخرج أو يدخل ألفاظ مجازية ليس من ذلك
21
شىء بل الشعاع يحدث فى المقابل دفعة، ولما كان يحدث عن
97
1
شىء عال توهم كأنه ينزل، وأن يكون على سبيل الحدوث فى
2
ظاهر الحال أولى من النزول إذ لا يرى البتة فى الطريق ولا يحتاج
3
إلى زمان محسوس، فلا يخلوا إما أن يكون البرهان دل على انحداره
4
ــ وأنى لهم بذلك ــ وإما أن يكون الحسّ هو الدال عليه وعليه
5
معولهم، وكيف يدل الحسّ على حركة متحرك لا يحسّ زمانه ولا
6
يحسّ فى وسط المسافة، وأما حديث انتقال الشعاع فليس هو بأكثر
7
من انتقال الظل، فيجب أن يكون الظل أيضا جسما ينتقل، وليس
8
ولا واحد منهما بانتقال بل بطلان وتجدد، فإنه إذا تجددت
9
الموازاة تجدد ذلك، فإن ارتكب مرتكب أن الظل أيضا ينتقل
10
فليس يخلوا إما أن ينتقل على النور وإما أن يكون النور ينتقل
11
أمامه وخلفه، فإن كان ينتقل على النور ويغطى النور فلنفرض النور
12
المغشى لجميع الأرض لا انتقال له وإنما يغطيه الظل، فيكون دعوى
13
انتقال النور قد فسد، وإن كان النور ينتقل أمام الظلمة حتى تنتقل
14
الظلمة فلنفرض المضىء واقفا، ومعلوم أنه إذا كان واقفا وقف معه
15
النور، وهذا يدعوا إلى أن تكون حركة ذى الظل سببا لطرد النور
16
وتمكن عدة منهم أن يطردوا النور أيضا من الجهات المختلفة
17
والمضىء واقف فيظلم الموضع حينئذ، أو يكون للنور إذا هرب
18
من الظل طفر من خلف فعاد إلى حيث فارقه الظل، وهذه كلها
19
خرافات، بل لا الظل يفسخ النور ولا هو ولا النور بجسم، وإن
20
كان لهما انتقال فذلك بالتجدد لا أن شيئا واحدا بعينه ينتقل،
21
وانعكاس الشعاع أيضا لفظ مجازى، فإن من شأن الجسم إذا
98
1
استنار وكان صقيلا أن يستنير عنه أيضا جسم يحاذيه من غير انتقال
2
البتة،
3
وأما المذهب الآخر وهو المذهب الذى لا يرى لهذا النور
4
معنى بل يجعله اللون نفسه إذا ظهر ظهورا بينا فإن لأصحابه أن
5
يقولوا إن الذى نعتبر فى هذا الباب ما يتخيل مع اللون من بريق
6
يلزم الملونات، وليس ذلك البريق شيئا فى المرئى نفسه بل أمر يعرض
7
للبصر بالمقايسة بين ما هو أقل ضوءا وما هو أشد ضوءا وشدة
8
ظهور اللون لشدة تأثير الشىء المضىء، فإن الإنارة التى من
9
السراج أقل قليلا من الإنارة التى من القمر والإنارة التى من
10
القمر التى هى الفخت أقل قليلا من الإنارة التى فى البيوت
11
المستورة نهارا عن الشمس بل عن المواضع ذوات الظل التى ليس
12
فيها شعاع الشمس، وذلك لأن الفخت يبطل فى ظل البيوت إذا
13
طلعت الشمس فيتلاشى، ويكون ما يبصر فيها أقوى مما يبصر فى
14
الفخت، والناس لا يرون لما كان فى الظل ــ وإن كان منيرا ــ
15
براقية وشعاعية البتة، ويرون أن نور السراج يفعل فى الأجسام
16
بريقا ونور القمر فى الليل يفعل ذلك، وذلك بسبب القياس إلى
17
الظلمة الليلية فإن الظلمة الليلية تخيل ذلك القدر أنه شعاع براق
18
وليس ذلك إلّا ظهورا ما من اللون، والذى للشمس أقوى وأشد
99
1
تأثيرا، فليرنا مرىء من مثبتى شىء، سوى اللون أن على الحائط
2
الأبيض شيئا غير البياض وغير ظهوره يسمى ذلك الشىء شعاعا،
3
فإن قايس مقايس ذلك بالظل على الحائط فذلك الظل بسبب ظلمة
4
ما يخفى لها من البياض ما كان يجب أن يظهر، وكأنه خلط من
5
الظلمة التى لا معنى لها إلّا خفاء أو زيادة خفاء كما أن النور لا
6
معنى له إلّا ظهور أو زيادة ظهور، ومن هؤلاء قوم يرون أن
7
الشمس ليس ضوءها إلّا شدة ظهور لونها، ويرون أن اللون إذا بهر
8
البصر لشدة ظهوره رُؤى بريق وشعاع يخفى اللون لعجز البصر
9
لا لخفاءه فى نفسه، وكأنه يفتر البصر عن إدراك الجلى، فإذا انكسر
10
ذلك رُؤى لون، قالوا والحيوانات التى تلمع فى الليل إذا لمعت لم
11
يحسّ لونها البتة وإذا كان نهار كان لها لون ظاهر ولم يكن فيها
12
لمعان، فذلك اللمعان هو بسبب شدة ظهور ألوانها لا غير حتى
13
يرى فى الظلمة ويكون فى غاية القوة حين يظهر فى الظلمة فيبهر
14
البصر إذ كانت الظلمة أضعفته، فإذا أشرقت الشمس غلب ظهورها
15
ظهور ذلك فعاد لونها، والبصر لم يتحير له لأن البصر قد اعتاد
16
لقاء الظاهرات واشتد بطلوع الشمس، ومنهم من قال ليس الأمر على
17
هذه الصفة بل الضوء شىء واللون شىء، لكنه من شأن الضوء إذا
18
غلب على البصر أن يستر لون ما فيه، والشمس أيضا لها لون ومع
19
اللون ضوء فيستر الضوء اللون باللمعان كما للقمر وكما للسبجة
100
1
السوداء الصقيلة إذا لمعت رُؤِيت مضيئة ولم ير سوادها، قالوا وهذا
2
غير النور فإن النور هو ظهور اللون لا غير، والضوء ليس هو ظهور
3
اللون بل شىء آخر وقد يخفى اللون، وإن هذه اللوامع فى الليل
4
يظهر نورها فى الظلمة فيخفى لونها وإذا ظهرت الشمس غلب نورها
5
وخفى وظهر لونها، فبالحرى أن نتأمل هذا المذهب مع فروعه
6
المذكورة،
7
فصل ٣
8
(فى تمام مناقضة المذاهب المبطلة لأن يكون النور شيئا غير
9
اللون الظاهر وكلام فى الشفاف واللامع)
10
فنقول إن ظهور اللون يفهم منه فى هذا الموضع معنيان أحدهما
11
صيرورة اللون بالفعل والآخر ظهور لون موجود بنفسه بالفعل
12
للعين، والمعنى الأول يدل على حدوث اللون أو وجوده لونا والمعنى
13
الثانى يدل على حدوث نسبة اللون أو وجود تلك النسبة، وهذا الوجه
14
الثانى ظاهر الفساد، فإن ظن أن النور نفس نسبة اللون إلى البصر
15
فيجب أن يكون النور نسبة أو حدوث نسبة ولا قوام وجود له
16
فى نفسه، وإن عنى به أنه مصير اللون بحيث لو كان بصر لرآه
17
أو كونه كذلك فإما أن يكون هذا نفس اللون أو معنى
18
يحدث إذا زال معنى من خارج كزوال ستر أو غيره، فإن كان
101
1
نفس اللون كان هذا هو الوجه الأول وإن كان حالا تعرض له بها
2
يظهر فيكون الضوء غير اللون، وأما المعنى الأول فلا يخلوا
3
أيضا إما أن يعنى بالظهور خروج من القوة إلى الفعل فلا يكون
4
الشىء مستنيرا بعد ذلك الآن الواحد، وإما أن يعنى به نفس
5
اللون فيكون قوله الظهور لا معنى له أيضا بل يجب أن يقال إن
6
الاستنارة هو اللون، أو يعنى به حال يقارن اللون إما دائما وإما
7
وقتا ما حتى يكون اللون شيئا يعرض له النور تارة ويعرض له
8
الظلمة أخرى واللون فى الحالين موجود بالفعل، فإن كان نفس
9
نسبته إلى ما يظهر له عاد إلى المذهب الآخر وإن كان شيئا
10
آخر عاد إلى ذلك أيضا، فإن قررنا الأمر على أن الضوء وإن كان
11
نفس اللون فيكون كأن الضوء هو اللون نفسه إذا كان بالفعل فلا
12
يخلوا إما أن يكون الضوء مقولا على كل لون بالفعل أو يكون
13
البياض وحده لونا فيكون السواد ظلمة، فيستحيل أن يكون الجسم
14
الأسود مشرقا بالضوء، لكن هذا ليس بمستحيل فإن الأسود يشرق
15
وينور غيره، فليس الضوء هو البياض وحده، وإن لم يكن الضوء
16
هو البياض وحده بل كل لون كان بعض ما هو ضوء يضاد بعض ما
17
هو ضوء، ولكن الضوء لا يقابله إلّا الظلمة، هذا خلف، وأيضا
18
فإن المعنى الذى به الأسود مضىء غير سواده لا محالة وكذلك
19
هو غير البياض، واللون أعنى طبيعة جنسه الذى فى السواد هو
20
نفس السواد واللون الذى فى البياض هو نفس البياض لا عارضا له،
21
فليس اللون المطلق الجنسى هو الضوء، وأيضا فإن الضوء قد يستنير
102
1
به الشفاف كالماء والبلور إذا كان فى ظلمة فوقع عليه الضوء وحده
2
دل عليه وأشف، فهذا ضوء وليس بلون، وأيضا فإن الشىء يكون
3
مضيئا وملونا، فتارة يشرق منه على شىء آخر الضوء وحده كما
4
يشرق على ماء أو حائط وتارة يشرق منه إذا كان قويا الضوء مع
5
اللون جميعا حتى يحمّر الماء أو الحائط الذى يشرق عليه أو
6
يصفّره، فلو كان الضوء ظهور اللون وكانت الظلمة خفاء اللون
7
لكان تأثير اللون الأحمر فيما يقابله حمرة لا بريقا ساذجا، فإن كان
8
هذا ظهور لون آخر فلم إذا اشتد فعل فيما يقابله إخفاء لونه بأن
9
ينقل لون هذا القوى اللون إليه، وعلى أن مذهب هذا الإنسان
10
يوجب أن الحمرة والخضرة وغير ذلك مختلطة من ظهورات وخفاءات
11
سوادية، فيلزم من ذلك أنه إذا كان جسم ظاهر اللون بشعاع
12
وقع عليه ثم انعكس على المعنى الذى نفهمه ضوء جسم آخر ذى لون
13
أن لا يقع لونه عليه لأنه لا يخلوا إما أن يكون هذا المستنير
14
المنير لغيره الأجزاء الظاهرة اللون وحدها أو مع غيرها، فإن
15
كانت وحدها فهى إنما توجب ظهور اللون فى تلك بأن تبيض
16
لاخفاء اللون بأن تحمر أو تخضر، وإن كانت مع غيرها حتى كانت
17
الظاهرة اللون والخفية اللون تفعلان جميعا هذه إخفاء وتلك
18
إظهارا فيكون لخفاء اللون تأثير فى المقابل، لكن خفاء اللون
19
ليس له هذا التأثير، ألا ترى أنه إذا كان خفاء لون مجرد لم يؤثر
20
فيما يقابله كما يؤثر ظهور اللون الذى يقولون به لو كان مفردا؟
21
فإن قالوا إن اللون ظهور الحمرة أيضا والخضرة وغير ذلك من
22
حيث هى حمرة وخضرة وإن الحمرة والخضرة إذا اشتد ظهورها
103
1
فعلت مثل نفسها ففعلت حمرة وخضرة، فيقال ما باله إذا كان
2
قليل الظْهور أظهر اللون فيما، يقابله على ما هو عليه على المعنى
3
الذى هو ضوء مجرد فقط وفعل مثل ما يفعله مضىء لو لم يكن
4
له لون فإذا اشتد ظهوره أبطله أو أخفاه بلون نفسه، وكان يجب
5
أول الأمر أن يكون إنما يفعل فيه لونا من لونه قليلا ثم إذا
6
اشتد فعل فيه كثيرا وكان كل فعل يفعله إنما هو إخفاء لون ذلك
7
بمزجه بلونه، وليس كذلك بل يظهر أول شىء لونه إظهارا شديدا،
8
وإنما يظهر فيه اللون الذى فى استعداده ما لو حضر مضىء لا
9
حمرة ولا خضرة فى فعله ثم يعود بعد ذلك إذا صار أقوى ظهورا
10
آخذا فى إبطال لونه وإخفائه وإلباسه لونا آخر ليس فى جبلته ولا
11
طبيعته، فيكون إذن أحد الفعلين عن شىء غير الآخر، فيكون مصدر
12
أحد الفعلين عن الضوء الذى لو كان الجسم لا لون له وله ضوء
13
لكان يفعل ذلك مثل بلورة مضيئة، والفعل الآخر يكون من لونه
14
إذا اشتد ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار متعديا، فإنّا وإن كنّا
15
نقول إن الضوء ليس هو ظهور اللون فلا نمنع أن يكون الضوء سببا
16
لظهور اللون وسببا لنقله، ونقول إن الضوء جزء من جملة هذا المرئى
17
الذى نسميه لونا، وهو شىء إذا خالط اللون بالقوة حدث منهما
18
الشىء الذى هو اللون بالفعل بالامتزاج، فإن لم يكن ذلك
19
الاستعداد كانت إنارة وبريقا مجردا فالضوء كجزء من الشىء الذى
20
هو اللون ومزاج منه، كما أن البياض والسواد لهما اختلاط ما
21
تحدث عنه تلك الألوان المتوسطة،
104
1
وأما قول القائل إن الضوء واللمعان أيضا ليس إلّا ظهور اللون
2
ثم قوله فى الأشياء اللامعة فى الليل ما قاله فيبطل بأن السراج
3
والقمر كثيرا ما يبطلان لمعان تلك ويظهران ألوانها فيجب أن
4
يكون نور السراج أشد ظهور لون، فيجب أن يكون أيضا ما يصير
5
بالسراج ظاهر اللون لا يرى له فى الظلمة لون، والأمر ليس كذلك،
6
فإن اللامعات ترى أيضا لونها بالليل كما ترى بريقها، فليس ما
7
قالوه بحق، وأما القائل إن للشمس والكواكب ألوانا وإن الضوء
8
يخفى لونها فيشبه أن يكون الحق أن بعض الأشياء يكون له فى
9
ذاته لون، فإذا أضاء اشتدت إضاءته حتى تبهر البصر فلم يميز
10
اللون، ومنه ما يكون له مكان اللون الضوء، وهو الشىء الذى
11
يكون الضوء له طبيعيا لازما غير مستفاد، وبعض الأشياء مختلط
12
الجوهر من ذلك الأمر إما اختلاط تركيب أجزاء مضيئة وأجزاء
13
ذوات ألوان كالنار وإما اختلاط امتزاج الكيفيات كما للمريخ
14
ولزحل، وليس يمكننى أن أحكم فى أمر الشمس الآن بشىء،
15
فقد عرفنا حال الضوء وحال النور وحال اللون وحال الإشفاف،
16
فالضوء هو كيفية هى كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف،
17
وهو أيضا كيفية ما للمبصر بذاته لا لعلة غيره، ولا شك أن
18
المبصر بذاته أيضا يحجب عن إبصار ما وراءه، والنور كيفية
19
يستفيدها الجسم الغير الشفاف من المضىء فيكمل بها الشفاف
20
شفافا بالفعل، واللون كيفية تكمل بالضوء من شأنها أن تصيّر
21
الجسم مانعا لفعل المضىء فيما يتوسط ذلك الجسم بينه وبين
105
1
المضىء، فالأجسام مضيئة وملونة وشفافة، ومن الناس من قال
2
إن من الأجسام ما يرى بكيفية فى ذاته ومنها ما يرى بكيفية فى
3
غيره، وجعل القسم الأخير هو الشفاف، وأما القسم الأول فقد
4
جعله أولا قسمين أحدهما ما يرى فى الشفاف لذاته وبحضوره وهو
5
المضىء، وثانيهما ما ليس كذلك، ثم قسم هذا بقسمين أحدهما ما
6
يشترط فى رؤيته الضوء مع شرط المشف وهو الملون، والثانى ما
7
يشترط فى رؤيته الظلمة مع شرط المشف كالحيوانات التى تلمع فى
8
الليل من حيث تلمع كاليراعة وبعض الخشب المتعفن وبعض
9
الدود، وقد رأيت أنا بيضة دجاجة بهذه الصفة وجرادة ميتة بهذه
10
الصفة وصرارة ميتة بهذه الصفة، وليست هذه القسمة بمرضية
11
ولا صحيحة، فإن المضىء يرى لذاته فى الظلمة وفى الضوء جميعا،
12
فإن اتفق أن كان الرائى فى الضوء الذى يفعله رؤى وإن اتفق
13
أن لم يكن فيه رُؤى أيضا كالنار يراها الإنسان فى الضوء سواء
14
كان ضوءها أو ضوء غيرها ويراها فى الظلمة، وأما الشمس فإنما
15
ليس يمكننا أن نراها فى الظلمة بسبب أنها حيث تكون مقابلة
16
لبصر الرائى تكون قد ملأت العالم ضوءا ولم تترك مكانا
17
مظلما، وأما الكواكب فإنها إنما ترى فى الظلمة لأن ضوءها يقصر
18
عن ضوء الشمس فلا تضىء الأشياء ولا تنورها بل لا يمتنع أن
19
توجد فقد يمكن أن تكون ومعها ظلمة فترى فى الظلمة لا لأن
20
الظلمة سبب لأن ترى هى بالذات، بل يجب أن يعلم أن بعض
21
الأنوار يغلب بعضا حتى لا يرى كما أن ضوء الشمس يغلب ضوء
106
1
النار الضعيفة وضوء الكواكب فلا ترى مضيئة عند الشمس فلا
2
ترى، لا لأجل الحاجة فى رؤيتها إلى الظلمة بل للحاجة إلى أن
3
تكون فى أنفسها مضيئة غير مظلمة بالقياس إلى أبصارنا، فإذا كانت
4
الشمس غائبة ظهرت ورؤيت لأنها صارت مضيئة بالقياس إلى أبصارنا
5
ولحال فى أبصارنا، وربما كان حكم النار والقمر عند ضوء ما هو
6
أضعف منهما هذا الحكم بعينه، ويجب فى ذلك الضوء ألا يكون
7
موجودا بالقياس إلينا عند ظهور نار أو قمر فيلزم أن تكون ظلمة
8
حتى يظهر أو يلزم أن لا يكون باهر حتى يرى ويتمكن البصر
9
من إدراكه، وأنت تعلم أن الهباء الذى فى الجو ليس من جنس ما
10
لا يرى المستنير منه إلّا فى الظلمة، لكن إن كان الإنسان فى
11
الظلمة وقد وقع على هذه الهباءات شعاع الشمس أمكن أن يرى تلك
12
الهباءات، وإن كان الإنسان فى الشعاع لم يمكن، وذلك لأمر فى
13
بصر الإنسان لا لأمر فى ضوء الهباءات، فإن بصر الإنسان إذا
14
كان مغلوبا بضوء كثير لم يرها وإن لم يكن مغلوبا رآها، وكذلك
15
هذه اللوامع فى الليل ليست جنسا آخر بل هى المضيئآت وتخالفها
16
لا فى جملة الطبع بل فى الضعف، ولو كانت هذه مخالفة للمضيئآت
17
فى جملة الطبع فالكواكب كذلك، ولا يتحصل لهذه القسمة محصول
18
صادق إلا أن يقال إن بعض المضيئآت باهرة لبعض وبعضها مبهورة
19
لبعض، ومعنى ذلك البهر ليس تأثيرا منها فيها بل فى أبصارنا كما أن
20
بعض الصلابات أصلب وبعضها أضعف، فلا يجب إذا أن يقال إن
21
اللواتى تلمع فى الليل نوع أو جنس مفرد خارج عن الملونات
107
1
والمضيئآت بل هى من جملة المضيئآت[*]المضيئآت corrupt for المضيئات التى يبهرها ما فوقها فى
2
الإضاءة فلا ترى معها لعجز أبصارنا حينئذ بل إنما يقوى عليها
3
أبصارنا عند فقدان سلطان الباهرة لأبصارنا من المضيئآت، فإن ذهبوا
4
إلى هذا فالقسمة جيدة إلّا أنهم ليسوا يذهبون إلى هذا بل يوهمون
5
أن المضيئآت طبقة والملونات طبقة وهذه طبقة،
6
فصل ٤
7
(فى تأمل مذاهب قيلت فى الألوان وحدوثها)
8
ومما يجب أن نفرغ عنه تأمل مذهب آخر فى أمر الألوان
9
والضوء، فإنا ما لم نفرغ عنه لم يكن لنا سبيل إلى أن ندل على
10
صحة ما ذهبنا إليه بطريق القسمة، فنقول إن من المذاهب فى
11
أمر الألوان مذهب من يرى أن اللون الأبيض إنما تكونه من الهواء
12
والضوء وأن الأسود تكونه من ضد ذلك وأن حدوث اللون الأبيض
13
هو من الشفاف إذا انقسم إلى أجزاء صغار ثم ارتكم، فإنه يعرض
14
هناك أن تقبل سطوحها النور فتضىء، ولأنها شفافة يؤدى
15
بعضها إضاءة بعض، ولأنها صغار يكون ذلك فيها كالمتصل، ولأن
16
المشف لا يرى إلّا بلون غيره فإن شفيفها لا يرى لكن العكوس
17
عن السطوح المتراكمة منها ترى متصلة فيرى الجميع أبيض، قالوا
18
ولهذا ما كان زبد الماء أبيض بمخالطة الهواء، والثلج أبيض
19
لأنه أجزاء صغار جامدة شفافة خالطها الهواء ونفذ فيها الضوء،
108
1
والبلور المسحوق والزجاج المسحوق لا يشف، وأى هذه اتصلت
2
سطوحها اتصالا يبطل به انفراد كل شخص منها بنفسه عادت شفافة،
3
والشفاف الكبير الحجم إذا عرض فيه شق رمى ذلك الموضع منه
4
إلى البياض، قالوا فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم وعمقه
5
الضوء والإشفاف معا،
6
ومنهم من جعل الماء سببا للسواد، قال ولذلك إذا ابتلت
7
الأشياء مالت إلى السواد قالوا وذلك لأن الماء يخرج الهواء ولا
8
يشف إشفافه ولا ينفذ فيه الضوء إلى السطوح فتبقى مظلمة، ومنهم
9
من جعل السواد لونا بالحقيقة وأصل الألوان، قال ولذلك لا
10
ينسلخ، وأما البياض فعارض للمشف بتراكمه، ولذلك يمكن أن
11
يصبغ، ولا يبعد أن يكون المذهب الأول فى السواد يؤدى إلى
12
هذا المذهب أيضا إذ جعل السواد حقيقة ما لا يشف من جهة
13
ما لا يشف وهو حقيقة اللون المنعكس عنه، وقال قوم إن الأسطقصات
14
كلها مشفة، وإنها إذا تركبت حدث منها البياض على الصفة
15
المذكورة وبأن يكون ما يلى البصر سطوحا مسطحة من المشف
16
فينفذ فيها البصر، وإن السواد يعرض إذا كان ما يلى البصر من
17
الجسم زوايا تمنع الإشفاف للأطراف التى تقع فيها، فهى وإن
18
أضاءت فبما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا تظلم، والذى يصعب
109
1
من هذه الجملة فصل القول فيه تولد البياض من الضوء وكون
2
السواد لونا حقيقيا فإنا نعرف أن المشفات تبيض عند السحق
3
والخلط بالهواء، وكذلك اللخالخ والناطف يبيض لاجتماع أحقان
4
الهواء فيه مع الإشفاف الذى فى طبعه، ونعلم أن السواد لا يقبل
5
لونا البتة كما أن البياض يقبل، فكأن البياض لإشفافه موضوع
6
معرى مستعد والمعرى عن الكيفيات قابل لها من غير حاجة إلى
7
إزالة شىء، والمشغول بواحدة لا يقبل غيرها إلّا بزوالها،
8
فهؤلاء قوم يجعلون مخرج الألوان من الإشفاف وغير الإشفاف،
9
وبإزاء هؤلاء قوم آخرون لا يقولون بالإشفاف البتة، ويرون أن
10
الأجسام كلها ملونة وأنه لا يجوز أن يوجد جسم إلّا وله لون،
11
ولكن الثقب والمنافذ الخالية إذا كثرت فى الأجسام نفذ فيها
12
الشعاع الخارج من المضىء إلى الجهة الأخرى، ونفذ أيضا شعاع
13
البصر فيرى ما وراءها،
14
فأما المذهب الأول فإنا نقول لعمرى إنه قد يظهر من دق
15
المشف وخلطه بالهواء لون أبيض، ولكن إنما يكون ذلك لا فى
16
جسم متصل ومجتمع بل إنما يظهر ذلك اللون فى الركام منه وإنه
17
إذا جمع وبل زال عنه البياض عند الاجتماع والجفوف، وليس الجص
18
على ما أظنه ويوجبه غالب ظنى إنما يبيض بياضه لذلك فقط
110
1
بل لأن الطبخ يجعله بحيث إذا بل ثم جف ابيض بياضا شديدا
2
بمزاج يحدث فيه، والدليل على ذلك أنه لو كان فعل النار فى
3
الجص ليس إلا تسهيل التفريق ــ فإن تسهيل التفريق قد يوصل
4
إلى الهيئة التى ذكر أنها سبب لكون البياض ــ لكان السحق الكثير
5
المؤدى إلى غاية تصغير الأجزاء يفعل ذلك الفعل فى الجص وفى
6
النورة وفى غيره، ولكان المهيّأ بالسحق والتصويل إذا اجتمع بالماء
7
فعل فعل الجص من البياض، وليس كذلك،
8
ثم لنفرض أن الجص متكون فيه ذلك على الصورة المذكورة،
9
فليس كل بياض يحدث على هذه الصفة، فإن البيض إذا سلق
10
يصير بياضه الشفاف أبيض، وليس يمكن أن يقال إن النار زادته
11
تخلخلا وتفريقا فإنها قد زادته تكاثفا على حال ولا أنه قد حدثت
12
فيه هوائية وخالطته، فأول ذلك أن بياض البيض يصير عند الطبخ
13
أثقل وذلك لما يفارقه من الهوائية، وثانيا أنه لو كانت هوائية
14
داخلت رطوبته فبيضته لكانت خثورة لا انعقاد، وقد علمت
15
هذا قبل، وأيضا فإن الدواء الذى يتخذه أهل الحيلة ويسمونه
16
لبن العذراء يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه
17
ثم صفى حتى بقى الخل فى غاية الإشفاف والبياض، وخلط بماء
18
طبخ فيه القلى وصفى غاية التصفية حتى صار كأنه دمعة، فإنه إن
19
قصر فى هذا لم يلتئم منهما المزاج الذى يطلبونه، فكما يخلط
20
هذان الماءان ينعقد فيه المنحل الشفاف من المرتك أبيض فى
111
1
غاية البياض كاللبن الرائب، ثم يجف، فليس ذلك لأن هناك
2
شفافا عرض له التفرق فإن ذلك كان متفرقا منحلا فى الخل ولا
3
أجزاء مشفة صغارا جدا تدانت وتقاربت، بل إن كان ولا بد
4
فقد ازدادت فى ماء القلى تفرقا، ولا أيضا خالطها هواء من خارج
5
بوجه من الوجوه، بل ذلك على سبيل الاستحالة، فليس كل تولد
6
بياض فيما أحسب على الصفة المذكورة،
7
ولو لم يكن البياض إلّا ضوءا والسواد إلّا ما قيل لم يكن تركيب
8
البياض والسواد إلّا آخذا مسلكا واحدا، بيان هذا أن البياض يتجه
9
إلى السواد قليلا قليلا من طرق ثلاثة، أحدها طريق الغبرة وهو
10
الطريق الساذج، فإنه إذا كان السلوك ساذجا يتوجه إلى الغبرة
11
ثم منها إلى العودية ثم كذلك حتى يسود فيكون سالكا طريقا لا
12
يزال يشتد فيه السواد وحده يسيرا يسيرا حتى يمحض، والثانى
13
الطريق الآخذ إلى الحمرة ثم إلى القتمة ثم إلى السواد، والثالث
14
الطريق الآخذ إلى الخضرة ثم إلى النيلية ثم إلى السواد، وهذه
15
الطرق إنما يجوز اختلافها لجواز اختلاف ما يتركب عنه الألوان
16
المتوسطة، فإن لم يكن إلّا بياض وسواد ولم يكن أصل البياض
17
إلّا الضوء وقد استحال بعض هذه الوجوه لم يمكن فى تركيب
18
البياض والسواد إلّا الأخذ فى طريق واحد لا يقع الاختلاف إلّا
19
فيه وقوعا بحسب النقص والاشتداد فيه فقط، ولم تكن طرق مختلفة،
20
فإن كانت طرق مختلفة فيجب أن يكون شوب من غير البياض
21
والسواد مع أن يكون شوبا من مرئى، وليس فى الأشياء شىء يظن
22
أنه مرئى وليس سوادا ولا بياضا ولا مركبا منهما إلّا الضوء عند من
23
يجعل الضوء شيئا غيرهما، فإن بطل مذهبه امتنع استحالة الألوان
112
1
فى طرق شتّى، وإن أمكنت هذه الاستحالة وجب أن يكون مرئى
2
ثالث خارج عن أحكام البياض والسواد، ولا وجه أن يكون هذا
3
المرئى الثالث موجودا إلّا أن يجعل الضوء غير اللون،
4
فمن هاهنا يمكن أن تتركب الألوان، فيكون البياض والسواد إذا
5
اختلطا وحدهما كانت الطريقة هى طريقة الاغبرار، فإن خالط السواد
6
ضوء فكان مثل الغمامة التى تشرق عليها الشمس ومثل الدخان
7
الأسود يخالطه النار كان حمرة إن كان السواد غالبا أو صفرة إن
8
كان السواد مغلوبا وكان هناك غلبة بياض مشرق، ثم إن كان هناك
9
صفرة خلطت بسواد ليس فى أجزاء إشراق حدثت الخضرة، وبالجملة
10
إذا كان الأسود أبطن والمضىء أظهر، والحمرة بالعكس، ثم إن كان
11
السواد غالبا فى الأول كانت قتمة، وإن كان السواد غالبا فى الثانى
12
كانت كراثية تلك الشديدة التى لا إسم[*]إسم corrupt for اسم لها، وإن خلط ذلك
13
ببياض كانت كهوبة زنجارية، وإن خلط بالكراثية سواد وقليل حمرة
14
كانت نيلية، وإن خلطت بالحمرة نيلية كانت أرجوانية،
15
فبهذا يمكن تأليف الألوان سواء كان بامتزاج الأجرام أو بامتزاج
16
الكيفيات، ولو كانت هذه لا تكون إلّا باختلاط الأجسام ــ وقد
17
علم أن الأسود لا يصبغ منه الضوء بالعكس جسما البتة أسود ــ
18
لكان يجب أن تكون الألوان الخضر والحمر إنما ينعكس منها البياض
113
1
ولا ينعكس من الأجزاء السود شىء وخصوصا وهى ضعيفة منكسرة،
2
فإن قيل فقد نراها تنعكس عن المخلوط فالجواب أن ذلك لأن
3
الخلط يوجب الفعل والانفعال، ويجب بسبب ذلك امتزاج
4
الكيفية، وسواء فعلته الصناعة أو الطبيعة على أن الطبيعة تقدر على
5
المزاج الذى على سبيل الاستحالة، والصناعة لا تقدر عليه بل
6
تقدر على الجمع، فربما أوجبت الطبيعة بعد ذلك استحالة، والطبيعة
7
تقدر على تلطيف المزاج الذى على سبيل الخلط وتصغير الأجزاء،
8
والصناعة تعجز عن ذلك الاستقصاء، والطبيعة لا تتناهى مذاهبها
9
فى القسمة والنسبة قوة وفعلا، والصناعة لا يمكن أن يخرج جميع ما
10
فى الضمير منها إلى الفعل،
11
فقد بان من هذا أن البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء ثم
12
لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير فى أمر التبيض، ولكن ليس على
13
الوجه الذى يقولون بل بإحداث المزاج المبيض، ولذلك ليس
14
لنا أن نقول إن بياض الناطف كله من الجهة التى يقولون بل من
15
المزاج، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا بحسب المخالطة فقط
16
بل بحسب الإحالة أيضا، ولو كان مذهبهم صحيحا لكان يمكن
17
أن يبلغ بالشىء الأبيض والملون بشدة الترقيق حتى يذهب تراكمه
18
إلى أن يشف أو إلى قريب منه، وهذا مما لا يكون، وأما قولهم
19
إن الأسود غير قابل للون آخر فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة
20
أو على سبيل الصبغ، فإن عنوا على سبيل الاستحالة فقد كذبوا
21
ومما يكذبهم الشباب والشيب، وإن عنوا على سبيل الصبغ فذلك
22
حال مجاورة لا حال كيفية، فلا يبعد أن يكون الشىء المسود لا
114
1
يكون مسودا إلّا وفيه قوة نافذة متعلقة قباضة فيخالط وينفذ
2
ويلزم، وأن يكون ما هو موجود فى الأشياء أبيض بخلاف ذلك
3
فى طبعه فلا يمكنه أن يغشى الأسود ويداخله ويلزمه، على أن
4
ذلك أيضا ليس مما لا يمكن فإنه إذا احتيل بمثل الإسفيداج
5
وغيره حيلة ما حتى يغوص ويحلّل السواد صبغه أبيض،
6
وأما المذهب الثانى فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به
7
إلّا إذا فرض الخلاء موجودا، وذلك لأن المسام التى يذكرونها
8
لا يخلوا إما أن تكون مملوءة من جسم أو تكون خالية، فإن كانت
9
مملوءة من جسم فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام
10
أو تكون له أيضا مسام وينتهى لا محالة إما إلى مشف لا مسام
11
له ــ وهذا خلاف قولهم ــ وإما إلى خلاء، فيكون مذهبهم
12
يقتضى وجود الخلاء والخلاء غير موجود، ثم بعد ذلك فإنهم
13
يقولون إنه ليس كل مسام تصلح لتخييل الإشفاف بل يجب أن
14
تكون المسام مستقيمة الأوضاع من غير تعريج حتى تنفذ فيها
15
الشعاعات على الاستقامة، فلنخرط كرة من جمد بل من بلور بل
16
من ياقوت أبيض شفاف، فهذه المسام التى تكون فيها شفافة
17
مستقيمة هبها تكون كذلك طولا، فهل تكون كذلك أيضا عرضا؟
18
وهل تكون كذلك قطرا؟، ومن أى جهة أثبت فكيف تكون
19
مستقيمات تداخل مستقيمات فتكون من أى جهة تأملتها لا تتعرج؟
20
فمن الضرورة أن يعرض من بعض الجهات خلاف الاستقامة ووقوف
115
1
الأجزاء التى لا مسام لها فى سمت الخطوط التى تتوهم خارجة على
2
الاستقامة من العين، أو يكون الجسم خلاء كله، وهذا محال،
3
فيجب أن تكون الكرة إذا اختلف منك المقامات فى استشفافها
4
اختلف عليك شفيفها ضرورة، ثم كيف يكون حال جسم فيه من
5
المسام والمنافذ ما يخفى لونه حتى تراه كأنه لا لون له وله فى
6
نفسه لون؟ ولا يستر لونه شيئا ملتصقا مما وراءه بل يؤدى ما
7
وراءه بالحقيقة، فإن أحدث سترا فإنما يحدث شيئا كأنه ليس،
8
فتكون لا محالة الثقب التى فيه أكثر كثيرا من الملأ الذى فيه،
9
فكيف يجوز أن يكون لها استمساك الياقوت وهو كله فرج؟ ولو
10
أن إنسانا أحدث فى الياقوت منافذ ثلاثة أو أربعة ثم حمل عليه
11
بأضعف قوة لانرضّ وانكسر، فهذا المذهب أيضا محال،
12
فالألوان إذا موجودات، وليس وجودها أنها أضواء ولا الأضواء
13
ظهورات لها، ومع ذلك فليست هى ما هى بالفعل بغير الأضواء،
14
والمشف أيضا موجود، وهذا ما أردنا بيانه إلى هذه الغاية، وقد
15
بقى علينا أن نخبر عن حال الإبصار أنه كيف يكون، ويتعلق
16
بذلك تحقيق كيفية تأدى الأضواء فى المشف،
17
فصل ٥
18
(فى اختلاف المذاهب فى الرؤية وإبطال المذاهب الفاسدة بحسب
19
الأمور أنفسها)
20
فنقول إن المذاهب المشهورة فى هذا الباب مذاهب ثلاثة
21
وإن كان كل مذهب منها يتفرع، أحدها مذهب من يرى أن
116
1
شعاعات خطية تخرج من البصر على هيئة مخروط يلى رأسه العين
2
وقاعدته المبصر، وأن أصحها إدراكا هو السهم منها، وأن
3
تبصر الشىء هو نقل السهم فيه، ومنها مذهب من يرى أن
4
الشعاع قد يخرج من البصر على هيئة إلّا أنه لا يبلغ من كثرته
5
أن يلاقى نصف كرة السماء إلّا بانتشار يوجب انتشار الرؤية، لكنه
6
إذا خرج واتصل بالهواء المضىء صار ذلك آلة له وأدرك بها،
7
ومنها مذهب من يرى أنه كما أن سائر المحسوسات ليس يكون
8
إدراكها بأن يرد عليها شىء من الحواسّ بارزا إليها متصلا بها
9
أو مرسلا رسولا إليها كذلك الإبصار ليس يكون بأن يخرج شعاع
10
البتة فيلقى المبصَر، بل بأن تنتهى صورة المبصر إلى البصر بتأدية
11
الشفاف إياها،
12
وقد استدل الفريقان الأولان وقالا إنما جاز فى سائر الحواسّ
13
أن تأتيها المحسوسات لأنها يصح إدراكها بالملامسة كما للمس
14
وكالذوق وكالشم الذى يستقرب الروائح بالتنشق ليلاقيها
15
وينفعل بها، وكالصوت الذى ينتهى به التموج إلى السمع، ثم
16
إن البصر ليس يمكن فيه ذلك لأن المرئى منفصل، ولذلك لا
17
يرى المقرب منه، ولا أيضا من الجائز أن ينتقل إليه عرض موجود
18
فى جسم مرئى أعنى لونه وشكله، فإن الأعراض لا تنتقل، فإذا
19
كانت الصورة على هذا فبالحرى أن تكون القوة الحاسة ترحل
117
1
إلى موضع المحسوس لتلاقيه، ومحال أن تنتقل القوة إلّا بتوسط جسم
2
يحملها، ولا يكون هذا الجسم إلّا لطيفا من جنس الشعاع والروح
3
فلذلك سميناه شعاعا، ولوجود جسم مثل هذا فى العين ما يرى الإنسان
4
فى حال الظلمة أن نورا قد انفصل من عينيه وأشرق على أنفه أو
5
على شىء قريب يقابله، وأيضا فإن الإنسان إذا أصبح ودعاه دهش
6
الانتباه إلى حك عينيه فإنه يَتَراءَى له شعاعات قدام عينيه، وأيضا فإن
7
الثقبة العينية تمتلئُ من إحدى العينين إذا غمضت الأُخرى وفى
8
التحديق المفرط أيضا، فلا محالة أن جسما بهذه الصفة ينصب إليها،
9
ثم إن الفرقة الثانية استنكرت أن يكون جسم مثل العين يسع من
10
الشعاع ما يتصل خطا واحدا بين البصر والكواكب الثابتة فضلا
11
عن خطوط تنتهى إلى ما يرى من العالم، وخصوصا ولا يرى ما
12
يرى منها إلّا متصلا مستوى الاتصال، فيجب أن يكون ما يرى
13
به متصلا، واستنكرت أيضا أن يتحرك هذا الشعاع الخارج
14
فى زمان غير محسوس حركة من العين إلى الثوابت، وقالوا يجب
15
أن تكون نسبة زمان حركتك نحو شىء بينك وبينه ذراعان إلى زمان
16
الحركة إلى الكواكب الثابتة نسبة المسافتين، فيجب أن يظهر
17
بين الزمانين اختلاف، وربما احتج بهذا أصحاب المذهب الثالث
18
أيضا على أصحاب الشعاع الخطى، ولم يعلموا أن هذا فاسد،
19
وذلك لأنه يمكن أن يفرض زمان غير محسوس قصرا أو أكبر
20
زمان غير محسوس قصرا، فتحصل فيه الحركة التى للشعاع إلى
118
1
الثوابت، ثم يمكن أن ينقسم هذا الزمان إلى غير النهاية،
2
فيمكن أن يوجد فيه جزء أو بعض نسبته إليه نسبة المسافة
3
المستقصرة إلى المسافة المستبعدة، فيكون الزمانان الذان بينهما
4
البعد كلاهما غير محسوس قصرا،
5
لكن لأصحاب الشعاعات حجة فى حلها أدنى صعوبة، وهو قولهم
6
إن المرايا تشهد بوجود هذه الشعاعات وانعكاسها، وذلك أنه لا
