1
1
تلخيص كتاب الحس والمحسوس
2
للفقيه القاضى ابو الوليد بن رشد
3
المقالة الاولى
4
ولما تكلم فى كتاب الحيوان في اعضاء الحيوان وما يعرض لها، وتكلم بعد
5
هذا فى كتاب النفس فى النفس وفى اجزائها الكلية، شرع هاهنا فى التكلم
6
فى القوى الجزئية منها، وتميز العام منها لجميع الحيوان من الخاص. وبالجملة
7
فهو يفحص هاهنا عن القوى التى توجد للحيوان من جهة ما هو متنفس. ولما
8
كانت هذه القوى صنفين، صنف ينسب لجسد الحيوان من اجل وجود النفس
9
له مثل الحس والحركة، وصنف ينسب للنفس من اجل الجسد. وهذه هى
10
اجناس: منها النوم واليقظة؛ ومنها الشباب والهرم؛ ومنها الموت والحياة؛
11
ومنها دخول النفس وخروجه؛ ومنها الصحة والمرض؛ ومنها طول العمر وقصره؛
12
وكان قد تكلم فى الصنف الاول منها فى كتاب النفس كلامًا كليًا، ابتدأ
2
1
هاهنا فتكلم فيها كلامًا جزئيأ، اعنى انه يذكر فصولها العامة لجميع الحيوان
2
والخاصة بنوع نوع، ويوفى القول فى ما بقى عليه من اسباب تلك القوى. مثال ذلك
3
انه تكلم في كتاب النفس فى القوة المحركة الحيون فى المكان، ما هى
4
وكيف تحركا، وبقى عليه هاهنا ان يقول ما هى الاعضاء والآلات التى بها
5
تتم هذه الحركة.
6
ثم انه بعد ذلك يذكر الصنف الثانى من هذه القوى، وهذا الصنف هو
7
ضرورى فى جود الحيوان. وذلك ان كل قوة منها تشمل قوى كثيرة من قوى
8
النفس، وهى كالجنس لها. ولذلك كانت اكثر ضرورية من الصنف الاول،
9
مثل النوم واليقظة، فان النوم سكون جميع الحواس، واليقظة هي حركاتها. وكذلك
10
الموت ولحياة، والشباب والهرم، والصحة والمرض.
11
والذى يلفى لارسطو فى بلادنا هذه من القول فى هذه الاشياء التى وعد
12
فى صدر هذا الكتاب بالتكلم فيها، انما هو ثلاث مقالات فقط.
13
المقالة الاولى يتكلم فيها فى القوى الجزئية التى فى الحواس والمحسوسات،
14
وبهذا الجزء لقب هذا الكتاب. والمقالة الثانية يتكلم فيها فى الذكر والفكر
15
والنوم واليقظة والرؤيا.
3
1
والمقالة الثالثة فى طول العمر وقصره.
2
فنتكلم نحن اولًا في هذه المقالات الموجودة له على عادتنا، وإن
3
انسأ الله فى العمر فسنتكلم فى تلك الامور الاخر.
4
فلنبدأ بالقول فى الحس والمحسوس. والكلام بالجملة فى ذلك منحصر
5
فى اربعة اقسام: منها معرفة ماهية هذه القوى وماهية جزء جزء منها؛ ومنها
6
معرفة الآلات التى بها يتم فعل هذه القوى؛ ومنها معرفة مدركات
7
هذه القوى وهى المحسوسات؛ ومنها معرفة كيفية ادراك هذه القوى
8
هذه المحسوسات. وهذه كلها قد تكلم فيها فى كتاب النفس بكلام كلى.
9
وهو هاهنا يروم ان يستوفى الكلام فى الامور الجزئية الموجودة، والخواص التى
10
تختص بها هذه القوى فى انفسها وفى حيوان حيوان، والخواص التى تعم. ويعرف
4
1
ما بقى عليه من طبيعة المحسوسات، فان هذا لم يتكلم فيه فى كتاب النفس
2
الا بقول فى غاية الكلية.
3
فنقول ان القوى الحسية بالجملة، منها ما هى ضرورية فى وجود الحيوان،
4
|437a1|[Bekker1]ومنها ما هى موجودة فى الحيوان لمكان الافضل. وهذه ايضا كلها تختلف
5
فى الحيوان بالقوة والضعف. فاما التى وجدت فى الحيوان من اجل الضرورة، فهى
6
|436b12-14|[Bekker1]حاسة اللمس وحاسة الذوق؛ واما التى وجدت من اجل الافضل، فحاسة السمع
7
وحاسة البصر وحاسة الشم. وانما كانت حاستا الذوق واللمس ضروريتين فى
8
|430b15-17|[Bekker1]بقاء الحيوان لان بها تميز الاشياء التى ترد بدنه من خارج الى داخل. وذلك ان
9
بحاسة الذوق يميز الطعم الملائم من غير الملائم. وبحاسة اللمس يميز
10
الامور التى تفسد بدنه من خارج والتى تحفظه وتناسبه. واما الحواس الاخر
11
فليس فعلها تمييز ما شانه[*]شانه Middle Arabic for شأنه ان يرد البدن من خارج الى داخل، ولذلك لم تكن
12
ضرورية فى وجود الحيوان.
5
1
وهذه القوى يشملها كلها انها لا يتم فعلها الا بآلة. ويخص قوتى
2
|445a7-8|[Bekker1]اللمس والذوق انهما لا يحتاجان فى فعلهما الى متوسط، ويخص الثلاث الباقية
3
انها تحتاج الى المتوسط.
4
|438a16|[Bekker1]فاما آلة القوة المبصرة فهى العين. ويخص هذه الآلة ان الغالب على
5
تركيبها انما هو الماء، الذى هو الجسم الصقيل الشفاف. وانما كانت آلتها
6
|438b5-6|[Bekker1]بهذه الصفة ليرتسم فيها صور محسوساتها، كما ترتسم الصورة فى المرآة.
7
|438a8-9|[Bekker1]ولذلك كان الجزء الجليدى منها فى غاية الصفاء والبياض. وضرورة هذه الآلة
8
فى ادراك هذه القوة بين بنفسه. وانما تفعل هذه الآلة فعلها اذا كانت على
9
مزاجها الطبيعى دون ان يرد عليه شىء يكدرها ويحركها. ولذلك من هاج
10
غضبه واحمرت عيناه وصعدت الحرارة الى راسه [*]راسه Middle Arabic for رأسه، فسد نظره. وربما راى [*]راى Middle Arabic for رأى الشىء
6
1
الواحد شيئان لمكان الحركة التى تعرض للروح الباصر فى حال الغضب.
2
وذلك ان الجزء القابل لصورة من العين المتحركة يوجب ان يرى
3
الصورة صورتين. وذلك انه اذا انتقل ذلك الجزء وخلفه جزء اخر، ارتسمت
4
الصورة فى الجزء الثانى، واثرها بعد لم يمتح من الجزء الاول. فتظهر الصورة
5
الواحدة هنالك صورتين. مثل ما تظهر صورة الشمس الواقعة على الماء الجارى
6
صورتين.
7
ولكون هذه الآلة اعنى العين انما تفعل فعلها اذا كانت على اعتدال
8
من مزاجها، عرض لها، اذا بردت عن الاشياء التى من خارج بردًا خارجًا عن
9
المعتاد، ان يضعف نظرها. ولذلك تظلم العين فى المواضع التى فيها ثلج كثير
10
او ماء كثير. ولهذا السبب تظهر أفاق البحار كدرة قليلة الضوء, وكذلك مواضع
11
الثلج. وانما يحفظ طبيعة هذا الماء على ما هى عليه الهواء الذي من خارج،
7
1
لان بينهما مناسبة طبيعية. فمتى هاجت حرارة العين اكثر مما ينبغى، او بردت اكثر
2
مما ينبغى، ضعف نظرها. وهذا الفعل من افعال العين هو للجزء البردى المائى،
3
|421b29|[Bekker1]ومزاج هذا الجزء هو السبب فى الرؤية التامة. ولهذه العلة جعلت الاجفان
4
للاعين الجيدة النظر، اعنى لتحفظ مزاجها عن تغيير الامور التى من خارج
5
تكديرها، بمنزلة الاغمدة للسيوف. ولهذا من كان جفنه اغلظ، كان اقوى نظرًا
6
|438a22-24|[Bekker1]الى الاشياء على بعد، لان غلظ الاجفان يمنع تثوير ذلك الماء من الحر الذى
7
من خارج، وتجميده وتغليظه من البرد الذى من خارج. ومن اجل هذا صار كثير
8
من الحيوان ينظرالى الاشياء على بعد اكثرمن نظرالانسان، اعنى لغلظ اجفانها.