7
يخلو إما أن يكون البصر تتأدى إليه صورة المرآة وقد تأدى إليها
8
صورة المرئى متمثلة متشبحة فيها، وإما أن يكون ما نقوله من أن
9
الشعاع يخرج فيلقى المرآة ثم يصير منها إلى أن يلقى ما ينعكس
10
عليه على زاوية مخصوصة، وإذا بطل القول الأول بقى القول الثانى،
11
ومما يتضح به بطلان القول الأول أنه لو كانت هذه الصورة متشبحة
12
فى المرآة لكانت لا محالة تتشبح فى شىء بعينه من سطحها، كما
13
إذا انعكس الضوء واللون معا فتأديا فى المشف إلى غير الحامل
14
لهما الأول فإنما يتمثل المتأدى من ذلك فى بقعة واحدة بعينها
15
يرى فيها على اختلاف مقامات الناظرين، وليس الشبح الذى فى
16
المرآة بهذه الصفة بل ينتقل فيها بانتقال الناظر، ولو كان إنما
17
ينتقل بانتقال المرئى فقط لم يكن فى ذلك إشكال، وأما انتقاله
18
بانتقال الناظر فدليل على أنه ليس هناك بالحقيقة موضع تتشبح
19
فيه الصورة، ولكن الناظر إذا انتقل انتقل مسقط الخط الذى إذا
20
انعكس إلى المرئى فعل الزاوية المخصوصة فرأى بذلك الخط
119
1
بعينه المرئى ورأى جزءا من المرآة آخر، فتخيل أنه فى ذلك
2
الجزء الآخر من المرآة، وكذلك لا يزال ينتقل، قالوا ومما يدل
3
على صحة هذا أن الناظر الذى للإنسان قد ينطبع فيه شبح مرئى
4
ينعكس عنه إلى بصر ناظر حتى يراه هذا الناظر الثانى، ولا يراه
5
صاحب الحدقة التى تمثل فيها الشبح بحسب التخيل، ولو كان
6
لذلك حقيقة انطباع فى ناظره لوجب على مذهب أصحاب الأشباح
7
أن يتساوى كل منهما فى إدراكه، فإن عندهم أن حقيقة الإدراك
8
تمثل شبح فى الناظر، فيكون كل من تمثل فى ناظره شبح رآه،
9
قالوا فمن هذا نحكم ونقول إن الناظر فى المرآة يتخيل له فى
10
المرآة أنه يرى صورته، وليس كذلك، بل الشعاع إذا لاقى
11
المرآة فأدركها كرّ منعكسا فلاقى صورة الناظر فأدركها، فإذا
12
رأى المرآة ونفسه فى سمت واحد من مخرج الخط الشعاعى تخيل
13
أن أحدهما فى الآخر، قال والدليل على أن ذلك ليس منطبعا فى
14
المرآة أنه يرى المرئى فى المرآة بحيث لا يشك أنه ليس فى
15
سطح المرآة وإنما هو كالغائر فيه والبعيد عنه، وهذا البعد لا يخلوا
16
إما أن يكون بعدا فى غور المرآة، وليس للمرآة ذلك الغور ولا
17
أيضا إن كان لها ذلك الغور كانت المرآة مما يرى ما يتشبح فى
18
باطنها، فبقى أن يكون ذلك البعد بعدا فى خلاف جهة غوره،
19
فيكون بالحقيقة إنما أدرك الشىء بذلك البعد من المرآة، فلا
20
يكون قد انطبع شبحه فى المرآة،
21
فيلزمنا أول شىء أن نبطل المذهبين الأولين فتثبت صحة مذهبنا
22
وهو الثالث، ثم نكر على هذه الشبه فنحلها، فنقول إن الشىء
120
1
الخارج من البصر لا يخلوا إما أن يكون شيئا قائم الذات ذا وضع
2
فيكون جوهرا جسمانيا، وإما أن يكون شيئا لا قوام له بذاته وإنما
3
يقوم بالشىء المشف الذى بين البصر والمبصر، ومثل هذا الشىء
4
فلا يجوز أن يقال له بالحقيقة أنه خارج من البصر، ولكن يجب
5
أن يقال إنه انفعال للهواء من البصر، ويكون الهواء بذلك الانفعال
6
معينا فى الإبصار، وذلك على وجهين، إما على سبيل إعانة الواسطة
7
وإما على سبيل إعانة الآلة،
8
وقبل الشروع فى التفصيل فإنى أحكم حكما كليا أن الإبصار
9
ليس يكون باستحالة من الهواء إلى حالة تعين البصر البتة، وذلك
10
لأن تلك الحالة لا محالة تكون هيئة فى الهواء ليست معنا إضافيا
11
بحسب ناظر دون ناظر، فإنا لا نمنع وجود هذا القسم بل نقول لا بد
12
منه ولا بد من إضافة تحدث للهواء مع الناظر عند نظره بتلك
13
الإضافة يكون الإبصار، وإنما نمنع وجود حالة وهيئة قارّة فى نفس
14
الهواء وذاته يصير بها الهواء ذا كيفية أو صفة فى نفسه وإن
15
كانت لا تدوم له ولا توجد عند مفارقة الفاعل الموجد، لأن
16
مثل هذه الهيئة لا يكون له بالقياس إلى بصر دون بصر بل
17
يكون موجودا له عند كل شىء، كما أن الأبيض ليس أبيض
18
بالقياس إلى شىء دون شىء، بل هو أبيض بذاته وأبيض عند كل
19
شىء وإن كان لا يبقى أبيض مع زوال السبب المبيض، ثم لا
20
يخلوا إما أن تكون تلك الهيئة تقبل الشدة والضعف فتكون
21
أضعف وأقوى أو تكون على قدر واحد، فإن كان على قدر واحد فلا
22
يخلوا إما أن تكون العلة الموجبة تقبل الأشد والأنقص أو لا
23
تقبل، فإن كانت طبيعة العلة تقبل الأشد والأنقص وتلك الطبيعة
121
1
لذاتها تكون علة فيجب أن يتبعها المعلول فى قبول الأشد والأنقص،
2
فإنه من المحال أن يفعل الضعيف الفعل الذى يفعل القوى
3
نفسه إذا كانت قوته وضعفه أمرا فى طبيعة الشىء بما هى علة،
4
فيجب من ذلك أن القوى المبصرة الفاعلة فى الهواء إذا كثرت
5
وازدحمت كان حدوث هذه الحالة والهيئة فى الهواء أقوى، وأن
6
يكون قوى البصر أشد فى إحالة الهواء إلى هذه الهيئة من ضعيف
7
البصر، وخصوصا وليس هذا من باب ما لا يقبل الأشد والأضعف
8
لأنه من باب القوى والحالات فى القوة، ولا تكون قوتها ــ كما
9
ذكرنا ــ بقياس بصر دون بصر بل بنفسها كما قلنا، فيجب أن
10
يكون ضعفاء الإبصار إذا اجتمعوا رأوا أقوى وإذا تفرقوا رأوا أضعف،
11
وأن ضعيف البصر إذا قعد بجنب قوى البصر رأى أشد، وذلك لأن
12
الهواء يستحيل إلى تلك الهيئة كيف كانت باجتماع العلل الكثيرة
13
والقوية استحالة أشد، فيكون أداؤه للصورة ومعونته فى الإبصار أقوى،
14
وإن كان ضعف نفس البصر يزيد خلّلا فى ذلك فاجتماع الضعيفين
15
معا ليس كحصول ضعيف واحد، كما أن ضعيف البصر لا يستوى
16
حال إبصاره فى الهواء الكدر والهواء الصافى لأن الضعيف إذا وجد
17
معونة من خارج كان لا محالة أقوى فعلا، ثم نحن نشاهد ضعيف
18
البصر لا يزيده اقتران أقوياء البصر به أو اجتماع كثرة ضعفاء البصر
19
معه شيئا فى إبصاره، فبين أن المقدم باطل،
122
1
ولنعد إلى التفصيل الذى فارقناه، فنقول لا يخلوا الهواء حينئذ
2
إما أن يكون آلة وإما أن يكون واسطة، فإن كان آلة فإما أن
3
تكون حساسة وإما أن تكون مؤدية، ومحال أن يقول قائل إن
4
الهواء قد استحال حساسا حتى إنه يحسّ الكواكب ويؤدى ما
5
أحسّه إلى البصر، ثم ليس كل ما نبصره يلامسه الهواء، فإنا قد
6
نرى الكواكب الثابتة والهواء لا يلامسها، وما أقبح بنا أن نقول
7
إن الأفلاك التى فى الوسط أيضا تنفعل عن بصرنا وتصير آلة له
8
كما يصير الهواء آلة له، فإن هذا مما لا يقبله عاقل محصل،
9
أو نقول إن الضوء جسم مبثوث فى الهواء والفلك يتحد بأبصارنا ويصير
10
آلة لها، فإن ساعدنا على هذا القبيح فيجب أن لا نرى كلية جسم
11
الكواكب بعد تسليمنا باطلا آخر وهو أن فى الفلك مسام، وذلك
12
لأنه لا تبلغ مسامها أن تكون أكثر من نصف جرمها، فيجب أن
13
يكون الكوكب المنظور إليه إنما ترى منه أجزاء ولا ترى
14
أجزاء، ثم ما أشد قوة أبصارنا حتى تحيل الهواء كله والضياء
15
المبثوث فى أجسام الأفلاك بزعمهم إلى قوة حساسة أو أية قوة
16
شئت، ثم الهواء والضوء ليسا متصلين ببصر دون بصر، فلم
17
يؤديان ما يحسّانه إلى بصر دون بصر؟ فإن كان من شرط البصر
18
الذى يرى أن يقع فى مسامتة المرئى حتى يؤدى حينئذ الهواء إليه ما
19
أحسّ فليس إحساس الهواء بعلة لوصول المحسوسات إلى النفس ولكن
20
وقوع البصر من المبصر على نسبة وتوسط الهواء بينهما، فإن كان
21
الهواء يحسّ بنفسه ويؤدى أيضا فما علينا من إحساسه فى نفسه، بل
22
إنما المنتفع به فى أن نحسّ نحن تأديته المرئى إلينا، ولا نبالى
123
1
أنه يحسّ فى نفسه أو لا يحسّ فى نفسه، أللهم إلّا أن يجعل
2
إحساسه لإحساسنا فيكون الفلك والهواء كله يحسّ لأجلنا،
3
وأما إذا لم يجعل ذلك آلة بل واسطة تنفعل أولا من البصر ثم
4
يستتم كونها واسطة فبالحرى أن نتأمل أنه أى انفعال ينفعل حتى
5
يؤدى أبأن يقبل من البصر قوة حياة وهو أسطقص بسيط، هذا لا
6
يمكن، أو يصير بالبصر شافا بالفعل، فالشمس أقوى من البصر فى
7
تصييره شافا بالفعل وأكفى، فليت شعرى ماذا يفعل البصر بهذا
8
الهواء، فإن كان البصر يسخنه فيجب إذا برد الهواء أن يمنع
9
الإبصار، أو يبرده فيجب إذا سخن أن يمنع الإبصار، وكذلك
10
الحال فى باقى الأضداد، ولجميع الأضداد التى يستحيل بها الهواء
11
أسباب غير البصر إن اتفقت كفت الحاجة إلى إحالة البصر، وإن
12
اتفق أضدادها لم تغن إحالة البصر، أو عساه لا يحدث إشفافا
13
ولا كيفية ذات ضد من المعلومات بل يحدث خاصية غير منطوق
14
بها، فكيف عرفها أصحاب هذا المذهب؟ ومن أين توصلوا إليها؟
15
أما نحن فقد قدمنا مقدمة كلية تمنع هذه الاستحالات كلها سواء
16
كانت منسوبة إلى خاصية أو طبيعة منطوق بها أو غير منطوق
17
بها، وبعد ذلك فإنا نظن أن الهواء إذا كان شفافا بالفعل وكانت
18
الألوان ألوانا بالفعل وكان البصر سليما لم يحتج إلى وجود شىء
19
آخر فى حصول الإبصار،
20
ولنضع الآن أن الخارج جوهر جسمانى شعاعى كما يميل إليه
21
الأكثر منهم، فنقول حينئذ إن أحواله لا تخلوا عن أربعة أقسام،
22
إما أن يكون متصلا بكل المبصَر، وغير منفصل عن المبصِر، وإما
124
1
أن يكون متصلا بكل المبصَر ومنفصلا عن المبصِر، وإما أن يكون
2
متصلا بعض المبصَر دون بعض كيف كان حاله مع المبصِر، وإما
3
أن يكون خارجا عن المبصِر وغير متصل بالمبصَر، وأما القسم الأول
4
فإنه محال جدا، أعنى أن يخرج من البصر جسم متصل يملأ
5
نصف العالم ويلاقى الأجسام السماوية ثم كما يطبق الجفن يعود
6
إليه، ثم يفتح فيخرج آخر مثله، أو كما يطبق تعود الجملة
7
إليه، ثم كما يفتح مرة أخرى يخرج عنه حتى كأنه واقف
8
على نية المغمض، ثم كيف لا يرى الشىء البعيد بشكله وعظمه
9
إن كانت الرؤية بوصله إليه وملامسته إياه، فإن العظم أولى بأن
10
يدرك بالملامسة بتمامه من اللون لأن الشعاع ربما تفرق وتهلهل،
11
فرأى اللون كما يرى الخلط من اللون، وأما القدر فيراه حينئذ
12
كما يرى الخلط من المقدار، والخلط من المقدار الجسمانى وإن
13
كان متخلخلا كأنه مركب من مقدار جسمانى ومن لا شىء أو لا
14
جسم لا ينقص من عظم كليته، ولا تنفعهم الزاوية التى عند
15
البصر، إنما ينفع ذلك أصحاب الأشباح إذ يقولون إن الشبح يقع
16
على القطع الواقع فى المخروط الموهوم عند سطح الجليدية الذى
17
رأسه فى داخل، فإن كانت الزاوية أكبر لأن الشىء أقرب كان
18
القطع أعظم والشبح الذى فيه أعظم، وإن كانت الزاوية أصغر
19
لأن الشىء أبعد كان القطع أصغر والشبح الذى فيه أصغر، وأما
125
1
على مذهب من يجعل المبصر ملموسا بآلة البصر فما تغنى هذه
2
الزاوية،
3
وأما القسم الثانى فهو أظهر بعدا واستحالة، وهو أن يكون ذلك
4
الخارج يفارق المبصِر ويمضى إلى الفرقدين ويلمسهما، ولا وصلة
5
بينه وبين المبصِر فيحسّ المبصِر بما احسّ هو، ويكون كمن يقول
6
إن لامسا يقدر أن يلمس بيد مقطوعة، وإن الحية يتأدى إلى بدنها
7
ما يلمسه ذنبها المقطوع المفصول عنها وقد بقى فيه الحسّ،
8
إلّا أن يقال إنه أحال المتوسط وحمله رسالة إلى المبصِر، فيكون
9
لهواء مؤديا مستحيلا معا، و قد قلنا على هذا ما فيه كفاية،
10
وإن كان متصلا بعض المبصَر وجب أن لا يراه كله بل ما يلاقيه
11
منه فقط، فإن جعل الهواء مستحيلا إلى طبيعته وصار معه كشىء
12
واحد فما الذى يقال فى الفلك إذا أبصرناه، أترى الفلك يستحيل
13
أيضا إلى طبيعة ذلك الشعاع الخارج ويصير حساسا معه كشىء
14
واحد حتى يلاقى كوكب زُحل بكليته فيراه والمشترى وسائر
15
الكواكب العظام وهذا ظاهر الفساد بعيد، ثم قد قلنا فى فساد
16
هذه الاستحالة ما قلنا، فإن قالوا إن الهواء المشف ليس يتحد به
17
كشىء واحد ولكن يستحيل إلى طبيعة مؤدية، فما يلاقيه الشعاع
18
يدركه الشعاع، وما لا يلاقيه يؤدى إليه الهواء صورته باستحالة
19
عرضت له، فأول جواب ذلك أن الهواء لم لا يستحيل عن الحدقة
20
وحدها ويؤدى إليها إن كان من شأنه الأداء، فلا يحتاج إلى جسم
21
خارج، وأما ثانيا فقد فرغنا عن بيان استحالة هذه الاستحالات، وأما
22
ثالثا فإن الهواء المتوسط بين خطين خارجين يجب أن يؤدى إلى
23
كل خط منهما ما يؤدى إلى الآخر، فيكون آخر الأمر قد تأدى
126
1
إلى جملة الشعاع من جملة الهواء المتخلل للخطوط صورة المحسوس
2
مرتين أو مرارا فيجب أن يرى المحسوس مرتين أو مرارا خصوصا
3
إن كان على ما فى بعض مذاهب القوم من أن الخطوط لا تدرك
4
بنفسها بل بما يؤدى إليها الهواء، ثم إن كان الأداء إلى الحدقة
5
من الجميع أعنى الخطوط والهواء معا فالهواء مؤد للأشباح على مثل
6
ما قال المعلم الأول، ومن عرف أن لا خلاء وأن أجرام الأفلاك
7
مصمتة لا فرج فيها ولا فطور عرف أن ذلك مستحيل لا يمكن، وأنه
8
لا يمكن أن ينفذ فيها هذا الخارج بل كيف ينفذ هذا الشعاع فى
9
الماء إن لم يكن فيه خلاء حتى يلاقى جميع الأرض تحته ويراه وهو
10
متصل، والماء لا يربوا حجمه لما خالطه منه، وإن كان هناك
11
خلاء فكم يكون مقدار تلك الفرج الخلائية التى تكون فى الماء مع
12
ثقل الماء ونزوله فى الفرج وملئه إياها، فيرى أن الماء فرج كله أو
13
أكثره أو مناصفه حتى يمكن الخارج أن ينفذ إلى جميع ما فى
14
قعر الماء ويلاقيه ويماسه وهو غير منقطع عن البصر، وإن انقطع
15
فذلك أعجب،
16
وإن قال قائل إنا نرى الشىء القليل ينفذ فى الماء الكثير حتى
17
يستولى على كليته مثل الزعفران يصبغ قليله كثيرا من الماء،
18
فنقول إن انصباغ الماء الكثير بالزعفران القليل لا يخلوا من
19
وجهين، إما أن يكون الصبغ الحادث فى الماء غير موجود إلّا فى
20
الأجزاء الزعفرانية وأجزاء الماء بحالها، وإما أن تكون أجزاء
127
1
الماء استحالت أيضا فى نفسها إلى الصبغ كما تستحيل إلى الحر
2
والبرد والرائحة لا أن جوهرا داخلها إما استحالة إلى صبغ حقيقى
3
وإما استحالة إلى صبغ خيالى، أعنى بالخيالى كما يرى على سطح
4
الماء شبح شىء يلقى فيه غير محاذ للبصر وكما يتخيل من الماء
5
أنه على لون إنائه، وذلك مما إذا كثر وعم أرى جميع وجه الماء
6
بذلك الصبغ وهو فيه قليل، فإن كان هذا الانصباغ على مقتضى القسم
7
الأخير فلا منفعة لهذا الاعتراض فى الغرض لأن الماء يكون قد
8
استحال أو تشبح لأن الصبغ القليل نفذ فى كله، وقد يستحيل كثير
9
المقدار من كثير القوة قليل المقدار، وبالجملة إن كان حال الهواء
10
فى استحالته عن الأشعة هذه الحال عرض ما سلف منا منعه ووجب أن
11
تكون الأشعة إذا كثرت جدا ازداد الهواء استحالة نافعة فى الإبصار،
12
وإن كان على سبيل التأدية دون الاستحالة وطبيعة الهواء مؤدية
13
للأشباح إلى القوابل فليؤد أيضا إلى الأبصار، وإن لم يكن على
14
مقتضى القسم الثانى بل على سبيل القسم الأول فإنا لا يمكننا أن
15
نشك فى أن الماء متجزٍّ بين أجزاء الزعفران، والزعفران متجزٍّ بين
16
أجزاء الماء، وأن أجزاء الماء لا محالة أعظم حجما من أجزاء
17
الزعفران، وأن بين كل جزئين من أجزاء الزعفران متواليين مياها
18
صرفة وأن هذه المياه الصرفة فى أكثر المواضع التى بين جزئى
19
الزعفران أعظم كثيرا من أجزاء الزعفران حتى تكون نسبة الأجزاء
20
إلى الأجزاء ــ إذا أخذت واحدا إلى الآخر ــ كنسبة الكل إلى الكل،
21
فإذا كان كذلك كانت مقادير أجزاء الزعفران صغارا ولم يجز أن
22
تستولى على الماء كله فما كان ينبغى أن ينصبغ الماء بالكلية،
128
1
بل هذا الوجه باطل، وإنما يرى الماء مصبوغا كله لأحد الأمرين،
2
إما لأن كل واحد من أجزاء الماء وأجزاء الزعفران من الصغر بحيث
3
لا يدركه الحسّ متميزا، وذلك لا يمنع أن يكون أحدهما أكثر
4
كثيرا جدا من الآخر لأن الجسم ينقسم إلى غير النهاية، فيمكن
5
أن يكون جزء من الماء هو ألف ضعف جزء من الزعفران وهو
6
مع ذلك فى الصغر بحيث لا يحسّ مفردا فإذا كان كذلك لم يكد
7
البصر يفرق بين أجزاء الزعفران وبين أجزاء الماء فيرى منهما
8
صبغا واحدا شائعا بين الأحمر والشاف، فهذا وجه، وإما أن
9
تكون الأجزاء المحسوسة من الزعفران ليست على أوضاع متسامتة
10
متوازية، بل إذا حصل بين جزئين من ترتيب على جزء من الماء
11
محسوس القدر فإن أجزاء أُخرى من تحت تقع مواقع لو رفعت
12
لغطت سطحا مع الأول، فيكون بعضها يرى لأنه فى السطح الأعلى
13
وبعضها يرسل شبحه إلى السطح الأعلى فتتوافى الأشباح بصبغ واحد
14
إذ الماء يؤدى لون كل واحد منها لإشفافه، فيرى الجميع متصلا
15
فى سطح واحد ويتخيل مستوليا على الماء، ولا يكون، ويصحح
16
هذا القول قلة ما يرى من الصبغ فى الرقيق الذى لا ثخن له،
17
وكثرة ما يرى فى الكثيف العميق، وإن كانت النسبة متشابهة
18
وكان نسبة الزعفران الذى فى الرقيق إلى الرقيق كنسبة الزعفران
19
الذى فى العميق إلى العميق، فعلى هذين الوجهين يمكن أن
20
يستولى القليل على الكثير، وأما فى الحقيقة فإن القليل لا يستولى على
21
الكثير بالكمية بل عسى بالكيفية المحيلة، هذا،
129
1
وأما إن جعلوا الخارج ينفذ قليل نفوذ فى الهواء ولا يتصل
2
بالمبصر ثم الهواء البعيد يؤدى إليه ويؤدى هو إلى المبصِر فإما
3
أن يؤدى إليه الهواء لإشفافه فقط من غير استحالة فلم لا يؤدى
4
إلى الحدقة؟ فيكفى ذلك مؤنة خروج الروح إلى الهواء وتعرضه
5
للآفات، وإن كان بالاستحالة فقد قيل فى ذلك ما قيل، ثم لم لا
6
يستحيل من الحدقة من غير حاجة إلى الروح؟،
7
فصل ٦
8
(فى إبطال مذاهبهم من الأشياء المقولة فى مذاهبهم)
9
ولنقبل الآن على عد بعض المحالات التى تلزمهم بحسب
10
أوضاعهم، فمن ذلك وضعهم أن أجزاء الخارج عن البصر تنعكس
11
عن أجسام إلى أجسام أُخرى، فإذا رأت جسما انعكست عنه إلى
12
جسم فرأته ورأت ذلك الجسم الآخر المنعكس إليه، مثلا لما
13
وصلت إلى المرآة رأت المرآة ثم لما انعكست عن المرآة إلى جسم
14
آخر رأته أيضا معا، فيكون شىء واحد رأى شيئين معا، فيتخيل
15
أن أحد الشيئين يراه فى الآخر، ويلزم وضعهم هذا مباحث عليهم،
16
من ذلك أن انعكاس هذا الشعاع هو عن الصلب أو عن
17
الأملس أو عن مجتمعهما، لكن هذا العكس مما قد يرونه يقع عن
18
أملس غير صلب مثل الماء، فليس الصلابة هو الشرط، فبقى أن
130
1
يكون السبب فيه الملاسة، فإذا كان السبب فيه هو الملاسة
2
فلا يخلوا إما أن يكفى لذلك أى سطح أملس اتفق أو يحتاج إلى
3
سطح متصل الأجزاء أملس، فإن كان الشرط هو القسم الثانى لم
4
يجز أن ينعكس عن الماء لأنه لا اتصال لسطحه عندهم لكثرة
5
المسام التى يضعونها فيه التى بسببها يمكن أن يرى ما وراءه
6
بالتمام، وإن كان ليس من شرطه الاتصال فيجب أن يوجد هذا
7
العكس عن جميع الأجرام وإن كانت خشنة لأن سبب الخشونة
8
الزاوية أو ما يشبه الزواية مما يتقعر عن الحدبة، ولا بد فى كل
9
ذى زاوية من سطح ليست فيه زاوية، فيكون أملس، وإلّا لذهبت
10
الزوايا إلى غير النهاية أو انتهت قسمة من السطح إلى أجزاء
11
ليست بسطوح، وكلاهما محال، فإذن كل جرم فمؤلف السطح من
12
سطوح ملس، فيجب أن يكون عن كل سطح منها عكس،
13
أو يقال أمران، أحدهما أن السطوح الصغار لا ينعكس عنها
14
الشعاع، والثانى أن السطوح المختلفة الوضع ينعكس عنها الشعاع
15
إلى جهات شتى فيتشذب المنعكس ولا ينال شيئا لعدم الاجتماع،
16
وأما القسم الأول فباطل، فإن من المعلوم أنه إن كان يخرج من
17
البصر جسم حتى ينتشر فى نصف كرة العالم دفعة أنه يكون عند
18
الخروج فى غاية تصغر الأجزاء وتشتتها، وأنه إذا انعكس فإنما
19
يلاقى كل جزء صغير منه وكل طرف خط دقيق منه لا محالة جزأ
20
مساويا له وينعكس عنه، ولا ينفع ولا يضر فى ذلك ما وراءه،
21
عسى أن اتفق إن كان السطح الأملس الذى يلاقيه أصغر منه
131
1
لم ينعكس عنه، لكنا إذا تأملنا لم نجد هذا المعنى هو السبب
2
والشرط فى منع الانعكاس فى الأشياء الموجودة عندنا، لأنه قد
3
يتفق أن يكون شىء خشن نعلم يقينا أن لأجزاءه التى لها سطوح
4
ملس مقدارا ما لا يشك فى أنه أعظم من مقدار أطراف الشعاعات
5
الخارجة، ومع ذلك لا تنعكس عنها، وهذا مثل الزجاج المدقوق
6
والملح الجريش والبلور الجريش الذى نعلم أن سطوح أجزاءه
7
ملس، وليست بغاية الصغر حتى تكون أصغر من أجزاء الشعاع
8
الخارج، وإذا اجتمعت لم ينعكس عنها الشعاع بل ولا من أشياء
9
أكبر من ذلك أيضا، ثم من البعيد أن تقبل الأجرام الكثيفة
10
الأرضية تجزيا[*]تجزيا Middle Arabic for تجزيئًا إلى أجزاء أصغر من الأجزاء التى يقبل إليها الجسم
11
الشعاعى التجزى[*]التجزى Middle Arabic for التجزّؤ حتى يوجد جزء للكثيف أصغر مما ينقسم اللطيف
12
إلى مثله، ثم إن كان علة العكس عن الأملس عدمه المنفذ وهناك
13
حفز من ورائه فذلك موجود للخشن، وإن كان لا حافز من ورائه
14
ولا عدم منفذ فليس يجب أن ينعكس عن شىء، فإن الجسم لا
15
يكون له بالطبع حركات مختلفة بل بالقسر، وأنت تعلم أنه إذا كان
16
المضىء قد أماله بالطبع فلا ينعطف إلّا بالقسر، ثم الملاسة
17
ليست من الهيئات الفاعلة فى الأجسام فتغير طبيعة ما يلاقيها، ولا
18
هى من القوى الدافعة عن أجسامها شيئا حتى تقسر الأجسام إلى
19
التبعيد عنها، ولو كانت الملاسة علة لتبعيد الجسم عن الجسم
132
1
لكانت تبعد ما بينهما وإن تماست على أى وضع كان، ولكان يجب
2
أن ينعكس البصر عن المرآة التى يلامسها الشعاع الخارج مخطوطا
3
عليها لا إذا لاقاها بالطرف فقط، وإن كان السبب فى الانعكاس هو
4
الحفز من خلف أو النبو كما يعرض للكرة وجب أن ينعكس عن
5
كل صلب لا منفذ فيه وإن لم يكن أملس، وأما على مذهب
6
أصحاب الأشباح فلذلك وجه، وهو أنهم يجعلون الملاسة علة
7
لتأدية الشبح، وكل ملاسة عظمت أو صغرت فهى علة لتأدية
8
شبح ما، لكن الأشباح التى تؤديها السطوح الصغار تكون أصغر
9
من أن يميزها البصر فلا تحسّ، فإن الجرم الخشن يختلط فيه
10
الظلمة بالنور، فيظلم كل غور ويكون كل نتو أصغر من أن يؤدى
11
شبحا يميزه الحسّ، ولو كان متصلا لم يعرض ذلك، وأما أصحاب
12
العكس فهذا الصغر ليس يعذر لهم فى عدم العكس عنه،
13
وأما إن لم يجعلوا العلة الصغر بل التشذب فإن هذا التشذب
14
موجود أيضا عن المرايا المشكلة أشكالا ينعكس عنها الشعاع إلى
15
نصف كرة العالم بالتمام مما يعلم فى علم المرايا وعسى أن لا يكون
16
العكس عن الخشن يبلغ فى تشذيبه للشعاع ما يبلغه تلك المرايا،
17
بل ربما تراكمت خطوط منه على نقطة واحدة، فهذا أحد المباحث،
18
والبحث الثانى أنه كيف ينعكس عن الماء وقتا وينفذ تحته
19
وقتا؟ وكذلك عن البلور فيجب إذًا أن يدخل أحد الأمرين
133
1
نقصان عن الآخر، إما أن يكون المبصر تحت الماء لا يرى صحيحا
2
بل يرى منه نقط عند الحسّ متفرقة لا صورة كاملة، أو المنعكس
3
إليه لا يرى بالتمام بل يرى منه نقط عند الحسّ متفرقة لا صورة
4
كاملة، وإن رؤى أحدهما أتم رؤى الآخر بحسبه أنقص، وليس
5
الأمر كذلك،
6
والبحث الثالث هو أن المنعكس عن الشىء الذى قد فارقه
7
وواصل غيره ثم يرى به صورتهما معا لا يخلوا إما أن تكون
8
مفارقة الشعاع المنعكس لا توجب انسلاخ صورة المحسوس عن
9
الشعاع أو توجب، فإن كانت لا توجب فكيف لا نرى ما
10
أعرضنا عنه وفارقه الشعاع؟ فإنا لا نعرف هناك علة إلّا أن
11
الشعاع استبدل به موقعا غيره، وإن كانت المفارقة توجب انسلاخ
12
تلك الصورة عنه ففى الوقت الواحد كيف نرى المرآة والصورة
13
معا؟ فإن كان القائم على المرآة من الشعاع يرى صورة المرآة
14
والزائل عنها إلى شىء آخر يرى صورة ذلك الشىء فقد اختص بكل
15
واحد من المبصرين جزء من الشعاع، فيجب أن لا يريا معا، كما
16
أن الشعاع الواقع على زيد والشعاع الواقع على عمرو فى فتح واحد
17
من العين معا لا يوجب أن يتخيل المرئى من زيد مخالطا للمرئى
18
من عمرو، فإن قيل إن السبب فيه أن ذلك الشعاع يؤدى الصورة
19
من طريق ذلك الخط إلى النفس، فيكون خط واحد يؤديهما معا
20
وما تأدى من خط واحد رؤى واحدا فى الوضع، قيل أما أولا فقد
21
أبطلت مذهبك ومنعت أن يكون الخط الخارج مبصِرا من خارج
134
1
بل مؤديا، وأما ثانيا فإنه ليس يمتنع أن يخرج خط ثان يلاقى
2
الخط المنعكس ويتصل به، فإن كان إنما يؤدى بما يتصل به من
3
الخطوط ثم تحسّ القوة التى فى العين لا الخارجة فحينئذ كان
4
يجب أن يرى الشىء من الخطين معا، فيرى الصورة مع صورة
5
المرآة ومع غير تلك الصورة، وكان يجب أن يتفق مرارا أن يرى
6
الشىء متضاعفا لا بسبب فى البصر ولكن لاتصال خطوط شتى
7
بصرية بخط واحد، وهذا مما لا يكون ولا يتفق، فإنا إنما يمكننا
8
أن نرى الشىء فى المرآة ونراه وحده إذا كان مقابلا للبصر، وأما
9
إذا لم يكن مقابلا فإنا نراه فى المرآة فقط،
10
فليكن على أصلهم | ا نقطة البصرو ب موضع المرآة، وليكن خط ا ب
11
خرم من البصر ثم انعكس إلى
12
جسم عند ج، ولنخرج خطا
13
آخر وهو اد ويقطع خط ب ج
14
على ه ويتصل به هناك، فأقول
15
يجب على أصولهم أن يكون
16
شبح د يرى مع شبح ج و ب
17
ويرى شبح ج من طرفى ه و ب
18
وخطى ا ه، ب ا، وذلك لأن
19
أجزاء هذه الخطوط الخارجة من الأبصار إما أن تكون متصلة وإما
20
أن تكون متماسة، فإن كانت متصلة وكان من شأن بعضها كما
21
فرضناه أن تقبل الأثر من بعض إذا اتصلت حتى تؤديه إلى الحدقة
135
1
وكان الاثر فى كلية الجرم نفسه لا فى سطح منه مختص بجهة وليس
2
ذلك التأدية اخنياريا ولا صناعيا بل طبيعيا فإذا حصل المنفعل
3
ملاقيا للفاعل الذى يفعل بالملاقاة وجب أن ينفعل عنه، فإن
4
الحكم فى خروج التهيوءات الطبيعية التى فى جواهر الأشياء إلى
5
الفعل هو أن تكون طبيعة التهيوء موجودة فى ذات المنفعل وإن لم
6
تكن بسبب شىء من طبيعة الفاعل والأمر الذى عنه الفعل موجودا
7
فى ذات الفاعل وإن لم يوجد مثلا فى المنفعل، فإذا حصل ذلك
8
لم يتوقف الخروج إلى الفعل إلّا على وصول أحدهما إلى الآخر، فإذا
9
وصل الفاعل إلى المنفعل وارتفعت الوسائط وهذا فيه قوة الفعل
10
وذلك فيه قوة الانفعال وجب الفعل والانفعال الكائن بينهما بالطبع
11
على أى نحو كان الاتصال، ولم يكن للزاوية الكائنة بحال معنى ولا
12
لفقدان المنفذ وفناء المشف عند المرآة أثر، فإنه سواء فنى المنفذ
13
واتصل به خطوط أو كان غير فان واتصل به خطوط فإن الفاعل
14
يجب أن يفعل والمنفعل يجب أن ينفعل، وإن كان الشبح
15
والأثر مثلا ليس فى الجرم الشعاعى الممتد نفسه ولكن فى سطح
16
منه أو نقطة هى فناءه ونهايته وليست فى جهة ذلك الخط بحيث
17
يتصل به ذلك الخط من تلك الجهة فينفعل عنه بل على غير
18
امتداد ذلك الخط فيجب ألا ينفعل ما بين أول الخط وآخره بل يقع
19
الشبح من السطح الملامس إلى السطح الثانى دفعة من غير انفعال
20
الأجزاء فى الوسط، وذلك محال لأن المتصل لا مقطع له بالفعل، أو
21
وجب أن يكون الأداء على الخط المستقيم ولا يؤدى على زاوية
136
1
البتة لأن لنقطة الزاوية إعراضا عن الاستقامة، وهذا مما لا
2
يقال،
3
فبين من هذا أن انفعال خط ه | ا من خط ج ه كانفعال خط ب ا من
4
خط ه ب بل هو أولى وأقرب، فيجب أن يتأدى شبح ج من
5
كلا خطى ه ا ب ا، فيجب أن يرى ج حينئذ لا شيئا واحدا بل
6
شيئين، وأيضا يجب أن يتأدى شبح د مع شبح ج، ويضعون أن
7
شبح ب متأد مع شبح ج، فيجب أن يرى الأشباح الثلاثة معا،
8
وجميع هذا غير كائن، وعلى هذا القياس إن كانت متماسة، فإنها
9
إن كان كل جزء منها يقبل الأثر بجميع جرم وجب بمماسته الفعل
10
والتأثير فى الذى يليه، وإن كان لا إلّا فى السطوح التى تقابل
11
المبصر لم يجز فى شىء من الزوايا التى تقع حائدة عن ذلك
12
السطح أن يتأدى منها المبصر إلى البصر، فإن سئلنا نحن أنكم
13
ما بالكم توجبون أن تقع تأدية هذا الشبح على الاستقامة أو على
14
هيئة ما وقوعا إلى بعض الأبصار المماسة له دون بعض، فنقول
15
أما نحن بالحقيقة فلا نقول إن الهواء مؤد على أنه قابل شىء البتة
16
من الرسوم والأشباح من شىء ليحمله إلى شىء، بل نقول إن من
17
شأن النير أن يتأدى شبحه إلى المقابل له إن لم يكن بينهما
18
عائق هو الملون بل كانت الواسطة بينهما مشفة، ولو كانت الواسطة
19
قابلة أولا ثم مؤدية لأدت إلى الأبصار كلها كيف كان وضعها كما
20
يؤدى الحرارة إلى الملامس كلها كيف كان وضعها،
21
ثم من الأمور التى يجب أن يبجث عنها فى هذا الموضع هو أنا
137
1
كثيرا ما نرى الشبح وذا الشبح معا دفعة واحدة ونراهما متميزين
2
أعنى أنا نرى فى المرآة شبح شىء ونراه أيضا بنفسه من جانب،
3
وذلك معا، وعسى أن ذلك يقع بسبب خطى شعاع أحدهما يصير
4
إليه بالاستقامة والآخر على زاوية عكس، ولأن الواقعين على الشىء
5
إثنان فمن جهة ذلك نراه إثنين فنحصل الآن هذا هل هو ممكن أو
6
ليس بممكن، فنقول إن وقوع جزئين على المبصر لا يوجب أن يرى
7
الواحد إثنين، فإن الشعاع عندهم كلما اجتمعت أجزاءه على المبصر
8
وتراكمت كان إدراكها إياه أشد تحقيقا وأبعد عن الغلط فى العدد،
9
والخصوم معترفون بهذا ولا يوجبون أن شعاعا واحدا إذا رأى
10
الشىء وحده كان واحدا فإن وقع عليه شعاع آخر واتصل به صار
11
بالرؤية بسببه غلط، على أنه لا يمكن أن يلمس شيئا واحدا شعاعان
12
معا لا شعاعا أصل ولا شعاعا أصل وعكس ــ والشعاع جسم على
13
ما يرونه ــ لأن الجسم لا ينفذ فى الجسم، بل يجوز أن يقع شعاع
14
على شعاع، فإن سلكنا هذا السبيل لم يكن الإبصار بكليهما على
15
سبيل اللمس، بل يكون أحدهما يلمس والآخر يقبل منه، وسواء
16
كان الشعاعان طرفى خطين خرجا على الاستقامة أو أحدهما والآخر
17
من جانب العكس،
18
فإذن إن كان هاهنا سبب فليس وقوع شعاعين على واحد مطلقا
19
بل بشرط، وهو أن أحد الشعاعين وقع عليه وحده، والشعاع
20
الثانى وقع أيضا معه على غيره، وهذا القسم يبطل بمرآتين توضعان
138
1
متقابلتين فإن الأشعة لا تفترق فيهما من هذه الجهة بل كل شعبوب
2
شعاع فهو واقع على الإثنين جميعا، ومع ذلك فإن البصر يرى كل
3
مرآة وشبحها دفعة، والشعاعان هاهنا لا يفترقان، فلا يجوز أن يؤدى
4
شعاع شبحا والآخر غير ذلك الشبح، فإن كل واحد منهما أدرك ما
5
أدرك الآخر والمدرك واحد، فيجب أن لا يكون الإدراك والأداء
6
إثنين بل يجب أن يأتى البصر صورة كل مرآة مرة غير مكررة، وإن
7
تكررت بسبب العكس وكان لذلك وجه وعذر متكلف لنسامح فى
8
تسليمه، فلا يجب أن يقع تكرار بعد تكرار، فما بال كل واحدة
9
من المرآتين يتأدى عنها أشباح كثيرة حتى ترى المرآة الواحدة
10
مرارا كثيرة، مرة واحدة ترى نفسها كما هى ومرارا كثيرة جدا
11
شبحها، فإن قلنا إن الشعاع لما انعكس من هذه المرآة إلى الأُخرى
12
رأى الأُخرى فى هذه المرآة، ثم لما انعكس مرة أخرى إلى الأولى
13
رأى الأولى فى هذه الأُخرى فإذا انعكس مرة أُخرى فلم لا يرى كما
14
رآة مرة أولى؟ إلّا أن يقولوا إن الأول رآه بجزء والآخر رآه
15
بجزء آخر، فإن كانت الأجزاء مؤدية لا رائية فليس تؤدى أشياء
16
أخرى بل ذلك الشبح بعينه، واختلاف وقوعها عليه بعد كونه واحدا
17
بعينه لا يوجب اختلافا فى الرؤية، فقد بينا ذلك أيضا، فإن عندهم
18
أن أجزاء المنعكس تجتاز على المبصر المنعكس عنه اجتيازا فيجب
19
أن تتبدل صورته فى تلك الأجزاء، ومع ذلك فليس يجب من تبدلها
139
1
عليه أن تزيد فى عدد ما تدرك أولا وثانيا إذ كان ما تؤدى من
2
الصورة واحدا، وإن كانت الأجزاء بأنفسها رائية وجب ما قلنا فى
3
امتناع رؤية الشبح المنعكس إليه فى شبح المنعكس عنه ثم لم
4
يجب أن ترى الأشباح عن قليل وقد صغرت،
5
فعسى أن يقولوا إن الشعاع إذا تردد طالت مسافته فرأى كل
6