9
|438b20|[Bekker1]واما آلة السمع الخاصة به فهى الهواء المنبثّ فى الاذن. وكل ما كان
10
هذا الهواء الطف واتم سكونا, كان فعله اتم. وكذلك آلة الشم هى الهواء المنبثّ
11
|420b18|[Bekker1]في الانف. واما آلة الذوق فهى اللسان. واما آلة اللمس فهى اللحم. ويخص
8
1
آلات الحواس كلها انها ليس فيها شىء بالفعل مما تدركه الا آلة اللمس،
2
فانها مركبة من الكيفيات التى تدركها. ولذلك انما تدرك منها الافراطات،
3
وذلك لموضع اعتدالها. ومن اجل ذلك كلما كان اللحم اعدل، كان
4
|441a2|[Bekker1]اكثر أدراكًا للكيفيات البسيطة، اعنى الحار والبارد والرطب واليابس. ولهذا
5
كان الانسان اجود الحيوان ادركًا فى هذه الحاسة وبخاصة لحم اليد منه،
6
|421a21-22|[Bekker1]اعنى لحم الكف، وبخاصة السبابة من لحم الكف. وهو دليل الذكاء فى
7
النفس، اعنى جيدة حس اللمس.
8
واما اللسان فليس فيه طعم بالفعل. ولذلك اذا تشربت فيه بعض الاخلاط
9
فى الامراض، فسد ذوقه، وكذلك الامر فى آلات سائر الحواس. وقد اعطى
10
السبب فى ذلك فى كتاب النفس. ويخص آلات الثلاث القوى، اعنى
11
|419a32|[Bekker1]السمع البصر والشم انها منسوبة الى البسائط: فالعين الى الماء والسمع الى
12
الهواء والشم الى الجزء النارى الدخانى. ولذلك كانت المشمومات تشفى
13
|444a8-15|[Bekker1]الدماغ اعنى لموضع برده وحرارة الجزء الدخانى المشموم.
9
1
فقد قلنا فى خواص آلات هذه الحواس، فلنقل فى المتوسطات التى
2
|419a17-61|[Bekker1]تحتاج اليها الحواس الثلاث وفى خواصها وفى لوازمها. والمتوسط الذى
3
تستعمل هذه الحواس هو اما هواء فى الحيوان البرى، واما ماء فى الحيوان المائى.
4
|423b24-25|[Bekker1]والدلالة على حاجة هذه الحواس الثلاث الى المتوسط انها اذا وضعت محسوساتها
5
على حاسة، لم تدركها، وكذلك اذا قامت بينها وبين المحسوسات اجسام
6
غليظة، ليس يصلح ان يكون متوسطًا. وبالجملة فتظهر حاجة هذه الحواس
7
فى فعلها الى المتوسط، من قبل انه، متى فسد المتوسط، فسد فعلها، ولهذا
8
يخص المتوسط ان يكون من جنس الآلات الخاصة به، اعنى ان يكون قابلًا
9
للمحسوسات بنوع ما من نوع قبول الآلات. وسيظهر السبب فى ذلك اذا
10
تبينت طبيعة الحوس المختصة بالمتوسطات.
11
ويخص قوة البصر من هذه الثلاث انها تحتاج مع المتوسط الى الضوء.
12
والدليل على ذلك انها لا تبصر فى الظلمة. واذا حدث فى الهواء دخان او
10
1
بخار يعوق نفوذ الضوء فيه، ضعفت الروءية. ولهذا اذا غضب المرء وهاجت الحرارة
2
فى عينيه، اظلم بصره لمكان البخار، وربما راى [*]راى Middle Arabic for رأى الشىء الوحد، كما قلنا،
3
شيئين. وليس الضوء شىء يوجد للعين من طبيعتها، وانما يدخل عليها من خارج.
4
ولو كان من نفس طبيعتها لابصرت الاشياء في الظلمة. ولهذا يعرض للذى
5
يغمض عينيه انه، اذا فتحها، لم ير الشىء على حقيقتها الا بعد ما يستنير بصره.
6
وقد يعرض للبصر انه يرى الشىء رؤية روحانية، قبل ان يراه من خارج على
7
الحالة التى هو عليها، وسنبين علة ذلك فى ما بعد. وهذه الرؤية انما تعترى
8
لمبصر فى الاكثر فى الظلمة وعند السكون. ومن خاصة هذا الادراك انه لا
9
يكون جيدًا الا فى الضوء المعتدل لا فى الضوء الشديد ولا القليل. فقد بان
10
من هذا ان الحواس الثلاث يخصها انها تدرك محسوساتها بمتوسط، وان البصر
11
1
يخصه مع وجود المتوسط حضور الجسم المضئ. وقد قيل فى الضوء والمضىء
2
|418b3-419a21|[Bekker1]والاشفاف والمشف فى كتاب النفس.
3
وواجب ان تكون الشبكة الداخلة من شباك العين تستنير من الماء
4
الذى فى العين، كما يستنير الماء من الهواء، الا ان القوة الحساسة هى فى افق
5
هذه الشبكة مما يلى القحف لا مما يلى الهواء. ولذلك كانت هذه الشباك،
6
اعنى طبقات العين، حافظة لقوة الحس بكونها متوسطة بينها وبين الهواء.
7
|428b11-15|[Bekker1]وقد يدل على ان من ضرورة الابصار وصول الضوء الى هذه الشباك، ان الانسان
8
اذا اصابته ضربة على جفنه، اظلمت عينه دفعة، وانطفئ[*]وانطفئ Middle Arabic for وانطفأ ذلك الضوء الذى كان
9
فى عينيه دفعة، كما ينطفئ المصباح، ولم يبصر شيئًا. وسنبين هذه الاشياء
10
اذا يبين كيفية ادراك هذه الحواس، فان هنالك تظهر الاسباب التى اضطرت الى
11
|439a6-12|[Bekker1]هذه الاشياء التى من خارج فى هذه الحواس الثلاث. واذ قد تبينت خواص
12
|418a13-14|[Bekker1]هذه القوى فى الآلات والمتوسطات، فلنقل فى المحسوسات الخاصة بهذه
12
1
القوى. وقد قيل فى كتاب النفس فى هذه المحسوسات قول كلى. والكلام
2
هاهنا فيها اقرب الى الجزئى كما يقول ارسطو.
3
فنقول انه قد قيل هنالك ان المحسوسات الخاصة بالابصار هى الالوان،
4
وبالسمع الاصوات، وبالشم الروائح، وبالذوق الطعوم، وباللمس الملموسات.
5
والذى بقى من القول فيها هو تعريف طبائعها.
6
|439a21-25|[Bekker1]فنقول انه لما كانت الاسطقسات تختلف بكثرة الشفيف وقلته كالهواء
7
|419a11|[Bekker1]والماء، وكان المشف من شانه[*]شانه Middle Arabic for شأنه ان يقبل الضوء ويستكمل به، واذا قبل المشف
8
الضوء واتحد به تولدت عن ذلك الوان مختلفة بحسب قوة الضوء وضعفه وكثرة
9
الشفيف وقلته. وذلك ظاهر من الالوان المختلفة التى تحدث عند اتحاد ضوء
10
الشمس بالغيم والسحاب، فانه من البين ان تلك الالوان انما تحدث عن
11
|442a12|[Bekker1]بياض الضوء وسواد السحاب، مثل الالوان التى تحدث فى قوس قزح وغير
12
ذلك. فواجب ان يكون اللون انما يحدث عن امتزاج الجسم المضئ مع
13
1
الجسم المشف. ولما كانت جميع المركبات انما تولد عن الاسطقسات
2
الاربع، وكان المشف من الاسطقسات هو الماء والهواء، والمضئ منها هى
3
النار وحدها، وذلك ايضا اذا تشبثت بغيرها، كان واجبًا ان تكون الالوان
4
مركبة من هاتين الطبيعتين، اعنى طبيعة المشف وطبيعة النيير، وان يكون الفاعل
5
لاختلافها انما هو اختلاف هاتين الطبيعتين فى الكمية والكيفية.
6
فاللون الابيض يتولد عن امتزاج النار الصافية مع الاسطقس الذى فى غاية
7
الشفيف وهو الهواء. واللون الاسود يتولد عن النار الكدرة التى تمتزج مع اقل
8
|439b19-27|[Bekker1]الاسطقسات شفيفًا وهى الارض. والالوان المتوسطة بين الابيض والاسود تولد
9
عن اختلاف هذين الشيئين بالاقل والاكثر، اعنى اختلاف الجسم المضىء
10
واختلاف الجسم المشف. ولذلك كان اللون الابيض والاسود هما اسطقسا
11
|439b10-12|[Bekker1]الالوان.