مرة أصغر ففارق الأول الثانى بالصغر، فيجب أن يكون أولا الخطوط
7
الشعاعية إذا تراكمت لا تكون كخط واحد أغلظ وأقوى من
8
الأول، بل تبقى خطوطا معطوفة موضوعة بعضها بجنب بعض
9
محفوظة القوام لا تتحد، وهذا الحكم عجيب، وبعد ذلك فإنهم
10
لا يجدون للتصغر بالبعد المنعرج من تحدد الزاوية ما يوجد
11
للبعد المستقيم، ثم ما يقولون فى ذلك المرئى بعينه فإنه إذا
12
بوعد به أضعاف ما تقتضيه المساحة بين الانعكاسات لم ير بذلك
13
الصغر، مثلا إنه إذا انعكس البصر من مرآة ا إلى مرآة ب
14
فرأى صورة ب فى مرآة ا ثم انعكس البصر من مرآة ب إلى مرآة ا
15
فرأى صورة ا فى مرآة ب، ثم انعكس البصر من مرآة ا إلى مرآة ب
16
فرأى صورة ب، ثم كذلك رأى صورة ا فى مرآة ب، والبعد
140
1
بينهما شبران، فيجب أن يكون ما قطعه الشعاع من مسافته
2
المنعرجة ما بين العين وإحدى المرآتين ثمانية أشبار، ولو أنا
3
بعدنا مرآة ب عن مركزها عشرة أشبار فما فوقها لم نكن نراها
4
بذلك الصغر، على أن العجب فيما ذكرناه هو من افتراق الصورة
5
المأخوذة عن الشىء بذاته والمأخوذة عنه بالعكس والمأخوذة
6
عنه بعكسين، فإن جميع ذلك متفرق عند البصر، والصورتان
7
المأخوذتان هما عن مادة واحدة فى قابل واحد، فبماذا تفترقان؟
8
لأن افتراق الصور إما بالحدود والمعانى وإما فى القوابل، والصورتان
9
معنياهما واحد وحاملهما الأول واحد وقابلهما الثانى واحد، فيجب
10
ألا تكونا إثنين، أما على مذهبنا فإن هذه الشناعة غير لازمة
11
لأن الصورتين عندنا مأخوذتان عن قابلين أحدهما حاملهما الأول
12
والثانى الجسم الصقيل القابل لشبحهما نوعا من القبول والفاعل
13
لصورهما فى العين نوعا من الفعل، ثم العجب من أمر الشعاع
14
بعد الشعاع فإنه إن كان الأمر على ما قلنا من أن الشعاع الثانى
15
لا يجب أن ينفذ فى الأول بل يماسه من خارج فكيف يلامس
141
1
الشعاع المنعكس المرئى فيراه وإنما يلامس ما غطاه من لامسه
2
السابق، فإن كان يرى ما رآه ذلك بحسب الانفعال منه وقبول
3
ما قبله بسبب الاتصال به بطلت شريطة الانفعال على الزاوية
4
المعينة وكان أيضا إنما أدرك ما أدرك الأول لا شيئا غيره بالعدد
5
بوجه من الوجوه، وإن كان كل يلامس شيئا من أجزاء الشىء غير
6
ما يلامسه الآخر فليس ولا واحد منهما بمستقصى الإدراك ولا
7
إدراكهما لشىء واحد،
8
فصل ٧
9
(فى حل الشبه التى أوردوها وفى إتمام القول فى المبصرات التى
10
لها أوضاع مختلفة من مشفات ومن صقيلات)
11
فلنحل الآن الشبه المذكورة، فأما ما تعلقوا به من أن القرب
12
يمنع الإبصار وأن انتقال الألوان والأشكال عن موادها مستحيل
13
فهذا إنما كان يصحّ لهم لو قيل إن الإبصار أو شيئا من
14
الإحساسات إنما هو بنزع الصورة من المادة على أنه أخذ نفس
15
الصورة من المادة ونقلها إلى القوة الحاسّة، وهذا شىء لم يقل به
16
أحد، بل قالوا إن ذلك على سبيل الانفعال، والانفعال ليس أن
17
يسلخ المنفعل قوة الفاعل أو كيفيته بل أن يقبل منه مثلها أو
18
جنسا غيرها، ونحن نقول إن البصر يقبل فى نفسه صورة من المبصر
19
مشاكلة للصورة التى فيه لا عين صورته، وهذا الذى يحسّ أيضا
20
بالتقريب كالمشموم والملموس فليس يسلب الحاسّ بذلك صورته
142
1
بل إنما يوجد فيه مثل صورته، لكن من الأشياء ما إلى الانفعال
2
عنه سبيل بالملاقاة ومنها ما إذا لوقى انقطع عنه شىء يحتاج إليه
3
حتى يؤثر أثره وهو فى هذا الموضع هو الشعاع المحتاج إلى
4
اتصاله بالصورة المرئية فى أن يُلقى ذو الصورة شبحا عن صورته
5
فى غيره مناسبا لما نراه من إلقائه شبحه المؤكد إذا اشتد عليه
6
الضوء حتى أنه يصبغ ما يقابله بصبغه فأداه متحققا إذا كان ما يقابله
7
قابلا لذلك ولو بتوسط مرآة أيضا، ومع الاحتياج إلى استضاءة المرئى
8
فإنه يحتاج أيضا إلى متوسط كالآلة تعينه عليه وهو الإشفاف، وأن
9
يكون للمقدار منه حد محدود لا يقع الأصغر منه فيه،
10
ومن الدليل على أن المدرك يأخذ شبحا من المدرك ما يبقى
11
فى الخيال من صورة المرئى حتى يتخيله متى شاء، فترى أن ذلك
12
المتخيل هو صورة الشىء فى نفسه وقد انتقل إلى الخيال وتجرد
13
الشىء عن صورته؟ كلا بل هو شىء غيره مناسب له، وأيضا
14
فإن بقاء صورة الشمس فى العين مدة طويلة إذا نظرت إليها ثم
15
أعرضت عنها يدلك على قبول العين للشبح، وكذلك تخيل القطرة
16
النازلة خطا والنقطة المتحركة على الاستدارة بالعجلة دائرة، ولا
17
يمكنك أن تتخيل ذلك وتراه إلّا أن ترى امتدادا ما، ولا يمكن
18
أن ترى امتدادا من نقطة متحركة فى غير زمان ولا من غير أن
19
تتخيل الشىء فى مكانين، فيجب أن يكون [ذلك] لكون القطرة
143
1
فوق ثم تحت وامتدادها فيما بين ذلك وكون النقطة على طرف
2
من المسافة التى تستدير فيها وعلى طرف آخر وامتدادها فيما بين
3
ذلك متصور الشبح عندك، وليس ذلك بحسب آن واحد، فيجب إذًا
4
أن يكون شبح ما تقدم مستحفظا بعده باقيا عقيبه ثم يلحقه
5
الإحساس بما تأخر ويجتمعان امتدادا كأنه محسوس، وذلك لأن
6
صورته راسخة وإن كانت القطرة أو النقطة قد زالت عن أى حد فرضت
7
ولم تبق فيه زمانا،
8
وأما ما ذكروه من أمر النور الذى يتخيل بين يدى العين
9
فالسبب فى غلطهم به أن ذلك عندهم ليس يكون إلّا على وجه
10
واحد حتى ظنوا أنه لا يجوز أن تكون العين شيئا له فى جوهره
11
ضوء كالأشياء اللوامع التى ذكرناها فيما سلف، فإذا كانت ظلمة لمع
12
وأضاء ما قدامه بكيفية يؤثرها لا لشىء ينفصل عنه وكأنه لا يجوز
13
أيضا أن يكون الحك والمس قد يحدث شعاعات نارية لطيفة فى
14
الظلمة كما يتفق من مس ظهر السنور وإمرار اليد على المخدة
15
واللحية فى الظلمة، وقد يظهر لك أنه لا يبعد أن تكون الحدقة
16
نفسها مما يلمع ليلا ويضىء ويلقى شعاعها على ما يقابلها فإن
17
عيون كثير من الحيوان بهذه الصفة كعين الأسد والحية فإذا كانت
18
كذلك جاز أن تنير المظلم، ولهذا ما كان كثير من الحيوان ترى
19
فى الظلمة لإنارتها الشىء بنور يفيض من عينها ولقوة عينها،
144
1
وأما حديث امتلاء الحدقة عند تغميض الأُخرى فمن الذى ينكر
2
أن يكون فى العصبة المجوفة جسم لطيف هو مَرْكب القوة الباصرة،
3
وهو الذى يسمى الروح الباصرة وأنه يتحرك تارة مستبطنا هاربا
4
وتارة مستظهرا محدقا، فإذا غمضت إحدى العينين هربت من التعطل
5
ومن الظلمة طبعا فمالت إلى العين الأُخرى لأن المنفذ فيهما مشترك
6
على ما يعرفه أصحاب التشريح، وليس إذا امتلاء امتلأ شىء من شىء
7
يجب من ذلك أن يكون فى طبع المالى[*]المالى Middle Arabic for المالئ بروز وخروج وذهاب فى
8
الأرض ومسافرة إلى أقطار العالم،
9
وأما حديث المرآة فيلزم سؤالهم جميع من عنده أن المرآة ينطبع
10
فيها صورة المحسوس، لكن الأجوبة التى يمكن أن يجاب بها عن
11
ذلك ثلثة، جواب كأنه مبنى على مذهب مشهور وهو أن الصورة
12
لا تنطبع فى المرآة على الهيئة التى تنطبع الصور المادية فى موادها
13
وبحيث لا تجتمع فيها الأضداد بل هذه الصورة تنطبع كليتها فى
14
كلية المرآة ولا بأس أن يجتمع فيها شبح بياض وسواد معا لأنهما
15
فيها لا على سبيل التكيف بها بل كما يكون فى المعقول، والعقول
16
تعقل السواد والبياض من غير تعاند ولا انقسام، ثم إنما يتأدى
17
إلى البصر ما يكون على نسبة ما بين الثلاث أعنى المبصر والمرآة
18
والمبصر، ولا يتفق نسبة الجميع من كل جزء من المرآة بل يكون
19
جزء منها يؤدى البياض بعينه، وجزء آخر يؤدى السواد بعينه،
20
ويتحدد بينهما حد فى الرؤية، فيكون جملة الأداء والتحدد محصلا
21
لصورة مثل المبصر فى البصر، وهذا الجواب مما لا أقول به ولا
145
1
أعرفه ولا أفهم كيف تكون الصورة تنطبع فى جسم مادى من
2
غير أن تكون موجودة فيه، وقد يخلوا الجسم عنها وهى منطبعة
3
فيه، وكيف يكون غير خال عنها وهى لا ترى فيه بل ترى
4
صورته التى له مع أن من شأن ذلك أيضا أن يرى، أو كيف
5
يكون خاليا بالقياس إلى واقف دون واقف، وهذا إشطاط وتكلف
6
بعيد، ومما فيه من التكلف أنهم لا يجعلون للشكل انطباعا فيه،
7
فإن جعلوا جعلوا الشكل غير محدود، ومما فيه من التكلف أن
8
يجعلوا صورة السواد فى جسم من غير أن يكون ذلك سوادا للجسم
9
وأن يجوزوا اجتماع البياض أيضا فيه فى وقت واحد ويجعلوا
10
صورة السواد غير السواد وصورة البياض غير البياض، وأما حديث
11
العقل والمعقول فدعه إلى وقته،
12
وأما الجوابان الآخران الذان يمكن أن يجيب بهما مجيب
13
أحدهما متشدد فيه والآخر مقارب فيه، فأما المتشدد فيه فأن يقال
14
أما أولا فليس يجب إذا كان شىء يحتاج إليه أن يفعل شىء فى
15
شىء أن يكون المحتاج إليه مثل المرآة والمشف هاهنا ينفعل من
16
المبدأ مثل الانفعال الذى ينفعل به الثالث فيُرى أن السيف إذا
17
أولم به ألم والهديّة إذا سُرَّ بها سَرّت، وأما ثانيا فليس بينا
146
1
بنفسه ولا ظاهرا لا شك فيه أن كل جسم فاعل يجب أن يكون
2
ملاقيا للملموس، فإن هذا وإن كان موجودا بالاستقراء فى أكثر
3
الأجسام فليس واجبا ضرورة أن يكون كل فعل وانفعال باللقاء
4
والتماس، بل يجوز أن تكون أفعال أشياء فى أشياء من غير ملاقاة،
5
فكما يجوز أن يفعل ما ليس بجسم فى الجسم من غير ملاقاة
6
كالبارى والعقل والنفس فليس ببدع أن يكون جسم يفعل فى
7
جسم بغير الملاقاة، فتكون أجسام تفعل بالملاقاة وأجسام تفعل لا
8
بالملاقاة، وليس يمكن أحدا أن يقيم برهانا على استحالة هذا ولا
9
على أنه لا يمكن أن يكون بين الجسمين نصبة ووضع يجوز أن
10
يؤثر أحدهما فى الآخر من غير ملاقاة، إنما يبقى هاهنا ضرب من
11
التعجب كما لو كان اتفق أن كانت الأجسام كلها إنما يفعل بعضها
12
فى بعض بمثل تلك النصبة المباينة فكان إذا اتفق أن شوهد فاعل
13
يفعل بالملاقاة تعجب منه كما يتعجب الآن من مؤثر بغير ملاقاة،
14
فإذا كان هذا غير مستحيل فى أول العقل وكان صحة مذهبنا
15
المبرهن عليه توجبه وكان لا برهان البتة ينقضه فنقول إن من شأن
16
الجسم المضىء بذاته والمستنير الملون أن يفعل فى الجسم الذى
17
يقابله إذا كان قابلا للشبح قبول البصر وبينهما جسم لا لون له
18
تأثيرا هو صورة مثل صورته من غير أن يفعل فى المتوسط شيئا
19
إذ هو غير قابل لأنه شفاف، فإذا كان غير بين بنفسه ولا قام عليه
20
برهان أن لا يكون جسم يفعل فى مقابل له بتوسط شفاف البتة
21
وكان هذا مجوزا فى أول العقل ومتضحا بما برهنا عليه من كيفية
147
1
الإدراك وكان ذلك غير محال فكذلك غير محال أيضا أن يكون
2
بدل المتوسط الواحد متوسطان المتوسط ومتوسط آخر وبدل النصبة
3
والوضع نصبتان ووضعان النصبة والوضع المذكوران مع وضع ونصبة
4
أخرى، فيكون بدل هذا المتوسط الشفاف وحده متوسط ملون صقيل
5
مع الشفاف وبدل نصبة المقابلة مع هذا المضىء والمستنير النصبة
6
والمقابلة مع ذلك الصقيل الذى له النصبة والوضع المذكوران مع
7
المضىء المستنير المرئى، فيكون من شأن هذا الجسم أن يفعل فى كل
8
ما قابل مقابلا له صقيلا يكون كل مقابله فى شفيف ولو صقيل بعد
9
صقيل إلى غير النهاية بعد أن يكون على وضع محدود فعلا هو مثل
10
صورته من غير أن يفعل فى الصقيل البتة، فيكون المشف والصقيل
11
شيئين يحتاج إليهما حتى يفعل شىء فى شىء آخر ولا يكون ذلك
12
الفعل بعينه فيهما، فإذا كان كذلك واتفق أن وافى خيال الصقيل إلى
13
البصر وخيال الشىء الآخر معا ورؤيا معا فى جزء من الناظر واحد
14
ظن أن الخيال يرى فى الصقيل بعكس ما قالوا فى الشعاعات،
15
وأما الطريق المتساهل فيه فهو أنه ليس يجب أن يؤثر كل
16
شىء فى كل شىء مثل نفسه كما يجوز أن يؤثر أيضا مثل نفسه،
17
فالمضىء والمستنير يجوز أن يؤثرا فى الهواء أثرا ما ذلك الأثر
148
1
ليس أن يتشبح بشبح مثل صورة المضىء والمستنير بل يؤثرا فيه
2
أثرا لا يدرك بالحسّ البصرى أو غيره من الحواسّ، وكذلك
3
يجوز أن يؤثرا فى الصقيل أثرا ما إما بواسطة المشف أو بغير
4
واسطة، ثم المشف أو الصقيل يفعل فى آلة البصر أثرا ذلك
5
الأثر هو مثل صورة ما أثر فى كل واحد منهما أولا، فيكون كل واحد
6
من المؤثرين يؤثر أثرا خلاف ما فيه أعنى بالمؤثرين المرئى الذى
7
يؤثر فى المشف أو الصقيل والمشف أو الصقيل الذى يؤثر فى
8
البصر، ومثل هذا كثير أعنى أن يكون شىء يؤثر فى شىء أثرا
9
خلاف طبيعته ثم يؤثر هو فى شىء آخر مثل طبيعة الأول، مثل
10
الحركة فإنها تحدث فى جرم شىء سخونة فتسخن الشىء، ثم تلك
11
السخونة تحدث حركة غير الحركة الأولى بالعدد ومثلها فى النوع،
12
وقد يمكن أن يشاهد هذا بمرآة ينعكس عنها ضوء ولون إلى حائط
13
بحيث يستقر فى الحائط ولا ينتقل بحسب مقامات الناظر ولا يكون
14
مستقرا البتة فى المرآة، وهذا المستقر تعلم أنه وارد من طريق
15
المرآة إلى الحائط، وهو وإن كان يرى فى المرآة فلا يرى مستقرا
16
فيها، فتكون المرآة أثرت أثرا مثل كيفية ما أثر فيها أثرا
17
ليس مثل كيفيته فى الاستقرار وعلى ذلك حال البصر،
18
وأما حديث الانعطاف عن الماء فقد قال أصحاب الشعاع إن
19
الشعاع إذا وقع عليه انبسط وانكسر أولا فأخذ مكانا أكثر ثم نفذ
149
1
فرآه مع أكثر مما يحاذيه، وأما أصحاب الأشباح فقد قال بعضهم
2
إن السبب فيه أن بعض ما يحاذى يؤدى على أنه منفذ فى المحاذاة
3
وبعضه على أنه مرآة، ولا يبعد أن يظن أن الجميع يؤدى على أنه
4
مرآة، والمرآة من داخل خلاف المرآة من خارج، وقال فاضل
5
قدماء المفسرين إن البصر يعرض له لما يفوته من استقصاء تأمل
6
الشىء أن يراه أبعد، ويتفرق البصر لتأمله فيعظم شبحه، ويمكن
7
أن يؤكد هذا القول بأن الشىء الذى اعتيد أن يرى من بعد ما
8
على قدر ما فإذا تخيل أبعد من حيث هو ولم ير قدره القدر الذى
9
يخيله ذلك البعد بل أعظم منه لأنه بالحقيقة قريب رؤى له مقدار
10
أعظم من المقدار الذى يستحقه بعده فيتخيل أعظم من المعهود،
11
ثم فى هذا فضل نظر يحتاج أن يفطن له المتحقق للأصول ويكون
12
بحيث لا يخفى عليه كيف ينبغى أن يكون الحق فى ذلك، ثم
13
هذه الشبهة ليست مما يخص بلزومه إحدى الفرقتين دون الأُخرى،
14
فإن الانكسار الذى يقوله أصحاب الانكسار إن كان للصك فلم بقى
15
على حاله ولم لا يرجع كرة أُخرى فيستوى إذ طبيعة الشعاع أن
16
ينفذ على الاستقامة؟ فإن كان هذا مستحيلا فى الشعاع النافذ إليه
17
إذا لاقاه ثم ازداد الشىء غورا فلم يعرض له أن يزداد لغوره
18
انكسارا؟ ولم لا يزداد بامتداده انتظاما؟ فإن القياس يوجب
19
أن يحدث له بالامتداد اتصال لا تبسط، وبالجملة فنعم ما قال
20
المعلم الأول حين قال لأن يمتد المبصر من سعة إلى ضيق فيجتمع
21
فيه يكون ذلك فيه أعون على تحقيق صورته من أن يخرج الرائى
22
من العين منتشرا فى السعة،
150
1
ومما يتصل بهذا الموضع حال ما نقوله من أوضاع المرئى والرائى
2
والضوء والمرآة، فنقول قد يعرض أن يكون المرئى والمضىء
3
والرائى فى شفاف واحد وقد يعرض أن يكون المضىء والمرئى فى
4
شفافات بينها سطوح، فإن كان وضع السطح فى المحاذاة التى
5
بين الرائى والمضىء الفاعل للاستنارة لم ير ذلك السطح كسطح
6
الفلك والهواء، وإن كان السطح خارجا عن ذلك كسطح الماء
7
ونحن فى الهواء والمضىء ليس فى هذه المحاذاة فإن ذلك السطح
8
ينعكس عنه الضوء الآتى من المضىء إلى البصر فيرى متميزا، وقد
9
علمت ما نعنى بالعكس، وإن كان فى داخل السطح المنعكس عنه
10
مرئى أراه ما هو فيه على أنه مشف وأراه على أنه مرآة، وكانت
11
المرآة التى هناك مطابقة لما يحاذى المرئى إن كان مكشوفا
12
للرائى وإن كان مستورا كانت المرآة ملتقى الخط الخارج من
13
البصر والعمود الخارج من المرئى الذى فى الماء فإن شبحه يتأدى
14
عنه على استقامة، فإنك إن ألقيت خاتما فى الطشت بحيث لا تراه
15
ثم ملأته ماء رأيته، وإن كان المرئى خارجا عن شفاف متوسط غير
16
الشفاف الذى فيه الرائى والمضىء فإن المشف المتوسط يريه، وإن
17
كان ليس كذلك بل هو من جهة الرائى فإن سطح ذلك المشف لا
18
يريه إلّا أن يجعل له لون غريب بشىء يوضع من ذلك الجانب
19
حتى يرى ككرة البلور الملون أحد جانبيها،
151
1
فصل ٨
2
(فى سبب رؤية الشىء الواحد شيئين)
3
لنقل فى سبب رؤية الشىء الواحد كشيئين فإنه موضع نظر،
4
وذلك لأنه أحد ما يتعلق به أصحاب الشعاعات أيضا، ويقولون إنه
5
إذا كان الإبصار بشىء خارج من البصر يلقى المبصر ثم يتفق أن
6
ينكسر وضعه عند البصر وجب أن يرى الشىء الواحد لا محالة
7
كشيئين متباينين فيرى إثنين، وليسوا يعلمون أن هذا يلزمهم
8
الشناعة بالحقيقة، وذلك لأن الإبصار إن كان بمماسة أطراف
9
الشعاعات وقد اجتمعت عليه فيجب أن يرى على كل حال واحدا،
10
ولا يضر فى ذلك انكسار أطراف الشعاعات المنكسرة، بل الحق
11
هو أن شبح المبصر يتأدى بتوسط الشفاف إلى العضو القابل
12
المهيأ له الأملس النير من غير أن يقبله جوهر الشفاف أصلا
13
من حيث هو تلك الصورة بل يقع بحسب المقابلة لا فى زمان وأن
14
شبح المبصر أول ما ينطبع إنما ينطبع فى الرطوبة الجليدية وأن
15
الإبصار بالحقيقة لا يكون عندها وإلّا لكان الشىء الواحد يرى
16
شيئين، لأن له فى الجليديتين شبحين، كما إذا لمس باليدين
17
كان لمسين، لكن هذا الشبح يتأدى فى العصبتين المجوفتين إلى
18
ملتقاهما على هيئة الصليب، وهما عصبتان نبين لك حالهما حين
19
نتكلم فى التشريح، وكما أن الصورة الخارجة يمتد منها فى الوهم
20
مخروط يستدق إلى أن يوقع زاويته وراء سطح الجليدية كذلك
21
الشبح الذى فى الجليدية يتأدى بواسطة الروح المؤدية التى فى
152
1
العصبتين إلى ملتقاهما على هيئة مخروط، فيلتقى المخروطان
2
ويتقاطعان هناك، فيتحد منهما صورة شبحية واحدة عند الجزء من
3
الروح الحامل للقوة الباصرة، ثم إن ما وراء ذلك روحا مؤدية
4
للمبصر لا مدركة مرة أُخرى وإلّا لافترق الإدراك مرة أُخرى
5
لافتراق العصبتين، وهذه المؤدية هى من جوهر المبصِر،
6
وتنفذ إلى الروح المصبوبة فى الفضاء المقدم من الدماغ، فتنطبع
7
الصورة المبصرة مرة أُخرى فى تلك الروح الحاملة لقوة الحسّ
8
المشترك، فيقبل الحسّ المشترك تلك الصورة وهو كمال الإبصار،
9
والقوة المبصرة غير الحسّ المشترك وإن كانت فائضة منه
10
وهو مدبر لها لأن القوة الباصرة تبصر ولا تسمع ولا تشم ولا
11
تلمس ولا تذوق، والقوة الحاسة المشتركة تبصر وتسمع وتشم
12
وتلمس وتذوق على ما ستعلم، ثم إن القوة التى هى الحاسّ
13
المشترك تؤدى الصورة إلى جزء من الروح يتصل بجزء من الروح
14
الحامل لها، فتنطبع فيه تلك الصورة ويخزنها هناك عند القوة
15
المصورة وهى الخيالية كما ستعلمها، فتقبل تلك الصورة وتحفظها،
16
فإن الحسّ المشترك قابل للصورة لا حافظ، والقوة الخيالية حافظة
17
لما قبلت تلك، والسبب فى ذلك أن الروح التى فيها الحسّ
153
1
المشترك إنما تثبت فيها الصورة المأخوذة من خارج منطبعة ما
2
دامت النسبة المذكورة بينها وبين المبصَر محفوظة أو قريبة العهد،
3
فإذا غاب المبصر انمحت الصورة عنها ولم تثبت زمانا يعتد به،
4
وأما الروح التى فيها الخيال فإن الصور تثبت فيها ولو بعد حين
5
كثير على ما سيتضح لك عن قريب، والصورة إذا كانت فى الحسّ
6
المشترك كانت محسوسة بالحقيقة فيه حتى إذا انطبع فيه صورة
7
كاذبة فى الوجود أحسّها كما يعرض للممرورين، وإذا كانت فى
8
الخيال كانت متخيلة لا محسوسة،
9
ثم إن تلك الصورة التى فى الخيال تنفذ إلى التجويف المؤخر إذا
10
شاءت القوة الوهمية ففتحت الدودة بتبعيد ما بين العضوين
11
المسمّين إليتى الدودة، فاتصلت بالروح الحاملة للقوة الوهمية
12
بتوسط الروح الحاملة للقوة المتخيلة التى تسمى فى الناس مفكرة،
13
فانطبعت الصورة التى فى الخيال فى روح القوة الوهمية، والقوة
14
المتخيلة خادمة للوهمية مؤدية ما فى الخيال إليها إلّا أن ذلك لا
154
1
يثبت بالفعل فى القوة المتوهمة بل ما دام الطريق مفتوحا والروحان
2
متلاقيين والقوتان متقابلتين، فإذا أعرضت القوة المتوهمة عنها
3
بطلت عنها تلك الصورة، والدليل على صحة القول بأن حصول
4
هذه الصورة فى الوهم غير حصولها فى الخيال أن الخيال كالخازن
5
وليست الصورة التى فيه متخيلة للنفس بالفعل دائما وإلّا لكان يجب
6
أن نتخيل معا صورا كثيرة أى صورة كانت فى الخيال، ولا هذه
7
الصور أيضا فى الخيال على سبيل ما بالقوة وإلّا لكان يحتاج أن
8
تسترجع بالحسّ الخارج مرة أُخرى، بل هى مخزونة فيه، والوهم
9
بتوسط المفكرة أو المتخيلة يعرضها على النفس وعنده يقف تأدى
10
الصورة المحسوسة، وأما الذكر فهو لشىء آخر كما نذكره بعد،
11
فهذه أصول يجب أن تكون عتيدة عندك،
12
ولنرجع إلى غرضنا فنقول إن السبب فى رؤية الشىء الواحد
13
إثنين أربعة أسباب أحدها انفتال الآلة المؤدية للشبح الذى فى
14
الجليدية إلى ملتقى العصبتين فلا يتأدى الشبحان إلى موضع واحد
15
بل ينتهى كل عند جزء من الروح الباصر المرتب هناك على
16
حدة لأن خطى الشبحين لم ينفذا نفوذا من شأنه أن يتقاطعا عند
17
مجاورة ملتقى العصبتين، فيجب لذلك أن ينطبع من كل شبح ينفذ
18
عن الجليدية خيال على حدة وفى جزء من الروح الباصرة على حدة،
19
فيكون كأنهما خيالان عن شيئين مفترقين من خارج إذا لم يتحد
20
الخطان الخارجان منهما إلى مركز الجليديتين نافذين فى العصبتين،
21
فلهذا السبب ترى الأشياء كثيرة متفرقة،
155
1
والسبب الثانى حركة الروح الباصر وتموجه يمنة ويسرة حتى
2
يتقدم الجزء المدرك مركزه المرسوم له فى الطبع آخذا إلى جهة
3
الجليديتين أخذا متموجا مضطربا فيرتسم فيه الشبح والخيال قبل
4
تقاطع المخروطين فيرى شبحين، وهذا مثل الشبح المرتسم من
5
الشمس فى الماء الراكد الساكن مرة واحدة والمرتسم منها فى
6
المتموج ارتساما متكررا، وذلك أن الزاوية الحاصلة بين خط البصر
7
إلى الماء وخط الشمس إلى الماء التى عندها يكون إبصار الشىء
8
ــ على طريق التأدى من المرآة لشىء ــ لا تبقى واحدة بل يتلقاها
9
الموج فى مواضع فتكثر هذه الزاوية فتنطبع أشباح فوق واحد،
10
والسبب الثالث من اضطراب حركة الروح الباطنة التى وراء
11
التقاطع إلى قدام وخلف حتى تكون لها حركتان إلى جهتين متضادتين
12
حركة إلى الحسّ المشترك وحركة إلى ملتقى العصبتين فتتأدى إليها
13
صورة المحسوس مرة أُخرى قبل أن ينمحى ما تؤديه إلى الحسّ
14
المشترك كأنها كما أدت الصورة إلى الحسّ المشترك رجع منها
15
جزء يقبل ما تؤديه القوة الباصرة، وذلك لسرعة الحركة، فيكون
16
مثلا قد ارتسم فى الروح المؤدية صورة فنقلتها إلى الحسّ المشترك،
17
ولكل مرتسم زمان ثبات إلى أن ينمحى، قلما زال القابل الأول
18
من الروح عن مركزه لاضطراب حركته خلفه جزء آخر وقبل قبوله
19
قبل أن انمحى عن الأول، فتجزأت الروح للاضطراب إلى جزء
156
1
متقدم كان فى سمت المرئى فأدركه ثم زال ولم تزل عنه الصورة
2
دفعة بل هى فيه وإلى جزء آخر قابل للصورة أيضا بحصوله فى
3
السمت الذى فى مثله يدرك الصورة عاقبا للجزء الأول، والسبب
4
الاضطراب، وإذا كان كذلك حصل فى كل واحد منهما صورة مرئية
5
لأن الأولى لم تنمح بعد عن الجزء القابل الأول المؤدى إلى الحسّ
6
المشترك أو عن المؤدّى إليه حتى انطبعت فى الثانى، والفرق بين
7
هذا القسم والقسم الذى قبله أن هذه الحركة المضطربة إلى قدام
8
وخلف وكانت تلك إلى يمنة ويسرة،
9
ولمثل هذا السبب ما يرى الشىء السريع الحركة إلى الجانبين
10
كشيئين لأنه قبل أن انمحى عن الحسّ المشترك صورته وهو فى
11
جانب رآه البصر وهو فى جانب آخر فتوافى إدراكاه فى الجانبين
12
معا، وكذلك إذا دارت نقطة ذات لون على شىء مستدير رؤيت
13
خطا مستديرا وإذا امتدت بسرعة على الاستقامة رؤيت خطا مستقيما،
14
ونظير هذه الحركة الدوار فإنه إذا عرض سبب من الأسباب المكتوبة
15
فى كتب الطب فحرك الروح الذى فى التجويف المقدم من الدماغ
16
على الدور وكانت القوة الباصرة تؤدى إلى ما هناك صورة محسوسة
17
فالجزء من الروح القابل لها لا يثبت مكانه بل ينتقل ويخلفه جزء
18
آخر يقبل تلك الصورة بعد قبوله وقبل انمحائها عنه، وكذلك على
19
الدور، فيتخيل أن المرئيات تدور وتتبدل على الرائى وإنما الرائى هو
20
الذى يدور ويتبدل على المرئى، وإذا كان القابل ثابتا وتحرك الشىء
21
المبصر بسرعة انتقل لا محالة شبحه الباطن من جزء من القابل إلى
157
1
جزء آخر، فإنه لو كان الشبح يثبت فى ذلك الجزء بعينه لكان نسبة
2
القابل مع المقبول واحدة ثابتة، فإذًا إذا عرض لحامل الشبح أن
3
ينتقل عن مكانه انتقل الشبح لا محالة فتغيرت نسبته إلى الجسم الذى
4
من خارج، فعرض ما يعرض لو كان الشىء الذى من خارج ينتقل،
5
وأيضا فإن الناظر فى ماء شديد الجرى يتخيل له أنه هو ذا يميل
6
عن جهة ويسقط إليها، والسبب فى ذلك أنه يتخيل الأشياء كلها
7
تميل إلى خلاف جهة ميل الماء، فإن شدة الحركة الموجبة لسرعة
8
المفارقة توهم أن المفارقة من الجانبين معا، والسبب انتقال الشبح
9
فى القابل مع ثباته فى كل جزء تفرضه زمانا ما، ويجب أن يعلم أن
10
مع هذه الأسباب سببا آخر معينا لها ماديا وذلك أن جوهر الروح
11
جوهر فى غاية اللطافة وفى غاية سرعة الإجابة إلى قبول الحركة
12
حتى أنه إذا حدث فيه سبب موجب لانتقال الشبح من جزء
13
إلى جزء يلزمه أن يتحرك جوهر الروح حركة ما ــ وإن قلّت ــ
14
إلى سمت ذلك الجزء، والسبب فى ذلك أن لكل قوة من القوى
15
المدركة انبعاثا بالطبع إلى مدركها حتى أنها تكاد تلتذّ به،
16
وإذا انبعثت نحوه مال حاملها إليه أو مالت بحاملها إليه، ولهذا
17
ما كان الروح الباصر يندفع جملة إلى الضوء وينقبض عن الظلمة
18
بالطبع، فإذا مال الشبح إلى جزء من الروح دون جزء كانت القوة
19
كالمندفعة إلى جهة ميل الشبح بآلتها، فإن الآلة مجيبة لها إلى
20
نحو الجهة التى تطلبها القوة فيحدث فى الروح تموج إلى تلك الجهة
158
1
للطافتها وسرعتها إلى قبول الأثر كأنها تتبع حركة الشبح، ولهذا
2
السبب إذا أطال الإنسان النظر إلى شىء يدور يتخيل له أن
3
سائر الأشياء تدور لأنه يحدث فى الروح حركة مستديرة لاتباعها
4
لانتقال الشبح، وكذلك إذا أطال النظر إلى شىء سريع الحركة فى
5
الاستقامة يحدث فى الروح حركة مستقيمة إلى ضد تلك الجهة لأن
6
جهة حركة الشىء مضادة لجهة حركة الشبح، فحينئذ ترى
7
الأشياء كلها تنتقل إلى ضد تلك الجهة لأن أشباح الأشياء لا تثبت،
8
والسبب الرابع اضطراب حركة تعرض للثقبة العينية، فإن الطبقة
9
العينية سهلة الحركة إلى هيئة تتسع لها الثقبة وتضيق تارة إلى
10
خارج وتارة إلى داخل على الاستقامة أو إلى جهة فيتبع اندفاعها إلى
11
خارج انضغاط يعرض لها واتساع من الثقبة ويتبع اندفاعها إلى
12
داخل اجتماع يعرض لها وتضيّق من الثقبة، فإذا اتفق أن ضاقت
13
الثقبة رؤى الشىء أكبر أو اتسعت رؤى أصغر، أو اتفق أن
14
مالت إلى جهة رؤى فى مكان آخر، فيكون كأن المرئى أولا غير
15
المرئى ثانيا وخصوصا إذا كان قد تمثل قبل انمحاء الصورة الأولى
16
صورة أُخرى،
17
صورة أُخرى،
18
كما تبقى صورة الضوء واحدة مع انتقال القابل، فيكون القابل إذا
19
زال عن المحاذاة بطلت الصورة عنه وحدثت فيما يقوم مقامه، فلم
20
تكن صورتان، فلم تكن رؤيتان ولا اتصال خط عن نقطة، ولا
21
رؤيت الأشياء تستدير، فنقول لا يبعد أن يكون من شأن الروح
159
1
الذى للحسّ المشترك أن لا يكون إنما يضبط الصورة بالمحاذاة
2
فقط وإن كان لا يضبطها بعد المحاذاة مدة طويلة فيكون ضبطه
3
لا كضبط المستنير بالضوء للضوء الذى يبطل دفعة، ولا كضبط
4
الحجر للنقش الذى يبقى مدة طويلة بل بين بين، ويكون تخليته
5
عن الصورة بسبب يقوى ويعان بعد المحاذاة بزمان ما لأسباب
6
تجدها مذكورة فيما تفتر حركته وفيما يعود إلى طبيعته حيث نتكلم
7
فى مثله، ومن هذا يعلم أن قبول الروح الباطن للخيالات المبصرة
8
ليس كقبول الشبح الساذج الذى يزول مع زوال المحاذاة،
9
وبالحرى أن تكون الحواسّ هى هذه المشهورة وأن تكون الطبيعة
10
لا تنتقل من درجة الحيوانية إلى درجة فوقها أو يوفى جميع ما يكون
11
فى تلك الدرجة، فيجب من ذلك أن يكون جميع الحواسّ محصلة
12
عندنا، ومن رام أن يبين هذا بقياس واجب فقد تكلف شططا،
13
وجميع ما قيل فى هذا فهو غير مبرهن أو لست أفهمه فهم المبرهن
14
عليه ويفهمه غيرى، فليتعرف ذلك من غير كلامنا،
15
فالحواسّ المفردة والمحسوسات المفردة ما ذكرناه، وهاهنا
16
حواسّ مشتركة ومحسوسات مشتركة، فلنتكلم أولا فى المحسوسات
17
المشتركة، فنقول إن الحواسّ منا قد تحسّ معما تحسّ أشياء
18
أُخرى لو انفردت وحدها لم تحسّ وهذه الأشياء هى المقادير
19
أُخرى لو انفردت وحدها لم تحسّ وهذه الأشياء هى المقادري
20
والمماسة وما هو غير ذلك مما يدخل فيه، وليس إنما تحسّ هذه
21
بعرض، وذلك لأن المحسوس بالعرض هو الذى ليس محسوسا
160
1
بالحقيقة لكنه مقارن لما يحسّ بالحقيقة مثل إبصارنا أبا عمرو وأخا
2
خالد، فإن المحسوس هو الشكل واللون ولكن عرض أن ذلك مقارن
3
لشىء مضاف فنقول إنا أحسسنا بالمضاف ولم نحسّه البتة ولا فى
4
أنفسنا خيال ولا رسم لأبى خالد من حيث هو أبو خالد يكون
5
ذلك الرسم أو الخيال مستفادا من الحسّ بوجه من الوجوه، وأما
6
الشكل والعدد وغير ذلك فإنه وإن كان لا يحسّ بانفراده فإن رسمه
7
وخياله يلزم خيال ما يحسّ وما يدرك بأنه لون أو حرارة أو برودة
8
مثلا حتى يمتنع ارتسام أمثال هذه فى الخيال دونها أيضا، وليس إذا
9
كان الشىء متمثلا ومدركا لشىء فى شىء بتوسط شىء فهو غير
10
متمثل فيه بالحقيقة، فإن كثيرا من الأمور التى هى بالحقيقة
11
وليست بالعرض فإنها تكون بمتوسطات،
12
وهذه المحسوسات المشتركة لما كان إدراكها بهذه الحواسّ ممكنا
13
لم يحتج إلى حاسّة أُخرى، بل لما كان إدراكها بلا توسط غير
14
ممكن استحال أن يفرد لها حاسّة، فالبصر يدرك العظم والشكل
15
والعدد والوضع والحركة والسكون بتوسط اللون، ويشبه أن يكون
16
إدراك الحركة والسكون مشوبا بقوة غير الحسّ، واللمس يدرك
17
جميع هذا بتوسط صلابة أو لين فى أكثر الأمر، وقد يكون بتوسط
18
الحر والبرد، والذوق يدرك العظم بأن يذوق طعما كثيرا منتشرا،
19
ويدرك العدد بأن يجد طعوما كثيرة فى الأجسام، وأما الحركة
20
والسكون والشكل فيكاد أن يدركه أيضا ولكن ضعيفا يستعين فى
21
ذلك باللمس، وأما الشم فيكاد لا يدرك به العظم والشكل
161
1
والحركة والسكون إدراكا متمثلا فى الشام بل يدرك به العدد بأن
2
يتمثل فى الشام ولكن النفس تدرك ذلك بضرب من القياس أو الوهم
3
بأن تعلم أن الذى انقطعت رائحته دفعة قد زال والذى تبقى رائحته
4
هو ثابت، وأما السمع فإن العظم لا يدركه ولكن السمع قد
5
يدل النفس عليه دلالة غير مستمرة على الدوم، وذلك من جهة أن
6
الأصوات العظيمة قد ينسبها إلى أجسام عظيمة وكثيرا ما تكون من
7
أشياء صغيرة وبالعكس، ولكن قد يدرك العدد ويدرك الحركة
8
والسكون بما يعرض للصوت الممتد من ثبات أو اضمحلال يكون
9
مصيره إلى ذلك الاختلاف فى تحدد مثل ذلك البعد، ولكن هذا
10
الإدراك من جملة ما تدركه النفس للعادة التى عرفتها، وقد يمكن
11
أن يسمع الصوت عن الساكن على هيئة الصوت الذى يسمع عن
12
المتحرك وعن المتحرك على هيئة الذى يسمع عن الساكن، فلا
13
تكون هذه الدلالة مركونا إليها ولا تجب وجوبا بل تكون فى أكثر
14
الأمر وأما الشكل فلا يدركه السمع إلّا شكل الصوت لا شكل الجسم،