12
واذا كان هذا ظاهرًا من امر اللون، وكان اللون انما يكون فى سطح جسم
14
1
|439a26-27|[Bekker1]محدود، وبهذا يفترق اللون من الضوء، فان الضوء هو كمال المشف الغيرمحدود.
2
وليس اللون شيئا يحدث فى المركب عن تجاور الاشياء الصغار الشفافة التى
3
فى الاسطقسات، كما يرى ذلك قوم، فانه ليس يحدث عن الاسطقسات
4
شىء على جهة التجاور على ما تبين فى كتاب الكون والفساد. وإنما يحدث
5
|330a30 sqq|[Bekker1]ما يحدث منها على جهة الامتزاج.
6
ولكون الضوء لا يظهر الا في جسد شفاف، كان الفيثاغوريين يعتقدون
7
ان تولد الضوء ليس يوجد للاجسام المنيرة بذاتها، الا عند اتحاد الضوء بجسد
8
|761b19-20|[Bekker1]اخر، كالحال فى النار، فانها لا تضىء الا عند ما تتحد بجسم اخر. والفرق
9
بين النار والاجسام السماوية فى ذلك بين.
10
ومما قيل فى ماهية اللون يبين ان اللون يقبله الهواء اولًا ثم يوصله الى البصر
11
من جهة ما هو شفيف مضىء. والدليل على ان الهواء يتاثر عن اللون ويقبله، ما
12
يظهر من تلون الشىء الواحد بعينه بحسب ما يمربه من السحاب المضىء، وربما
15
1
اضأت الحيطان والشخوص من الالوان التى تمر بها السحاب. مثال ذلك انه
2
اذا مرت السحاب بالنبات الاخضر، كثيرًا ما تتلون الحيطان والارض بلون
3
ذلك النبات. فقد بان من هذا ان الالوان انما تحدث عن امتزاج النار مع
4
الاجسام المشفة، وإن الضوء ليس هو السبب فى توصيل الالوان الى البصر بل
5
فى وجودها. واقول ايضا كما ان اللون الابيض المتولد عن الامتزاج اخس
6
من لون الضوء، اذ كان متولدا عنه، فكذلك ايضا سائر الالوان اخس من اللون
7
الابيض والاسود اذ كانت متولدة عنهما.
8
|439b27-30|[Bekker1]ولما كانت الالون انما تتولد عن الابيض والاسود وكان اختلاطهما
9
مختلفا بالاقل والاكثر اختلافًا متفننا غير متناه من جهة المادة، وجب ان
10
تكون الالوان غير متناهية في الطبيعة. فأنه كل ما توهم النطق الباطن فيها
11
نوعًا من الامتزاج، ابرزته الطبيعة، وان كان النطق الخارج مما لا يقدر ان
16
1
|194a21-22|[Bekker1]بعبر عن ذلك القدر. ولهذا كانت الصناعة فى هذا المعنى، كما يقول ارسطو،
2
مقصرة عن الطبيعة، فان الصناعة انما تبرز من مقادير الالوان التى فى النطق
3
الباطن ما يقدر النطق الخارج ان يعبر عنهم. واما الطبيعة فانها تبرز كل ما كان
4
فى النطق الباطن الروحانى، ولهذا كانت اشرف من الصناعة وكان شرف
5
|381b6|[Bekker1]الصانع هوجيدة تشبيهه بالطبيعة بحسب الممكن. وايضا فان النطق الروحانى
6
الذى عنه تفعل الطبيعة ما تفعله وتبرز ما تبرزه اليس له شى يعوق الطبيعة عن
7
ادراك ما يلقى اليها من ذلك كالحال فى النطق الروحانى الباطن الذى عنه
8
يفعل الصانع. فان النفس البهيمية الموجودة فى الحيوان ليس تعوق افعال
9
الطبيعة بل تفرح وتلتذ بما تبرزه الطبيعة من الالوان والاصوات، لانها موجودة
10
فى النفس البهيمية بالقوة. فاذا ابرزتها الطبيعة، سرت بها النفس البهيمية
11
وفرحت بادراكها. واما النطق الروحانى الباطن الذى عنه تفعل الصناعة، فانه
12
تعوقه النفس البهيمية، ولذلك لا يدرك الصانع مما يلقى اليه النطق الروحانى الا
13
آثارًا واعراضًا بعيدة من الاشياء التى يلقيها الى الطبيعة. ولذلك كانت الامور
17
1
المتقدمة فى المعرفة عند الصانع متأخرة فى الوجود بعكس ما عليه الامر عند
2
الطبيعة. وايضا فان الصانع خارج الشىء والطبيعة داخل الشىء. فهذه هى الاشياء
3
التى بها افترقت الصناعة من الطبيعة.
4
|439b31-440a3|[Bekker1]ولذلك كانت الالوان والاصباغ التى يعبر النطق الخارج متناهية. فاما
5
الالوان والاصباغ التى فى النطق الباطن، يستكاد ان تكون غير متناهية، ولذلك
6
قد تظهر الطبيعة من الالوان والاصباغ ما يعجز الصباغون عن كيانها. وذلك
7
ان الصناعة لما كانت انما تخيل الطبيعة وتصير الى المتقدم عندها من المتاخر،
8
لم تدرك من تلك المراتب التى عند الطبيعة الا مراتب قليلة، اعنى شديدة
9
التباعد بعضها من بعض. وبين تلك المراتب عند الطبيعة مراتب كثيرة. فقد
10
بان من هذا لم كان وجود الالوان فى الطبيعة غير وجودها فى الصناعة.
11
|440b27-29|[Bekker1]فاما الاصوات فقد قيل فيها فى كتاب النفس.
12
واما المشمومات، وهى ذوات الروائح والطعوم، فينبغى ان نقول فيها قولًا
13
مفصلًا. فنقول انه من البين انه ليس لواحد من الاسطقسات طعم ولا رائحة،
14
|443a9-10|[Bekker1]وان الطعم والرائحة انما يوجدون للممتزج من جهة ما هو ممتزج. ولما كان كل
18
1
ممتزج انما صورته منسوبة الى غلبة كيفيتين من الكيفيات الاربع عليه،
2
فيجب ان ننظر الى اى الكيفيات ينبغى ان ينسب الطعم فى الجسم ذى الطعم.
3
|442a1|[Bekker1]فنقول انه لما كان المذوق غذاء للحيوان، وكان الغذاء من شانه[*]شانه Middle Arabic for شأنه ان يكون شبيها
4
بالحيوان، وكان بدن الحيوان منسوبًا الى غلبة الحرارة والرطوبة، وجب ان يكون
5
الطعم منسوبًا الى غلبة الحرارة والرطوبة. وانما كان ذلك كذلك لان طبيعة
6
|441b19-21|[Bekker1]الرطب، الذى هو الماء، اشد مناسبة للحيوان من طبيعة الارض. وقد يدل على
7
ان الرطوبة هى سبب الطعم للممتزج ان الاشياء المطعومة منها مطعومة بالقوة،
8
ومنها مطعومة بالفعل. فاما التى هى بالفعل مطعومة، فهى الاشياء الرطبة بالفعل.
9
واما الاشياء اليابسة بالفعل، فهى المطعومة بالقوة. وانما تكون مطعومة بالفعل
10
اذا كانت رطبة بالفعل، كالملح وما اشبهه، فانه لا يتطعم الا بعد ان ينحلّ
11
|441b19-21|[Bekker1]ويترطب. واذا كان ذلك كذلك، فالطعم انما يحدث ضرورة عن اختلاط
12
الجزء اليابس بالجزء الرطب، اذا نضج عن الحرارة نضجًا ما.
19
1
واصناف الطعوم انما تختلف لاختلاف هذين الشيئين فى القلة والكثرة.
2
|442a12-13|[Bekker1]فالحلاوة منسوبة الى الحرارة والرطوبة، فالمرارة منسوبة الى الحرارة واليبوسة
3
بالاضافة الى رطوبة الحلاوة. وما بين هذه الطعوم متولدة عن هذين الطعمين،
4
|443a8, 449b19-21|[Bekker1]كما تتولد الالوان عن الابيض والاسود. فاما الروائح فيظهر من امرها ان
5
هيوليها هو الطعم المتولد عن مخالطة اليبوسة للرطوبة. ولذلك انه يظهر
6
بالاستقراء ان كل ما له رائحة فله طعم؛ الا ان الروائح لما كانت من جنس
7
|443a9-16|[Bekker1]الابخرة الدخانية، وبهذه الجهة كان الهواء حاملًا لها، كانت منسوبة الى
8
|438b24, 443a21|[Bekker1]اليبوسة والحرارة المتولدة عن اليبوسة المختلطة بالرطوبة ذات الطعم من جهة
9
|444a24-25|[Bekker1]ما هى ذات طعم. وقد يشهد ان طبيعة المشمومات هى طبيعة الدخان ان
10
كثيرًا من الاشياء ليست لها رائحة، فاذا ادنيت من النار كانت لها رائحة،
11
وبهذه الجهة كان الانسان له خاصة فى ادراك روائح الاشياء بالعرك باليد؛
12
وذلك ان هذه الآلة لحرارتها ويبسها من شانها[*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تثير هذا الجوهر من الشىء ذى
13
|444a28-33|[Bekker1]الطعم. ولذلك يشبه ان يكون الانسان اجود تفصيلًا فى ادراك فصول محسوسات
20
1
الشم من سائر الحيوان، وكثير من سائر الحيوان اقوى منه ادراكًا للروائح
2
|444b8-15|[Bekker1]على البعد.