15
وأما الذى يسمع عن المجوف فيوقف على تجويفه فهو شىء يعرض
16
للنفس وتعرفه النفس على سبيل الاستدلال، وتأمل مذهب العادة فيه
17
ويشبه أن يكون حال البصر فى كثير مما يدركه هذه الحال أيضا
18
إلّا أن إدراك البصر لما يدركه من ذلك أظهر،
19
فهذه هى المحسوسات التى تسمى مشتركة إذ قد تشترك فيها
20
عدة من الحواسّ، والعدد كأنه أولى ما يسمى مشتركا فإن جميع
21
الحواسّ تشترك فيه، وقد ظن بعض الناس أن لهذه المحسوسات
162
1
المشتركة حاسّة موجودة فى الحيوان تشترك فيها وبها تدرك،
2
وليس كذلك، فأنت تعلم أن من ذلك ما يدرك باللون لولا اللون
3
لما أدرك، وأن منه ما يدرك باللمس لولا الملموس لما أدرك،
4
فلو كان يمكن أن يدرك شىء من ذلك بغير المتوسط من كيفية
5
هى مدرك أوّلى لشىء من هذه الحواسّ لكان ذلك ممكنا، وأما
6
إذ يستحيل فينا إدراكه إلّا بتوسط مدرَك لحاسّة معلومة أو
7
استدلال من غير توسط الحاسة فليس لها حاسّة مشتركة بوجه من
8
الوجوه،
163
1
المقالة الرابعة
2
فصل ١
3
(فيه قول كلى على الحواسّ الباطنة التى للحيوان)
4
وأما الحسّ المشترك فهو بالحقيقة غير ما ذهب إليه من ظن أن
5
للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا بل الحسّ المشترك هو القوة
6
التى تتأدى إليها المحسوسات كلها، فإنه لو لم تكن قوة واحدة
7
تدرك الملون والملموس لما كان لنا أن نميز بينهما قائلين إنه
8
ليس هذا ذاك، وهب أن هذا التمييز هو للعقل فيجب لا
9
محالة أن يكون العقل يجدهما معا حتى يميز بينهما، وذلك لأنها
10
من حيث هى محسوسة وعلى النحو المتأدى من المحسوس لا
11
يدركها العقل كما سنوضح بعد، وقد نميز نحن بينها، فيجب أن
12
يكون لها اجتماع عند مميز إما فى ذاته وإما فى غيره، ومحال
13
ذلك فى العقل على ما ستعلمه، فيجب أن يكون فى قوة أُخرى،
14
ولو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التى لا عقل لها
15
المائلة بشهوتها إلى الحلاوة مثلا أن شيئا صورته كذا هو حلو لما
16
كانت إذا رأته همت بأكله كما أنه لو لا أن عندنا نحن أن
17
هذا الأبيض هو هذا المغنى لما كنا إذا سمعنا غناءه الشخصى
18
أثبتنا عينه الشخصية وبالعكس، ولو لم يكن فى الحيوان ما يجتمع
19
فيه صور المحسوسات لتعذرت عليها الحياة ولم يكن الشم دالا
164
1
لها على الطعم ولم يكن الصوت دالا إياها على الطعم ولم تكن
2
صورة الخشبة تذكرها صورة الألم حتى تهرب منها، فيجب لا
3
محالة أن يكون لهذه الصور مجمع واحد من باطن،
4
وقد يدلنا على وجود هذه القوة اعتبارات أمور تدل على أن لها
5
آلة غير الحواسّ الظاهرة مما نراه من تخيل المدورية أن كل
6
شىء يدور فذلك إما عارض عرض فى المرئيات أو عارض عرض فى
7
الآلة التى بها تتم الرؤية، وإذا لم يكن فى المرئيات كان لا
8
محالة فى شىء آخر، وليس الدوار إلّا بحسب حركة البخار فى
9
الدماغ وفى الروح التى فيه، فيعرض لتلك الروح أن تدور، فتكون
10
إذأ القوة المرتبة هناك هى التى يعرض لها أمر قد فرغنا منه،
11
وكذلك يعرض للإنسان دوار من تأمل ما يدور كثيرا على ما
12
أنبأنا به، وليس يكون ذلك بسبب أمر فى جزء من العين ولا
13
فى روح مصبوب فيه، ولذلك نتخيل استعجال المتحرك النقطى
14
مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل، ولأن تمثل الأشباح
15
الكاذبة وسماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد لهم آلات
16
الحسّ أو كان مثلا مغمضا لعينه، ولا يكون السبب فى ذلك إلّا
17
تمثلها فى هذا المبدأ، والتخيلات التى تقع فى النوم إما أن تكون
18
لارتسام الصورة فى خزانة حافظة للصور، ولو كان كذلك لوجب
19
أن يكون كل ما اختزن فيها متمثلا فى النفس ليس بعضها دون بعض
20
حتى يكون ذلك البعض كأنه مرئى أو مسموع وحده أو أن تكون
165
1
يعرض لها التمثل فى قوة أُخرى، وذلك إما حسّ ظاهر وإما حسّ
2
باطن، لكن الحسّ الظاهر معطل فى النوم، وربما كان الذى
3
يتخيل ألوانا ما مسمول العين، فبقى أن يكون حسّ باطن، وليس
4
يمكن أن يكون إلّا المبدأ للحواسّ الظاهرة والذى كان إذا استولت
5
القوة الوهمية وجعلت تستعرض ما فى الخزانة تستعرضه بها ولو فى
6
اليقظة، فإذا استحكم ثباتها فيها كانت كالمشاهدة، فهذه القوة هى
7
التى تسمى الحسّ المشترك وهى مركز الحواسّ ومنها تتشعب
8
الشعب وإليها تؤدى الحواسّ، وهى بالحقيقة هى التى تحسّ،
9
لكن إمساك ما تدركه هذه هو للقوة التى تسمى خيالا وتسمى
10
مصورة وتسمى متخيلة، وربما فرق بين الخيال والمتخيلة بحسب
11
الاصطلاح، ونحن ممن يفصل ذلك، والحسّ المشترك والخيال
12
كأنهما قوة واحدة وكأنهما لا يختلفان فى الموضوع بل فى الصورة،
13
وذلك أنه ليس أن يقبل هو أن يحفظ، فصورة المحسوس تحفظها
14
القوة التى تسمى المصورة والخيال، وليس إليها حكم البتة بل
15
حفظ، وأما الحسّ المشترك والحواسّ الظاهرة فإنها تحكم بجهة ما
16
أو بحكم ما فيقال إن هذا المتحرك أسود وإن هذا الأحمر حامض،
17
وهذا الحافظ لا يحكم به على شىء من الموجود إلّا على ما فى
18
ذاته بأن فيه صورة كذا،
19
ثم قد نعلم يقينا أن فى طبيعتنا أن نركب المحسوسات بعضها إلى
166
1
بعض وأن نفصل بعضها عن بعض لا على الصورة التى وجدناها
2
عليها من خارج ولا مع تصديق بوجود شىء منها أو لا وجوده،
3
فيجب أن تكون فينا قوة نفعل ذلك بها، وهذه هى التى تسمى إذا
4
استعملها العقل مفكرة وإذا استعملتها قوة حيوانية متخيلة،
5
ثم إنا قد نحكم فى المحسوسات بمعان لا نحسّها إما أن لا تكون
6
فى طبائعها محسوسة البتة وإما أن تكون محسوسة لكنا لا نحسّها وقت
7
الحكم، أما التى لا تكون محسوسة فى طبائعها فمثل العداوة والرداءة
8
والمنافرة التى تدركها الشاة فى صورة الذئب وبالجملة المعنى الذى
9
ينفرها عنه، والموافقة التى تدركها من صاحبها وبالجملة المعنى
10
الذى يؤنسها به، وهذه أمور تدركها النفس الحيوانية والحسّ لا
11
يدلها على شىء منها، فإذن القوة التى بها تدرك قوة أُخرى، ولتسم
12
الوهم، وأما التى تكون محسوسة فإنا نرى مثلا شيئا أصفر فنحكم
13
أنه عسل وحلو، فإن هذا ليس يؤديه إليه الحاسّ فى هذا الوقت،
14
وهو من جنس المحسوس عل أن الحكم نفسه ليس بمحسوس البتة
15
وإن كانت أجزاءه من جنس المحسوس، وليس يدركه فى الحال،
16
إنما هو حكم يحكم به ربما غلط فيه، وهو أيضا لتلك القوة، وفى
17
الإنسان للوهم أحكام خاصة من جملتها حمله النفس على أن
18
تمنع وجود أشياء لا تتخيل ولا ترتسم فيه وتأبيها التصديق بها،
167
1
فهذه القوة لا محالة موجودة فينا وهى الرئيسة الحاكمة فى الحيوان
2
حكما ليس فصلا كالحكم العقلى ولكن حكما تخيليا مقرونا بالجزئية
3
وبالصورة الحسّية وعنها يصدر أكثر الأفعال الحيوانية،
4
وقد جرت العادة بأن يسمى مدرك الحسّ صورة ومدرك الوهم
5
معنى، ولكل واحد منهما خزانة، فخزانة مدرك الحسّ هى
6
القوة الخيالية، وموضعها مقدم الدماغ، ولذلك إذا حدثت هناك
7
آفة فسد هذا الباب من التصور إما بأن تتخيل صورا ليست أو
8
يصعب استثبات الموجود فيها، وخزانة مدرك الوهم هى القوة
9
التى تسمى الحافظة، ومعدنها مؤخر الدماع ولذلك إذا وقع هناك
10
آفة وقع الفساد فيما يختص بحفظ هذه المعانى، وهذه القوة تسمى
11
أيضا متذكرة، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ومتذكرة لسرعة
12
استعدادها لاستثباته والتصور به مستعيدة إياه إذا فقد، وذلك
13
إذا أقبل الوهم بقوته المتخيلة فجعل يعرض واحدا واحدا من
14
الصور الموجودة فى الخيال ليكون كأنه يشاهد الأمور التى هذه
15
صورها، فإذا عرض له الصورة التى أدرك معها المعنى الذى بطل
16
لاح له المعنى حينئذ كما لاح من خارج واستثبتته القوة الحافظة
17
فى نفسها كما كانت حينئذ تستثبت، فكان ذكر، وربما كان
18
المصير من المعنى إلى الصورة، فيكون المتذكر المطلوب
168
1
ليس له نسبة إلى ما فى خزانة الحفظ بل نسبة إلى ما فى خزانة
2
الخيال، فكان إعادته إما فى وجه العود إلى هذه المعانى التى فى
3
الحفظ حتى يضطر المعنى إلى لوح الصورة فتعود النسبة إلى ما فى
4
الخيال ثانيا، وإما بالرجوع إلى الحسّ، مثال الأول أنك إذا نسيت
5
نسبة إلى صورة وكنت عرفت تلك النسبة تأملت الفعل الذى كان
6
يقصد منها، فلما عِرفت الفعل ووجدته وعرفت أنه أى طعم ولون
7
وشكل يصلح له فاستثبت النسبة به وألفت ذلك وحصلته نسبة
8
إلى صورة فى الخيال وأعدت النسبة فى الذكر، فإن خزانة الفعل
9
هو الحفظ لأنه من المعنى، فإن كان أشكل ذلك عليك من هذه
10
الجهة أيضا ولم يتضح فأورد عليك الحسّ صورة الشىء عادت
11
مستقرة فى الخيال وعادت النسبة إليه مستقرة فى التى تحفظ،
12
وهذه القوة المركبة بين الصورة والصورة وبين الصورة والمعنى
13
وبين المعنى والمعنى هى كأنها القوة الوهمية بالموضوع لا من
14
حيث تحكم بل من حيث تعمل لتصل إلى الحكم، وقد جعل مكانها
15
واسط الدماغ ليكون لها اتصال بخزانتى المعنى والصورة، ويشبه
16
أن تكون القوة الوهمية هى بعينها المفكرة والمتخيلة والمتذكرة
17
وهى بعينها الحاكمة، فتكون بذاتها حاكمة وبحركاتها وأفعالها
169
1
متخيلة ومتذكرة، فتكون متخيلة بما تعمل فى الصور والمعانى
2
ومتذكرة بما ينتهى إليه عملها، وأما الحافظة فهى قوة خزانتها،
3
ويشبه أن يكون التذكر الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده وأن
4
خزانة الصور هى المصورة والخيال وأن خزانة المعانى هى
5
الحافظة، ولا يمتنع أن تكون الوهمية بذاتها حاكمة وبحركاتها
6
متخيلة وذاكرة،
7
فصل ٢
8
(فى أفعال المصورة والمفكرة من هذه الحواسّ الباطنة وفيه القول على
9
النوم واليقظة والرؤيا الصادقة والكاذبة وضرب من خواص النبوة)
10
فلنحصل القول فى القوة المصورة أولا فنقول إن القوة المصورة
11
التى هى الخيال هى آخر ما تستقر فيه صور المحسوسات وإن
12
وجهها إلى المحسوسات هو الحسّ المشترك، وإن الحسّ المشترك
13
يؤدى إلى القوة المصورة على سبيل استخزان ما يؤديه إليه
14
الحواسّ فتخزنه، وقد تخزن القوة المصورة أيضا أشياء ليست من
15
المأخوذات عن الحسّ، فإن القوة المفكرة قد تتصرف على الصور
16
التى فى القوة المصورة بالتركيب والتحليل لأنها موضوعات لها،
170
1
فإذا ركبت صورة منها أو فصلتها أمكن أن تستحفظها فيها لأنها
2
ليست خزانة لهذه الصورة من جهة ما هذه الصورة منسوبة إلى شىء
3
وواردة من داخل أو خارج بل إنما هى خزانة لها لأنها هذه الصورة
4
بهذا النحو من التجريد، فلو كانت هذه الصورة على نحو ما فيها
5
من التركيب والتفصيل ترد من خارج لكانت هذه القوة تستثبتها،
6
فكذلك إذا لاحت لهذه القوة من سبب آخر، وإذا عرض لسبب
7
من الأسباب إما من التخيل والفكر وإما لشىء من التشكلات
8
السماوية أن تمثلت صورة فى المصورة وكان الذهن غائبا أو ساكنا
9
عن اعتباره أمكن أن يرتسم ذلك فى الحسّ المشترك نفسه على
10
هيئته فيسمع ويرى ألوانا وأصواتا ليس لها وجود من خارج ولا
11
أسبابها من خارج، وأكثر ما يعرض هذا عند سكون القوى العقلية
12
أو غفول الوهم وعند اشتغال النفس النطقية عن مراعاة الخيال
13
والوهم، فهناك تقوى المصورة والمتخيلة على أفعالها الخاصة حتى
14
يتمثل ما تورده من الصور محسوسة،
15
ولنزد هذا بيانا فنقول إنه سيتبين لنا بعد أن هذه القوى كلها
16
لنفس واحدة وأنها خوادم للنفس، فليسلم ذلك وضعا وليعلم أن
17
اشتغال النفس ببعض هذه يصرفها عن إعانة القوى الأُخرى على
18
فعلها أو عن ضبطها عن زيغها أو عن حملها على الصواب، فإن
19
من شأن النفس إذا اشتغلت بالأمور الباطنة أن تغفل عن استثبات
20
الأمور الخارجة فلا تستثبت المحسوسات حقها من الاستثبات،
171
1
وإذا اشتغلت بالأمور الخارجة أن تغفل عن استعمال القوى الباطنة،
2
فإنها إذا كانت تامة الإصغاء إلى المحسوسات الخارجة ففى وقت ما
3
تكون منصرفة إلى ذلك يضعف تخيلها وتذكرها، وإذا انصبت
4
إلى أفعال القوة الشهوانية انكسرت منها أفعال القوة الغضبية، وإذا
5
انصبت إلى أفعال القوة الغضبية انكسرت منها أفعال القوة الشهوانية،
6
وبالجملة إذا انصبت إلى استكمال الأفعال الحركية ضعفت الأفعال
7
الإدراكية وبالعكس، فإذا لم تكن النفس مشتغلة بأفعال قوى عن
8
أفعال قوة ما بل كانت وادعة كأنها معتزلة عرض لأقوى القوى
9
وأعملها أن تغلب، وإذا اشتغلت بقوة ما وعارض ما عن تثقيف
10
قوة إنما تضبطها عن حركاتها المفرطة مراعاة النفس أو الوهم إياها
11
استولت تلك القوة ونفذت فى أفعالها التى بالطبع قد خلا لها
12
الجو، وهذا الذى يعرض للنفس من أن لا تكون مشتغلة بفعل
13
قوة أو قوى قد يكون لآفة أو لضعف شاغل عن الاستكمال كما
14
فى الأمراض وكما فى الخوف، وإما أن يكون لاستراحة ما كما فى
15
النوم، وإما أن يكون لكثرة انصراف الهمة إلى استعمال القوة
16
المنصرف إليها عن غيرها،
17
ثم إن القوة المتخيلة قوة قد يصرفها النفس عن خاص فعلها
18
بوجهين، تارة مثل ما يكون عند اشتغال النفس بالحواسّ الظاهرة
19
وصرف القوة المصورة إلى الحواسّ الظاهرة وتحريكها بما يورد
20
عليها منها حتى لا تسلم للمتخيلة المفكرة فتكون المتخيلة مشغولة
172
1
عن فعلها الخاص، وتكون المصورة أيضا مشغولة عن الانفراد
2
بالمتخيلة، ويكون ما تحتاجان إليه من الحسّ المشترك ثابتا واقعا
3
فى شغل الحواسّ الظاهرة، وهذا الوجه هو وجه، وتارة عند
4
استعمال النفس إياها فى أفعالها التى تتصل بها من التمييز والفكرة،
5
وهذا على وجهين أيضا، أحدهما أن تستولى على المتخيلة فتستخدمها
6
والحسّ المشترك معها فى تركيب الصور بأعيانها وتحليلها على
7
جهة يقع للنفس فيها غرض صحيح ولا تتمكن المتخيلة لذلك من
8
التصرف على ما لها أن تتصرف عليه بطباعها بل تكون منجرة مع
9
تصريف النفس النطقية إياها انجرارا، والثانى أن تصرفها عن التخيلات
10
التى لا تطابق الموجودات من خارج فتكفّها عن ذلك استبطالا لها
11
فلا تتمكن من شدة تشبيحها وتمثيلها، فإن شغلت المتخيلة من
12
الجهتين جميعا ضعف فعلها، وإن زال عنها الشغل من الجهتين
13
كلتيهما كما يكون فى حال النوم أو من جهة واحدة كما يكون
14
عند الأمراض التى تضعف البدن وتشغل النفس عن العقل والتمييز
15
وكما عند الخوف حتى تضعف النفس وتكاد تجوز ما لا يكون
16
وتكون منصرفة عن العقل جملة لضعفها ولخوفها وقوع أمور
17
جسدانية فكأنها تترك العقل وتدبيره أمكن التخيل حينئذ أن يقوى
18
ويقبل على المصورة ويستعملها ويتقوى اجتماعهما معا، فتصير
19
المصورة أظهر فعلا فتلوح الصور التى فى المصورة فى الحاسّ المشترك
173
1
فترى كأنها موجودة خارجا لأن الأثر المدرك من الوارد من خارج
2
ومن الوارد من داخل هو ما يتمثل فيه، وإنما يختلف بالنسبة،
3
وإذا كان المحسوس بالحقيقة هو ما يتمثل فإذا تمثل كان حاله
4
كحال ما يرد من خارج، ولهذا ما يرى الإنسان المجنون والخائف
5
والضعيف والنائم أشباحا قائمة كما يراها فى حال السلامة بالحقيقة
6
ويسمع أصواتا كذلك، فإذا تدارك التمييز أو العقل شيئا من
7
ذلك وجذب القوة المتخيلة إلى نفسه بالتنبيه اضمحلت تلك الصور
8
والخيالات،
9
وقد يتفق فى بعض الناس أن تخلق فيه القوة المتخيلة شديدة
10
جدا غالبة حتى أنها لا تستولى عليها الحواسّ ولا تعصيها المصورة،
11
وتكون النفس أيضا قوية لا يبطل التفاتها إلى العقل وما قِبَل
12
العقل انصبابُها إلى الحواسّ، فهؤلآء يكون لهم فى اليقظة ما يكون
13
لغيرهم فى المنام من الحالة التى سنخبر عنها بعد، وهى حالة
14
إدراك النائم مغيبات بتحققها بحالها أو بأمثلة تكون لها، فإن هؤلآء
15
قد يعرض لهم مثلها فى اليقظة، وكثيرا ما يكون لهم فى توسط ذلك
16
أن يغيبوا آخر الأمر عن المحسوسات ويصيبهم كالإغماء، وكثيرا ما
17
لا يكون، وكثيرا ما يرون الشىء بحاله وكثيرا ما يتخيل لهم مثاله
18
للسبب الذى يتخيل للنائم مثال ما يراه مما نوضحه بعد، وكثيرا
19
ما يتمثل لهم شبح ويتخيلون أن ما يدركونه خطاب من ذلك الشبح
20
بألفاظ مسموعة تحفظ وتتلى، وهذه هى النبوة الخاصة بالقوة
21
المتخيلة وهاهنا نبوات أُخرى سيتضح أمرها،
174
1
وليس أحد من الناس لا نصيب له من أمر الرؤيا ومن حال
2
الإدراكات التى تكون فى اليقظة، فإن الخواطر التى تقع دفعة فى
3
النفس إنما يكون سببها اتصالات ما لا تشعر بها ولا بما يتصل بها
4
لا قبلها ولا بعدها، فتنتقل النفس منها إلى شىء آخر غير ما كان عليه
5
مجراها، وقد يكون ذلك من كل جنس، فيكون من المعقولات ويكون
6
من الإنذارات ويكون شعرا ويكون غير ذلك بحسب الاستعداد
7
والعادة والخلق، وهذه الخواطر تكون لأسباب تعن للنفس مسارقة
8
فى أكثر الأمر وتكون كالتلويحات المستلبة التى لا تتقرر فتذكر إلّا
9
أن تبادر إليها النفس بالضبط الفاضل، ويكون أكثر ما تفعله أن
10
تشغل التخيل بجنس غير مناسب لما كان فيه،
11
ومن شأن هذه القوة المتخيلة أن تكون دائمة الإكباب على
12
خزانتى المصورة والذاكرة ودائمة العرض للصور مبتدئة من صورة
13
محسوسة أو مذكورة منتقلة منها إلى ضد أو ند أو شىء هو
14
منه بسبب، وهذه طبيعتها، وأما اختصاص انتقالها من الشىء إلى
15
ضده دون نده أو نده دون ضده فيكون لذلك أسباب جزئية لا
16
تحصى، وبالجملة يجب أن يكون أصل السبب فى ذلك أن النفس
17
إذا جمعت بين مراعاة المعانى والصور انتقلت من المعنى إلى الصورة
18
التى هى أقرب إليه إما مطلقا وإما لاتفاق قرب عهد مشاهدته
175
1
لتألفهما فى حسّ أو فى وهم، وانتقلت كذلك من الصورة إلى المعنى،
2
ويكون السبب الأول الذى يخصص صورة دون صورة ومعنى دون
3
معنى أمرا قد ورد عليه من الحسّ خصصه به أو من العقل أو الوهم
4
فخصصه به أو لأمر سماوى، فلما تخصص بذلك صار استمراره وانتقاله
5
متخصصا لتخصيص المبدأين ولأجل أحوال تقارن فى العادة ولقرب
6
العهد ببعض الصور والمعانى، وقد يكون ذلك لأحوال أيضا سماوية،
7
وقد يكون لطوالع من العقل والحسّ بعد التخصيص الأول تضاف
8
إليه،
9
واعلم أن الفكر النطقى ممنو بهذه القوة، وهو من غريرة هذه
10
القوة فى شغل شاغل، فإنه إذا استعملها فى صورة ما استعمالا
11
موجها نحو غرض ما انتقلت بسرعة إلى شىء آخر لا يناسبه ومنه
12
إلى ثالث وأنست النفس أول ما ابتدأت عنه حتى تحوج النفس
13
إلى التذكر فازعة إلى التحليل بالعكس حتى تعود إلى المبدأ،
14
وإذا اتفق فى حال اليقظة أن أدرك النفس شيئا أو فى حال النوم
15
أن اتصلت بالملكوت اتصالا على ما سنصفه بعد وصفا فإن هذه
16
القوة إن مكنتها بسكونها أو بانقهارها من حسن الاستثبات
17
ولم تغلبها مقصرة عليها زمان الاستثبات لما يلوح لها من تخيلاتها
176
1
تمكنت تلك الصورة من الذكر تمكنا جيدا على وجهه وصورته،
2
فلم تحتج إن كان يقظة إلى التذكر وإن كان نوما إلى تعبير وإن كان
3
وحيا إلى تأويل، فإن التعبير والتأويل هاهنا يذهب مذهب التذكر،
4
فإن لم تستثبت النفس ما رأته من ذلك فى قوة الذكر على ما ينبغى
5
بل كانت القوة المتخيلة توازى كل مفرد من المرئى فى النوم بخيال
6
مفرد أو مركب أو توازى مركبا من المرئى فى النوم بخيال مفرد أو
7
مركب فلا تزال تحاذى ما ترى هناك بمحاكاة مؤلفة من صور
8
ومعان كان استثبات النفس فى ذاتها لما يُراها أضعف من استثبات
9
المصورة والمتذكرة لما يورده التخيل فلم يثبت فى الذكر ما أرى
10
من الملكوت وثبت ما حوكى به،
11
ويتفق كثيرا أن يكون ما يرى من الملكوت شيئا كالرأس
12
وكالابتداء فيستولى التخيل على النفس استيلاء يصرفها عن استتمام
13
ما تراه وتنتقل بعده انتقالا بعد انتقال لا تحاكى بتلك الانتقالات شيئا
14
مما يرى من الملكوت إذ ذلك قد انقطع، فيكون هذا ضربا من الرؤيا
15
إنما موضع العبارة منه شىء طفيف وباقيه أضغاث أحلام، فما كان
16
من الرؤيا من الجنس الذى السلطان فيه للتخيل فإنه يحتاج إلى عبارة
17
ضرورة،
18
وربما رأى الإنسان تعبير رؤياه فى رؤياه فيكون ذلك بالحقيقة تذكرا،
19
فإن القوة المفكرة كما أنها قد تنتقل أولا من الأصل إلى الحكاية
20
لمناسبة بينهما كذلك لا يبعد أن تنتقل عن الحكاية إلى الأصل،
21
فكثيرا ما يعرض لها أن تتخيل فعلها ذلك مرة أُخرى فترى كأن
177
1
مخاطبا يخاطبها بذلك، وكثيرا ما لم يكن كذلك بل كان كأنها
2
تعاين الشىء معاينة صحيحة من غير أن تكون النفس اتصلت
3
بالملكوت بل تكون محاكاة من المتخيلة للمحاكاة، فترجع إلى الأصل،
4
وهذا الضرب من الرؤيا الصحيح قد يقع عن التخيل من غير معونة
5
قوة أُخرى وإن كان الأصل فيه ذلك فيرجع، وربما حاكت هذه
6
المحاكاة محاكاة أُخرى فتحتاج إلى تعبير المعبر مرة أُخرى، وهذه
7
أشياء وأحوال لا تضبط، ومن الناس من يكون أصحّ أحلاما، وذلك
8
إذا كانت نفسه قد اعتادت الصدق وقهرت التخيل الكاذب، وأكثر
9
من يتفق له أن يعبر رؤياه فى رؤياه هو من كانت همته مشغولة
10
بما رأى، فإذا نام بقى الشغل به بحاله، فأخذت القوة المتخيلة
11
تحاكيه بعكس ما حاكت أولا، وقد حكى أن هرقل الملك رأى رؤيا
12
شغلت قلبه ولم يجد عند المعبرين ما يشفيه فلما نام بعد ذلك عبر
13
له فى منامه تلك الرؤيا، فكانت مشتملة على أخبار عن أمور تكون
14
فى العالم وفى خاصّ مدينته ومملكته، فلما دونت تلك الإنذارات
15
خرجت على نحو ما عبر له فى منامه، وقد جرب هذا فى غيره،
16
والذين يرون هذه الأمور فى اليقظة منهم من يرى ذلك لشرف
17
نفسه وقوتها وقوة متخيلته ومتذكرته فلا تشغلها المحسوسات عن
18
أفعالها الخاصة، ومنهم من يرى ذلك لزوال تمييزه ولأن النفس
19
التى له منصرفة عن التمييز، ولذلك فإن تخيله قوى، فهو قادر على
20
تلقى الأمور الغيبية فى حال اليقظة، فإن النفس محتاجة فى تلقى
21
فيض الغيب إلى القوى الباطنة من وجهين أحدهما ليتصور فيها
22
المعنى الجزئى تصورا محفوظا، والثانى لتكون معينة لها متصرفة فى
178
1
جهة إرادتها لا شاغلة إياها جاذبة لها إلى جهتها، فيحتاج إلى نسبة
2
بين الغيب وبين النفس والقوة الباطنة المتخيلة ونسبة بين النفس
3
والقوة الباطنة المتخيلة، فإن كان الحسّ يستعملها أو العقل
4
يستعملها على النحو العقلى الذى ذكرناه لم تفرغ لأمور أُخرى
5
مثل المرآة إذا شغلت عن جهة وحركت نحو جهة فإن كثيرا
6
من الأمور التى من شأنها أن ترتسم فى تلك المرآة مغافصة ومباغتة
7
لنسبة ما بينهما لا ترتسم، وسواء كان هذا الشغل من الحسّ أو من
8
ضبط العقل، فإذا فات أحدهما أوشك أن تتفق النسبة المحتاج إليها
9
بين الغيب وبين النفس والقوة المتخيلة وبين النفس وبين القوة
10
المتخيلة، فيلوح فيها اللائح على نحو ما يلوح،
11
ولأنا قد انتقل بنا الكلام فى التخيل إلى أمر الرؤيا فلا بأس أن
12
ندل يسيرا على المبدأ الذى تقع عنه الإنذارات فى المنام بأمور
13
نضعها وضعا، وإنما تتبين لنا فى الصناعة التى هى الفلسفة الأولى،
14
فنقول إن معانى جميع الأمور الكائنة فى العالم مما سلف ومما حضر
15
ومما يريد أن يكون موجودة فى علم البارى[*]البارى Middle Arabic for البارئ والملائكة العقلية من
16
جهة وموجودة فى أنفس الملائكة السماوية من جهة، وسيتضح لك
17
الجهتان فى موضع آخر، وإن الأنفس البشرية أشد مناسبة لتلك
18
الجواهر الملكية منها للأجسام المحسوسة، وليس هناك احتجاب ولا
19
بخل، إنما الحجاب للقوابل إما لانغمارها فى الأجسام وإما
20
لتدنسها بالأمور الجاذبة إلى الجنبة السافلة، وإذا وقع لها أدنى فراغ
21
من هذه الأفعال حصل لها مطالعة لما ثم، فيكون أولى ما تستثبته
179
1
ما يتصل بذلك الإنسان أو بذويه أو ببلده أو بإقليمه، ولذلك
2
أكثر الأحلام التى تذكر تختص بالإنسان الذى حلم بها وبمن
3
يليه، ومن كانت همته المعقولات لاحت له ومن كانت همته مصالح
4
الناس رآها واهتدى إليها، وكذلك على هذا القياس، وليست
5
الأحلام كلها صادقة وبحيث يجب أن يشتغل بها، فإن القوة المتخيلة
6
ليس كل محاكاتها إنما تكون لما يفيض على النفس من الملكوت،
7
بل أكثر ما يكون منها ذلك إنما يكون إذا كانت هذه القوة قد
8
سكنت عن محاكاة أمور هى أقرب إليها، والأمور التى هى أقرب
9
إليها منها طبيعية ومنها إرادية، فالطبيعية هى التى تكون من
10
ممازجة قوى الأخلاط للروح التى تمتطيها القوة المصورة والمتخيلة،
11
فإنها أول شىء إنما تحكيها وتشتغل بها، وقد تحكى أيضا آلاما
12
تكون فى البدن وأعراضا فيه مثل ما يكون عندما تتحرك القوة
13
الدافعة للمنى إلى الدفع فإن المتخيلة حينئذ تحاكى صورا من شأن
14
النفس أن تميل إلى مجامعتها، ومن كان به جوع حكى له مأكولات،
15
ومن كان به حاجة إلى دفع فضل حكى له موضع ذلك، ومن عرض
16
لعضو منه أن سخن أو برد بسبب حر أو برد حكى له أن ذلك
17
العضو منه موضوع فى نار أو فى ماء بارد، ومن العجائب أنه كما
18
يعرض من حركة الطبيعة لدفع المنى تخيل ما كذلك ربما عرض
19
تخيل ما لصورة مشتهاة لسبب من الأسباب، فتنبعث الطبيعة إلى
20
جمع المنى وإرسال الريح الناشرة لآلة الجماع، وربما قذفت المنى،
21
وقد يكون هذا فى النوم واليقظة جميعا وإن لم يكن هناك أيضا
180
1
هيجان وشبق، وأما الإرادية فأن يكون فى همة النفس وقت اليقظة
2
شىء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره، فإذا نام أخذت المتخيلة تحكى
3
ذلك الشىء وما هو من جنس ذلك الشىء، وهذا هو من بقايا
4
الفكر التى تكون فى اليقظة، وهذه كلها أضغاث أحلام، وقد تكون
5
أيضا من تأثيرات الأجرام السماوية فإنها قد توقع بحسب مناسباتها
6
ومناسبات نفوسها صورا فى التخيل بحسب الاستعداد ليست عن تمثل
7
شىء من عالم الغيب والإنذار،
8
وأما الذى يحتاج أن يعبر وأن يتأول فهو ما لم ينسب إلى
9
شىء من هذه الجملة، فيعلم أنه قد وقع من سبب خارج وأن له
10
دلالة ما، فلذلك لا يصح فى الأكثر رؤيا الشاعر والكذاب والشرير
11
والسكران والمريض والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر،
12
ولذلك أيضا إنما يصح من الرؤيا فى أكثر الأمر ما كان فى وقت
13
السحر لأن الخواطر كلها تكون فى هذا الوقت ساكنة وحركات
14
الأشباح تكون قد هدأت، وإذا كانت القوة المتخيلة فى النوم
15
فى مثل هذا الوقت غير مشغولة بالبدن ولا مقطوعة عن الحافظة
16
والمصورة بل متمكنة منهما فبالحرى أن تحسن خدمتها للنفس فى
17
ذلك لأنها تحتاج لا محالة فيما يرد عليها من ذلك أن ترتسم صورته فى
18
هذه القوى ارتساما صالحا إما هى أنفسها وإما محاكياتها، ويجب
19
أن يعلم أن أصح الناس أحلاما أعدلهم أمزجة، فإن اليابس المزاج
20
وإن كان يحفظ جيدا فإنه لا يقبل جيدا، والرطب المزاج وإن كان
21
يقبل سريعا فإنه يترك سريعا فيكون كأنه لم يقبل، ولا يحفظ جيدا
181
1
والحار المزاج متشوش الحركات، والبارد المزاج بليد، وأصحهم من
2
اعتاد الصدق، فإن عادة الكذب والأفكار الفاسدة تجعل الخيال
3
ردىء الحركات غير مطاوع لتسديد النطق، بل يكون حاله حال
4
خيال من فسد مزاجه إلى تشويش،
5
وإذا كان هذا ما يتعلق بالنوم واليقظة فيجب أن ندل هاهنا
6
باختصار على أمر النوم واليقظة، فنقول إن اليقظة حالة تكون
7
النفس فيها مستعملة للحواسّ أو للقوى المحركة من ظاهر بالإرادة
8
التى لا ضرورة إليها، فيكون النوم عدم هذه الحالة، فتكون النفس
9
فيه قد أعرضت عن الجهة الخارجة إلى الجهة الداخلة، وإعراضها
10
لا يخلوا من أحد وجوه، إما أن يكون لكلال عرض لها من هذه
11
الجهة، وإما أن يكون لمهم عرض لها فى تلك الجهة، وإما
12
أن يكون لعصيان الآلات إياها، والذى يكون من الكلال هو أن
13
يكون الشىء الذى يسمى روحا ــ وتعرفه فى موضعه ــ قد تحلل
14
وضعف فلا يقدر على الانبساط فيغور، وتتبعه القوى النفسانية،
15
وهذا الكلال قد يعرض من الحركات البدنية، وقد يعرض من الأفكار،
16
وقد يعرض من الخوف، فإن الخوف قد يعرض منه النوم بل الموت،
17
وربما كانت الأفكار تنُوم لا من هذه الجهة بل بأن تسخن الدماغ
18
فتجذب الرطوبات إليه ويمتلى الدماغ فينوم بالترطيب، والذى لمهم
19
فى الباطن هو أن يكون الغذاء والرطوبات قد اجتمعت من داخل
20
فتحتاج إلى أن يقصدها الروح بجميع الحار الغريزى لتفى بهضمها
21
التام فيتعطل الخارج، والذى يكون من جهة الآلات فأن تكون
182
1
الأعصاب قد امتلأت وانسدت من أبخرة وأغذية تنفذ فيها إلى أن
2
تنهضم أو الروح ثقلت عن الحركة لشدة الترطب، وتكون اليقظة
3
لأسباب مقابلة لهذه، من ذلك أسباب تجفف مثل الحرارة واليبوسة،
4
ومن ذلك حمام وراحة حصلت، ومن ذلك فراغ من الهضم فتعود
5
الروح منتشرة، ومن ذلك حالة رديئة تشغل النفس عن الغؤور بل
6
تستدعيها إلى خارج كغضب أو خوف لأمر قريب أو مقاساة لمادة
7
مؤلمة، وهذا قد دخل فيما نحن فيه بسبيل العرض وإن كان من
8
حق النوم واليقظة أن يتكلم فيه فى عوارض ذى الحسّ،
9
فصل ٣
10
(فى أفعال القوة المتذكرة والوهمية وفى أن أفعال هذه القوى
11
كلها بآلات جسمانية)
12
كما قد استقصينا القول فى حال المتخيلة والمصورة فيجب أن
13
نتكلم فى حال المتذكرة وما بينها وبين المفكرة وفى حال الوهم،
14
فنقول إن الوهم هو الحاكم الأكبر فى الحيوان، ويحكم على
15
سبيل انبعاث تخيلى من غير أن يكون ذلك محققا، وهذا مثل
16
ما يعرض للإنسان من استقذار العسل لمشايهته المرارة، فإن
17
الوهم يحكم بأنه فى حكم ذلك، وتتبع النفس ذلك الوهم وإن
183
1
كان العقل يكذبه، والحيوانات وأشباهها من الناس إنما يتبعون
2
فى أفعالهم هذا الحكم من الوهم الذى لا تفصيل منطقيا له، بل
3
هو على سبيل انبعاث ما فقط وإن كان الإنسان قد يعرض لحواسه
4
وقواه بسبب مجاورة النطق ما يكاد أن يصيّر قواه الباطنة نطقية
5
مخالفة للبهائم، فلذلك يصيب من فوائد الأصوات المؤلفة والألوان
6
المؤلفة والروائح والطعوم المؤلفة ومن الرجاء والتمنى أمورا لا
7
تصيبها الحيوانات الأخرى،لأن نور النطق كأنه فائض سائح
8
تصيبها الحيوانات الأخرى،لنأ نور النطق كأنه فائض سائح
9
للنطق بعد ما إنه موضوع للوهم فى الحيوانات حتى أنه ينتفع به
10
فى العلوم، وصار ذكره أيضا نافعا فى العلوم كالتجارب التى تحصل
11
بالذكر والأرصاد الجزئية وغير ذلك،
12
ولنرجع إلى حديث الوهم فنقول إن من الواجب أن يبحث
13
الباحث ويتأمل أن الوهم الذى لم يصحبه العقل حال توهمه
14
كيف ينال المعانى التى هى فى المحسوسات عندما ينال الحسّ
15
صورتها من غير أن يكون شىء من تلك المعانى يحسّ ومن غير أن
16
يكون كثير منها مما ينفع ويضرّ فى تلك الحال، فنقول إن ذلك
17
للوهم من وجوه، من ذلك الإلهامات الفائضة على الكل من الرحمة
18
الإلهية مثل حال الطفل ساعة يولد فى تعلقه بالثدى، ومثل حال
184
1
الطفل إذا أقلّ وأقيم فكاد يسقط من مبادرته إلى أن يتعلق
2
بمستمسك لغريزة فى النفس جعلها فيه الإلهام الإلهى، وإذا
3
تعرض لحدقته بالقذى بادر فأطبق جفنه قبل فهم ما يعرض له
4
وما ينبغى أن يفعل بحسبه كأنه غريزة لنفسه لا اختيار معه،
5
وكذلك للحيوانات إلهامات غريزية، والسبب فى ذلك مناسبات
6
موجودة بين هذه الأنفس ومباديها[*]ومباديها Middle Arabic for ومبادئها هى دائمة لا تنقطع غير المناسبات
7
التى يتفق أن تكون مرة وأن لا تكون كاستكمال العقل وكخاطر
8
الصواب، فإن الأمور كلها من هناك، وهذه الإلهامات يقف بها الوهم
9
على المعانى المخالطة للمحسوسات فيما يضرّ وينفع، فيكون الذئب
10
تحذره كل شاة وإن لم تره قط ولا أصابتها منه نكبة، ويحذر الأسد
11
حيوانات كثيرة، وجوارح الطير يحذرها سائر الطير، ويشنع عليها
12
الطير الضعاف من غير تجربة،
13
فهذا قسم وقسم آخر يكون لشىء كالتجربة، وذلك أن الحيوان
14
إذا أصابه ألم أو لذة أو وصل إليه نافع حسّى أو ضار حسّى مقارنا
15
لصورة حسّية فارتسم فى المصورة صورة الشىء وصورة ما يقارنه
16
وارتسم فى الذكر معنى النسبة بينهما والحكم فيها، فإن الذكر
17
لذاته ولجبلّته ينال ذلك، فإذا لاح للمتخيلة تلك الصورة من
18
خارج تحركت فى المصورة وتحرك معها ما قارنها من المعانى
19
النافعة أو الضارة وبالجملة المعنى الذى فى الذكر على سبيل
185
1
الانتقال والاستعراض الذى فى طبيعة القوة المتخيلة، فأحسّ الوهم
2
بجميع ذلك معا، فرأى المعنى مع تلك الصورة، وهذا هو على
3
سبيل يقارب التجربة، ولهذا تخاف الكلاب المدر والخشب وغيرها،
4
وقد تقع للوهم أحكام أُخرى بسبيل التشبيه بأن تكون للشىء صورة
5
وقد تقع للوهم أحكام أُخرى بسبيل التشبيه بأن تكون للشىء صورة
6
جميعها، فيلتفت مع وجود تلك الصورة إلى معناها، وقد يخلف،
7
فالوهم حاكم فى الحيوان يحتاج فى أفعاله إلى طاعة هذه القوى
8
له، وأكثر ما يحتاج إليه هو الذكر والحسّ، وأما المصورة فيحتاج
9
إليها بسبب الذكر والتذكر، والذكر قد يوجد فى سائر الحيوانات،
10
وأما التذكر وهو الاحتيال لاستعادة ما اندرس فلا يوجد على ما أظن
11
إلّا فى الإنسان، وذلك لأن الاستدلال على أن شيئا كان ففات
12
إنما يكون للقوة النطقية، وإن كان لغير النطقية فعسى أن يكون
13
للوهم المزين بالنطق، فسائر الحيوانات إن ذكرت ذكرت، وإن لم
14
تذكر لم تشتق إلى التذكر، ولم يخطر لها ذلك بالبال، بل إن
15
هذا الشوق والطلب هو للإنسان، والتذكر هو مضاف إلى أمر كان
16
موجودا فى النفس فى الزمان الماضى، ويشاكل التعلم من جهة ويخالفه
17
من جهة، أما مشاكلته للتعلم فلأن التذكر انتقال من أمور تدرك
18
لها أيضا الصورة المحسوسة النافعة والضارة والمعنى الذى فى الذكر
186
1
ظاهرا أو باطنا إلى أمر غيرها، وكذلك التعلم، فإنه أيضا انتقال من
2
معلوم إلى مجهول ليعلم، لكن التذكر هو طلب أن يحصل فى
3
المستقبل مثل ما كان حاصلا فى الماضى، والتعلم ليس إلّا أن
4
يحصل فى المستقبل شىء آخر، وأيضا فإن التذكر ليس يصار إلى
5
الغرض فيه من أشياء توجب حصول الغرض ضرورة، بل على سبيل
6
علامات إذا حصل أقربها من الغرض انتقل النفس إلى الغرض فى مثل
7
تلك الحال، ولو كانت الحال غير ذلك لم يجب ــ وإن أخطر صورة
8
الأقرب أو معناه ــ أن تنتقل، كمن يخطر بباله كتاب بعينه فتذكر
9
منه معلمه الذى قرأ عليه ذلك الكتاب، وليس يجب من إخطار
10
صورة ذلك الكتاب بالبال وإخطار معناه أن يخطر ذلك المعلم بالبال
11
لكل إنسان، وأما العلم فإن السبيل الموصلة إليه ضرورية النقل
12
إليه، وهو القياس والحد،
13
ومن الناس من يكون التعلم أسهل عليه من التذكر لأنه
14
يكون مطبوعا على ضروريات النقل، ومن الناس من يكون بالعكس،
15
ومن الناس من يكون شديد الذكر ضعيف التذكر، وذلك لأنه
16
يكون يابس المزاج فيحفظ ما يأخذه، ولا يكون حرك النفس
17
مطاوع المادة لأفعال التخيل واستعراضاته، ومن الناس من يكون
18
بالعكس، وأسرع الناس تذكرا أفطنهم للإشارات، فإن الإشارات
19
تفعل نقلا عن المحسوسات إلى معان غيرها، فمن كان فطنا فى
20
الإشارات كان سريع التذكر، ومن الناس من يكون قوى الفهم
21
ولكن يكون ضعيف الذكر، ويكاد أن يكون الأمر فى الفهم والذكر
22
بالتضاد، فإن الفهم يحتاج إلى عنصر للصور الباطنة شديد الانطباع
187
1
وإنما تعين عليه الرطوبة، وأما الذكر فيحتاج إلى مادة يعسر
2
انفساخ ما يتصور فيها ويتمثل، وذلك يحتاج إلى مادة يابسة،
3
فلذلك يصعب اجتماع الأمرين، فأكثر من يكون حافظا هو الذى
4
لا تكثر حركاته ولا تتفنن هممه، ومن كان كثير الهمم كثير
5
الحركات لم يذكر جيدا، فيحتاج الذكر مع المادة المناسبة إلى أن
6
تكون النفس مقبلة على الصورة وعلى المعنى المستثبتين إقبالا
7
بالحرص غير مأخوذة عنهما بأشغال أُخرى، ولذلك فإن الصبيان
8
مع رطوبتهم يحفظون جيدا لأن نفوسهم غير مشغولة بما تشتغل
9
به نفوس البالغين، فلا تذهل عما هى مقبلة عليه بغيره، وأما
10
الشبان فلحرارتهم واضطراب حركاتهم مع يبس مزاجهم لا يكون
11
ذكرهم كذكر الصبيان والمترعرعين، والمشائخ أيضا يعرض لهم
12
من الرطوبة الغالبة أن لا يذكروا ما يشاهدون،
13
وقد يعرض مع التذكر من الغم والغضب والحزن وغير ذلك ما
14
يشاكل حال وقوع الشىء، وذلك أنه لم يكن سبب الغم والغضب
15
والحزن فيما مضى إلّا انطباع هذه الصورة فى باطن الحواسّ، فإذا
16
عادت فعلت ذلك أو قريبا منه، والأمانى والرجاء أيضا تفعل ذلك،
17
والرجاء غير الأمنية، فإن الرجاء تخيل أمر ما مع حكم أو ظن بأنه
18
فى الأكثر كائن، والأمنية تخيل أمر وشهوته والحكم بالتذاذ
19
يكون إن كان، والخوف يقابل الرجاء على سبيل التضاد واليأس
20
عدمه، وهذه كلها أحكام للوهم،
188
1
فلنقتصر الآن على ما قلناه من أمر القوى المدركة الحيوانية ولنبيّن
2
أنها كلها تفعل أفعالها بآلات، فنقول أما المدرك من القوى للصور
3
الجزئية الظاهرة على هيئة غير تامة التجريد والتفريد عن المادة ولا
4
مجردة أصلا عن علائق المادة كما تدرك الحواسّ الظاهرة فالأمر
5
فى احتياج إدراكه إلى آلات جسمانية واضح سهل وذلك لأن هذه
6
الصور إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة، والجسم الحاضر
7
فى احتياج إدراهك إلى آلات جسمانية واضح سهل وذلك لأن هذه
8
مرة وغائبا أُخرى عندما ليس بجسم، فإنه لا نسبة له إلى قوة مفردة
9
من جهة الحضور والغيبة، فإن الشىء الذى ليس فى مكان لا يكون
10
للشىء المكانى إليه نسبة فى الحضور عنده والغيبة عنه، بل الحضور
11
لا يقع إلّا على وضع وبعد للحاضر عند المحضور، وهذا لا يمكن
12
إذا كان الحاضر جسما إلّا أن يكون المحضور جسما أو فى جسم، وأما
13
المدرك للصور الجزئية على تجريد تام من المادة وعدم تجريد البتة
14
من العلائق المادية كالخيال فيحتاج أيضا إلى آلة جسمانية، فإن
15
الخيال لا يمكنه أن يتخيل إلّا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه فى
16
جسم ارتساما مشتركا بينه وبين الجسم، فإن الصورة المرتسمة
17
فى الخيال من صورة شخص زيد على شكله وتخطيطه ووضع أعضائه
18
بعضها عند بعض التى تتميز فى الخيال كالمنظور إليها لا يمكن
189
1
أن تتخيل على ما هى عليه إلّا أن تلك الأجزاء والجهات من
2
أعضائه يجب أن ترتسم فى جسم وتختلف جهات تلك الصورة فى
3
جهات ذلك الجسم وأجزاءها فى أجزاءه،
4
ولننقل صورة زيد إلى صورة مربع اب ج د المحدود المقدار
5
والجهة والكيفية واختلاف الزوايا
6
بالعدد، وليكن متصلا بزاويتى .ا ب.
7
منه مربعان كل واحد منهما مثل
8
الآخر، ولكل واحد جهة معينة
9
ولكنهما متشابها الصورة، وترتسم
10
من الجملة صورة شكل مجنح
11
جزئى واحد بالعدد مقرّر فى
12
الخيال، فنقول إن مربع .ا ه ر و. وقع غيرا بالعدد لمربع .ب ح ط ى.
13
ووقع فى الخيال بجانب اليمين منه ومتميزا عنه بالوضع المتخيل
14
المشار إليه فى الخيال، فلا يخلوا إما أن يكون لصورة المربعية
15
لذاتها أو لعارض خاص له فى المربعية غير صورة المربعية أو يكون
16
للمادة التى هى تنطبع فيها،
17
ولا يجوز أن تكون مغايرته له من جهة صورة المربعية، وذلك
18
لأنا فرضناهما متشاكلين متشابهين متساويين، ولا يجوز أن يكون
19
ذلك لعارض يخصه، أما أولا فإنا لا نحتاج فى تخيله يمينا
20
إلى إيقاع عارض فيه ليس فى ذلك غير جهات المادة، وأما ثانيا فإن
190
1
ذلك العارض إما أن يكون شيئا فيه نفسه لذاته أو يكون شيئا له
2
بالقياس إلى ما هو شكله فى الموجودات حتى يكون كأنه شكل منزوع
3
عن موجود هو لهذا الخيال، أو يكون شيئا له بالقياس إلى المادة
4
الحاملة، ولا يجوز أن يكون شيئا له فى نفسه من العوارض التى
5
تخصه لأنه إما أن يكون لازما أو زائلا، ولا يجوز أن يكون لازما
6
له بالذات إلّا وهو لازم لمشاركه فى النوع، فإن المربعين وضعا
7
متساويين فى النوع، فلا يكون لهذا عارض لازم ليس لذلك، وأيضا
8
فإنه لا يجوز إن كان هو فى قوة غير متجزئة تجزؤ القوى الجسمانية
9
أن يعرض له شىء دون الآخر الذى هو مثله ومحلهما واحد غير
10
متجزىء[*]متجزىء Middle Arabic for متجزئ وهو القوة القابلة، ولا يجوز أن يكون زائلا لأنه يجب
11
إذا زال ذلك الأمر أن تتغير صورته فى الخيال، فيكون الخيال إنما
12
يتخيله كما هو لأنه يقرن به ذلك الأمر فإذا أزاله تغير، والخيال
13
إنما يتخيله هكذا لا بسبب شىء يقرنه به، بل يتخيله كذلك كيف
14
كان، ولا إلى الخيال أن يلحق بالآخر هذا العارض فيجعله كالأول،
15
بل ما دام موجودا فيه يكون كذلك ويعتبره الخيال كذلك من غير
16
التفات إلى أمر آخر يقرنه به،
17
ولهذا لا يجوز أن يقال إن فرض الفارض جعله بهذه الحال كما
18
يجوز أن يقال فى مثله فى المعقول، وذلك أن الكلام يبقى بحاله
191
1
فيقال: ما الذى فعله الفارض حتى خصصه بهذه الحال متميزا عن
2
الثانى؟ وأما فى الكلى فهناك أمر يقرنه به العقل، وهو حد التيامن
3
أو حد التياسر، فإذا قرن بمربع حد التيامن صار بعد ذلك متيامنا،
4
والحد إنما يكون لأمر معقول كلى وفى مثله يصح لأنه أمر فرضى
5
يتبع الفرض فى التصور، وأما هذا الجزئى الذى ليس يكون بالفرض
6
بل إنما تتصور فى الخيال صورة عن محسوس من غير اختلاف
7
فتثبت منظورا إليها متخيلة بعينها فليس يمكن أن يوجد لها هذا الحد
8
دون صاحبتها إلّا لأمر به تستحق زيادة هذا الحد دون صاحبتها،
9
ولا الخيال يفرضها كذلك بشرط يقرنه بها بل يتخيلها كذلك دفعة
10
على أنها فى نفسها كذلك لا بفرضها، فيتخيل هذا المربع يمينا وذلك
11
يسارا لا بسبب شرط يقرن بذلك وبهذا وبعد لحوقه يفرض ذلك
12
يمينا وهذا يسارا، وأما فى صقع العقل فإن حد التيامن وحد التياسر
13
يلحق المربع ــ وهو مربع لم يعرض له شىء آخر ــ لحوق الكلى
14
بالكلى، فإنه يجوز أن يثبت فى العقل كلى من غير إلحاق شىء
15
به، ويكون معدا لأن يلحق به ما يلحق، وأما الخيال فما لم
16
يتشخص المعنى فيه بما يتشخص به لم يتمثل للخيال، فلذلك
192
1
يجوز أن يكون فى سلطان العقل أن يقرن معنى بمعنى على سبيل
2
الفرض، وأما الخيال فما لا يقع للمتمثل فيه أولا وضع محدود جزئى
3
لم يرتسم فى الخيال ولا كان شيئا يجرى عليه فرض،
4
فقد بطل أن يكون هذا التميز بسبب عارض فى ذاته لازم أو
5
غير لازم فى ذاته أو مفروض، فنقول ولا يجوز أن يكون ذلك بالقياس
6
إلى الشىء الموجود الذى هو خياله، وذلك لأنه كثيرا ما يتخيل
7
ما ليس بموجود، وأيضا فإن وقع لأحد المربعين نسبة إلى جسم
8
وللمربع الآخر نسبة أُخرى فليس يجوزأن تقع ومحلهما غير منقسم،
9
فإنه ليس أحد المربعين الخياليين أولى بأن ينسب إلى أحد المربعين
10
الخارجين من الآخر، إلّا أن يكون قد وقع هذا فى نسبة من الجسم
11
الموضوع له الحامل إياه إلى أحد الخارجين لا يقع الآخر فيها،
12
فيكون إذًا محل هذا غير محل ذلك، وتكون القوة منقسمة، ولا
13
تنقسم بذاتها بل بانقسام ما هى فيه، فتكون جسمانية وتكون
14
الصورة مرتسمة فى جسم، فليس يصح أن يفترق المربعان فى الخيال
15
لافتراق المربعين الموجودين وبالقياس إليهما، فبقى أن يكون ذلك
16
إما بسبب افتراق الجزئين فى القوة القابلة أو الجزئين من الآلة
17
التى بها تفعل القوة، وكيف كان فإن الحاصل من هذا القبيل
18
أن الإدراك إنما يتم بقوة متعلقة بمادة جسمانية، فقد اتضح أن
19
الإدراك الخيالى هو أيضا إنما يتم بجسم،
193
1
ومما يبيّن ذلك أنّا نتخيل الصورة الخيالية كصورة الناس مثلا
2
أصغر أو أكبر كأنّا ننظر إليهما، ولا محالة أنها ترتسم وهى أكبر
3
وترتسم وهى أصغر فى شىء لا فى مثل ذلك الشىء بعينه، لأنها
4
إذا ارتسمت فى مثل ذلك الشىء فالتفاوت فى الصغر والكبر إما أن
5
يكون بالقياس إلى المأخوذ عنه الصورة وإما بالقياس إلى الآخذ
6
وإما لنفس الصورتين، وليس يجوز أن يكون بالقياس إلى المأخوذ
7
عنه الصورة، فكثير من الصور الخيالية غير مأخوذة عن شىء
8
البتة، وربما كان الصغير والكبير صورة شخص واحد، ولا يجوز أن
9
يكون بسبب الصورتين فى أنفسهما، فإنهما لما اتفقتا فى الحد
10
والماهية واختلفتا فى الصغر والكبر فليس ذلك لنفسيهما، فإذن ذلك
11
بالقياس إلى الشىء القابل ولأن الصورة تارة ترتسم فى جزء منه
12
أكبر وتارة فى جزء منه أصغر،
13
وأيضا فإنه ليس يمكننا أن نتخيل السواد والبياض فى شبح خيالى
14
واحد ساريين فيه معا، ويمكننا ذلك فى جزئين منه يلحظهما الخيال
15
مفترقين، ولو كان الجزآن لا يتميزان فى الوضع بل كان كلا الخيالين
16
يرتسمان فى شىء غير منقسم لكان لا يفترق الأمر بين المتعذر منهما
17
والممكن، فإذن الجزآن متميزان فى الوضع، والخيال يتخيلهما متميزين
18
فى جزئين، فإن قال قائل وكذلك العقل فنجيبه ونقول إن العقل
19
يعقل السواد والبياض معا فى زمان واحد من حيث التصور، وأما
20
من حيث التصديق فيمتنع أن يكون موضوعهما واحدا، وأما الخيال
21
فلا يتخيلهما معا لا على قياس التصور ولا على قياس التصديق، على أن
22
فعل الخيال إنما هو على قياس التصور لا غير ولا فعل له فى غيره،
194
1
ولما علمت هذا فى الخيال فقد علمت فى الوهم الذى ما يدركه
2
إنما يدركه متعلقا بصورة جزئية خيالية على ما أوضحنا،
3
فصل ٤
4
(فى أحوال القوى المحركة وضرب من النبوة المتعلقة بها)
5
وإذ قلنا فى القوى المدركة من قوى النفس الحيوانية فخليق بنا
6
أن نتكلم فى القوى المحركة منها، فنقول إن الحيوان ما لم
7
يشتق اشتياقا إلى شىء شعر باشتياقه أو تخيله أو لم يشعر به لم
8
ينبعث إلى طلبه بالحركة، وليس ذلك الشوق هو لشىء من القوى
9
المدركة، فليس لتلك القوى إلّا الحكم والإدراك، وليس يجب إذا
10
حكم أو أدرك بحسّ أو وهم أن يشتاق ذلك الشىء، فإن الناس
11
يتفقون فى إدراك ما يحسّون ويتخيلون من حيث يحسّون ويتخيلون
12
لكن يختلفون فيما يشتاقون إليه مما يحسّون ويتخيلون، والإنسان
13
الواحد قد يختلف فى ذلك حاله، فإنه يتخيل الطعام فيشتاقه فى
14
وقت الجوع ولا يشتاقه فى وقت الشبع، وأيضا فإن الحسن الأخلاق
15
إذا تخيل اللذات المستكرهة لم يشتقها والآخر يشتاقها، وليس
16
هذان الحالان للإنسان وحده بل وللحيوانات كلها،
195
1
والشوق قد يختلف، فمنه ما يكون ضعيفا بعد ومنه ما يشتد
2
حتى يوجب الإجماع، والإجماع ليس هو الشوق، فقد يشتد
3
الشوق إلى الشىء ولا يجمع على الحركة البتة كما أن التخيل
4
يقوى فلا يشتاق إلى ما يتخيل، فإذا صح الإجماع أطاعت القوى
5
المحركة التى ليس لها إلّا تشنج العضل وإرسالها، وليس هذا
6
نفس الشوق ولا الإجماع، فإن الممنوع من الحركة لا يكون
7
ممنوعا من شدة الشوق ومن الإجماع لكنه لا يجد طاعة من
8
القوى الأُخرى التى لها أن تحرك فقط، وهى التى فى العضل
9
وهذه القوة الشوقية من شعبها القوة الغضبية والقوة الشهوانية، فالتى
10
تنبعث مشتاقة إلى اللذيذ والمتخيل نافعا لتجلبه هى الشهوانية،
11
والتى تنبعث مشتاقة إلى الغلبة وإلى المتخيل منافيا لتدفعه فهى
12
الغضبية، وقد نجد فى الحيوانات انبعاثات لا إلى شهواتها بل مثل
13
نزاع التى ولدت إلى ولدها والذى ألف إلى إلفه، وكذلك اشتياقها
14
إلى الانفلات من الأقفاص والقيود، فهذا وإن لم يكن شهوة للقوة
15
الشهوانية فإنه اشتياق ما إلى شهوة للقوة الخيالية، فإن القوة
16
المدركة تخصها فيما تدرك وفيما تنقلب فيه من الأمور التى تتجدد
17
بالمشاهدة أو من الصور مثلا لذّة تخصها، فإذا تألمت بفقدانها
18
اشتاقت إليها طبعا، فأجمعت القوة الإجماعية على أن تحرك إليها
19
الآلات كما تجمع لأجل الشهوة والغضب ولأجل الجميل من
20
المعقولات أيضا، فيكون للشهوة اشتداد الشوق إلى اللذيذ وللقوة
21
النزوعية الإجماع، وللغضب اشتداد الشوق إلى الغلبة وللقوة
22
النزوعية الإجماع، وكذلك للتخيل أيضا ما يخصه وللقوة النزوعية
23
الإجماع،
196
1
والخوف والغم والحزن من عوارض القوة الغضبية بمشاركة من
2
القوى الدراكة، فإنها إذا انخزلت اتباعا لتصور عقلى أو خيالى
3
كان خوف، وإن لم تخف قويت ويعرض لها الغم من الذى
4
يوجب الغضب إذا كان غير مقدور على دفعه أو كان مخوفا
5
وقوعه، والفرح الذى من باب الغلبة فإنه غاية لهذه القوة
6
أيضا، والحرص والنهم والشبق وما أشبه ذلك فهى للقوة البهيمية
7
الشهوانية، والاستيناس والسرور من عوارض القوى الدراكة، وأما
8
القوى الإنسانية فيعرض لها أحوال تخصها سنتكلم فيها بعد، والقوة
9
الإجماعية تبع للقوى المذكورة فإنها إذا اشتد نزاعها أجمعت،
10
وهى كلها تتبع أيضا القوى الوهمية، وذلك أنه لا يكون شوق
11
البتة إلّا بعد توهم المشتاق إليه، وقد يكون وهم ولا يكون
12
شوق، لكنه قد يتفق أحيانا لآلام بدنية تتحرك الطبيعة إلى
13
دفعها أن توجب تلك الحركة انبعاث التوهم فتكون تلك القوى
14
سائقة للتوهم إلى مقتضاها كما أن التوهم فى أكثر الأمر
15
يسوق القوى إلى المتوهم، فالوهم له السلطان فى حيز القوى
16
المدركة فى الحيوانات والشهوة والغضب لهما السلطان فى حيز
197
1
القوى المحركة، وتتبعهما القوة الإجماعية، ثم القوة المحركة
2
التى فى العضل،
3
فنقول الآن إن هذه الأفعال والأعراض هى من العوارض التى
4
تعرض للنفس وهى فى البدن، ولا تعرض بغير مشاركة البدن،
5
ولذلك فإنها تستحيل معها أمزجة الأبدان وتحدث هى أيضا مع
6
حدوث أمزجة الأبدان، فإن بعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للغضب
7
وبعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للشهوة وبعض الأمزجة يتبعه
8
الجبن والخوف، ومن الناس من تكون سجيته سجية مغضب فيكون
9
سريع الغضب، ومن الناس من يكون كأنه مذعور مرعوب فيكون
10
جبانا مسرعا إليه الرعب، فهذه الأحوال لا تكون إلّا بمشاركة
11
البدن، والأحوال التى للنفس بمشاركة البدن على أقسام، منها
12
ما يكون للبدن أولا ولكن لأجل أنه ذو نفس، ومنها ما يكون للنفس
13
أولا ولكن لأجل أنها فى بدن، ومنها ما يكون بينهما بالسوية،
14
فالنوم واليقظة والصحة والمرض أحوال هى للبدن ومباديها منه،
15
فهى له أولا، ولكن إنما هى للبدن بسبب أن له نفسا، وأما
16
التخيل والشهوة والغضب وما يجرى هذا المجرى فإنه للنفس
17
من جهة ما هى ذات بدن وللبدن من جهة أنها لنفس البدن أولا
18
وإن كان من جهة ما النفس ذو بدن ــ لست أقول من قبل
19
البدن، وكذلك الغم والهم والحزن والذكر وما أشبه ذلك،
20
فإن هذه ليس فيها ما هو عارض للبدن من حيث هو بدن، ولكن
198
1
هذه أحوال شىء مقارن للبدن لا تكون إلّا عند مقارنة البدن، فهى
2
للبدن من قبل النفس إذ هى للنفس أولا وإن كانت للنفس من قبل
3
ما هو ذو بدن ــ لست أقول من قبل البدن، وأما الألم من
4
الضرب ومن تغير المزاج فإن العارض فيه موجود فى البدن لأن
5
تفرق الاتصال والمزاج من أحوال البدن من جهة ما هو بدن
6
وأيضا موجود فى الحسّ الذى يحسّه من جهة ما يحسّه ولكنه
7
بسبب البدن، ويشبه أن يكون الجوع والشهوة من هذا القبيل،
8
والخوف والغضب والغم فإن الانفعال الذى تعرض به يعرض أولا
9
للنفس، وليس الغضب أو الغم من حيث هو غضب أو غم انفعالا
10
من الانفعالات المؤلمة للبدن وإن كان يتبعه انفعال بدنى مؤلم للبدن
11
مثل اشتعال حرارة أو خمودها وغير ذلك، فإن ذلك ليس نفس
12
الغضب والغم بل أمرا يتبع الغضب والغم، ونحن لا نمنع أن
13
يكون أمر الأخلق به أن يكون للنفس من حيث هو فى بدن ثم
14
يتبعه فى البدن انفعالات خاصة بالبدن، فإن التخيل أيضا من حيث
15
كونه إدراكا ليس من الانفعالات التى تكون للبدن بالقصد الأول،
16
ثم قد يعرض من التخيل أن ينتشر بعض الأعضاء، وليس ذلك بسبب
17
طبيعى أوجب أن مزاجا قد استحال وحرارة قويت وبخارا تكون ونفذ
18
فى العضو حتى نشره، بل لما حصلت صورة فى وهم أوجبت الاستحالة
19
فى مزاج وحرارة ورطوبة وريحا، ولولا تلك الصورة لم يكن فى
20
الطبيعة ما يحركها،
199
1
ونحن نقول بالجملة إن من شأن النفس أن يحدث منه فى
2
العنصر البدنى استحالة مزاج تحدث من غير فعل وانفعال جسمانى،
3
فتحدث حرارة لا عن حار وبرودة لا عن بارد، بل إذا تخيلت
4
النفس خيالا وقوى فى النفس لم يلبث أن يقبل العنصر البدنى
5
صورة مناسبة لذلك أو كيفية، وذلك لأن النفس من جوهر بعض
6
المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ التى هى تلبس المواد ما فيها من الصور المقومة لها إذ
7
هى أقرب مناسبة لذلك الجوهر من غيره، وذلك إذا استتم استعدادها
8
لها، وأكثر استعداداتها إنما تكون بسبب استحالات فى الكيف كما
9
قلنا فيما سلف، وإنما تستحيل فى الأكثر عن أضداد تحيلها، فإذا
10
كانت هذه المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ قد تكسوا العنصر صورة مقومة لنوع طبيعى لنسبة
11
ما تتقرّر بينهما فلا يبعد أيضا أن تكسوها الكيفيات من غير
12
حاجة إلى أن يكون هناك مماسة وفعل وانفعال جسمانى يصدر عن
13
مضادة، بل الصورة التى فى النفس هى مبدأ لما يحدث فى
14
العنصر، كما أن الصورة الصحية التى فى نفس الطبيب مبدأ لما
15
يحدث من البرء وكذلك صورة السرير فى ذات النجار، لكنه من
16
المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ التى لا تنساق إلى إصدار ما هى موجبة له إلّا بآلات
17
ووسائط، وإنما تحتاج إلى هذه الآلات لعجز وضعف، وتأمل حال
18
المريض الذى توهم أنه قد صح والصحيح الذى توهم أنه مرض،
19
فإنه كثيرا ما يعرض من ذلك أن يكون إذا تأكدت الصورة فى
20
نفسه وفى وهمه انفعل منها عنصره فكانت الصحة أو المرض، ويكون
200
1
ذلك أبلغ مما يفعله الطبيب بآلات ووسائط، ولهذا السبب ما يمكن
2
الإنسان مثلا أن يعدو على جذع ملقى فى القارعة من الطريق، وإن
3
كان موضوعا كالجسر وتحته هاوية لم يجسر أن يمشى عليه دبيبا
4
إلّا بالهوينا لأنه يتخيل فى نفسه صورة السقوط تخيلا قويا جدا
5
فتجيب إلى ذلك طبيعته وقوة أعضائه ولا تجيب إلى ضده من الثبات
6
والاستمرار، فالصور إذا استحكم وجودها فى النفس وعتقاد أنها
7
يجب أن توجد فقد يعرض كثيرا أن تنفعل عنها المادة التى من
8
شأنها أن تنفعل عنها وتكوّن، فإن كان ذلك فى النفس الكلية التى
9
للسماء والعالم جاز أن يكون مؤثرا فى طبيعة الكل، وإن كان فى
10
نفس جزئية جاز أن يؤثر فى الطبيعة الجزئية،
11
وكثيرا ما تؤثر النفس فى بدن آخر كما تؤثر فى بدن نفسها تأثير
12
العين العاينة والوهم العامل، بل النفس إذا كانت قوية شريفة
13
شبيهة بالمبادى أطاعها العنصر الذى فى العالم وانفعل عنها ووجد
14
فى العنصر ما يتصور فيها، وذلك لأن النفس الإنسانية سنبيّن أنها
15
غير منطبعة فى المادة التى لها لكنها متصرفة الهمة إليها، فإن كان
16
هذا الضرب من التعلق يجعل لها أن تحيل العنصر البدنى عن
17
مقتضى طبيعته فلا بدع أن تكون النفس الشريفة القوية جدا تجاوز
18
بتأثيرها ما يختص بها من الأبدان إذا لم يكن انغماسها فى الميل
19
إلى ذلك البدن شديدا قويا، وكانت مع ذلك عالية فى طبقتها
20
قوية فى ملكتها جدا، فتكون هذه النفس تبرىء المرضى وتمرض
21
الأشرار، ويتبعها أن تهدم طبائع وأن تؤكد طبائع، وأن تستحيل
201
1
لها العناصر، فيصير غير النار نارا وغير الأرض أرضا، وتحدث
2
بإرادتها أمطار وخصب كما يحدث خسف ووباء كل بحسب الواجب
3
العقلى، وبالجملة فإنه يجوز أن يتبع إرادته وجود ما يتعلق باستحالة
4
العنصر فى الأضداد، فإن العنصر بطبعه يطيعه ويتكون فيه ما يتمثل
5
فى إرادته إذ العنصر بالجملة طوع للنفس، وطاعته لها أكثر من
6
طاعته للأضداد المؤثرة فيه، وهذه أيضا من خواص القوى النبوية،
7
وقد كنّا ذكرنا خاصية قبل هذه تتعلق بقواها المتخيلة، وتلك خاصية
8
تتعلق بالقوى الحيوانية المدركة، وهذه خاصية تتعلق بالقوى
9
الحيوانية المحركة الإجماعية من نفس النبى العظيم النبوة،
10
فنقول إنه لما تبيّن أن جميع القوى الحيوانية لا فعل لها إلّا
11
بالبدن، ووجود القوى أن تكون بحيث تفعل، فالقوى الحيوانية إذًا
12
إنما تكون بحيث تفعل وهى بدنية، فوجودها أن تكون بدنية، فلا
13
بقاء لها بعد البدن، وقد تكلمنا فى كتبنا الطبية فى سبب استعدادات
14
الأشخاص المختلفة بجبلتها وبحسب اختلاف أحوالها للفرح والغم
15
والغضب والحلم والحقد والسلامة وغير ذلك كلاما لا يوجد
16
للمتقدمين ما يجرى مجراه فى تفصيله وتحصيله، ،فليقرأ من هناك،
202
1
المقالة الخامسة
2
فصل ١
3
(فى خواص الأفعال والانفعالات التى للإنسان وبيان قوى النظر
4
والعمل للنفس الإنسانية)
5
قد فرغنا من القول فى القوى الحيوانية أيضا فحرى بنا أن نتكلم
6
الآن فى القوى الإنسانية، فنقول إن الإنسان له خواص أفعال تصدر
7
عن نفسه ليست موجودة لسائر الحيوان، وأول ذلك أنه لما كان
8
الإنسان فى وجوده المقصود فيه يجب أن يكون غير مستغن فى
9
بقائه عن المشاركة ولم يكن كسائر الحيوانات التى يقتصر كل
10
واحد منها فى نظام معيشته على نفسه وعلى الموجودات فى الطبيعة
11
له، وأما الإنسان الواحد فلو لم يكن فى الوجود إلّا هو وحده
12
وإلّا الأمور الموجودة فى الطبيعة لهلك أو لساءت معيشته أشد
13
سوء، وذلك لفضيلته ونقيصة سائر الحيوان على ما ستعلمه فى
14
مواضع أُحرى، بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما فى الطبيعة
15
مثل الغذاء المعمول واللباس المعمول، والموجود فى الطبيعة من
16
الأغذية ما لم تدبر بالصناعات فإنها لا تلائمه ولا تحسن معها
17
معيشته، والموجود فى الطبيعة من الأشياء التى يمكن أن تلبس
18
أيضا فقد تحتاج أن تجعل بهيئة وصفة حتى يمكنه أن يلبسها، وأما
19
الحيوانات الأُخرى فإن لباس كل واحد معه فى الطباع، فلذلك
20
يحتاج الإنسان أول شىء إلى الفلاحة وكذلك إلى صناعات أُخرى
203
1
لا يتمكن الإنسان الواحد من تحصيل كل ما يحتاج إليه من ذلك
2
بنفسه بل بالمشاركة، حتى يكون هذا يخبز لذاك وذاك ينسج
3
لهذا وهذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك وذلك يعطيه بإزاء
4
ذلك شيئا من قريب،
5
فلهذه الأسباب ولأسباب أُخرى أخفى وآكد من هذه ما احتاج
6
الإنسان أن تكون له فى طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذى هو
7
شريكه ما فى نفسه بعلامة وضعية، وكان أخلق ما يصلح لذلك
8
هو الصوت لأنه ينشعب إلى حروف تتركب منها تراكيب كثيرة
9
من غير مؤونة تلحق البدن، ويكون شيئا لا يثبت ولا يبقى فيؤمن
10
وقوف من لا يحتاج إلى شعوره عليه، وبعد الصوت الإشارة فإنها
11
كذلك إلّا أن الصوت أدل من الإشارة لأن الإشارة إنما تهدى من
12
حيث يقع عليها البصر، وذلك يكون من جهة مخصوصة
13
ويحتاج أن يكلف المراد إعلامه أن يحرك حدقته إلى جهة مخصوصة
14
حركات كثيرة يراعى بها الإشارة، وأما الصوت فقد تغنى الاستعانة
15
به عن أن يكون من جهة مخصوصة وتغنى أيضا عن أن يراعى
16
بحركات، ومع ذلك فليس يحتاج فى أن يدرك إلى متوسط كما لا
17
بحتاج اللون إليه لا كحاجة الإشارات، فجعلت الطبيعة للنفس أن
18
تؤلف من الأصوات ما يتوصل به إلى إعلام الغير، وفى الحيوانات
19
الأُخرى أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال فى نفسها لكن تلك
204
1
الأصوات إنما تدل بالطبع وعلى جملة من الموافقة أو المنافرة
2
غير محصلة ولا مفصلة، والذى للإنسان فهو بالوضع، وذلك لأن
3
الأغراض الإنسانية تكاد أن لا تتناهى فما كان يمكن أن تطبع هى
4
على أصوات بلا نهاية، فمما يختص بالإنسان هذه الضرورة الداعية
5
إلى الإعلام والاستعلام لضرورة داعية إلى الأخذ والإعطاء بقدر عدل
6
ولضرورات أُخرى، ثم اتخاذ المجامع واستنباط الصنائع، وللحيوانات
7
الأُخرى وخصوصا للطير صناعات أيضا فإنها تصنع بيوتا ومساكن لا
8
سيما النحل، لكن ذلك ليس مما يصدر عن استنباط وقياس بل
9
عن إلهام وتسخير، ولذلك ليس مما يختلف ويتنوع، وأكثرها
10
لصلاح أحوالها وللضرورة النوعية ليست للضرورة الشخصية، والذى
11
للإنسان فكثير منه للضرورة الشخصية وكثير لصلاح حال
12
الشخص بعينه،
13
ومن خواص الإنسان أنه يتبع إدراكاته للأشياء النادرة انفعال
14
يسمى التعجب ويتبعه الضحك، ويتبع إدراكه للأشياء المؤذية
15
انفعال يسمى الضجر ويتبعه البكاء، ويخصه فى المشاركة أن
16
المصلحة تدعوا إلى أن يكون فى جملة الأفعال التى من شأنه أن
17
يفعلها أفعال لا ينبغى له أن يفعلها، فيعلم ذلك صغيرا وينشأ
18
عليه ويكون قد تعود منذ صباه سماع أن تلك الأفعال ينبغى أن لا
19
يفعلها حتى صار هذا الاعتقاد له كالغريزى، وأفعال أُخرى بخلاف
20
ذلك، وتسمى الأولى قبيحة والأُخرى جميلة، وليس يكون للحيوانات
21
الأُخرى ذلك، فإن كانت الحيوانات الأُخرى تترك أفعالا لها أن
205
1
تفعلها مثل أن الأسد المعلم لا يأكل صاحبه ولا ياكل ولده فليس
2
سبب ذلك اعتقاد فى النفس ورأى ولكن هيئة أُخرى نفسانية
3
وهى أن كل حيوان يؤثر بالطبع وجود ما يلذه وبقاءه وأن الشخص
4
الذى يمونه ويطعمه قد صار لذيذا له لأن كل نافع لذيذ بالطبع
5
عند المنفوع، فيكون المانع عن فرسه ليس اعتقادا بل هيئة
6
وعارضا نفسانيا آخر، وربما وقع هذا العارض فى الجبلة ومن الإلهام
7
الإلهى كحب كل حيوان ولده من غير اعتقاد البتة، بل على نوع
8
تخيل بعض الإنسان لشىء نافع أو لذيذ ونفرته عنه إذا كان فى
9
صورته ما ينفر عنه، والإنسان قد يتبع شعوره بشعور غيره أنه
10
فعل شيئا من الأشياء التى قد أجمع على أنه لا ينبغى أن يفعلها
11
انفعال نفسانى يسمى الخجل، وهذا أيضا من خواص الناس، وقد
12
يعرض للإنسان انفعال نفسانى بسبب ظنه أن أمرا فى المستقبل يكون
13
مما يضرّه وذلك يسمى الخوف، والحيوانات الأُخرى إنما يكون
14
ذلك لها بحسب الآن فى غالب الأمر أومتصلا بالآن، وللإنسان
15
بإزاء الخوف الرجاء، ولا يكون للحيوانات الأُخرى إلّا متصلا بالآن،
16
ولا يكون فيما يبعد من الآن من الزمان ذلك، والذى تفعله من
17
الاستظهار فليس ذلك لأنها تشعر بالزمان وما يكون فيه، بل ذلك
206
1
أيضا ضرب من الإلهام، والذى تفعله النمل من نقل الميرة إلى
2
جِحَرَتها منذرة بمطر يكون فلأنها تتخيل أن ذلك هو ذا يكون
3
فى هذا الوقت كما أن الحيوان يهرب عن الضد لما يتخيل من
4
أنه هو ذا يريد أن يضربه فى الوقت، ويتصل بهذا الجنس ما
5
للإنسان أن يروى فيه من الأمور المستقبلة أنه هل ينبغى له
6
أن يفعلها أو لا ينبغى، فيفعل ما يصح أن توجب رويته أن
7
لا يفعله وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما روى ولا يفعل ما
8
يصح أن توجب رويته أن يفعل وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل
9
ما روى، وسائر الحيوانات إنما يكون لها من الإعدادات للمستقبل
10
ضرب واحد مطبوع فيها وافقت عاقبتها أو لم توافق،
11
وأخص الخواص بالإنسان تصور المعانى الكلية العقلية المجردة
12
عن المادة كل التجريد على ما حكيناه وبيناه، والتوصل إلى معرقة
13
المجهولات تصديقا وتصورا من المعلومات العقلية، فهذه الأفعال
14
والأحوال المذكورة هى مما يوجد للإنسان، وجلها يختص به
15
الإنسان، وإن كان بعضها بدنيا ولكنه موجود لبدن الإنسان بسبب