3
|445b1-2|[Bekker1]فقد قلنا فى خواص آلات هذه الحواس واستوفينا القول فى طبيعة
4
محسوساتها، فينبغى ان نستوفى القول فى كيفية ادراكها، فان ذلك انما قيل
5
فى كتاب النفس بقول كلى. فنقول ان الآراء التى كانت للقدماء فى كيفية
6
ادراك النفس محسوساتها اربعة. احدها، رأى من كان يعتقد ان صور
7
المحسوسات فى النفس بالفعل، وانه ليست تستفيدها من خارج؛ وانما
8
الصور التى من خارج منبهة ومذكرة لما عندها منها، وهو رأى افلاطون او قريب
9
منه. واما الراى [*]الراى Middle Arabic for الرأى الثانى، فرأى من كان يرى انه ليس فى النفس شى من
10
المحسوسات بالفعل، وانها تستفيدها من خارج، وهاؤلاء انقسموا فرقتين.
11
فرقة رات ان استفادتها الصور التى من خارج واستكمالها بها استفادة جسمانية
12
لا روحانية. ومعنى ذلك انه يكون وجودها فى النفس على الحالة التى هى
21
1
عليها خارج النفس. وفرقة رأت ان ادراكها الاشياء التى من خارج واستفادتها
2
استفادة روحانية. وهاؤلاء انقسموا طائفتين. فطائفة رأت انها لا تحتاج فى
3
ادراكها الى متوسط، وانما تدرك النفس محسوساتها الخارجة بان تتحرك اليها
4
|437b12-13|[Bekker1]وتلقى ذاتها عليها. وهاؤلاء هم الذين كانوا يرون ان الابصار انما يكون باشعة
5
|419a20|[Bekker1]تخرج من العين الى الشىء المنظور اليه. وطائفة ثانية رات ان النفس انما
6
تقبل محسوساتها بواسطة قبول المتوسطات لها، وذلك بان تقبلها اولًا المتوسطات
7
لها حتى توديها الى الحس المشترك، وسوا[*]وسوا Middle Arabic for وسواء كان المتوسط آلة او جسما
8
من خارج.
9
والذين قالوا ان النفس لا تحتاج الى المتوسط، حكى ارسطو عنهم
10
حجتين، احداهما، انها لو كانت تقبل ذلك بمتوسط ولا تكون هى المتحركة
11
الى المحسوسات، لما احتاجت النفس الى الحركة الشديدة والاجتهاد عند
22
1
الاحساس بالمحسوسات. والحجة الثانية انها لو كانت الصور تاتى النفس
2
بمتوسطات، لما كانت النفس تقدر ان تقبل من الصور الا بقدر ما يودى اليها
3
المتوسط.
4
واما الذين قالوا بخروج الاشعة من العين، فلهم حجج مقنعة.
5
واقواها ما يضع صاحب علم المناظر، من ان اسباب الرؤية وما يعرض فيها
6
هى الخطوط الشعاعية المستقيمة او المنكسرة او المنعطفة، وما يضعه من ان
7
الابصار انما يكون بشكل صنوبرى مخروط يخرج من العين وينتهى الى
8
المبصرات. فظن هاؤلا ان هذه الخطوط والاشكال المؤثرة فى الابصار لا
9
يمكن ان ترتسم الا فى جسم يخرج من العين وهو الشعاع. ونحن نقول اما
10
ان الرؤية وما يعرض فيها، لا يتم اعطاء اسباب ذلك الا بتوهم هذه الخطوط
11
والشكل الصنوبرى، فصحيح. لاكن نقول ان هذه الابعاد ليس الحامل لها
23
1
ولا الموضوع شيئا غير المتوسط، وهو الجسم الشفاف، فان من شان[*]شان Middle Arabic for شأن هذا الجسم
2
ان يقبل الضوء واللون هذا النوع من القبول.
3
وسنعدد ما يلزم هذا الرأى من المحالات التى عددها ارسطو. فلنرجع
4
الى حيث كنا، فنقول اما من زعم ان صور المحسوسات موجودة فى النفس
5
بالفعل، وانها انما تحتاج الى المحسوسات من خارج لتتذكر وتتنبه فقط،
6
فقد يدل على بطلانه انه لوكانت هذه الصور موجودة لها بالفعل، لما احتاجت
7
الى الصور التى من خارج فى حصول العلم بها؛ ولكان يحصل لها العلم
8
بمحسوساتها قبل ان تحس بالامور التى من خارج، ولكانت اذا شأت ان
9
تحس بمحسوساتها، القت عليها شعاعها فى ذاتها فادركتها. وايضا لو كان
10
|476a12-13|[Bekker1]الامر هكذا، لكانت هذه الآلات باطلًا وعبثًا، والطبيعة لا تصنع باطلًا.
11
واما من يرىء [*]يرىء corrupt for يرى ان صور المحسوسات تنطبع فى النفس انطباعا جسمانيا، فقد|744a36-37|[Bekker1]
24
1
يدل على بطلانه ان النفس تقبل صور المتضادات معًا، والاجسام ليس يمكن
2
ذلك فيها. وليس يلفى هذا للنفس فقط، بل وللمتوسطات. فانه يظهر ان بجزء
3
واحد من الهواء يقبل الناظر اللونين المتضادين معًا اذا تناظر شخصان احدهما
4
ابيض والاخر اسود. وايضا فان كون الاجسام العظام مدركة للبصر بالحدقة
5
على صغرها حتى انها تدرك نصف الكرة من العالم، دليل على ان الالوان وما
6
بتبعها ليست تحل فيها حلولًا جسمانيا بل حلولا روحانيا. ولذلك نقول ان
7
هذه الحواس انما تدرك معانى المحسوسات مجردة من الهيولى، فتدرك معنى
8
اللون مجردًا من الهيولى، وكذلك تدرك معنى المشموم والمطعوم وسائر
9
المحسوسات. واذا تبين ان هذا الادراك روحانى، فنقول لمن انكر ان يكون
10
ادراك الحواس بمتوسط ان المعانى التى تدركها النفس ادراكًا روحانيا، منها
11
كلى، وهو المعقولات، ومنها جزئى، وهى المحسوسات. ولا يخلو هذان
25
1
الصنفان من المعان ان يكون ادراك النفس لهما بجهة واحدة من الجهات
2
الروحانية او بجهتين. ولو كانت بجهة واحدة، لكانت المعانى الكلية والجزئية
3
بجهة واحدة، وذلك مستحيل. واذا كان الامر هكذا، فهى تدرك المعانى
4
الكلية بجهة، والجزئية بجهة. اما المعانى الكلية، فتدركها ادراكًا غير مشارك
5
لمادة اصلًا, ولذلك لا تحتاج فيها الى متوسط. واما المعانى الجزئية،
6
فتدركها بامور مناسبة للامور الجزئية وهى المتوسطات. ولولا ذلك لكانت
7
المعانى التى تدرك كلية لا جزئية. وكان وجود الصور فى متوسطات هو بضرب
8
متوسط بين الروحانية والجسمانية. وذلك ان وجود الصور خارج النفس جسمانى
9
محض، ووجودها فى النفس روحانى محض، ووجودها فى المتوسط متوسط
10
بين الروحانية والجسمانية؛ واعنى بالمتوسط هاهنا، آلات الحس والامور التى
26
1
من خارج فى الحواس التى تحتاج الى ذلك. فالآلات بالجملة انما احتاجت
2
اليها الحواس لكون ادراكها شخصيا روحانيا، فان الروحانى الكلى لا يحتاج
3
الى هذه الآلات.
4
فقد ظهر من هذا القول ان كون هذه الصور التى فى النفس روحانية
5
جزئية هو السبب الذى اضطر هذا الادراك ان يكون بتوسط. وبحق ما كان
6
ذلك كذلك، فان الطبيعة من شانها[*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تسير من الوجود المقابل الى مقابله،
7
بمسيرها اولًا الى المتوسط، فليس يمكن ان يحصل الروحانى من الجسمانى
8
الا بمتوسط. ولذلك كلما كانت هذه المتوسطات الطف، كان الادراك اتم
9
وافضل. واما قول من قال انه لو ادركت النفس بمتوسط، لكانت انما تقبل
10
من ذلك بقدر جرم المتوسط، اعنى ان كان صغيرًا قبلته صغيرًا، وان كان
11
كبيرًا قبلته كبيرًا، فان هذا انما يلزم فى ادراك الجسمانى لا الروحانى.
27
1
|437b12-14|[Bekker1]وارسطو يبطل قول من يقول ان القوة المبصرة تمتد من العين حتى تصل
2
الى الشىء المنظور بحجج. منها انه كان يجب بحسب هذا الرأى ان ينظر
3
المرء الاشياء فى الظلمة كما ينظراليها فى الضوء. فان من يقول بامتداد الاشعة
4
لا يحتاج البصر عنده الى متوسط ولا الى الضوء. ومنها انه لو كانت قوة
5
النفس، اعنى الحس المشترك، هو الذى يمتد الى الاشياء حتى يحسها، لم يحتاج
6
الى الشباك التى فى العين، اعنى الطبقات، ولما كان يجب ان يدخل على هذه
7
القوة فساد اذا تعطلت منها شبكة ومنها انه لو كانت النفس تمتد حتى تلقى
8
المحسوس، لكان ادراكها لجميع المبصرات واحدًا الغاية منها والقريبة.
9
وبالجملة من يقول بالاشعة الخارجة من العين فلا بد له من احد امرين. اما
10
ان يضع ان هذه الاشعة اجسام، وإما ان يضعها اشعة نورية غير اجسام.
11
|446a29-30|[Bekker1]فان وضعها اجساما، لزمه ان يكون ابصار الاشياء فى زمان وبخاصة اذا بعد
28
1
المبصر، فانه قد تبين ان كل متحرك فى زمان يتحرك. وايضا تصور جسم يخرج
2
من الحدقة ثم ينتشر حتى ينطبق على نصف الكرة، مستحيل. وايضا فان
3
النفس المبصرة يجب ان تكون مرتبة فى هذا الجسم، وليس فى الحيوان جسم
4
هو موضوع للنفس الا الحرارة الغريزية ولو فارقت العين مقدار فتر، لتبردت
5
وذهبت. واما ان كان الخارج من العين ضوءًا لا جسما، فلسنا نقدر ان نقول
6
ان النفس مرتبة فى ذلك الضوء، فان موضوع النفس جوهر لا عرض. واذًا لم
7
تكون النفس موضوعة فى ذلك الضوء، وكانت انما هى موضوعة داخل العين.
8
فعلى اى جهة تدرك المحسوسات، وهى غير مماسة لها فان كل فعل وانفعال
9
انما يكون بمماسة، وتحريك الواسطة للمتحرك الاخير بمماسة. ولا بد ضرورة
10
من ان يعرض لآلة هذه القوة مع محسوسها ان يكون احدهما محركًا والاخر
11
متحركًا. فان فرضنا ان الخارج من العين انما هو ضوء لا جسم، لم نجد بدًا
29
1
من ان نقول بالمتوسط، والا لم تصل ضرورة حركة المحسوس الى الحس،
2
ولم يكن ضرورة فرق بين هذا القول وبين قولنا ان الرؤية انما تتم بمتوسط
3
وضوء، الا ان الضوء عندنا ليس من نفس العين بل من خارج. وهذا شىء لا
4
يقولونه، ولو قالوه، للزمهم ان يبصر فى الظلام. وانما غلطهم انهم رأوا هذا
5
روح الذى يكون به الابصار مناسبًا للشىء، فاعتقدوا فيه انه ضوء مع انهم كانوا
6
يعتقدون فى الضوء انه جسم. واما جالينوس فقد بلغ من غلطه فى هذا المعنى
7
انه ظن ان الهواء حساس.
8
واذ قد تبين كيف ادراك النفس بالقول الكلى، فلننظر كيف يترتب هذا
9
الادراك بمتوسط متوسط فى الحواس الثلاث التى تدرك بمتوسط. فنقول
10
ان الهواء بتوسط الضوء يقبل صور الاشياء اولًا، ثم يوديها الى الشبكة الخارجة
11
وتوديها الشبكة الخارجة الى سائر الشباك حتى تتادى الحركة الى الشبكة
12
الاخيرة التى الحس المشترك موضوع خلفها، فيدرك صورة الشىء. وفى
30
1
وسط هذه الشباك الشبكة البردية، وهى كالمرآة متوسطة بين طبيعة الهواء
2
وطبيعة الماء. ولذلك كانت تقبل الصور من الهواء لانها كالمرآة، وتوديها الى
3
الماء لكون طبيعتها مشتركة بين هاتين الطبيعتين. والماء الذى يقول ارسطو انه
4
|438a5-6, 13|[Bekker1]خلف الرطوبة البردية، هوالذى يسميه جالينوس الرطوبة الزجاجية فى ما احسب.
5
وهذه الطبقة هو اخر طبقات العين وفيها ينظر الحس المشترك الى الصورة.
6
واذا قبلها الحس المشترك، اداها الى المصور، وهو القوة المتخيلة، فيقبلها
7
المصور قبولًا اكثر روحانية، فتكون هذه الصورة فى المرتبة الثالثة من
8
الروحانية.
9
فتكون هاهنا الصورة ثلاث مراتب: المرتبة الاولى جسمانية؛ ثم
10
تليها المرتبة التى فى الحس المشترك، وهى روحانية؛ ثم الثالثة وهى التى فى
11
القوة المتخيلة وهى اكثر روحانية. ولكونها اكثر روحانية من التى فى الحس
12
المشترك، لا تحتاج القوة المتخيلة فى احضارها الى حضور المحسوس خارجًا،
31
1
بخلاف الامر فى قوة الحس. والمصوّر انما ينظر الى تلك الصورة وينزع
2
معناها ومثالها بعد سكون شديد وتامل كثير. ومثال مراتب هذه الصورة فى هذه
3
القوى وتنقلها من مرتبة الى مرتبة الطف منها، كما يقول ارسطو، مثل انسان
4
اخذ مرآة ذات وجهين فنظر فى احد وجهها [sic] ، وصير الوجه الثانى منها مما يلى
5
الماء، وكانت المرآة دقيقة شفافة صافية. فانه يعرض لهذا الناظر ان تنطبع
6
اولًا صورته فى المرآة، ثم تنطبع من المرآة فى الماء. وان نظر احد الى الوجه
7
الثانى من المرآة، اعنى الوجه الذى يلى الماء رأى تلك الصورة بعينها قد انطبعت
8
مرة ثالثة من الماء فى المراة. فصورة الانسان الناظر هو مثال المحسوس،
9
والمرآة مثال الهواء المتوسط، والماء مثل العين، ومثال انطباعها فى الوجه الثانى
32
1
من المرآة القوة الحساسة، ومثال الانسان المدرك لها مثل القوة المتخيلة. فاذا
2
لم ينظر الناظر فى هذه المرآة، اضمحلت الصورة منها، واضمحلت من الماء،
3
ويبقى الناظر فى الوجه الثانى من المرآة يتوهم الصورة. وهذا هو شان[*]شان Middle Arabic for شأن القوة
4
المتخيلة مع الصورة التى فى الحس المشترك، فانه اذا غاب المحسوس، غابت
5
صورته عن الحس المشترك وبقيت القوة المتخيلة تتوهمه.
6
|419a9-21|[Bekker1]فقد بان من هذا ان رسم الصورة انما يرأها[*]يرأها corrupt for يراها الحس المشترك بتوسط
7
العين، والعين بتوسط الهواء، ويرأها فى الرطوبة المائية التى فى العين بتوسط
8
البردية، بين الماء الذى فى العين والهواء الذى من خارج. والرطوبة المائية هى
9
التى يسميها جالينوس بالزجاجية. فقد تبين من هذا كيف يكون الابصار
10
بالمتوسط.
11
|442b26-443a8|[Bekker1]واما كيف يكون الشم بتوسط الهواء والماء، فان ذلك يكون بما فى الهواء
12
من الاستعداد لقبول الجسم الدخانى المشموم، وبما فى الماء ايضا من ذلك.
13
وذلك ان من شان [*]شان Middle Arabic for شأن هذه الاسطقسات ان يودى بعضها الى بعض الابخرة المتولدة
14
منها، للمجانسة التى بينها. فالارض تودى البخار اليابس الى الماء، والماء
33
1
يقبله لمشاكلتها الارض فى البرد. والماء يودى البخار الرطب الى الهواء، والهواء
2
يقبله لمشاكلته فى الرطوبة، والهواء يودى الى النار للمشاكلة التى بينهما فى
3
الحرارة.