16
النفس التى للإنسان التى ليست لسائر الحيوان، بل نقول إن
17
للإنسان تصرفا فى أمور جزئية وتصرفا فى أمور كلية، والأمور
18
الكلية إنما يكون فيها اعتقاد فقط ولو كان أيضا فى عمل، فإن
19
من اعتقد اعتقادا كليا أن البيت كيف ينبغى أن يبنى فإنه لا يصدر
20
عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوليا، فإن
207
1
الأفعال تتناول أمورا جزئية وتصدر عن آراء جزئية، وذلك لأن
2
الكلى من حيث هو كلى ليس يختص بهذا دون ذلك، ولنؤخر
3
شرح هذا معولين على ما يأتيك فى الصناعة الحكمية فى آخر
4
الفنون، فيكون للإنسان إذن قوة تختص بالآراء الكلية وقوة أُخرى
5
تختص بالروية فى الأمور الجزئية فيما ينبغى أن يفعل ويترك مما
6
ينفع ويضرّ ومما هو جميل وقبيح وخير وشر، ويكون ذلك بضرب
7
من القياس والتأمل صحيح أو سقيم غايته أنه نوقع رأيا فى أمر جزئى
8
مستقبل من الأمور الممكنة لأن الواجبات أو الممتنعات لا يروى
9
فيها لتوجد أو تعدم، وما مضى أيضا لا يروى فى إيجاده على أنه
10
ماض، فإذا حكمت هذه القوة تبع حكمها حركة القوة الإجماعية
11
إلى تحريك البدن كما كانت تتبع أحكام قوى أُخرى فى الحيوانات،
12
وتكون هذه القوة استمدادها من القوة التى على الكليات، فمن هناك
13
تأخذ المقدمات الكبرى فيما تروى وتنتج فى الجزئيات، فالقوة الأولى
14
للنفس الإنسانية قوة تنسب إلى النظر فيقال عقل نظرى، وهذه
15
الثانية قوة تنسب إلى العمل فيقال عقل عملى، وتلك للصدق
16
والكذب وهذه للخير والشر فى الجزئيات، وتلك للواجب
17
والممكن والممتنع، وهذه للقبيح والجميل والمباح، ومبادى[*]ومبادى Middle Arabic for ومبادئ تلك
18
من المقدمات الأولية ومبادى[*]ومبادى Middle Arabic for ومبادئ هذه من المشهورات والمقبولات
19
والمظنونات والتجريبات الواهية التى تكون من المظنونات غير
20
التجريبات الوثيقة، ولكل واحدة من هاتين القوتين رأى وظن، فالرأى
208
1
هو الاعتقاد المجزوم به، والظن هو الاعتقاد المميل إليه مع تجويز
2
الطرف الثانى، وليس كل من ظن فقد اعتقد كما ليس كل من أحسّ
3
فقد عقل أو من تخيل فقد ظن أو اعتقد أو رأى، فيكون فى الإنسان
4
حاكم حسّى وحاكم من باب التخيل وهمى وحاكم نظرى وحاكم
5
عملى، وتكون المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ الباعثة لقوته الإجماعية على تحريك الأعضاء
6
وهم خيالى وعقل عملى وشهوة وغضب، وتكون للحيوانات الأُخرى
7
ثلثة من هذه،
8
والعقل العملى يحتاج فى أفعاله كلها إلى البدن وإلى القوى
9
البدنية، وأما العقل النظرى فإن له حاجة ما إلى البدن وإلى قواه
10
لكن لا دائما ومن كل وجه بل قد يستغنى بذاته، وليس ولا
11
واحد منهما هو النفس الإنسانية، بل النفس هو الشىء الذى له
12
هذه القوى، وهو كما تبيّن جوهر منفرد، وله استعداد نحو
13
أفعال بعضها لا يتم إلّا بالآلات ويالإقبال عليها بالكلية، وبعضها
14
يحتاج فيه إلى الآلات حاجة ما، وبعضها لا يحتاج إليها
15
البتة، وهذا كله سنشرحه بعد، فجوهر النفس الإنسانية مستعد لأن
16
يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته، ومما هو فوقه لا يحتاج فيه
17
إلى ما دونه، وهذا الاستعداد له هو بالشىء الذى يسمى العقل
18
النظرى، ومستعد لأن يتحرز عن آفات تعرض له من المشاركة كما
19
سنشرحه فى موضعه، وأن يتصرف فى المشاركة تصرفا على الوجه
209
1
الذى يليق به، وهذا الاستعداد له بقوة تسمى العقل العملى، وهى
2
رئيسة القوى التى له إلى جهة البدن، وأما ما دون ذلك فهو قوى
3
تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها ولمنفعته، والأخلاق تكون
4
للنفس من جهة هذه القوة كما قد أشرنا إليه فيما سلف، ولكل
5
واحدة من القوتين استعداد وكمال، فالاستعداد الصرف من كل
6
واحدة منهما يسمى عقلا هيولانيا سواء أخذ نظريا أو عمليا، ثم
7
بعد ذلك إنما يعرض لكل واحد منهما أن تحصل له المبادى
8
التى بها تكمل أفعاله، أما للعقل النظرى فالمقدمات الأولية
9
وما يجرى معها، وأما للعملى فالمقدمات المشهورة وهيئآت
10
أُخرى، فحينئذ يكون كل واحد منهما عقلا بالملكة، ثم يحصل لكل
11
واحد منهما الكمال المكتسب، وقد كنا شرحنا هذا من قبل،
12
فيجب أول كل شىء أن نبيّن أن هذه النفس المستعدة لقبول
13
المعقولات بالعقل الهيولانى ليس بجسم ولا قائم صورة فى جسم،
14
فصل ٢
15
(فى إثبات قوام النفس الناطقة غير منطبعة فى مادة جسمانية)
16
إن مما لا شك فيه أن الإنسان فيه شىء وجوهر ما يتلقى
17
المعقولات بالقبول، فنقول إن الجوهر الذى هو محل المعقولات
210
1
ليس بجسم ولا قائم فى جسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه،
2
فإنه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير فإما أن
3
تكون الصورة المعقولة تحل منه شيئا وحدانيا غير منقسم أو
4
تكون إنما تحل منه شيئا منقسما، والشىء الذى لا ينقسم من
5
الجسم هو طرف نقطى لا محالة،
6
ولنمتحن أولا هل يمكن أن يكون محلها طرفا غير منقسم،
7
فنقول إن هذا محال، وذلك لأن النقطة هى نهاية ما لا تميز لها
8
عن الخط فى الوضع أو عن المقدار الذى هو منته إليها تميزا
9
يكون له النقطة شيئا يستقرّ فيه شىء من غير أن يكون فى شىء
10
من ذلك المقدار، بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها وإنما هى
11
طرف ذاتى لما هو بالذات مقدار كذلك إنما يجوز أن يقال بوجه ما
12
أنه يحل فيها طرف شىء حال فى المقدار الذى هى طرفه، فهو
13
متقدر بذلك المقدار بالعرض، وكما أنه يتقدر به بالعرض كذلك
14
يتناهى بالعرض مع النقطة، فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات
15
كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات، ولو كانت النقطة
16
منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات، فكانت النقطة
17
إذن ذات جهتين جهة منها تلى الخط الذى تميزت عنه وجهة
18
منها مخالفة له مقابلة، فتكون حينئذ منفصلة عن الخط بقوامها،
19
وللخط المنفصل عنها نهاية لا محالة غيرها تلاقيها، فتكون تلك
20
النقطة نهاية الخط لا هذه، والكلام فيها وفى هذه النقطة واحد،
211
1
ويؤدى هذا إلى أن تكون النقط متشافعة فى الخط إما متناهية
2
وإما غير متناهية وهذا أمر قد بان لنا فى مواضع أُخرى استحالته،
3
فقد بان أن النقط لا يتركب بتشافعها جسم، وبان أيضا أن النقط
4
لا يتميز لها وضع خاص، ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها
5
فنقول إن النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ
6
إما أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلاتماسان، فيلزم
7
حينئذ أن تنقسم الواسطة على الأصول التى علمت، وهذا محال،
8
وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس، فحينئذ
9
تكون الصورة المعقولة حالة فى جميع النقط، وجميع النقط كنقطة
10
واحدة، وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط، فللخط من
11
جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها، فتكون تلك
12
النقطة مباينة لهذه فى الوضع، وقد وضعت النقط كلها مشتركة فى
13
الوضع، فهذا خلف،
14
فقد بطل إذن أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير
15
منقسم، فبقى أن يكون محلها من الجسم ــ إن كان محلها فى
16
الجسم ــ شيئا منقسما، فلنفرض صورة معقولة فى شىء منقسم،
17
فإذا فرضنا فى الشىء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم،
18
فحينئذ لا يخلوا إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير
19
متشابهين، فإن كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس هما
212
1
إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء إلّا أن يكون ذلك
2
الكل شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة فى المقدار أو الزيادة فى
3
العدد لا من جهة الصورة، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا
4
ما أو عددا ما، وليس كل صورة معقولة بشكل أو عدد، وتصير
5
حينئذ الصورة خيالية لا معقولة، وأنت تعلم أنه ليس يمكن أن
6
يقال إن كل واحد من الجزئين هو بعينه الكل، كيف والثانى
7
داخل فى معنى الكل وخارج عن معنى الجزء الآخر، فمن البين
8
الواضح أن الواحد منهما وحده ليس يدل على نفس معنى التمام،
9
وإن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون ذلك وكيف
10
يمكن أن تكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة، فإنه ليس
11
يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحد التى هى
12
الأجناس والفصول، ويلزم من هذا محالات، منها أن كل جزء من
13
الجسم يقبل القسمة أيضا فى القوة قبولا غير متناه، فيجب أن تكون
14
الأجناس والفصول فى القوة غير متناهية، وهذا محال، فقد صح
15
أن الأجناس والفصول الذاتية للشىء الواحد ليست فى القوة غير
16
متناهية، ولأنه ليس يمكن أن يكون توهم القسمة يفرز الجنس
17
والفصل بل مما لا يشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل
18
يستحقان تميزا فى المحل أن ذلك التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة
19
فيجب أن تكون الأجناس والفصول أيضا بالفعل غير متناهية،
213
1
وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشىء الواحد متناهية من
2
كل وجه، ولو كانت الأجناس والفصول يجوز لها أن تكون غير متناهية
3
بالفعل لما كان يجوز أن تجتمع فى الجسم اجتماعا على هذه الصورة،
4
فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية
5
بالفعل، وأيضا لتكن القسمة مما قد وقع من جهة فأفرزت من جانب
6
جنسا ومن جانب فصلا، فلو غيرنا القسمة لم يخل إما أن يقع منها
7
فى كل جانب نصف جنس ونصف فصل، أو لوجب انتقال الجنس
8
والفصل إلى أحد القسمين، فيميل الجنس والفصل كل إلى قسم من
9
القسمة، فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية تدور بمكان الجنس
10
والفصل وكان يتحيز كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة مريد
11
من خارج فيه، على أن ذلك أيضا لا يغنى، فإنه يمكننا أن نوقع
12
قسما فى قسم، وأيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات
13
أبسط منه، فإن هاهنا معقولات هى أبسط المعقولات وهى مباد
14
للتركيب فى سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول، ولا هى
15
منقسمة فى الكّم ولا هى منقسمة فى المعنى، فإذًا ليس يمكن أن تكون
16
الأجزاء المفروضة متشابهة كل واحد منها هو فى معنى الكل،
17
وإنما يحصل الكل بالاجتماع فقط، ولا أيضا يمكن أن تكون غير
18
متشابهة، فليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة،
214
1
وإذا لم يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة ولا أن تحل طرفا من
2
المقادير غير منقسم ولا بد لها من قابل فينا فلا بد من أن نحكم
3
أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم ولا أيضا متلقيها منا قوة فى
4
جسم، فإنها يلحقها ما يلحق الجسم من الانقسام ثم يتبعه سائر
5
المحالات، بل متلقى الصورة المعقولة منّا جوهر غير جسمانى،
6
ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر، فنقول إن القوة العقلية هو
7
ذا يجرد المعقولات عن الكمّ المحدود والأين والوضع وسائر ما
8
قيل من قبل، فيجب أن ننظر فى ذات هذه الصورة المجردة عن
9
الوضع كيف هى مجردة عنه أبالقياس إلى الشىء المأخوذ عنه
10
أو بالقياس إلى الشىء الآخذ، أعنى أن وجود هذه الحقيقة المعقولة
11
المتجردة عن الوضع هل هو فى الوجود الخارجى أو فى الوجود
12
المتصوّر فى الجوهر العاقل، ومحال أن نقول إنها كذلك فى
13
الوجود الخارجى، فبقى أن نقول إنها إنما هى مفارقة للوضع
14
والأين عند وجودها فى العقل، فإذا وجدت فى العقل لم تكن ذات
15
وضع وبحيث يقع إليها إشارة تجزؤ وانقسام أو شىء مما أشبه
16
هذا المعنى، فلا يمكن أن تكون فى جسم، وأيضا إذا انطبعت
17
الصورة الأحدية الغير المنقسمة التى هى لأشياء غير منقسمة فى
18
المعنى فى مادة منقسمة ذات جهات فلا يخلوا إما أن لا يكون ولا
215
1
لشىء من أجزائها التى تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى
2
الشىء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المجرد عن المادة،
3
أو يكون لكل واحد من أجزاءها التى تفرض، أو يكون لبعض
4
دون بعض، فإن لم يكن ولا لشىء منها فلا لكلها، فإن ما يجتمع
5
عن المباينات مباين، وإن كان لبعضها دون بعض فالبعض الذى
6
لا نسبة له ليس هو من معناه فى شىء، وإن كان لكل جزء يفرض
7
فيه نسبة ما فإما أن يكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى
8
الذات كما هى أو إلى جزء من الذات، فإن كان لكل جزء
9
يفرض نسبة إلى الذات كما هى فليست الأجزاء إذًا أجزاء معنى
10
المعقول، بل كل واحد منها معقول فى نفسه مفردا، وإن كان كل
11
جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات فمعلوم أن الذات
12
منقسمة فى المعقول، وقد وضعناها غير منقسمة، هذا خلف،
13
وإن كان نسبة كل واحد إلى شىء من الذات غير ما إليه نسبة
14
الآخر فانقسام الذات أظهر، ومن هذا يتبين أن الصور المنطبعة
15
فى المادة الجسمانية لا تكون إلّا أشباحا لأمور جزئية منقسمة
16
ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها،
17
وأيضا فإن الشىء المتكثر فى أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة
18
ما لا تنقسم، فلننظر أن ذلك الوجود الوحدانى من حيث هو واحد
216
1
ما كيف يرتسم فى المنقسم، ويكون الكلام فيه وفيما لا ينقسم
2
بالحد واحدا،
3
وأيضا فإنه قد صح لنا أن المعقولات المفروضة التى من شأن
4
القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوة،
5
وقد صح لنا أن الشىء الذى يقوى على أمور غير متناهية بالقوة
6
لا يجوز أن يكون جسما ولا قوة فى جسم، قد برهن على هذا فى
7
الفنون الماضية، فلا يجوز إذًا أن تكون الذات المتصورة للمعقولات
8
قائمة فى جسم البتة ولا فعلها كائنا فى جسم ولا بجسم، وليس
9
لقائل أن يقول كذلك المتخيلات، فذلك خطأ، فإنه ليس للقوة
10
الحيوانية أن تتخيل أى شىء اتفق مما لا نهاية له فى أى وقت
11
كان ما لم يقترن معها تصريف القوة الناطقة، ولا لقائل أن يقول
12
إن هذه القوة أى العقلية قابلة لا فاعلة، وأنتم إنما أثبتم
13
تناهى القوة الفاعلة، والناس لا يشكون فى جواز وجود قوة قابلة
14
غير متناهية كما للهيولى، فنقول إنك ستعلم أن قبول النفس الناطقة
15
فى كثير من أشياء لا نهاية لها قبول بعد تصرف فعلى،
16
ولنستشهد أيضا على ما بيناه بالكلام الناظر فى جوهر النفس الناطقة
17
وفى أخص فعل له بدلائل من أحوال أفعال أُخرى له مناسبة لما
18
ذكرنا، فنقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية
19
حتى يكون فعلها الخاص إنما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية
217
1
لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة وأن لا تعقل أنها
2
عقلت، فإنه ليس لها بينها وبين ذاتها آلة، وليس لها بينها وبين
3
آلتها آلة، وليس لها بينها وبين أنها عقلت آلة، لكنها تعقل ذاتها
4
وآلتها التى تدعى لها وأنها عقلت، فإذن تعقل بذاتها لا بآلة، بل
5
قد نحقق فنقول لا يخلوا إما أن يكون تعقلها آلتها لوجود ذات
6
صورة آلتها تلك أو لوجود صورة أُخرى مخالفة لها بالعدد، وهى
7
أيضا فيها وفى آلتها أو لوجود صورة أُخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع،
8
وهى فيها وفى آلتها، فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها فى
9
آلتها وفيها بالشركة دائما، فيجب أن تعقل آلتها دائما إذ كانت
10
إنما تعقلها لوصول الصورة إليها، وإن كان لوجود صورة لآلتها غير
11
تلك الصورة بالعدد فذلك باطل، أما أولا فلأن المغايرة بين أشياء
12
تدخل فى حد واحد إما لاختلاف المواد والأحوال والأعراض،
13
وإما لاختلاف ما بين الكلى والجزئى والمجرد عن المادة والموجود
14
فى المادة، وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض، فإن المادة واحدة
15
والأعراض الموجودة واحدة، وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود
16
فى المادة، فإن كليهما فى المادة، وليس هاهنا اختلاف الخصوص
17
والعموم لأن إحداهما إن استفادت جزئية فإنما تستفيد الجزئية بسبب
18
المادة الجزئية واللواحق التى تلحقها من جهة المادة التى فيها،
19
وهذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأُخرى، ولا يلزم هذا على
20
إدراك النفس ذاتها، فإنها تدرك دائما ذاتها وإن كانت قد تدركها
21
فى الأغلب مقارنة للأجسام التى هى معها على ما بيناه، وأنت
218
1
تعلم أنه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أُخرى غير صورة آلتها فإن
2
هذا أشد استحالة لأن الصورة المعقولة إذا حلت الجوهر العاقل
3
جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته أو لما تلك الصورة مضافة
4
إليه فتكون صورة المضاف داخلة فى هذه الصورة، وهذه الصورة
5
المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضا صورة شىء مضاف إليها
6
بالذات لأن ذات هذه الآلة جوهر ونحن إنما نأخذ ونعتبر صورة
7
ذاته، والجوهر فى ذاته غير مضاف البتة،
8
فهذا البرهان واضح على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة
9
آلته فى الإدراك ولهذا فإن الحسّ إنما يحسّ شيئا خارجا ولا
10
يحسّ ذاته ولا آلته ولا إحساسه، وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته
11
ولا فعله البتة، بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصه
12
وأنها لا محالة له دون غيره إلّا أن يكون الحسّ يورد عليه صورة
13
آلته لو أمكن، فيكون حينئذ إنما يحكى خيالا مأخوذا من الحسّ
14
غير مضاف عنده إلى شىء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيله،
15
وأيضا مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدراكة بالآلات
16
يعرض لها من إدامة العمل أن تكل لأجل أن الآلات تكلها إدامة
17
الحركة وتفسد مزاجها الذى هو جوهرها وطبيعتها، والأمور القوية
18
الشاقة الإدراك توهنها وربما أفسدتها، ولا تدرك عقيبها الأضعف
19
منها لانغماسها فى الانفعال عن الشاق، كالحال فى الحسّ فإن
20
المحسوسات الشاقة والمتكرّرة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر
219
1
والرعد الشديد للسمع، ولا يقوى الحسّ عند إدراك القوى على
2
إدراك الضعيف، فإن المبصر ضوءا عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه
3
نورا ضعيفا، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه وعقيبه صوتا ضعيفا،
4
ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحسّ بعدها بالضعيفة، والأمر فى
5
القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للعقل وتصورها للأمور التى
6
هى أقوى يكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها مما هو أضعف منها،
7
فإن عرض لها فى بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك لاستعانة
8
العقل بالخيال المستعمل للآلة التى تكل، فلا تخدم العقل، ولو
9
كان لغير هذا لكان يقع دائما أو فى أكثر الأمر، والأمر بالضد،
10
وأيضا فإن أجزاء البدن كلها تأخذ فى الضعف من قواها بعد
11
منتهى النشوء والوقوف، وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين،
12
وهذه القوة المدركة للمعقولات إنما تقوى بعد ذلك فى أكثر الأمر،
13
ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما فى كل حال أن
14
تضعف حينئذ لكن ليس يجب ذلك إلّا فى أحوال وموافاة عوائق
15
دون جميع الأحوال، فليست إذن من القوى البدنية،
16
ومن هذه الأشياء تبيّن أن كل قوة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ولا
17
آلتها ولا إدراكها، ويضعفها تضاعف الفعل، ولا تدرك الضعيف
18
إثر القوى، والقوى يوهنها، ويضعف فعلها عند ضعف آلات فعلها،
19
والقوة العقلية بخلاف ذلك كله،
20
وأما الذى يتوهم من أن النفس إذا كانت تنسى معقولاتها
21
ولا تفعل فعلها مع مرض البدن وعند الشيخوخة فذلك لها بسبب
22
أن فعلها لا يتم إلّا بالبدن فظن غير ضرورى ولا حق، وذلك أنه
220
1
قد يمكن أن يجتمع الأمران جميعا، فتكون النفس لها فعل
2
بذاتها إذا لم يعق عائق ولم يصرفها عنه صارف وأنها أيضا قد
3
تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا تفعل حينئذ فعلها
4
وتصرف عنه، ويستمرّ القولان من غير تناقض، وإذا كان كذلك لم
5
يكن إلى هذا الاعتراض التفات، ولكنا نقول إن جوهر النفس له فعلان
6
فعل له بالقياس إلى البدن، وهو السياسة، وفعل له بالقياس إلى
7
ذاته وإلى مباديه وهو الإدراك بالعقل، وهما متعاندان متمانعان،
8
فإنه إذا اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر، ويصعب عليه الجمع
9
بين الأمرين، وشواغله من جهة البدن هى الإحساس والتخيل
10
والشهوات والغضب والخوف والغم والوجع، وأنت تعلم هذا بأنك
11
إذا أخذت تفكر فى معقول تعطل عليك كل شىء من هذه إلّا أن
12
تغلب هى النفس وتقسرها رادّة إياها إلى جهتها، وأنت تعلم
13
أن الحسّ يمنع النفس عن التعقل، فإن النفس إذا أكبّت على
14
المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة العقل
15
أو ذاته آفة بوجه، وتعلم أن السبب فى ذلك هو اشتغال النفس
16
بفعل دون فعل، فكذلك الحال والسبب إذا عرض أن تعطلت
17
أفعال العقل عند المرض، ولو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد
18
بطلت وفسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى
19
اكتساب من رأس، وليس الأمر كذلك، فإنه قد تعود النفس إلى
20
ملكتها وهيئتها عاقلة لجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته،
21
فقد كان إذأ ما كسبته موجودا معها بنوع ما إلّا أنها كانت مشغولة
221
1
عنه، وليس اختلاف جهتى فعل النفس فقط يوجب فى أفعالها التمانع،
2
بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك بعينه، فإن الخوف
3
يغفل عن الوجع، والشهوة تسد عن الغضب، والغضب يصرف
4
عن الخوف، والسبب فى جميع ذلك واحد، وهو انصراف النفس
5
بالكلية إلى أمر واحد، فبيّن من هذا أنه ليس يجب إذا لم يفعل
6
شىء فعله عند اشتغاله بشىء أن لا يكون فاعلا فعله إلّا عند وجود
7
ذلك الشىء المشتغل به، ولنا أن نتوسع فى بيان هذا الباب إلّا أن
8
الإمعان فى المطلوب بعد بلوغ الكفاية منسوب إلى التكلف لما لا
9
يحتاج إليه، فقد ظهر من أصولنا التى قرّرنا أن النفس ليست
10
منطبعة فى البدن ولا قائمة به، فيجب أن يكون اختصاصها به على
11
سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة البدن
12
الجزئى لعناية ذاتية مختصة به صارت النفس عليها كما وجدت
13
مع وجود بدنها الخاص بهيئته ومزاجه،
14
فصل ٣
15
(يشتمل على مسئلتين إحداهما كيفية انتفاع النفس الإنسانية بالحواسّ
16
والثانية إثبات حدوثها)
17
إن القوى الحيوانية تعين النفس الناطقة فى أشياء، منها أن يورد
18
الحسّ من جملتها عليها الجزئيات، فتحصل لها من الجزئيات
19
أمور أربعة، أحدها انتزاع الذهن الكليات المفردة عن الجزئيات
222
1
على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائق المادة ولواحقها
2
ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتى وجوده والعرضى وجوده،
3
فتحدث للنفس من ذلك مبادى[*]مبادى Middle Arabic for مبادئ التصور، وذلك بمعاونة استعماله
4
للخيال والوهم، والثانى إيقاع النفس مناسبات بين هذه الكليات
5
المفردة على مثل سلب أو إيجاب، فما كان التأليف فيه بسلب
6
أو إيجاب أوليا بينا بنفسه أخذه، وما كان ليس كذلك تركه إلى
7
مصادفة الواسطة، والثالث تحصيل المقدمات التجربية، وهو أن
8
يجد بالحسّ محمولا لازم الحكم لموضوع ما كان حكمه إيجابا أو
9
سلبا أو تاليا موجب الاتصال أو مسلوبه أو موجب العناد أو
10
مسلوبه، وليس ذلك فى بعض الأحايين دون بعض ولا على سبيل
11
المساواة بل دائما وجودا يسكن النفس إلى أن بين طبيعة هذا
12
المحمول وهذا الموضوع هذه النسبة وأن طبيعة هذا التالى
13
تلزم هذا المقدم أو تنافيه لذاته لا بالاتفاق، فيكون ذلك اعتقادا
14
حاصلا من حسّ وقياس كما هو مبين فى الفنون المنطقية، والرابع
15
الأخبار التى يقع بها التصديق لشدة التواتر،
16
فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ للتصور
17
والتصديق، ثم إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها، فإن تعرض لها شىء
18
من القوى التى دونها شاغلة إياها بما يليها من الأحوال شغلتها
223
1
عن فعلها فأضربت عن فعلها، وإن لم تشغلها فلا تحتاج إليها
2
بعد ذلك فى خاص أفعالها إلّا فى أمور تحتاج فيها خاصة إلى أن
3
تعاود القوى الخيالية مرة أُخرى، وذلك لاقتناص مبدأ غير الذى
4
حصل أو معاونة بتمثيل الغرض فى الخيال ليستحكم تمثله بمعونته
5
فى العقل، وهذا مما يقع فى الابتداء ولا يقع بعده إلّا قليلا، فأما
6
إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق،
7
وتكون القوى الحسية والخيالية وسائر القوى البدنية صارفة إياها عن
8
فعلها مثل أن الإنسان قد يحتاج إلى دابة وآلات ليتوصل بها إلى
9
مقصد ما، فإذا وصل إليه ثم عرض من الأسباب ما يعوقه عن
10
مفارقتها صار السبب الموصل بعينه عائقا،
11
وقول إن الأنفس الإنسانية لم تكن قائمة مفارقة للأبدان ثم
12
حصلت فى الأبدان لأن الأنفس الإنسانية متفقة فى النوع والمعنى،
13
فإذا فرض أن لها وجودا ليس حادثا مع حدوث الأبدان بل هو وجود
14
مفرد لم يجز أن تكون النفس فى ذلك الوجود متكثرة، وذلك لأن
15
تكثر الأشياء إما أن يكون من جهة الماهية والصورة وإما أن يكون
16
من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بما تتكثر به من الأمكنة
17
التى تشتمل على كل مادة فى جهة والأزمنة التى تختص بكل واحد
18
منها فى حدوثه والعلل القاسمة إياها، وليست متغايرة بالماهية
224
1
والصورة لأن صورتها واحدة، فإذن إنما تتغاير من جهة قابل الماهية
2
أو المنسوب إليه الماهية بالاختصاص، وهذا هو البدن، وأما إذا
3
أمكن أن تكون النفس موجودة ولا بدن فليس يمكن أن تغاير نفس
4
نفسا بالعدد، وهذا مطلق فى كل شىء، فإن الأشياء التى ذواتها
5
معان فقط وقد تكثرت نوعياتها بأشخاصها فإنما تكثرها بالحوامل
6
والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة ما إليها وإلى أزمنتها فقط،
7
وإذا كانت مجردة أصلا لم تتفرق بما قلنا، فمحال أن يكون بينها
8
مغايرة وتكثر، فقد بطل أن تكون الأنفس قبل دخولها الأبدان
9
متكثرة الذات بالعدد،
10
وأقول ولا يجوز أن تكون واحدة الذات بالعدد لأنه إذا حصل
11
بدنان حصل فى البدنين نفسان، فإما أن تكونا قسمى تلك النفس
12
الواحدة فيكون الشىء الواحد الذى ليس له عظم وحجم منقسما
13
بالقوة، وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقرّرة فى الطبيعيات وغيرها،
14
وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد فى بدنين، وهذا لا يحتاج
15
أيضا إلى كثير تكلف فى إبطاله، ونقول بعبارة أُخرى إن هذه
16
الأنفس إنما تتشخص نفسا واحدة من جملة نوعها بأحوال تلحقها
17
ليست لازمة لها بما هى نفس وإلّا لاشترك فيها جميعها، والأعراض
18
اللاحقة تلحق عن ابتداء لا محالة زمانى لأنها تتبع سببا عرض
19
لبعضها دون بعض، فيكون تشخص الأنفس أيضا أمرا حادثا،
20
فلا تكون قديمة لم تزل، ويكون حدوثها مع بدن، فقد صح إذن
225
1
أن الأنفس تحدث كما تحدث مادة بدنية صالحة لاستعمالها إياها،
2
فيكون البدن الحادث مملكتها وآلتها، ويكون فى جوهر النفس
3
الحادثة مع بدن ما ــ ذلك البدن استحق حدوثها من المبادى[*]المبادى Middle Arabic for المبادئ
4
الأولى ــ هيئة نزاع طبيعى إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام
5
بأحواله والانجذاب إليه تخصها وتصرفها عن كل الأجسام غيره،
6
فلا بد أنها إذا وجدت متشخصة فإن مبدأ تشخصها يلحق بها من
7
الهيئآت[*]الهيئآت corrupt for الهيئات ما تتعيّن به شخصا، وتلك الهيئآت[*]الهيئآت corrupt for الهيئات تكون مقتضية لاختصاصها
8
بذلك البدن ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر وإن خفى علينا تلك
9
الحالة وتلك المناسبة، وتكون مبادى[*]مبادى Middle Arabic for مبادئ الاستكمال متوقعا لها
10
بوساطته، ويكون هو بدنها، ولكن لقائل أن يقول إن هذه
11
الشبهة تلزمكم فى النفوس إذا فارقت الأبدان، فإنها إما أن تفسد
12
ــ ولا تقولون به، وإما أن تتحد ــ وهو عين ما شنعتم به، وإما
13
أن تبقى متكثرة وهى عندكم مفارقة للمواد، فكيف تكون متكثرة،
14
فنقول أما بعد مفارقة الأنفس للأبدان فإن الأنفس تكون قد وجدت
15
كل واحدة منها ذاتا منفردة باختلاف موادها التى كانت وباختلاف
16
أزمنة حدوثها واختلاف هيئآتها التى لها بحسب أبدانها المختلفة
17
لا محالة، فإنّا نعلم يقينا أن موجد المعنى الكلى شخصا مشارا
18
إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له معنى على نوعيته به
226
1
يصير شخصا من المعانى التى تلحقه عند حدوثه وتلزمه علمناها
2
أو لم نعلم، ونحن نعلم أن النفس ليست واحدة فى الأبدان كلها،
3
ولو كانت واحدة وكثيرة بالإضافة لكانت عالمة فيها كلها أو جاهلة
4
ولما خفى على زيد ما فى نفس عمرو لأن الواحد المضاف إلى
5
كثيرين يجوز أن يختلف بحسب الإضافة، وأما الأمور الموجودة له
6
فى ذاته فلا يختلف فيها حتى إذا كان أب لأولاد كثيرين وهو
7
شاب لم يكن شابا إلّا بحسب الكل إذ الشباب له فى نفسه فيدخل
8
فى كل إضافة، وكذلك العلم والجهل والظن وما أشبه ذلك إنما يكون
9
فى ذات النفس ويدخل مع النفس فى كل إضافة، فإذن ليست النفس
10
واحدة، فهى كثيرة بالعدد، ونوعها واحد، وهى حادثة كما بيناه،
11
فلا شك أنها بأمر ما تشخصت، وأن ذلك الأمر فى النفس الإنسانية
12
ليس هو الانطباع فى المادة، فقد علم بطلان القول بذلك، بل ذلك
13
الأمر لها هيئة من الهيئآت[*]الهيئآت corrupt for الهيئات وقوة من القوى وعرض من الأعراض
14
الروحانية أو جملة منها تشخصها باجتماعها وإن جهلناها، وبعد
15
أن تشخصت مفردة فلا يجوز أن تكون هى والنفس الأُخرى بالعدد
16
ذاتا واحدة، فقد أكثرنا القول فى امتناع هذا فى عدة مواضع، لكنّا
17
نتيقن أنه يجوز أن تكون النفس إذا حدثت مع حدوث مزاج
18
ما أن تحدث لها هيئة بعده فى الأفعال النطقية والانفعالات النطقية
19
تكون على جملة متميزة عن الهيئة المناظرة لها فى أُخرى
227
1
تميز المزاجين فى البدنين وأن تكون الهيئة المكتسبة التى تسمى
2
عقلا بالفعل أيضا على حد ما تتميز به عن نفس أُخرى، وأنها يقع
3
لها شعور بذاتها الجزئية، وذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصة
4
ليس لغيرها، ويجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنية هيئة
5
خاصة أيضا، وتلك الهيئة تتعلق بالهيئآت[*]بالهيئآت corrupt for بالهيئات الخلقية أو تكون هى هى،