4
واما كيف يودى الهواء الصوت، فقد قيل فى كتاب النفس.
5
واما خصوصية ادراك هذه الحواس الخمس فى الحيوان، فانها ليست
6
على جهة واحدة، وذلك انها فى الانسان تدرك فصول الاشياء ومعانيها الخاصة،
7
وهى التى تتنزل من الشىء المحسوس منزلة اللب من الثمرة. وفى الحيوان انما
8
تدرك الامور التى من خارج، وهى التى نسبتها الى الاشياء نسبة القشر الى اللب
9
من الثمرة. والدلالة على ذلك ان البهائم لا تتحرك عن هذه الحواس حركة
10
الانسان عنها، فان الانسان يضطرب عند سماع الالحان ولا تضطرب البهائم،
11
ولا ان قيل ذلك باشترك الاسم. وكذلك يتحرك الانسان من رؤية الاصباغ
34
1
والاشكال حركة لا تتحركها البهائم. وكذلك الامر فى اصناف المطاعم
2
والمشمومات، وان كانت مشاركة البهائم فى هذه اكثر لمكان جسمانيتها.
3
وكذلك الامر ايضا فى قوة اللمس، فان ليد الانسان فى ذلك خاصة ليست
4
لغيره. والانسان يستدل بالشم على الطعم الموافق والضار، ويتداوى
5
|444a10-15, 22-25|[Bekker1]بالمشمومات كما يتداوى بالمطعومات. وانما كانت المشمومات سببًا
6
للبرء من امراض الراس [*]الراس Middle Arabic for الرأس، لان الراس [*]الراس Middle Arabic for الرأس بارد رطب، والمشموم فى اكثر حار يابس.
7
|437a11-14|[Bekker1]والسمع فى الانسان هوالطريق الى التعلم، لان التعلم انما يكون بالكلام،
8
والكلام انما يتادى اليها من طريق السمع؛ الا ان دلالة الالفاط ليس هو
9
للسمع وانما هو للعقل. وكل حاسة من هذه الحواس فى الانسان هى الطريق
10
الى المعقولات الاولى الحاصلة له فى ذلك الجنس، وبخاصة السمع
11
|437a3-17|[Bekker1]والبصر. ولهذا يقول ارسطو ان الذين لم يعدموا هاتين الحاستين، هم اكثر
35
1
|449b1-4|[Bekker1]عقلًا واجود ادراكًا فهذه هى جمل الاشيا التى فى هذه المقالة على اكثر
2
ما امكننا من الايجاز. واما ما يذكر فى اخر هذه المقالة من اعطاء السبب فى
3
جيدة قوة الذكر وضعفها، فالموضع اللائق به هو عند التكلم فى المقالة الثانية
4
فى القوة الذاكرة.
36
1
المقالة الثانية
2
الفصل الاول
3
|449b4|[Bekker1]وهو يبتدىء[*]يبتدىء Middle Arabic for يبتدئ بالفحص فى هذه المقالة عن الذكر والتذكر، وهو اولًا يطلب
4
الرسم الذى به يفترق هذا الادراك من سائر ادراكات النفس، ثم يطلب لاى
5
قوة من قوى النفس، وبمشاركة اى قوة يكون فى الحيوان الذى يتذكر. ثم
6
يبين كيف يكون الذكر والتذكّر وما مرتبة هذه القوة من قوى النفس، ولم كان
7
بعض الناس جيد الذكر ردىء الحفظ، وبعضهم بالعكس، الى سائر لوازم
8
هذه القوة وما يعرض لها.
9
|449b10-15|[Bekker1]فنقول ان الاشياء المدركة لنا اما ان تكون فى الآن والزمان الواقف مثل
10
مدركات الحس، واما ان تكون متوقعة الوجود فى الزمان المستقبل وهذه هى
11
الامور المظنونة، واما ان تكون مدركة فى الزمان الماضى. وبين ان الذكر
12
انما يكون فى هذه فانا لسنا نسمى ذكرًا ما حصلت معرفته لنا الآن، ولا
13
|449b22-23|[Bekker1]ما يتوقع وجوده. وانما يذكرالمرء ما حصلت له المعرفة به قبل فى الزمان الماضى.
37
1
والتذكّر هو طلب هذا المعنى بارادة اذا نسيه المرء، واحضاره بعد غيبته، بالفكرة
2
فيه. ولذلك يشبه الا يكون التذكر الا خاصًا بالانسان. واما الذكر، فهو لعامة
3
|453a7-9|[Bekker1]الحيوان المتخيل، فانه يظن ان اجناسا كثيرا من الحيوان لا تتخيل، كذوات
4
الاصداف والدود.
5
ولفرق بين الذكروالحفظ، ان الحفظ انما هو لما لم يزل قائمًا بالنفس من
6
|451b2-5|[Bekker1]وقت ادراكه فى الزمان الماضى الى الزمان الواقف. واما الذكر، فانما لما قد نسى.
7
ولذلك كان الذكر حفظًا منقطعًا، والحفظ ذكرًا متصلا، فهذه القوة واحدة
8
بالموضوع اثنتان بالجهة. فالذكر بالجملة هو معرفة ما قد عرف بعد ان
9
انقطعت معرفته. والتذكر هو طلب هذه المعرفة اذا لم تكن حاصلة، واعمال
38
1
الفكر فى احضارها. وبين ان هذا الفعل واجب ان يكون لقوة ليست هى
2
حسًا ولا تخيلًا، وهى التى تسمى ذاكرة.
3
فلننظر ما هى هذه القوة، واى مرتبة مرتبتها من قوى النفس، ولما ذا
4
تشارك منها. وظاهر من امرها انه من القوى المدركة للامور الجزئية الشخصية؛
5
فان الذكر انما يكون للشىء بعد احساسه وتخيله، وذلك من جهة ما هو محسوس
6
ومتخيل. فان طبيعة الكم مثلًا، الكلية، التى يدركها العقل، لا تدركها
7
القوة الذاكرة. وانما تدرك كمية محدودة قد احستها وتخيلتها. فاما كيف
8
يتذكر الكلى، فسيقال فى ذلك. واذا كان ظاهرًا من امر هذه القوة انها جزئية،
9
وانها محتاجة فى فعلها ان يتقدمها قوتان، قوة الحس وقوة التخيل، فلننظر
10
بما ذا تفترق هذه القوة من قوة التخيل، فانه يظهر من امرها انه، ان لم تكن
11
هى، فهى لها مشاركة فى فعلها. فنقول انه من البين انه وان كان كل ذكر
12
وتذكر فانما يكون مع تخيل، فان معنى الذكر غير معنى التخل، وان وان فعل
13
هاتين القوتين متباينان. وذلك ان فعل قوة الذكر انما هو احضار معنى الشىء
39
1
المتخيل بعد فقده، والحكم عليه الان انه ذلك المعنى الذى احس وتخيل.
2
فهاهنا اذًا اربعة اشياء: خيال؛ ومعنى ذلك الخيال؛ واحضار ذلك المعنى؛
3
والحكم على انه معنى ذلك الخيال الذى كان للمحسوس المتقدم. فاحضار
4
الخيال واجب ان يكون لقوة غير القوة التى تدرك المعنى. وهذه القوة توجد
5
بحالتين، ان كان ادراكها متصلا، سميت حافظة، وان كان منفصلًا،
6
سميت ذاكرة. واما الحكم على ان هذا المعنى هو لهذا المتخيل، فهو فى
7
|453a7-9|[Bekker1]الانسان للعقل، فانه الحاكم فيه بالايجاب والسلب، وهو فى الحيوان الذاكر
8
شى شبيه بالعقل، لان هذه القوة تكون فى الانسان بفكر ورؤية، ولذلك
9
يتذكر. واما فى سائر الحيوان فهى طبيعة، ولذلك يذكر الحيوان ولا يتذكر.
10
وليس لهذه القوة فى الحيوان اسم، وهى التى يسميها ابن سينا بالوهمية.
11
وبهذه القوة يفر الحيوان بالطبع من الموذى، وان لم يحسه بعد، كما يفر
12
كثير من بغاث الطائر من الجوارح، وان لم تبصرها قط.
13
فهاهنا ثلاثة افمال لثلاث قوى، الاثنتان منها تاتيان بالشيئين البسيطين
40
1
الذين تركبت الصور المركبة منهما، الذين احدهما خيال الشىء والثانى معنى
2
خيال الشىء، والقوة الثالثة تركب ذينك المعنيين احدهما الى الاخر. وذلك
3
ان فى الصورة المتخيلة شيئا يتنزل منزلة الموضوع، وهى التخطيط والشكل،
4
وشيئا يتنزل منزلة الصورة وهى معنى ذلك الشكل. وذلك ان الشخص خارج
5
النفس، لما كان مركبًا، عرض له ان يكون فى النفس على نحو ذلك، وان
6
يكون قبول الجزئين الذين منهما تركب لقوتين مختلفتين، وان يكون تركيبهما
7
لقوة ثالثة. فقد تبين من هذا القول ان هاهنا ثلاث قوى، قوة محضرة لخيال
8
الشىء، وقوة محضرة لمعنى ذلك الخيال. وقوة مركبة ذلك المعنى الى خياله.
9
ولذلك انما يتم التذكر بتعاون هذه القوى الثلاث، واحضار كل واحدة منها
10
ما يخصها.
11
|450a22-25|[Bekker1]وارسطو يتعمد فى بيان ان هذه القوة، اعنى الذاكرة، غير القوة المصورة
12
وانهما اثنتان بالماهية والموضوع انا قد ندرك احيانًا معنى الصورة المتخيلة
13
دون الصورة المتخيلة، واحيانا ندرك الصورة دون ان نجرد منها معنى الصورة.
14
ولذلك يمكنا ان نحفظ اشياء كثيرة معًا ولا يمكنا ان نتخيلها. وقد قلنا ان
41
1
قوة الحفظ والذكر واحدة بالموضوع اثنتان بالجهة، فالذى تدرك القوة المتخيلة
2
|450b20-27|[Bekker1]من شخص زيد المشار اليه، انما هو ما يرسمه الراسم من ذلك فى الحافظ
3
والذى تدرك القوة الذاكرة انما هو معنى ذلك الرسم. ولذلك كان معنى الشىء
4
فى القوة الذاكرة اكثر روحانية منه فى القوة المتخيلة.
5
ولما كان فعل هذه القوة فى الصورة المحسوسة احد فعلين اما تركيب
6
واما تحليل وذلك انها اذا استرجعت الصورة التى قد احست، ففعلها انما
7
هو تركيب. وذلك يكون كما قلنا بان تحضر كل واحدة من القوتين المعنى
8
البسيط الذى يخصها احضاره، وتركب القوة الثالثة. واما التحليل والتفصيل،
9
فانما يكون فى حد الشىء المحسوس ما دام محسوسًا وذلك يكون بان يحس
10
الحاس اولًا الشىء خارج النفس، ثم يصوره المصورا نم يميز المميّز معنى
11
تلك الصورة من رسمها، ثم يقبل الحافظ ما ميز المميّز. فان ذهبت، كان
42
1
استعادتها على جهة التركيب. ولكون هذه القوى مختلفة الافعال، كانت
2
مختلفة المواضع من الراس [*]الراس Middle Arabic for الرأس. ولما كان الحاس انما يحس اولًا، ثم صور
3
المصّور، ثم يميز المميّز، ثم يقبل الحافظ، وجب ضرورة ان يكون المصور
4
فى افق الحاس من الدماغ. ثم يليه المفكر، وذلك فى الموضع الاوسط،
5
ثم يلى المفكر الذاكر والحافظ، وذلك فى المؤخر من الدماغ. وذلك بحسب
6
المشاهد من مواضع هذه القوى. فانه قد وقف بالحس على ان مواضع هذه
7
القوى هى هذه المواضع بالاعتلال اللاحق لقوة قوة من هذه القوى باختلال
8
موضع موضع من تلك المواضع. وذلك انه متى اعتل مزاج مقدم الدماغ
9
فقط، اختل خيال ذلك الرجل، ولم يختل فكره ولا ذكره. واذا اعتل وسطه،
10
اعتل فكره. واذا اعتل مؤخره، اختل ذكره وحفظه. وهذا معروف عند الاطباء.
11
ولذلك كانت هاهنا مراتب خمس. اولها جسمانى، كثير القشر وهى الصورة
12
المحسوسة خارج النفس. والمرتبة الثانية وجود هذه الصورة فى الحس المشترك،
43
1
وهى اول مراتب الروحانية. والمرتبة الثالثة وجودها فى القوة المتخيلة وهى اكثر
2
روحانية من الاولى. والمرتبة الرابعة وجودها فى القوة المميّزة. والخامسة وجودها
3
فى القوة الذاكرة وهى اكثرها روحانية، فانها تقبل لباب ما ميزته الثلاث وصفته
4
من القشر. فقد تبين من هذا القول اى وجود وجود هذه القوة، وما جوهرها
5
وانها غير المصّورة وغير المميزة،وانها انما يتم فعلها بمشاركة المميّز والمصّور،
6
وذلك اما فى حد التركيب او فى حد التفصيل. وتبين ان الحفظ انما هو
7
استصحاب وجود معنى المحسوس فى هذه القوة من غير ان ينقطع، وان النسيان
8
|453a7-9|[Bekker1]هو ذهابه، والذكر هو رجوعه بعد النسيان، وان التذكّر هو استرجاعه وانه خاص
9
بالانسان.
10
ولذلك قد يجب ان ننظر كيف يتذكر المتذكر ما قد احس ونسيه.
11
فنقول ان تذكّر المرء شيئا قد نسيه انما يكون ضرورة باحضار معنى ذلك الشىء.
12
فاذا احضرته القوة الذاكرة احضر المصّور صورة ذلك الشىء، وركب المميّز
44
1
المعنى الذى ميزه وفصله، فانه من المعانى التى تفصلت الصورة اليها، فمنها
2
تتركب، والمركب هو المفصل، فمعنى الصورة تحضره الذاكرة ورسمها
3
تحضره المتخيلة وتركيب المعنى الى الرسم تعطيه المميزة، فسبحان الحكيم
4
العليم. وباجتماع هذه الثلاث قوى يحضر الشى المنسى عند التذكر.
5
فان اعتاص احضارذلك الشىء على المرء، فانما ذلك لموضع ضعف واختلال
6
لحق احدى هذه القوى فاختل سائر هاؤلاء لاختلال تلك الواحدة وهذا
7
الاختلال الذى يعرض لبعض هذه القوى من بعض، انما يعرض اكثر للاعلى
8
من الاسفل. مثال ذلك ان المصور يالم ويختل باختلال الحس ويتدنس
9
بتدنسه، ولا يالم الحس بالم المصّور. وكذلك القوة المميّزة تالم بالم المصّور،
10
ولا يالم المصّور بالمها. والقوة الذاكرة تالم بالم المميّز، ولا يالم المميّز بالمها.
11
وانما كان ذلك كذلك لان الروحانى يالم بالم الجسمانى ولا يالم الجسمانى بالم
45
1
الروحانى، وكذلك الاكثر روحانية منها يالم بالم الاقل روحانية، ولا يالم
2
الاقل روحانيه بالم الاكثر روحانيه. وليس يعرض عن اجتماع هذه القوى
3
وتعاونها احضار الشىء الذى قد احس ونسى فقط، بل وقد يحضر فى بعض
4
الاناسى عند اجتماعها صور الاشياء المحسوسة من غير ان يحسها بعد، وانما
5
نقلت اليها صفاتها فقط. كما حكى ارسطو على بعض القدماء انه كان
6
يصّور اشياء نقلت اليه بالسماع من غير ان يكون شاهدها. فاذا امتحنت تلك
7
الصور، وجدت على نحو ما شوهدت عليه. وبهذه الجهة يمكن يتصور الفيل
8
من لم يحسه قط، وهذا انما يعرض للمرء عند اتحاد هذه القوى الثلاث.
9
واتحادها انما هو من قبل النفس الناطقة، اعنى، من قبل طاعتها لها، كما
10
ان افتراقها انما يكون من قبل النفس البهيمية. واتحادها عسير صعب على
11
المرء لكونه من قبل النطق، وراحة النفس البهيمية انما هى فى افتراقها.
12
ولذلك انما يعرض هذا الاتحاد للذين يجهدون افكارهم فى الخلوات، ويقطعون
46
1
عن انفسهم الشواغل التى تشغل الحواس، فيعود الحس المشترك فيهم الى
2
معونة هذه القوى. ولذلك قد تتحد هذه القوى فى النوم فتطلع على عجائب
3
العالم، وفى الاحوال الشبيهة بالنوم، مثل الاغما الذى يعرض للذين يقال
4
انه عرج بارواحهم. وقد يتفق، كما يقول ارسطو الا تحتاج هذه القوى بعضها
5
الى معونة بعض فى احضار ما لها ان تحضر بل تحضر كل ما لها ان تحضر
6
دون معونة صاحبتها، وقد لا يتفق لها ان تحضر الشىء الا بمعونة بعضها بعضًا.