6
أو تكون أيضا خصوصيات أُخرى تخفى علينا تلزم النفوس مع حدوثها
7
وبعده كما يلزم من أمثالها أشخاص الأنواع الجسمانية فتتمايز بها
8
ما بقيت، وتكون الأنفس كذلك تتميز بمخصّصاتها فيها كانت
9
الأبدان أو لم تكن أبدان، عرفنا تلك الأحوال أو لم نعرف أو
10
عرفنا بعضها،
11
فصل ٤
12
(فى أن الأنفس الإنسانية لا تفسد ولا تتناسخ)
13
أما أن النفس لا تموت بموت البدن فلأن كل شىء يفسد بفساد
14
شىء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق، فإما أن يكون تعلقه به
15
تعلق المتأخر عنه فى الوجود أو تعلق المتقدم له فى الوجود الذى
16
هو قبله فى الذات لا فى الزمان أو تعلق المكافىء فى الوجود،
17
فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافىء فى الوجود وذلك أمر
18
ذاتى له لا عارض فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه وليس
19
لا النفس ولا البدن بجوهر، لكنهما جوهران، وإن كان ذلك أمرا
228
1
عرضيا لا ذاتيا فإن فسد أحدهما بطل العارض الآخر من الإضافة
2
ولم تفسد الذات بفساده من حيث هذا التعلق،
3
وإن كان تعلقها به تعلق المتأخر عنه فى الوجود فالبدن علة
4
النفس فى الوجود، والعلل أربع، فإما أن يكون البدن علة فاعلية
5
للنفس معطية لها الوجود، وإما أن يكون علة قابلية لها بسبيل
6
التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم،
7
وإما أن يكون علة صورية، وإما أن يكون علة كمالية، ومحال
8
أن يكون علة فاعلية، فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا
9
وإنما يفعل بقوة، ولو كان يفعل بذاته لا بقوة لكان كل جسم
10
يفعل ذلك الفعل، ثم القوى الجسمانية كلها إما أعراض وإما
11
صور مادية، ومحال أن تفيد الأعراض والصور القائمة بالمواد وجود
12
ذات قائمة بنفسها لا فى مادة ووجود جوهر مطلق، ومحال أيضا
13
أن يكون علة قابلية، فقد برهنا وبينا أن النفس ليست منطبعة فى
14
البدن بوجه من الوجوه، فلا يكون البدن إذن متصورا بصورة النفس
15
لا بحسب البساطة ولا بحسب التركيب بأن تكون أجزاء
16
البدن تتركب وتمتزج تركيبا ما وامتزاجا ما فتنطبع فيها النفس،
17
ومحال أن يكون الجسم علة صورية للنفس أو كمالية، فإن الأولى
18
أن يكون بالعكس،
19
فإذن ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية وإن كان
20
المزاج والبدن علة بالعرض للنفس، فإنه إذا حدثت مادة بدن
21
تصلح أن تكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة
229
1
النفس الجزئية أو حدثت عنها كذلك، فإن إحداثها بلا سبب
2
مخصّص ــ إحداث واحدة دون واحدة ــ محال، ومع ذلك فإنه
3
يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد لما قد بيناه، ولأنه لا بد لكل
4
كائن بعد ما لم يكن من أن تتقدمه مادة يكون فيها تهيوء[*]تهيوء Middle Arabic for تهيؤ قبوله
5
أو تهيوء[*]تهيوء Middle Arabic for تهيؤ نسبة إليه كما تبيّن فى العلوم الأُخرى، ولأنه لو كان
6
يجوز أيضا أن تكون نفس جزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها
7
تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود، ولا شىء معطل فى الطبيعة،
8
وإذا كان ذلك ممتنعا فلا قدرة عليه، ولكن إذا حدث التهيوء
9
للنسبة والاستعداد للآلة يلزم حينئذ أن يحدث من العلل المفارقة
10
شىء هو النفس، وليس ذلك فى النفس فقط بل كل ما يحدث بعد ما
11
لم يكن من الصور فإنما يرجح وجوده عن لا وجوده استعداد المادة
12
له وصيرورتها خليقة به، وليس إذا وجب حدوث شىء عند حدوث
13
شىء وجب أن يبطل مع بطلانه، إنما يكون ذلك إذا كانت ذات
14
الشىء قائمة بذلك الشىء وفيه، وقد تحدث أمور عن أمور وتبطل
15
تلك الأموروتبقى تلك الأمور إذا كانت ذاتها غير قائمة فيها وخصوصا
16
إذا كان مفيد الوجود لها شىء آخر غير الذى إنما تهيأ إفادة
17
وجودها مع وجوده، ومفيد وجود النفس شىء غير جسم ولا هو
18
قوة فى جسم، بل هو لا محالة ذات قائمة بريئة عن المواد وعن
19
المقادير، فإذا كان وجودها من ذلك الشىء ومن البدن يحصل وقت
230
1
استحقاقها للوجود فقط فليس لها تعلق فى نفس الوجود بالبدن، ولا
2
البدن علة لها إلّا بالعرض، فلا يجوز إذًا أن يقال إن التعلق
3
بينهما على نحو يوجب أن يكون الجسم متقدما تقدم العلية على
4
النفس،
5
وأما القسم الثالث مما ذكرنا فى الابتداء وهو أن يكون تعلق
6
النفس بالجسم تعلق المتقدم فى الوجود، فإما أن يكون التقدم مع
7
ذلك زمانيا فيستحيل أن يتعلق وجودها به فقد تقدمته فى الزمان،
8
وإما أن يكون التقدم بالذات لا بالزمان، وهذا النحو من التقدم هو
9
أن تكون الذات المتقدمة كما توجد يلزم أن يستفاد عنها ذات
10
المتأخر فى الوجود، وحينئذ لا يوجد أيضا هذا المتقدم فى الوجود
11
إذا فرض المتأخر قد عدم، لا أن فرض عدم المتأخر أوجب عدم
12
المتقدم ولكن لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم إلّا وقد عرض
13
أولا للمتقدم فى طبعه ما أعدمه، فحينئذ عدم المتأخر، فليس فرض
14
عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم ولكن فرض عدم المتقدم نفسه،
15
لأنه إنما فرض المتأخر معدوما بعد أن عرض للمتقدم أن عدم فى
16
نفسه وإذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض فى
17
جوهر النفس فيفسد معه البدن، وأن لا يكون البدن البتة يفسد
18
بسبب يخصه، لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغير
19
المزاج أو التركيب، فمحال أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق
20
المتقدم بالذات ثم يفسد البدن البتة بسبب فى نفسه، فليس إذًا
21
بينهما هذا التعلق، وإذا كان الأمر على هذا فقد بطل أنحاء التعلق
231
1
كلها، وبقى أن لا تعلق للنفس فى الوجود بالبدن بل تعلقها
2
فى الوجود بالمبادى الأُخرى التى لا تستحيل ولا تبطل،
3
وأقول أيضا إن سببا آخر لا يعدم النفس البتة، وذلك أن
4
كل شىء من شأنه أن يفسد بسبب ما ففيه قوة أن يفسد، وقبل
5
الفساد فيه فعل أن يبقى، وتهيوءه للفساد ليس لفعله أنه يبقى،
6
فإن معنى القوة مغاير لمعنى الفعل، وإضافة هذه القوة مغايرة لإضافة
7
هذا الفعل لأن إضافة ذلك إلى الفساد وإضافة هذا إلى البقاء، فإذن
8
لأمرين مختلفين ما يوجد فى الشىء هذان المعنيان، فنقول إن الأشياء
9
المركبة والأشياء البسيطة التى هى قائمة فى المركبة يجوز أن يجتمع
10
فيها فعل أن تبقى وقوة أن تفسد، وفى الأشياء البسيطة المفارقة
11
الذات لا يجوز أن يجتمع هذان الأمران،
12
وأقول بوجه مطلق أنه لا يجوز أن يجتمع فى شىء أحدى الذات
13
هذان المعنيان، وذلك لأن كل شىء يبقى وله قوة أن يفسد فله
14
أيضا قوة أن يبقى لأن بقاءه ليس بواجب ضرورى، وإذا لم
15
يكن واجبا كان ممكنا، والإمكان الذى يتناول الطرفين هو طبيعة
16
القوة، فإذن يكون له فى جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى، وقد
17
بان أن فعل أن يبقى منه لا محالة ليس هو قوة أن يبقى منه،
18
وهذا بين، فيكون فعل أن يبقى منه أمرا يعرض للشىء الذى له
19
قوة أن يبقى، فتلك القوة لا تكون لذات ما بالفعل بل للشىء
20
الذى يعرض لذاته أن تبقى بالفعل لا أنه حقيقة ذاته، فيلزم من
21
هذا أن تكون ذاته مركبة من شىء إذا كان كان به ذاته
232
1
موجودا بالفعل، وهو الصورة فى كل شىء، وعن شىء حصل له
2
هذا الفعل وفى طباعه قوته، وهو مادته، فإن كانت النفس بسيطة
3
مطلقة لم تنقسم إلى مادة وصورة، وإن كانت مركبة فلنترك المركب
4
ولننظر فى الجوهر الذى هو مادته ولنصرف القول إلى نفس مادته
5
ولنتكلم فيها، فنقول إن المادة إما أن تنقسم هكذا دائما ويثبت
6
الكلام دائما، وهذا محال، وإما أن لا يبطل الشىء الذى هو
7
الجوهر والسنخ، وكلامنا فى هذا الشىء الذى هو السنخ والأصل،
8
وهو الذى نسميه النفس، وليس كلامنا فى شىء مجتمع منه ومن
9
شىء آخر، فبين أن كل شىء هو بسيط غير مركب أو هو أصل
10
مركب وسنخه فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوة أن يعدم
11
بالقياس إلى ذاته، فإن كانت فيه قوة أن يعدم فمحال أن يكون
12
فيه فعل أن يبقى، وإذا كان فيه فعل أن يبقى وأن يوجد فليس
13
فيه قوة أن يعدم، فبين إذًا أن جوهر النفس ليس فيه قوة أن
14
يفسد، وأما الكائنات التى تفسد فإن الفاسد منها هو المركب
15
المجتمع، وقوة أن يفسد أو يبقى ليس فى المعنى الذى به المركب
16
واحد بل فى المادة التى هى بالقوة قابلة كلا الضدين، فليس إذن
17
فى الفاسد المركب لا قوة أن يبقى ولا قوة أن يفسد، فلم
18
تجتمعا فيه، وأما المادة فإما أن تكون باقية لا بقوة تستعدّ بها
19
للبقاء كما يظن قوم، وإما أن تكون باقية بقوة بها تبقى، وليس
20
لها قوة أن تفسد، بل قوة أن تفسد شىء آخر يحدث فيها،
21
والبسائط التى فى المادة فإن قوة فسادها فى جوهر المادة لا فى
233
1
جوهرها، والبرهان الذى يوجب أن كل كائن فاسد من جهة تناهى
2
قوتى البقاء والبطلان إنما يوجب فيما هو كائن من مادة وصورة،
3
وتكون فى مادته قوة أن تبقى فيها تلك الصورة وقوة أن تفسد هى
4
منها معا كما قد علمت، فقد بان إذًا أن النفس الإنسانية لا تفسد
5
البتة، وإلى هذا سقنا كلامنا، والله الموفق،
6
وقد أوضحنا أن الأنفس إنما حدثت وتكثرت مع تهيوء من
7
الأبدان على أن تهيوء[*]تهيوء Middle Arabic for تهيؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس
8
لها من العلل المفارقة، وظهر من ذلك أن هذا لا يكون على سبيل
9
الاتفاق والبخت حتى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق
10
هذا المزاج نفسا حادثة مدبرة ولكن قد كان حدث نفس واتفق
11
أن وجد معها بدن فتعلق بها، فإن مثل هذا لا يكون علة البتة
12
ذاتية للتكثر بل عسى أن يكون عرضية، وقد عرفنا أن العلل
13
الذاتية هى التى يجب أن تكون أولا، ثم ربما تليها العرضية،
14
فإذا كان كذلك فكل بدن يستحق مع حدوث مزاج مادته حدوث
15
نفس له، وليس بدن يستحقه وبدن لا يستحقه إذ أشخاص الأنواع
16
لا تختلف فى الأمور التى بها تتقوم، وليس يجوز أن يكون بدن
17
إنسانى يستحق نفسا يكمل بها وبدن آخر هو فى حكم مزاجه
18
بالنوع ولا يستحق ذلك، بل إن اتفق كان وإن لم يتفق لم يكن،
234
1
فإن هذا حينئذ لا يكون من نوعه، فإذا فرضنا أن نفسا تناسختها
2
أبدان ــ وكل بدن فإنه بذاته يستحق نفسا تحدث له وتتعلق به ــ
3
فيكون البدن الواحد فيه نفسان معا، ثم العلاقة بين النفس والبدن
4
ليس هو على سبيل الانطباع فيه كما بيناه مرارا بل العلاقة التى
5
بينهما هى علاقة الاشتغال من النفس بالبدن حتى تشعر النفس
6
بذلك البدن وينفعل البدن عن تلك النفس، وكل حيوان فإنه
7
يستشعر نفسه نفسا واحدة هى المصرفة والمدبرة للبدن الذى له،
8
فإن كان هناك نفس أُخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هى بنفسه
9
ولا تشتغل بالبدن فليست لها علاقة مع البدن، لأن العلاقة لم
10
تكن إلّا بهذا النحو، فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه، وبهذا
11
المقدار لمن أراد الاختصار كفاية بعد أن فيه كلاما طويلا،
12
فصل ٥
13
(فى العقل الفعال فى أنفسنا والعقل المنفعل عن أنفسنا)
14
نقول إن النفس الإنسانية قد تكون عاقلة بالقوة، ثم تصير
15
عاقلة بالفعل، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فإنما يخرج بسبب
16
بالفعل يخرجه، فها هنا سبب هو الذى يخرج نفوسنا فى
17
المعقولات من القوة إلى الفعل، وإذ هو السبب فى إعطاء الصور
18
العقلية فليس إلّا عقلا بالفعل عنده مبادى الصور العقلية مجردة،
19
ونسبته إلى نفوسنا نسبة الشمس إلى أبصارنا، فكما أن الشمس تبصَر
235
1
بذاتها بالفعل وتُبصِّر بنورها بالفعل ما ليس مبصرا بالفعل كذلك
2
حال هذا العقل عند نفوسنا، فإن القوة العقلية إذا اطلعت على
3
الجزئيات التى فى الخيال وأشرق عليها نور العقل الفعال فينا الذى
4
ذكرناه استحالت مجردة عن المادة وعلائقها وانطبعت فى النفس
5
الناطقة لا على أنها أنفسها تنتقل من التخيل إلى العقل منّا ولا على
6
أن المعنى المغمور فى العلائق ــ وهو فى نفسه واعتباره فى
7
ذاته مجرد ــ يفعل مثل نفسه، بل على معنى أن مطالعتها تعدّ
8
النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال، فإن الأفكار
9
والتأملات حركات معدة للنفس نحو قبول الفيض، كما أن الحدود
10
الوسطى معدة بنحو أشد تأكيدا لقبول النتيجة وإن كان الأول
11
على سبيل والثانى على سبيل أُخرى كما ستقف عليه، فتكون النفس
12
الناطقة إذا وقعت لها نسبة ما إلى هذه الصورة بتوسط إشراق العقل
13
الفعال حدث منها فيها شىء من جنسها من وجه وليس من جنسها
14
من وجه كما أنه إذا وقع الضوء على الملونات فعل فى البصر منها
15
أثرا ليس على جملتها من كل وجه، فالخيالات التى هى معقولات
16
بالقوة تصير معقولات بالفعل لا أنفسها بل ما يلتقط عنها، بل
17
كما أن الأثر المتأدى بواسطة الضوء من الصور المحسوسة ليس هو
18
نفس تلك الصور بل شىء آخر مناسب لها يتولد بتوسط الضوء فى
19
القابل المقابل كذلك النفس الناطقة إذا طالعت تلك الصور
20
الخيالية واتصل بها نور العقل الفعال ضربا من الاتصال استعدت
236
1
لأن تحدث فيها من ضوء العقل الفعال مجردات تلك الصور عن
2
الشوائب،
3
فأول ما يتميز عند العقل الإنسانى أمر الذاتى منها والعرضى وما
4
به تتشابه تلك الخيالات وما به تختلف، فتصير المعانى التى لا
5
تختلف تلك بها معنى واحدا فى ذات العقل بالقياس إلى التشابه،
6
لكنها فيها بالقياس إلى ما تختلف به تصير معانى كثيرة، فتكون
7
للعقل قدرة على تكثير الواحد من المعانى وعلى توحيد الكثير، أما
8
توحيد الكثير فمن وجهين، أحدهما بأن تصير المعانى الكثيرة
9
المختلفة فى المتخيلات بالعدد إذا كانت لا تختلف فى الحد معنى
10
واحدا، والوجه الثانى بأن يركب من معانى الأجناس والفصول معنى
11
واحدا بالحد، ويكون وجه التكثير بعكس هذين الوجهين، فهذه من
12
خواص العقل الإنسانى، وليس ذلك لغيره من القوى، فإنها تدرك
13
لكثير كثيرا كما هو والواحد واحدا كما هو، ولا يمكنها أن
14
تدرك الواحد البسيط بل الواحد من حيث هو جملة مركبة من أمور
15
وأعراضها، ولا يمكنها أن تفصل العرضيات وتنزعها من الذاتيات،
16
فإذا عرض الحسّ على الخيال والخيال على العقل صورة ما أخذ
17
العقل منها معنى، فإن عرض عليه صورة أُخرى من ذلك النوع
18
وإنما هى أُخرى بالعدد لم يأخذ العقل منها البتة صورة ما غير
19
ما أخذ إلّا من جهة العرض الذى يخص هذا من حيث هو ذلك
20
العرض بأن يأخذه مرة مجردا ومرة مع ذلك العرض، ولذلك يقال
237
1
إن زيدا وعمروا لهما معنى واحد فى الإنسانية ليس على أن الإنسانية
2
المقارنة لخواص عمرو هى بعينها الإنسانية التى تقارن خواص زيد
3
كأن ذاتا واحدا هى لزيد ولعمرو كما يكون بالصداقة أو بالملك
4
أو بغير ذلك، بل الإنسانية فى الوجود متكثرة، فلا وجود لإنسانية
5
واحدة مشترك فيها فى الوجود الخارج حتى تكون هى بعينها إنسانية
6
زيد وعمرو، وهذا نستبين فى الصناعة الحكمية، ولكن معنى ذلك
7
أن السابق من هذه إذا أفاد النفس صورة الإنسانية فإن الثانى لا
8
يفيد البتة شيئا، بل يكون المعنى المنطبع منهما فى النفس واحدا
9
هو عن الخيال الأول، ولا تأثير للخيال الثانى، فإن كل واحد منهما
10
كان يجوز أن يسبق فيفعل هذا الأثر بعينه فى النفس ليس كشخصى
11
إنسان وفرس، هذا،
12
ومن شأن العقل إذا أدرك أشياء فيها تقدم وتأخر أن يعقل
13
معها الزمان ضرورة، وذلك لا فى زمان بل فى آن، والعقل يعقل
14
الزمان فى آن، وأما تركيبه القياس والحد فهو يكون لا محالة فى
15
زمان، إلّا أن تصوره النتيجة والمحدود يكون دفعة،
16
والعقل ليس عجزه عن تصور الأشياء التى هى فى غاية المعقولية
17
والتجريد عن المادة لأمر فى ذات تلك الأشياء ولا لأمر فى غريزة
18
العقل بل لأجل أن النفس مشغولة فى البدن بالبدن، فتحتاج فى
19
كثير من الأمور إلى البدن، فيبعدها البدن عن أفضل كمالاتها،
20
وليست العين إنما لا تطيق أن تنظر إلى الشمس لأجل أمر فى
238
1
الشمس وأنها غير جلية بل لأمر فى جبلة بدنها، فإذا زال عن
2
النفس منّا هذا الغمور وهذا العوق كان تعقل النفس لهذه أفضل
3
التعقلات للنفس وأوضحها والذّها، ولأن كلامنا فى هذا الموضع إنما
4
هو فى أمر النفس من حيث هى نفس وذلك من حيث هى مقارنة
5
لهذه المادة فليس ينبغى لنا أن نتكلم فى أمر معاد النفس ــ ونحن
6
متكلمون فى الطبيعة ــ إلى أن ننتقل إلى الصناعة الحكمية وننظر
7
فيها فى الأمور المفارقة، وأما النظر فى الصناعة الطبيعية فيختص بما
8
يكون لائقا بالأمور الطبيعية، وهى الأمور التى لها نسبة إلى
9
المادة والحركة، بل نقول إن تصور العقل يختلف بحسب وجود
10
الأشياء، فالأشياء القوية جدا قد يقصر العقل عن إدراكها لغلبتها،
11
والأشياء الضعيفة الوجود جدا كالحركة والزمان والهيولى فقد يصعب
12
تصورها لأنها ضعيفة الوجود، والأعدام لا يتصورها العقل وهو بالفعل
13
مطلقا، لأن العدم يُدرَك من حيث لا يُدرَك الملكة، فيكون
14
مدرك العدم من حيث هو عدم والشرّ من حيث هو شرّ شىء هو
15
بالقوة وعدم كمال، فإن أدركه عقل فإنما يدركه لأنه بالإضافة
16
إليه بالقوة، فالعقول التى لا يخالطها ما بالقوة لا تعقل العدم
17
والشرّ من حيث هو عدم وشرّ ولا تتصورهما، وليس فى الوجود شىء
18
هو شرّ مطلقا،
239
1
فصل ٦
2
(فى مراتب أفعال العقل وفى أعلى مراتبها وهو العقل القدسى)
3
فنقول إن النفس تعقل بأن تأخذ فى ذاتها صورة المعقولات
4
مجردة عن المادة، وكون الصورة مجردة إما أن يكون بتجريد
5
العقل إياها، وإما أن يكون لأن تلك الصورة فى نفسها مجردة
6
عن المادة، فتكون النفس قد كفيت المؤونة فى تجريدها،
7
والنفس تتصور ذاتها وتصورها ذاتها يجعلها عقلا وعاقلا
8
ومعقولا، وأما تصورها لهذه الصور فلا يجعلها كذلك، فإنها فى
9
جوهرها فى البدن دائما بالقوة عقل وإن خرج فى أمور ما إلى
10
الفعل، وما يقال من أن ذات النفس تصير هى المعقولات فهو من
11
جملة ما يستحيل عندى، فإنى لست أفهم قولهم إن شيئا يصير
12
شيئا آخر ولا أعقل أن ذلك كيف يكون، فإن كان بأن يخلع صورة
13
ثم يلبس صورة أُخرى ويكون هو مع الصورة الأولى شيئا ومع
14
الصورة الأُخرى شيئا فلم يصر بالحقيقة الشىء الأول الشىء الثانى،
15
بل الشىء الأول قد بطل وإنما بقى موضوعه أو جزء منه،
16
وإن كان ليس كذلك فلننظر كيف يكون، فنقول إذا صار الشىء
17
شيئا آخر فإما أن يكون إذ هو قد صار ذلك الشىء موجودا أو
18
معدوما، فإن كان موجودا فالثانى الآخر إما أن يكون موجودا
19
أيضا أو معدوما، فإن كان موجودا فهما موجودان لا موجود
20
واحد، وإن كان معدوما فقد صار هذا الموجود شيئا معدوما
240
1
لا شيئا آخر موجودا، وهذا غير معقول، وإن كان الأول قد عدم
2
فما صار شيئا آخر بل عدم هو وحصل شىء آخر، فالنفس كيف
3
تصير صور الأشياء؟، وأكثر ما هوّس الناس فى هذا هو الذى صنف
4
لهم إيساغوجى، وكان حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة شعرية
5
صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل، ويدل على ذلك أهل
6
التمييز كتبه فى العقل والمعقولات وكتبه فى النفس، نعم إن صور
7
الأشياء تحل النفس وتحليها وتزينها وتكون النفس كالمكان لها
8
بتوسط العقل الهيولانى، ولو كانت النفس صارت صورة شىء من
9
الموجودات بالفعل، والصورة هى الفعل وهى بذاتها فعل، وليس
10
فى ذات الصورة قوة قبول شىء ــ إنما قوة القبول فى القابل للشىء
11
ــ وجب أن تكون النفس حينئذ لا قوة لها على قبول صورة أُخرى
12
وأمر آخر، وقد نراها تقبل صورة أُخرى غير تلك الصورة، فإن
13
كان ذلك الغير أيضا لا يخالف هذه الصورة فهو من العجائب،
14
فيكون القبول واللا قبول واحدا، وإن كان يخالفه فتكون النفس
15
لا محالة ــ إن كانت هى الصورة المعقولة ــ قد صارت غير ذاتها،
16
وليس من هذا شىء، بل النفس هى العاقلة، والعقل إما أن يعنى
17
به قوتها التى بها تعقل، أو يعنى به صور هذه المعقولات فى
18
نفسها، ولأنها فى النفس تكون معقولة فلا يكون العقل والعاقل
19
والمعقول شيئا واحدا فى أنفسنا، نعم هذا فى شىء آخر يمكن أن
241
1
يكون على ما ستلمحه فى موضعه، وكذلك العقل الهيولانى إن عنى
2
به مطلق الاستعداد للنفس فهو باق فينا أبدا ما دمنا فى البدن،
3
وإن عنى بحسب شىء شىء فإن الاستعداد يبطل مع وجود
4
الفعل،
5
وإذ قد تقرّر هذا فنقول إن تصور المعقولات على وجوه ثلاثة،
6
أحدها التصور الذى يكون فى النفس بالفعل مفصلا منظما، وربما
7
كان ذلك التفصيل والنظام غير واجب بل يصح أن يغير،
8
مثاله أنك إذا فصلت فى نفسك معانى الألفاظ التى يدل عليها قولك
9
"كل إنسان حيوان" وجدت كل معنى منها كليا لا يتصور إلّا فى
10
جوهر غير بدنى، ووجدت لتصورها فيه تقديما وتأخيرا، فإن غيرت
11
ذلك حتى كان ترتيب المعانى المتصورة الترتيب المحاذى لقولك
12
"الحيوان محمول على كل إنسان" لم تشك أن هذا الترتيب من
13
حيث هو ترتيب معان كلية لم يترتب إلّا فى جوهر غير بدنى، وإن
14
كان أيضا يترتب من وجه ما فى الخيال فمن حيث المسموع لا
15
من حيث المعقول، وكان الترتيبان مختلفين، والمعقول الصرف
16
منهما واحد، والثانى أن يكون قد حصل التصور واكتسب لكن
17
النفس معرضة عنه فليست تلتفت إلى ذلك المعقول، بل قد انتقلت
18
عنه مثلا إلى معقول آخر، فإنه ليس فى وسع أنفسنا أن تعقل
19
الأشياء معا دفعة واحدة، ونوع آخر من التصور، وهو مثل ما
242
1
يكون عندك فى مسألة تسئل عنها مما علمته أو مما هو قريب
2
من أن تعلمه، فحضرك جوابها فى الوقت، وأنت متيقن بأنك
3
تجيب عنها مما علمته من غير أن يكون هناك تفصيل البتة، بل
4
إنما تأخذ فى التفصيل والترتيب فى نفسك مع أخذك فى الجواب
5
الصادر عن يقين منك بالعلم به قبل التفصيل والترتيب،
6
فيكون الفرق بين التصور الأول والثانى ظاهرا، فإن الأول كأنه
7
شىء قد أخرجته من الخزانة، وأنت تستعمله، والثانى كأنه شىء لك
8
مخزون متى شئت استعملته، والثالث يخالف الأول بأنه ليس شيئا
9
مرتبا فى الفكر البتة، بل هو كمبدأ لذلك مع مقارنته لليقين،
10
ويخالف الثانى بأنه لا يكون معرضا عنه بل منظورا إليه نظرا ما
11
بالفعل يقينا إذ تتخصّص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون، فإن
12
قال قائل إن ذلك علم أيضا بالقوة ولكن قوة قريبة من الفعل فذلك
13
باطل، لأن لصاحبه يقينا بالفعل حاصلا لا يحتاج أن يحصله بقوة
14
بعيدة أو قريبة، فذلك اليقين لأنه متيقن أن هذا حاصل عنده، إذا
15
شاء علمه، فيكون تيقنه بالفعل بأن هذا حاصل تيقنا به بالفعل،
16
فإن الحصول حصول لشىء، فيكون هذا الشىء الذى نشير إليه
17
حاصلا بالفعل لأنه من المحال أن يتيقن أن المجهول بالفعل
18
معلوم عنده مخزون، فكيف يتيقن حال الشىء إلّا والأمر هو من
243
1
جهة ما يتيقنه معلوم، وإذا كانت الإشارة تتناول المعلوم بالفعل
2
من المتيقن بالفعل أن هذا عنده مخزون فهو بهذا النوع البسيط
3
معلوم عنده، ثم يريد أن يجعله معلوما بنوع آخر، ومن العجائب
4
أن هذا المجيب حين يأخذ فى تعليم غيره تفصيل ما هجس فى نفسه
5
دفعة يكون مع ما يعلّمه يتعلم العلم بالوجه الثانى، فتترتب تلك
6
الصورة فيه مع ترتب ألفاظه،
7
فأحد هذين هو العلم الفكرى الذى إنما يستكمل به تمام
8
الاستكمال إذا ترتب وتركب والثانى هو العلم البسيط الذى ليس
9
من شأنه أن يكون له فى نفسه صورة بعد صورة ولكن هو واحد
10
عنه تفيض الصور فى قابل الصور، فذلك علم فاعل للشىء الذى
11
نسميه علما فكريا ومبدأ له، وذلك هو للقوة العقلية المطلقة من
12
النفس المشاكلة للعقول الفعالة، وأما التفصيل فهو للنفس من حيث
13
هى نفس، فما لم يكن له ذلك لم يكن له علم نفسانى، وأما
14
أنه كيف يكون للنفس الناطقة مبدأ غير النفس له علم غير علم
15
النفس فهو موضع نظر يجب عليك أن تعرفه من نفسك، واعلم أنه
16
ليس فى العقل المحض منهما تكثر البتة ولا ترتيب صورة فصورة
17
بل هو مبدأ لكل صورة تفيض عنه على النفس، وعلى هذا ينبغى أن
244
1
تعتقد الحال فى المفارقات المحضة فى عقلها الأشياء، فإن عقلها هو
2
العقل الفعال للصور الخلاق لها لا الذى يكون للصور أو فى
3
صور النفس، فالنفس التى للعالّم من حيث هى نفس فإن تصورها
4
هو التصور المرتب المفصل، فلذلك ليست بسيطة من كل وجه، وكل
5
إدراك عقلى فإنه نسبة ما إلى صورة مفارقة للمادة ولأعراضها المادية
6
على النحو المذكور، فللنفس ذلك بأنها جوهر قابل منطبع به، وللعقل
7
بأنه جوهر مبدأ فاعل خلاق، فما يخص ذاته من مبدئيته لها هو
8
عقليته بالفعل، وما يخص النفس من تصورها بها وقبولها لها
9
هو عقليتها بالفعل،
10
والذى ينبغى أن يعلم من حال الصور التى فى النفس هو ما
11
أقوله، أما المتخيلات وما يتصل بها فإنها إذا أعرض عنها النفس
12
كانت مخزونة فى قوى هى للخزن وليست بالحقيقة مدركة، وإلّا
13
لكانت مدركة وخزانة معا، بل هى خزانة إذا رجعت القوة الدراكة
14
الحاكمة إليها وهى الوهم أو النفس أو العقل وجدتها حاصلة، فإن
15
لم تجدها احتاجت إلى استرجاع بتحسّس أو بتذكر، ولولا هذا
16
العذر لكان من الواجب أن يشك فى أمر كل نفس إذا كانت ذاهلة
17
عن صورة أتلك الصورة موجودة أم ليست بموجودة إلّا بالقوة،
18
ويتشكّك فى أنها كيف ترتجع، وإذا لم تكن عند النفس فعند أى
19
شىء تكون؟ والنفس بأى شىء تصل حتى تعاود هذه الصورة؟
245
1
لكن النفس الحيوانية قد فرقت قواها، وجعلت لكل قوة آلة مفردة
2
فجعلت للصور خزانة قد يغفل عنها الوهم وللمعانى خزانة قد
3
يغفل عنها الوهم إذ ليس الوهم موضع ثبات هذه الأمور ولكن
4
الحاكم، فلنا أن نقول إن الوهم قد يطالع الصور والمعانى المخزونة
5
فى حيزى القوتين، وقد يعرض عنها، فماذا نقول الآن فى الأنفس
6
الإنسانية والمعقولات التى تكتسبها وتذهل عنها إلى غيرها
7
أتكون موجودة فيها بالفعل التام؟ فتكون لا محالة عاقلة لها
8
بالفعل التام، أو تكون لها خزانة تخزنها فيها، وتلك الخزانة إما
9
ذاتها وإما بدنها أو شىء بدنى لها، وقد قلنا إن بدنها وما
10
يتعلق ببدنها مما لا يصلح لذلك إذ لم يصلح أن يكون محلا
11
للمعقولات ولا صلح أن تكون الصور العقلية ذات وضع، وكان
12
اتصالها بالبدن يجعلها ذات وضع، وإذا صارت فى البدن ذات
13
وضع بطل أن تكون معقولة، أو نقول إن هذه الصور العقلية أمور
14
قائمة فى أنفسها كل صورة منها نوع أمر قائم فى نفسه، والعقل
15
بنظر إليها مرة ويغفل عنها أُخرى، فإذا نظر إليها تمثلت فيه،
16
وإذا أعرض عنها لم تتمثل، فتكون النفس كمرآة وهى كأشياء
17
خارجة، فتارة تلوح فيها وتارة لا تلوح، وذلك بحسب نسب تكون
18
بين النفس وبينها، أو يكون المبدأ الفعال يفيض على النفس صورة
19
بعد صورة بحسب طلب النفس وأن يكون إذا أعرضت عنه انقطع
246
1
الفيض، فإن كان هذا هكذا فلم لا تحتاج كل كرة إلى تعلم من
2
رأس؟
3
فنقول إن الحق هو القسم الأخير، وذلك أنه من المحال أن نقول
4
إن هذه الصورة موجودة فى النفس بالفعل التام ولا تعقلها بالفعل
5
التام إذ ليس معنى أنها تعقلها إلّا أن الصورة موجودة فيها، ومحال
6
أن يكون البدن لها خزانة، ومحال أن تكون ذاتها خزانتها إذ ليس
7
كونها خزانة لها إلّا أن تلك الصورة معقولة موجودة فيها، وبهذا
8
تعقلها، وليس كذلك الذكر والمصورة فإن إدراك هذه الصورة ليس
9
لها بل حفظها فقط، وإنما إدراكها لقوة أُخرى، وليس وجود الصور
10
المذكورة والمصورة فى شىء هو إدراك كما ليس وجود الصور
11
المحسوسة فى شىء هو حسّ، ولذلك ليست الأجسام ــ وفيها صور
12
المحسوسات ــ بمدركة، بل الإدراك يحتاج أن يكون لما من شأنه
13
أن يتطبع بتلك الصور تطبعا ما بما هو قوة مدركة، وأما
14
الذكر والمصورة فإنما تنطبع فيها الصور بما هى آلة، ولها جسم
15
يحفظ تلك الصور قريبا من حامل القوة الدراكة وهى الوهم،
16
حتى ينظر إليها متى شاء كما يحفظ الصور المحسوسة قريبا من الحسّ
17
ليتأملها الحسّ متى شاء، فهذا التأويل يحتمله الذكر والمصورة ولا
18
تحتمله النفس، فإن وجود الصورة المعقولة فى النفس هو نفس
247
1
إدراكها لها، وأيضا سنبيّن بعد فى الحكمة الأولى أن هذه الصورة
2
لا تقوم منفردة، فبقى أن يكون القسم الصحيح هو القسم الأخير،
3
ويكون التعلم طلب الاستعداد التام للاتصال به حتى يكون منه
4
العقل الذى هو البسيط، فتفيض منه الصور مفصلة فى النفس بتوسط
5
الفكرة، فيكون الاستعداد قبل التعلم ناقصا والاستعداد بعد التعلم
6
تاما، فإذا تعلم يكون من شأنه أنه إذا خطر باله ما يتصل
7
بالمعقول المطلوب وأقبلت النفس على جهة النظر ــ وجهة النظر
8
هو الرجوع إلى المبدأ الواهب للعقل ــ اتصل به، ففاضت منه
9
قوة العقل المجرد الذى يتبعه فيضان التفصيل، وإذا أعرض عنه
10
عادت فصارت تلك الصورة بالقوة ولكن قوة قريبة جدا من الفعل،
11
فيكون التعلم الأول كمعالجة العين، فإذا صارت العين صحيحة فمتى
12
شاءت نظرت إلى الشىء الذى منه تأخذ صورة ما، وإذا أعرضت عن
13
ذلك الشىء صار ذلك بالقوة القريبة من الفعل، وما دامت النفس
14
البشرية العامية فى البدن فإنه ممتنع عليها أن تقبل العقل الفعال
15
دفعة، بل يكون حالها ما قلنا، وإذا قيل إن فلانا عالم بالمعقولات
16
فمعناه أنه بحيث كلما شاء أحضر صورته فى ذهن نفسه، ومعنى هذا
17
أنه كلما شاء كان له أن يتصل بالعقل الفعال اتصالا يتصور فيه منه
18
ذلك المعقول ليس أن ذلك المعقول حاضر فى ذهنه ومتصور فى عقله
19
بالفعل دائما، ولا كما كان قبل التعلم وتحصيل هذا الضرب من
20
العقل بالفعل، وهو القوة تحصّل للنفس أن تعقل بها ما تشاء
248
1
فإذا شاءت اتصلت وفاض فيها الصورة المعقولة، وتلك الصورة هى
2
العقل المستفاد بالحقيقة، وهذه القوة هى العقل بالفعل فينا من
3
حيث لنا أن نعقل، وأما العقل المستفاد فهو العقل بالفعل من حيث
4
هو كمال، وأما التصور للأمور المتخيلة فهو رجوع من النفس إلى
5
الخزائن للمحسوسات، والأول نظر إلى فوق وهذا نظر إلى أسفل،
6
فإن خلص عن البدن وعوارض البدن فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل
7
الفعال تمام الاتصال، ويلقى هناك الجمال العقلى واللذة السرمدية
8
كما نتكلم عليه فى بابه،
9
واعلم أن التعلم سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من
10
نفس المتعلم فإنه متفاوت فيه، فإن من المتعلمين من يكون
11
أقرب إلى التصور لأن استعداده الذى قبل الاستعداد الذى ذكرناه
12
أقوى، فإن كان ذلك للإنسان فيما بينه وبين نفسه سمى هذا
13
الاستعداد القوى حدسا، وهذا الاستعداد قد يشتد فى بعض الناس
14
حتى لا يحتاج فى أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شىء وإلى
15
تخريج وتعليم، بل يكون شديد الاستعداد لذلك كأن الاستعداد
16
الثانى حاصل له، بل كأنه يعرف كل شىء من نفسه، وهذه
17
الدرجة أعلى درجات هذا الاستعداد، ويجب أن تسمى هذه الحالة
18
من العقل الهيولانى عقلا قدسيا، وهى شىء من جنس العقل
19
بالملكة إلّا أنه رفيع جدا ليس مما يشترك فيه الناس كلهم، ولا يبعد
249
1
أن يفيض بعض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسية لقوتها
2
واستعلاءها فيضانا على المتخيلة فتحاكيها المتخيلة أيضا بأمثلة
3
محسوسة ومسموعة من الكلام على النحو الذى سلفت الإشارة إليه،
4
ومما يحقق هذا أن من المعلوم الظاهر أن الأمور المعقولة التى
5
يتوصل إلى اكتسابها إنما تكتسب بحصول الحد الأوسط فى القياس،
6
وهذا الحد الأوسط قد يحصل ضربين من الحصول، فتارة يحصل
7
بالحدس، والحدس هو فعل للذهن يستنبط به بذاته الحد الأوسط،
8
والذكاء قوة الحدس، وتارة يحصل بالتعليم، ومبادى[*]ومبادى Middle Arabic for ومبادئ التعليم
9
الحدس، فإن الأشياء تنتهى لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب
10
تلك الحدوس، ثم أدوها إلى المتعلمين، فجائز إذًا أن يقع للإنسان
11
بنفسه الحدس وأن ينعقد فى ذهنه القياس بلا معلم، وهذا مما
12
يتفاوت بالكمّ والكيف، أما فى الكمّ فلأن بعض الناس يكون أكثر عدد
13
حدس للحدود الوسطى، وأما فى الكيف فلأن بعض الناس أسرع
14
زمان حدس، ولأن هذا التفاوت ليس منحصرا فى حد بل يقبل
15
الزيادة والنقصان دائما وينتهى فى طرف النقصان إلى من لا حدس
16
له البتة فيجب أن ينتهى أيضا فى طرف الزيادة إلى من له حدس
17
فى كل المطلوبات أو أكثرها وإلى من له حدس فى أسرع وقت
18
وأقصره، فيمكن إذًا أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس
19
بشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادى[*]بالمبادى Middle Arabic for بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل
20
حدسا، أعنى قبولا لها من العقل الفعال فى كل شىء وترتسم فيه
21
الصور التى فى العقل الفعال إما دفعة وإما قريبا من دفعة ارتساما
250
1
لا تقليديا بل بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى، فإن التقليديات
2
فى الأمور التى إنما تعرف بأسبابها ليست يقينية عقلية، وهذا
3
ضرب من النبوة بل أعلى قوى النبوة، والأولى أن تسمى هذه القوة
4
قوة قدسية، وهى أعلى مراتب القوى الإنسانية،
5
فصل ٧
6
(فى عد المذاهب الموروثة عن القدماء فى أمر النفس وأفعالها
7
وأنها واحدة أو كثيرة وتصحيح القول الحق فيها)
8
إن المذاهب فى ذات النفس وفى أفعالها مختلفة، فمنها قول
9
من زعم أن النفس ذات واحدة وأنها تفعل جميع الأفعال بنفسها
10
باختلاف الآلات، ومن هؤلآء من زعم أن النفس عالمة بذاتها
11
تعلم كل شىء وإنما تستعمل الحواسّ والآلات المقربة للمدركات
12
منها بسبب أن تتنبه به لما فى ذاتها، ومنهم من قال إن
13
ذلك على سبيل التذكر لها فكأنها عرض لها عنده أن نسيت،
14
ومن الفرقة الأولى من قال إن النفس ليست واحدة بل عدة وإن
15
النفس التى فى بدن واحد هى مجموع نفوس، نفس حساسة دراكة
16
ونفس غضبية ونفس شهوانية، فمن هؤلاء من جعل النفس الشهوانية
17
هى النفس الغذائية، وجعل موضعها القلب، وجعل لها شهوة
18
الغذاء والتوليد جميعا، ومنهم من جعل التوليد لقوة من هذا
19
الجزء من أجزاء النفس فائضة إلى الأنثيين فى الذكر والأنثى،
251
1
ومنهم من جعل النفس ذاتا واحدة، وتفيض عنها هذه القوى،
2
وتختص كل قوة بفعل، وأنها إنما تفعل ما تفعل من الأمور
3
المذكورة بتوسط هذه القوى،
4
فمن قال إن النفس واحدة فعالة بذاتها احتج بما سيحتج به
5
أصحاب المذهب الآخر مما نذكره، ثم قال فإذا كانت واحدة
6
غير جسم استحال أن تنقسم فى الآلات وتتكثر، فإنها حينئذ تصير
7
صورة مادية، وقد ثبت عندهم أنها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة
8
لنا إلى تعدادها ههنا، قالوا فهى بنفسها تفعل ما تفعل بآلات
9
مختلفة، والذين قالوا من هؤلآء إن النفس علامة بذاتها احتجوا
10
وقالوا لأنها إن كانت جاهلة عادمة للعلوم فإما أن يكون ذلك لها
11
لجوهرها أو يكون عارضا لها، فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم
12
البتة، وإن كان عارضا لها فالعارض يعرض على الأمر الموجود
13
للشىء، فيكون موجودا للنفس أن تعلم الأشياء لكن عرض لها أن
14
جهلت بسبب، فيكون السبب إنما يتسبب للجهل لا للعلم،
15
فإذا رفعنا الأسباب العارضة بقى لها الأمر الذى فى ذاتها، ثم
16
إذا كان الأمر الذى لها فى ذاتها هو أن تعلم فكيف يجوز أن
17
يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم وهى بسيطة
18
روحانية لا تنفعل؟، بل يجوز أن يكون عندها العلم وتكون
19
معرضة عنه مشغولة إذا نبهت علمت، وكان معنى التنبيه ردّها
20
إلى ذاتها وإلى حال طبيعتها، فتصادف نفسها عالمة بكل شىء،
21
وأما أصحاب التذكر فإنهم احتجوا وقالوا إنه لو لم تكن النفس
22
علمت وقتا ما تجهله الآن وتطلبه لكانت إذا ظفرت به لم تعلم أنه
252
1
المطلوب كطالب العبد الآبق، وقد فرغنا عن ذكر هذا فى
2
موضع آخر وعن نقضه، والذين كثروا النفس فقد احتجوا وقالوا
3
كيف يمكننا أن نقول إن الأنفس كلها نفس واحدة، ونحن نجد
4
النبات وله النفس الشهوانية أعنى التى ذكرناها فى هذا الفصل
5
وليس له النفس المدركة الحاسّة المميزة، فتكون لا محالة هذه
6
النفس شيئا منفردا بذاته دون تلك النفس، ثم نجد الحيوان وله
7
هذه النفس الحساسة الغضبية، ولا تكون هناك النفس النطقية
8
أصلا، فتكون هذه النفس البهيمية نفسا على حدة، فإذا اجتمعت
9
هذه الأمور فى الإنسان علمنا أنه قد اجتمع فيه أنفس متباينة مختلفة
10
الذوات قد يفارق بعضها بعضا، فلذلك تختص كل واحدة منها
11
بموضع، فيكون للمميزة الدماغ ويكون للغضبية الحيوانية القلب
12
ويكون للشهوانية الكبد،
13
فهذه هى المذاهب المشهورة فى أمر النفس، وليس يصح منها
14
إلّا المذهب الأخير مما عدّ أولا، فلنبيّن صحته ثم لنقبل على
15
حل الشبه التى أوردوها، فنقول قد بان مما ذكرناه أن الأفعال
16
المتخالفة هى لقوى متخالفة وأن كل قوة من حيث هى فإنما هى
17
كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الأول الذى لها، فتكون القوة
18
الغضبية لا تنفعل من اللذّات ولا الشهوانية من المؤذيات ولا
19
تكون القوة المدركة متأثرة مما تتأثر هاتان عنه، ولا شىء
253
1
من هاتين من حيث هما قابل للصورة المدركة متصور لها،
2
فإذا كان هذا أمرا متقرّرا فنقول إنه يجب أن يكون لهذه القوى
3
رباط يجمعها كلها فتجتمع إليه، وتكون نسبته إلى هذه القوى
4
نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التى هى الرواضع، فإنّا نعلم
5
يقينا أن هذه القوى يشغل بعضها بعضا، وقد عرفت هذا فى ما
6
سلف لك، ولو لم يكن رباط يستعمل هذه فيشتغل ببعضها عن
7
بعض فلا يستعمل ذلك البعض ولا يدبره لما كان بعضها يمنع
8
بعضا عن فعله بوجه من الوجوه ولا ينصرف عنه، لأن فعل قوة
9
من القوى إذا لم يكن لها اتصال بقوة أُخرى لا يمنع القوة
10
الأُخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة ولا المحل مشتركا ولا
11
أمر يجمعهما غير ذلك مشتركا، كيف ونحن نرى أن الإحساس
12
يثير الشهوة والقوة الشهوانية لا تنفعل من المحسوس من حيث
13
هو محسوس، فإن انفعل لا من حيث هو محسوس لم يكن الانفعال
14
الذى يكون لشهوة ذلك المحسوس، فيجب لا محالة أن يكون
15
هو الذى يحسّ، وليس يجوز أن تكون القوتان واحدة، فبيّن أن
16
القوتين لشىء واحد، فلهذا يصدق أن نقول "إنّا لما أحسسنا
17
اشتهينا" و" لما رأينا كذا غضبنا"
18
وهذا الشىء الواحد الذى تجتمع فيه هذه القوى هو الشىء
19
الذى يراه كل منّا ذاته حتى يصدق أن يقول "لما أحسسنا
254
1
اشتهينا" وهذا الشىء لا يجوز أن يكون جسما، أما أولا فلأن
2
الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه القوى وإلّا
3
كان كل جسم له ذلك بل لأمر به يصير كذلك، ويكون ذلك
4
الأمر هو الجامع الأول، وهو كمال الجسم من حيث هو مجمع،
5
وهو غير الجسم، فيكون إذًا المجمع هو شىء غير جسم، وهو
6
النفس، وأما ثانيا فقد تبيّن أن من هذه القوى ما ليس يجوز أن
7
يكون جسمانيا مستقرّا فى جسم، فإن تشكّك فقيل إنه إن جاز أن
8
تكون هذه القوى لشىء واحد مع أنها لا تجتمع معا فيه إذ بعضها
9
لا يحل الأجسام وبعضها يحلها فتكون مع افتراقها من غير أن
10
تكون بصفة واحدة منسوبة إلى شىء واحد فلم لا يكون كذلك
11
الآن ويكون كلها منسوبة إلى جسم أو جسمانى؟ فنقول لأن هذا
12
الذى ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى، فيفيض عنه
13
بعضها فى الآلة وبعضها يختص بذاته، وكلها يؤدى إليه نوعا
14
من الأداء، واللواتى تكون فى الآلة تجتمع فى مبدأ يجمعها فى
15
الآلة ذلك المبدأ، وهو فائض عن الغنى عن الآلة كما نبيّن
16
حاله بعد فى حل الشبه، وأما الجسم فلا يمكن أن تكون هذه
17
القوى كلها فائضة منه، فإن نسبة القوى إلى الجسم ليس على
18
سبيل الفيضان بل على سبيل القبول، والفيضان يجوز أن يكون
19
على سبيل مفارقة للفيض عن المفيض، والقبول لا يجوز أن
20
يكون على تلك السبيل،
255
1
وأما ثالثا فإن هذا الجسم إما أن يكون جملة البدن فيكون إذا
2
نقص منه شىء لا يكون ما نشعر به أنّا نحن موجودا، وليس كذلك،
3
فإنى أكون أنا وإن لم أعرف أن لى يدا ورجلا أو عضوا من هذه
4
الأعضاء على ما سلف ذكره فى مواضع أُخرى، بل أظن أن هذه
5
توابعى وأعتقد أنها آلات لى أستعملها فى حاجات لولا تلك الحاجات
6
لما احتيج إليها لى، وأكون أيضا أنا أنا وليست هى، ولنعد ما
7
سلف ذكره منّا فنقول لو خلق إنسان دفعة واحدة وخلق متباين
8
الأطراف ولم يبصر أطرافه واتفق أن لم يمسها ولا تماست ولم
9
يسمع صوتا جهل وجود جميع أعضائه وعلم وجود أنيته شيئا واحدا
10
مع جهل جميع ذلك، وليس المجهول بعينه هو المعلوم، وليست هذه
11
الأعضاء لنا فى الحقيقة إلّا كالثياب التى صارت لدوام لزومها إيانا
12
كأجزاء منّا عندنا، وإذا تخيلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة، بل
13
تخيلناها ذوات أجسام كاسية، والسبب فيه دوام الملازمة، إلّا
14
أنّا قد اعتدنا فى الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد فى الأعضاء،
15
فكان ظننا الأعضاء أجزاء منّا أكد[*]أكد corrupt for آكد من ظننا الثياب أجزاء منّا،
16
وأما إن لم يكن ذلك جملة البدن بل كان عضوا مخصوصا، فيكون
17
ذلك العضو هو الشىء الذى أعتقد أنه لذاته أنا، أو يكون معنى ما
256
1
أعتقده أنه أنا ليس هو ذلك العضو وإن كان لا بد له من العضو،
2
فإن كان ذات ذلك العضو وهو كونه قلبا أو دماغا أو شيئا آخر أو
3
عدة أعضاء بهذه الصفة هويتها أو هوية مجموعها هو الشىء الذى
4
أشعر به أنه أنا فيجب أن يكون شعورى بأنا هو شعورى بذلك
5
الشىء، فإن الشىء لا يجوز من جهة واحدة أن يكون مشعورا به
6
وغير مشعور به، وليس الأمر كذلك، فإنى إنما أعرف أن لى قلبا
7
ودماغا بالإحساس والسماع والتجارب لا لأنى أعرفه أنى أنا، فيكون
8
إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشىء الذى أشعر به أنه أنا بالذات،
9
بل يكون بالعرض أنا، ويكون المقصود بما أعرفه منى أنى أنا الذى
10
أعنيه فى قولى "أنا أحسست وعقلت وفعلت وجمعت هذه الأوصاف"
11
شيئا آخر هو الذى أسميه أنا، فإن قال هذا القائل إنك أيضا
12
لا تعرفه أنه نفس فأقول إنى دائما أعرفه على المعنى الذى أسميه
13
النفس، وربما لا أعرف تسميته باسم النفس، فإذا فهمت ما أعنى
14
بالنفس فهمت أنه ذلك الشىء وأنه المستعمل للآلات من المحركة
15
والدراكة، وإنما لا أعرف ما دمت لا أفهم معنى النفس، وليس
16
كذلك حال قلب ولا دماغ، فإنى أفهم معنى القلب والدماغ ولا
17
أعلم ذلك، فإنى إذا عنيت بالنفس أنه الشىء الذى هو مبدأ هذه
18
الحركات والإدراكات التى لى ومنتهاها فى هذه الجملة عرفت أنه إما
19
أن يكون بالحقيقة أنا أو يكون هو أنا مستعملا لهذا البدن، فكأنى
20
الآن لا أقدر أن أميز الشعور بأنا مفردا عن مخالطة الشعور بأنه
257
1
مستعمل للبدن ومقارن للبدن، وأما أنه جسم أو ليس بجسم فليس
2
يجب عندى أن يكون جسما ولا يتخيل هو لى جسما من الأجسام
3
البتة، بل يتخيل لى وجوده فقط من غير جسمية، فيكون قد فهمت
4
من جهة أنه ليس بجسم إذا لم أفهم له الجسمية مع أنى فهمته،
5
ثم إذا حققت فإنى كلما عرضت جسمية لهذا الشىء الذى هو مبدأ
6
هذه الأفعال لم يجز أن يكون ذلك الشىء جسما، فبالحرى أن
7
يكون تمثله الأول فى نفسى أنه شىء مخالف لهذه الظواهر وأن
8
تغلطنى مقارنة الآلات ومشاهدتها وصدور الأفعال عنها، فأظن أنها
9
كالأجزاء منّى، وليس إذا غلط فى شىء وجب له حكم، بل الحكم
10
لما يلزم أن يعقل، وليس إذا كنت طالبا لوجوده ولكونه غير جسم
11
فقد كنت جاهلا بهذا جهلا مطلقا، بل كنت غافلا عنه، وكثيرا ما
12
يكون العلم بالشىء قريبا فيغفل عنه ويصير فى حد المجهول، ويطلب
13
من موضع أبعد، وربما كان العلم القريب جاريا مجرى التنبيه
14
وكان مع خفة المؤونة فيه كالمذهوب عنه، فلا ترجع الفطنة إلى
15
طريقه لضعف الفهم فيحتاج أن يؤخذ فيه مأخذ بعيد، فبيّن
16
من هذا أن لهذه القوى مجمعا هو الذى يؤدى كلها إليه، وأنه غير
17
جسم وإن كان مشاركا للجسم أو غير مشارك،
18
وإذ قد بينا صحة هذا الرأى فيجب أن نحل الشبه المذكورة،
258
1
أما الشبهة الأولى فنقول إنه ليس يجب إذا كانت النفس واحدة الذات
2
أن لا تفيض عنها فى أعضاء مختلفة قوى مختلفة، بل من الجائز أن
3
يكون أول ما يفيض عنها فى البزر والمنى قوة الإنشاء، فتنشئ
4
أعضاء على حسب موافقة أفعال تلك القوة، ويستعدّ كل عضو لقبول
5
قوة خاصة لتفيض عنها، ولولا ذلك لكان خلق البدن معطلا
6
لها، وأما من تشكّك فجعل النفس عالمة لذاتها فهو فاسد، فإنه
7
ليس يجب إذا كان جوهر النفس خاليا بذاته عن العلم أن يستحيل
8
له وجود العلم، فإنه فرق بين أن يقال إن جوهر الشىء باعتبار ذاته
9
لا يقتضى العلم وبين أن يقال إن جوهره بذلك الاعتبار يقتضى أن لا
10
يعلم، فإن لزوم الجهل مع كل واحد من القولين مختلف، فإنّا وإن
11
سلمنا أن النفس بجوهرها جاهلة فإنما نعنى أن جوهرها إذا انفرد ولم
12
يتصل به سبب من خارج لزمه الجهل بشرط الانفراد مع شرط الجوهر
13
لا بشرط الجوهر وحده، ولسنا نعنى بهذا أن جوهرها جوهر لا يعرى
14
عن الجهل، وإن لم نسلم بل قلنا إن ذلك أمر عارض لها فليس
15
يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعى، فإنه
16
ليس إذا قلنا إن الخشبة خالية عن صورة السريرية وإن ذلك
17
الخلو ليس لجوهرها بل أمر عارض لها جائز الزوال كان هذا
18
القول كأنك تقول يجب أن يكون قد كانت فيها صورة السريرية
259
1
ثم انفسخت، ومن المحال أيضا ما قاله المتشكّك من ارتداد الشىء
2
إلى ذاته، فإن الشىء لا يغيب البتة عن ذاته، بل ربما قيل إنه
3
قد يغيب عن أفعال قد تختص بذاته وتتم بذاته وحدها، وإنما
4
يتوسع فيقال هذا لأن هذه الأفعال لا تكون موجودة له، بل لا
5
تكون موجودة أصلا، وأما ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها،
6
وبالحقيقة فإن أفعاله لا يجوز أن يقال فيها أنه يغيب عنها، لأن
7
الغائب هو موجود فى نفسه غير موجود للشىء، وهذه الأفعال ليست
8
موجودة أصلا إلّا وقت ما يوجدها، فلا يكون غائبا عنها، وأما ذات
9
الشىء فلا يغيب الشىء عنها ولا يرجع إليها،
10
وأما أصحاب التذكر فقد نقض احتجاجهم فى الصناعة الآلية،
11
وأما حجة هؤلآء الذين يجزؤون النفس فقد أخذ فيها مقدمات
12
باطلة، من ذلك قولهم إنه توجد النفس النباتية مفارقة للحساسة،
13
فيجب أن يكون فى الإنسان شىء آخر غيره، فإن هذه المقدمة
14
سوفسطائية، وذلك لأن المفارقة تتوهم على وجوه، والتى نحتاج
15
إليها هاهنا وجهان، أحدهما أنه قد يتوهم لها مفارقة كما
16
للّون عن البياض وللحيوان عن الإنسان إذ توجد هذه الطبيعة فى
17
غير البياض وتلك فى غير الإنسان بأن يقارن كل فصلا آخر، وقد
18
تتوهم مفارقة كما للحلاوة المقارنة للبياض فى جسم، فإنها قد
19
توجد مفارقة له، فتكون الحلاوة والبياض قوتين مختلفتين لا يجمعهما
20
شىء، وأليق المفارقات بالنفس النباتية للنفس الحساسة هو القسم
21
الأول، وذلك لأن النفس النباتية الموجودة فى النخلة لا تشارك
260
1
القوة النامية الموجودة فى الإنسان البتة فى النوع، فإن تلك القوة
2
ليست بحيث تصلح لأن تقارن النفس الحيوانية البتة، ولا القوة
3
النامية التى للحيوان تصلح لأن تقارن النفس النخلية، ولكن
4
يجمعهما معنى واحد وهو أن كل واحدة منهما تغذى وتنمى وتولد
5
وإن كانت بعد ذلك تنفصل بفصل مقوم منوع لا بعرض فقط،
6
والمعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوة النباتية التى للإنسان،
7
ويفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسى، ونحن لا نمنع أن يوجد
8
جنس هذه القوى لأشياء أُخرى، وليس ذلك أنه يجب أن لا تجتمع
9
هذه القوى فى الإنسان لنفس واحدة، بل ليس يجب من ذلك أن
10
لا تكون الطبيعة النامية الموجودة فى الحيوان مقولة على نفس
11
الحيوانية التى له حتى تكون نفسه الحيوانية هى تلك القوة كما أن
12
الإنسان ليس شيئا غير حصته فى جنس الحيوانية، وهذا شىء قد تحقق
13
لك فى المنطق، فهذا ليس يوجب أن تكون النفس النامية التى
14
فى الإنسان غير النفس الحيوانية فضلا عن أن تكونا قوتى نفس
15
واحدة، فليس إذًا النباتية التى فى الإنسان توجد البتة مفارقة
16
بنوعها للإنسان، واحتجاجهم غير منتفع به إذا كانت القوة لا تفارق
17
بنوعيتها بل بجنسيتها، وهما مختلفتان، ومع ذلك فلنضع القوة
18
النباتية فى الحيوان مخالفة للقوة الحيوانية فيه كأن كل واحدة منهما
19
نوع محصل منفرد بنفسه وليس أحدهما الآخر ولا مقولا عليه، فما
261
1
فى ذلك مما يمنع أن تكون القوتان جميعا فى الحيوان لنفس الحيوان،
2
كما أنه ليس إذا وجدت الرطوبة فى غير الهواء وليست مقارنة للحرارة
3
يجب من ذلك أن لا تكون الرطوبة والحرارة فى الهواء لصورة واحدة
4
أو لمادة واحدة، وليس إذا كانت حرارة توجد غير صادرة عن
5
الحركة بل عن حرارة أُخرى يجب من ذلك أن الحرارة فى موضع
6
آخر ليست تابعة للحركة،
7
ونقول ليس يمتنع أن تكون هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا
8
وتنسب إلى ذات واحدة هى فيها، فأما كيفية تصور هذا فهو
9
أن الأجسام العنصرية يمنعها صرفية التضاد عن قبول الحياة، فكلما
10
أمعنت فى هدم طرف من التضاد ورده إلى التوسط الذى لا ضد
11
له جعلت تضرب إلى شبه بالأجسام السماوية، فتستحق بذلك
12
قبول قوة محيية من الجوهر المفارق المدبر، ثم إذا ازدادت قربا
13
من التوسط ازدادت قبول حياة حتى تبلغ الغاية التى لا يمكن أن
14
يكون أقرب منها إلى التوسط ولا أهدم منها للطرفين المتضادين،
15
فتقبل جوهرا مقارب الشبه من وجه ما للجوهر المفارق كما للجواهر
16
السماوية، فيكون حينئذ ما كان يحدث فى غيره من المفارق يحدث
17
فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتصل به الجوهر، ومثال هذا
18
فى الطبيعيات لنتوهم مكان الجوهر المفارق نارا أو شمسا ومكان
19
البدن جرما يتأثر عن النار، وليكن كرة ما، وليكن مكان النفس
20
النباتية تسخينها إياها ومكان النفس الحيوانية إنارتها فيها ومكان
21
النفس الإنسانية إشعالها فيها نارا، فنقول إن ذلك الجرم المتأثر
262
1
كالكرة إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثر فيه وضعا يقبل
2
الاشتعال منه نارا ولا إضاءته وإنارته ولكن وضعا يقبل تسخينه لم
3
يقبل غير ذلك، فإن كان وضعه وضعا يقبل تسخينه ومع ذلك هو
4
مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها عنه استنارة
5
قوية فإنه يسخن عنه ويستضىء معا، ويكون الضوء الواقع فيه منه
6
هو مبدأ أيضا مع ذلك المفارق لتسخينه، فإن الشمس إنما تسخن
7
بالشعاع، ثم إن كان الاستعداد أشد وهناك ما من شأنه أن يشتعل
8
من المؤثر الذى من شأنه أن يحرق بقوته أو شعاعه اشتعل فحدثت
9
الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه، وتكون تلك الشعلة أيضا مع
10
المفارق علة للتنوير والتسخين معا حتى لو بقيت وحدها لاستتم أمر
11
التنوير والتسخين، ومع هذا فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده
12
أو التسخين والتنوير وحدهما ولم يكن المتأخر منهما مبدأ يفيض عنه
13
المتقدم، وكان إذا اجتمعت الجملة يصير حينئذ كل ما فرض متأخرا
14
مبدأ أيضا للمتقدم وفائضا عنه المتقدم، فهكذا فليتصور الحال فى
15
القوى النفسانية، وسيأتى فى بعض الفنون المتأخرة ما يشرح صورة
16
الأمر فى هذا حيث نتكلم فى تولد الحيوان،
17
فصل ٨
18
(فى بيان الآلات التى للنفس)
19
وبالحرى أن نتكلم الآن فى الآلات التى للنفس، فنقول إنه قد
20
أفرط الناس فى أمر الأعضاء التى تتعلق بها القوى الرئيسة من
263
1
النفس إفراطا فى جنبتى اللجاج، وركنوا إلى تعسف كثير وتعصب
2
شديد مال إليه كل واحد من الفريقين حتى خرج من الحق،
3
وأكثرهم غلطا من جعل النفس ذاتا واحدة وقضى مع ذلك أن
4
الأعضاء الرئيسة كثيرة، فإنه لما خالف فيه الفلاسفة القائلة بتكثر
5
أجزاء النفس ووافق من قال بوحدانيتها لم يعلم أنه يلزمه أن
6
يجعل العضو الرئيس واحدا، وهو الذى يكون به أول تعلق
7
النفس، وأما المكثرون لأجزاء النفس فما عليهم أن يجعلوا لكل
8
جزء منها معدنا مخصوصا ومركزا مفردا،
9
فنقول أولا إن القوى النفسانية البدنية مطيتها الأولى جسم لطيف
10
نافذ فى المنافذ روحانى، وإن ذلك الجسم هو الروح، وإنه لولا
11
أن قوى النفس المتعلقة بالجسم تنفذ محمولة فى جسم لما كان سد
12
المسالك حابسا لنفوذ القوى المحركة والحساسة والمتخيلة أيضا، وهو
13
حابس ظاهر الحبس عند من جرب التجارب الطبية، وهذا الجسم
14
نسبته إلى لطافة الأخلاط وبخاريتها نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط،
15
وله مزاج مخصوص، ومزاجه يتغير أيضا بحسب الحاجة إلى اختلاف
16
يقع فيه ليصير به حاملا لقوى مختلفة، فإنه ليس يصلح المزاج الذى
17
معه يغضب للمزاج الذى معه يشتهى أو يحسّ، ولا المزاج الذى
18
يصلح للروح الباصر هو بعينه الذى يصلح للروح المحرك، ولو كان
19
المزاج واحدا لكانت القوى المستقرة فى الروح واحدة وأفعالها واحدة،
20
فإذا كانت النفس واحدة فيجب أن يكون لها أول تعلق بالبدن،
21
ومن هناك تدبره وتنميه، وأن يكون ذلك بتوسط هذا الروح، ويكون
264
1
أول ما تفعل النفس يفعل العضو الذى بوساطته تنبعث قواها فى
2
سائر الأعضاء بتوسط هذا الروح، وأن يكون ذلك العضو أول
3
متكوّن من الأعضاء وأول معدن لتولد الروح، وهذا هو القلب،
4
يدل على ذلك ما حققه التشريح المتقن، وسنزيد هذا المعنى شرحا
5
فى الفن الذى فى الحيوان،
6
فيجب أن يكون أول تعلق النفس بالقلب، وليس يجوز أن تتعلق
7
بالقلب ثم بالدماغ فإنها إذا تعلقت بأول عضو صار البدن نفسانيا،
8
وأما الثانى فإنما تفعل فيه لا محالة بتوسط هذا الأول، فالنفس
9
تحيى الحيوان بالقلب لكن يجوز أن تكون قوى الأفعال الأُخرى
10
تفيض من القلب إلى الأعضاء الأُخرى لأن الفيض يجب أن يكون
11
صادرا من أول متعلق به، فيكون الدماغ هو الذى يتم فيه مزاج
12
الروح الذى يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحسّ والحركة إلى
13
الأعضاء حملا يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها، وكذلك
14
حال الكبد بالقياس إلى قوى التغذية، ولكن يكون القلب هو
15
المبدأ الأول الذى أول تعلقه به ومنه ينفذ إلى غيره ويكون
16
الفعل فى أعضاء أُخرى كما أن مبدأ الحسّ عند مخالفى هذا القول
17
إنما هو فى الدماغ لكن أفعال الحسّ لا تكون به وفيه بل فى أعضاء
18
أُخرى كالجلد وكالعين وكالأذن، وليس يجب من ذلك أن لا يكون
19
الدماغ مبدأ، كذلك أيضا يجوز أن يكون القلب مبدأ لقوى
20
التغذية ولكن أفعالها فى الكبد ولقوى التخيل والتذكر والتصور
21
لكن أفعالها فى الدماغ، بل ينبغى أن يكون المبدأ للقوى المختلقة
22
غير صالح لأن يصدر عن معدنه جميع أفعالها، بل يجب أن تتفرع
23
فى آلات مختلفة تتخلق بعد ذلك العضو تخلقا، وتفيض من ذلك
24
العضو إليها قوة ملائمة لمزاج ذلك الفرع واستعداده على ما
265
1
ستقف عليه فى ذكر الحيوان حتى لا يكون على العضو الذى هو
2
المبدأ ثقل، ولذلك خلقت العصب للدماغ والأوردة للكبد ــ كان
3
الدماغ والكبد مبدأين أولين للحسّ والحركة والتغذية أو كانا
4
مبدأين ثانيين، وإذا فاض من القلب قوة التكوين والتخليق إلى
5
الدماغ فتكوّن الدماغ فلا كثير بأس بأن يكون الدماغ يرسل
6
من نفسه آلة يستمدّ بها الحسّ والحركة من القلب أو يكون
7
القلب ينفذ إليه الآلة التى بتوسطها ينفذ إليه الحسّ والحركة،
8
فلا يجب أن يقع من المضايقة فى أمر خلقة العصب أن مبدأها من
9
القلب أو من الدماع ما هو ذا يقع، بل نسلم أنه من الدماغ
10
ويستمدّ من القلب كما أن الكبد يرسل إلى المعدة ما يستمدّ منها
11
فيه، ولها أيضا عروق تمد غيرها بها، فليس يجب أن يكون
12
العضو الذى هو مبدأ قوة فيه أيضا أول أفعال تلك القوة وأن
13
يكون آلة لأفعال تلك القوة، بل يجوز أن تكون الآلة خلقت
14
للاستمداد من شىء آخر وأن يكون إنما يستمدّ بعد تخلقها، حتى
15
يكون الدماغ أول ما تخلق لم يكن مبدأ للحسّ والحركة بالفعل
16
بل مستعدّا لأن يصير مبدأ ما للأعضاء التى بعده إذا استمدّ من
17
غيره بعد أن تتخلق آلة الاستمداد من غيره له، فلما تخلق منه
18
عصب ذاهب إلى القلب استمدّ الحسّ والحركة منه حينئذ، ويمكن
19
أن يكون مع تخلق هذا المنفذ بلا تأخر، فلا يكون فى نفوذه عنه
20
إلى القلب حجة أيضا ولا شبه حجة، بل كما تخلق الدماغ تخلق
21
معه من مادته شىء نافذ إلى القلب غريب عن القلب استمدّ منه
266
1
الحسّ والحركة، على أن نبات هذا العصب من الدماغ ومصيره منه
2
إلى القلب ليس شيئا يظهر الظهور الذى يظنه مدعى نبات العصب
3
الذى بين الدماغ والقلب من الدماغ إلى القلب لا من القلب إلى
4
الدماغ على ما سنوضحه فى موضعه من كلامنا فى طبائع الحيوان
5
ونطول الكلام فيه طولا يشفى ويقنع،
6
ومع ذلك فلنعد إلى معاملة أُخرى، فنقول إنه ليس بمستحيل أن
7
يكون مبدأ وجود قوة هو فى عضو، فتنفذ من ذلك العضو إلى عضو
8
آخر، وهناك تتم القوة وتستكمل ثم تنعطف إلى هذا العضو الأول
9
فترفده، فإن الغذاء إنما يصير إلى الكبد من المعدة، ثم إذا صار
10
هناك على نحو ما عاد فغذى المعدة فى عروق تنبعث من الطحال
11
والأجوف وتنبث فى المعدة، فلا ضير أن يكون مبدأ القوة ينبعث من
12
القلب مثلا ولا تكون القوة فى القلب كاملة تامة ثم إنها تفيد
13
القلب إذا استكملت فى عضو آخر، وهكذا حال الحسّ المشترك فإن
14
مبدأ القوة الحساسة الجزئية منه ثم إنها تعود إليه بالفائدة على
15
أن حسّ القلب نفسه وخصوصا اللمس أعظم من حسّ الدماغ نفسه،
16
ولذلك أوجاعه لا تحتمل، وعلى أنه ليس بممتنع فى القوى أن تصير
17
أقوى وأشد فى غير مباديها[*]مباديها Middle Arabic for مبادئها لمصادفة مواد تجعلها بتلك الحال، ويشبه
18
أن تكون قوة أطراف الأوتار على الجذب أشد من قوة أوائلها التى
19
تلى العصب، فالقلب مبدأ أول تفيض منه إلى الدماغ قوى،
267
1
فبعضها تتم أفعالها فى الدماغ وأجزائه كالتخيل والتصور وغير
2
ذلك، وبعضها يفيض من الدماغ إلى أعضاء خارجة عنه كما يفيض
3
إلى الحدقة وإلى العضل المحركة، وتفيض من القلب إلى الكبد قوة
4
التغذية ثم تفيض من الكبد بتوسط العروق فى جميع البدن وتغذو
5
القلب أيضا، فتكون القوة مبدأها من القلب والمادة مبدأها من
6
الكبد،
7
وأما القوى الدماغية فإن البصر يتم بالرطوبة الجليدية التى هى
8
كالماء الصافى، فتقبل صور المبصرات وتؤديها إلى الروح الباصر،
9
ويكون تمام الإبصار عند ملتقى العصبة المجوفة على ما علم من
10
تشريحه وتعريف حاله، وأما الشم فبزائدتين فى مقدم الدماغ
11
كحلمتى الثدى، وأما الذوق فبأعصاب دماغية تأتى اللسان والحنك
12
وتؤتيهما الحسّ والحركة، وأما السمع فبأعصاب أيضا دماغية تأتى
13
الصماخ فتغشى السطح المحيط به، وأما اللمس فبأعصاب دماغية
14
ونخاعية تنتشر فى البدن كله،وأكثر عصب الحسّ من مقدم الدماغ
15
لأن مقدم الدماع ألين واللين أنفع فى الحسّ، ومقدم الدماغ كما
16
يتأدى إلى خلف وإلى النخاع يصير أصلب ليتدرج إلى النخاع
17
الذى يجب أن تعين دقته الصلابة، وأكثر عصب الحركة التى
18
من الدماغ إنما تنبت من مؤخر الدماغ لأنه أصلب والصلابة
19
أنفع فى الحركة وأعون عليها، والعصب التى للحركة فى أكثر
20
الأمر تتولد منها العضل، فإذا جاوزت العضل حدث منها ومن
21
الرباطات الأوتار، وأكثر اتصال أطرافها بالعظام، وقد يتصل فى
22
مواضع بغير العظام، وقد تتصل العضلة نفسها بالعضو المحرك من
268
1
غير توسط وتر، والنخاع كجزء من الدماغ ينفذ فى ثقب الفقارات
2
لئلا يبعد ما يتولد من العصب من الأعضاء بل يتولد منها
3
العصب مرسلة بالقرب إلى الموضع المحتاج كونها به، وأما القوة
4
المصورة والحسّ المشترك فهما من مقدم الدماغ فى روح تملأ
5
ذلك التجويف، وإنما كانا هناك ليطلا على الحواسّ التى أكثرها
6
إنما تنبعث من مقدم الدماغ، فبقى الفكر والذكر فى التجويفين
7
الآخرين لكن الذكر قد تأخر موضعه ليكون مكان الروح المفكرة
8
متوسطا بين خزانة الصور ويين خزانة المعنى، وتكون مسافته
9
بينهما واحدة، والوهم مستول على الدماغ كله وسلطانه فى الوسط،
10
وأخلق بأن يتشكّك متشكّك فيقول كيف ترتسم صورة جبل بل
11
صورة العالم فى الآلة اليسيرة التى تحتمل القوة المصورة، فنقول
12
له إن الإحاطة بانقسام الأجسام إلى غير النهاية تكفى مؤونة هذا
13
التشكّك، فإنه كما يرتسم العالم فى مرآة صغيرة وفى الحدقة بأن
14
ينقسم ما يرتسم فيها بحذاء أقسامه إذ الجسم الصغير ينقسم بحسب
15
قسمة الكبير عددا وشكلا وإن كان يخالف القسم القسم فى المقدار
16
فكذلك حال ارتسام الصور الخيالية فى موادها، ثم تكون نسبة ما
17
ترتسم فيه الصورة الخيالية بعضه إلى بعض فى عظم ما ترتسم
18
فيه وصغر ما ترتسم فيه نسبة الشيئين من خارج فى عظمهما
19
وصغرهما مع مراعاة التشابه فى البعد،
20
وأما قوة الغضب وما يتعلق بها فلم تحتج إلى عضو غير المبدأ
21
لأن فعلها فعل واحد وتلائم المزاج الشديد الحر وتحتاج إليه،
269
1
وليس تأثير المتفق منه أحيانا تأثير المتصل من الفكرة والحركة
2
حتى يخاف أن يشتعل اشتعالا مفرطا، وذلك لأنه مما يعرض أحيانا
3
وذانك كاللازم مثل الفهم والفكرة وما يشبههما مما يحتاج إلى
4
ثبات وإلى قبول ويجب أن يكون العضو المعد له أرطب وابرد،
5
وهو الدماغ لئلا يشتعل الحار الغريزى اشتعالا شديدا وليقاوم
6
الالتهاب الكائن بالحركة، ولما كانت التغذية مما يجب أن يكون
7
بعضو عديم الحسّ حتى يمتلئ من الغذاء ويفرغ منه فلا يوجعه
8
ذلك ولا يتألم كثيرا بما ينفذ فيه ومنه وإليه وأن يكون أرطب
9
جدا كيما يحفظ الحار القوى بالمعادلة والمقاومة فجعل ذلك العضو
10
الكبد، وجعل قوة التوليد فى عضو آخر شديد الحسّ ليعين على
11
الدعاء إلى الجماع بالشبق، وإلّا لم يكن يتكلف ذلك لو لم يكن
12
فيه لذة وإليه شبق إذ لا حاجة إليه فى بقاء الشخص، واللذة
13
تتعلق بعضو حساس فجعل له الأنثيان وأعينتا بآلات أُخرى بعضها
14
لجذب المادة وبعضها لدفعها كما يأتيك ذكره حيث نتكلم فى
15
الحيوان،