7
والفرق بين حركة النفس على اجزاء الشىء واحضاره على جهة التذكّر
8
وبين حركة النفس على اجزاء الشىء واحضاره على جهة الحفظ، ان حركتها
9
|451b18-20|[Bekker1]على اجزاء الاشياء المتذكرة حركة منقطعة، بل على جهة الانتقال من امور
10
غريبة الى اجزاء الاشياء المتذكرة. وذلك انها انما تتذكر الشىء بشبيهه ومثاله.
11
والحفظ ليس يحتاج فيه الى ذلك. والحركة المستوية على اجزاء الشى المحضر
47
1
هو حفظ، وحركة التذكّر على اجزاء الشىء المذكور ليست بمستوية، لانها
2
انما تنتقل من مناسب الشىء الى الشىء. ولذلك كان فعل الحفظ اشرف من
3
فعل الذكر، لان الحركة المستوية اشرف من المنقطعة المختلفة.
4
فالقوة الحافظة بالجملة انما تحضر معانى اجزاء الشى المحفوظ على
5
التوالى والاتصال. فاذا احضرتها، ركب بعضها الى بعض المميّز، ورسمها
6
المصّور، والقوة الذاكرة انما تحضر اجزاء الشىء بحركة منقطعة غير متصلة.
7
واذا كان وجود اجزاء الشىء ظاهرًا فى هذه المدارك الثلاث، وكان قليل القشر
8
من جهة المميز والمصور، كان تذكّره اسهل، وان كان كثير القشر من هاتين
9
الجهتين، كان تذكّره عسيرًا. والمعانى الكلية انما تتذكر من جهة المتخيلات
10
التى تستند اليها. ولذلك كان النسيان يلحقها كما يلحق المعانى الجزئية.
11
والذكر انما يكون للصور السهلة الاسترجاع، والتذكر للصور العسيرة الاسترجاع.
12
والصور السهلة الاسترجاع هى التى تكون عند القوة المتخيلة والحاس المشترك،
13
كثيرة الجسمانية قليلة الروحانية. والصور العسرة الاسترجاع هى الكثيرة الروحانية
48
1
القليلة الجسمانية. وانما كان ذلك كذلك لان الصور الكثيرة الجسمانية يطول
2
فعل الحس المشترك فى تمييز روحانيتها من جسمانيتها، فيعرض له ان تثبت
3
فيه تلك الصورة، وبخاصة متى قبلها قليلة القشر. فقد تبين من هذا كيف
4
يكون التذكّر والذكر، وما الفرق بينهما وبين الحفظ.
5
وقد بقى من لواحق هذه القوة التى يذكرها ارسطو مطلبان. احدهما،
6
لم كان المتذكر يالم [*]يالم corrupt for يألم ويلتذّ من غير ان يكون الملتذ به موجودا بالفعل؟
7
والمطلب الثانى لم يكونوا بعض الاناس جيد الذكر ردىء الحفظ، وبعضهم
8
اجتمعت لهم جيدة الذكر وجيدة الحفظ؟
9
|450b20-451a16|[Bekker1]فنقول ان المتذكر انما صار يلتّذ بذكر الاشيا التى ليست موجودة بالفعل
10
من جهة ان الاشياء التى تبعثه على التذكر، هى اشياء موجودة بالفعل، وهى
11
ضرورة مناسبة للاشياء المتذكرة. فلكون شبيه الشىء مدركًا له بالفعل، يلحق
49
1
المتذكرمن اللذة والاذى عند ذلك ما يلحقه لو كان ذلك الشىء موجودًا بالفعل.
2
فكانه يتوقع خروج ذلك الشى الى الفعل، وكانه عند النفس فى حد الممكن.
3
وذلك انه اذا وجد شبيه الشىء، كان الشى ممكنًا ان يوجد. فالنفس اذا
4
تذكرت شيئا من اجل محسوس مناسب لذلك الشىء الذى مّر بها، اشعرها
5
العقل ان ذلك المحسوس من جنس ما كان عندها مخرجا وموجودًا بالقوة،
6
وانه ممكن ان يخرج الى الفعل، كما خرج الى الفعل هذا الشبيه الذى نبهنا
7
عليه. فيعرض عند ذلك من الالم بالشى المتذكر او اللذة مثل ما كان يعرض
8
لو كان موجودًا بالفعل.
9
|449b7-8|[Bekker1]واما الجيد الذكر من الناس فهو البطىء الحركة الذى يثبت فى نفسه
10
ما يمّر به من المحسوسات. وذلك هو الذى مزاج مؤخر دماغه متمسك بالصورة
11
الحاصلة، وهذا هو الذى تغلب على مزاج ذلك الموضع منه اليبوسة اكثر من
12
غلبة الرطوبة، فان اليبوسة من شانها [*]شانها Middle Arabic for شأنها ان يعسر قبولها. فاذا قبلت الصورة، فمن
50
1
شانها[*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تثبت فيها وتتمسك بها زمانًا طويلًا بخلاف الامر فى الرطوبة. ولذلك
2
كان الذين امزجة ادمغتهم هذه الامزجة جيدا التذكّر، لان جيدة التذكّر انما
3
|453a23-24|[Bekker1]تكون عن بقايا رسم الصورة المنطبعة في القوة المتخيلة. واما الذين تغلب على
4
هذا الموضع منهم الرطوبة فانهم لا يتذكرون الاشياء لقلة ثبوت الصور فى
5
الرطوبة، ولكنهم يحفظون سريعًا لسهولة قبول الرطوبة الصورة. ولهذا كان
6
الكثير اليبس قليل الحفظ، كثير الذكر؛ كان الكثير الرطوبة، سريع الحفظ
7
كثير النسيان عسير الذكر. والمتوسطون فى هذا المزاج تجتمع لهم جيدة الحفظ
8
|453b4-5|[Bekker1]وجيدة الذكر. ولهذا كانت جيدة الذكر منسوبة الى سن الشباب بالطبع،
9
|450b6|[Bekker1]كان النسيان يعرض لصبيان والشيوخ. اما الصبيان فلموضع الرطوبة الطبيعية
10
واما الشيوخ فلموضع الرطوبة العرضية. وانما يوجد بعض الشيوخ جيد الذكر
51
1
اذا لم يغلب على مزاجه الطبيعى هذا المزاج العرضى. وذلك ان المزاج
2
الطبيعى للشيخ انما هو مزاج اليبس. ولذلك قد يوجد الشيخ ذاكرًا ولا يوجد
3
حافظًا.
4
واما الصبيان فيوجدون حفاظًا اكثر مما يوجدون ذاكرين. واما الشباب،
5
فهم الذين لهم الامران معا، اعنى الحفظ والذكر. وانما يذكر المرء كثيرًا
6
مما احسه فى صباه ذكرًا جيدًا لانه فى صباه شديد العشق للصور التى تمّر
7
به، شديد الاستغراب لها، فيطول تشبثه بها ويجيد تحصيله اياها فيعسر
8
ذهابها.
52
1
الفصل الثانى
2
|453b11-17|[Bekker1]واذ قلنا فى هذه القوة وفى لواحقها، فلنقل فى النوم واليقظة. والنظر فيهما
3
اولًا هل هما خاصان بالنفس او بالجسد، او هما مما تشترك فيهما النفس
4
والجسد. فان كانا مما تشترك فيهما النفس والجسد، فلاى جزء من اجزاء
5
النفس تنسب هاتان القوتان، ولاى عضو من اعضاء البدن. وهل ما توجد له
6
من الحيوان احدا هاتين القوتين، توجد له الاخر.
7
|453b26-27|[Bekker1]فنقول ان النوم والسهر يرسمان برسوم. احدها ان النوم حس بالقوة.
8
فانه ظاهر ان النائم يرى انه ياكل ويشرب ويحس بجميع حواسه الخمس.
9
واما اليقظة فانها حس بالفعل. ومن هذين الرسمين يظهر ان النوم عدم اليقظة
10
لان ما بالقوة عدم ما بالفعل، والحس الذى بالقوة فى النوم قد يتفق ان يخرج
11
الى الفعل، وذلك فى المنامات الصادقة والانذارات العجيبة. وحينئذ يكون
53
1
الحس الذى بالقوة اشرف من الحس الذى بالفعل. واما الكاذب من الحس
2
الذى بالقوة فخسيس، والذى بالفعل اشرف منه. ويشبه ان يكون الامر، كما
3
يقول ارسطو، ان الحس الذى بالفعل جسمانى والذى بالقوة روحانى. والجسمانى
4
اشرف عند الحاس الجسمانى، والروحانى اشرف عند المدرك الروحانى.
5
وليس الروحانى اشرف من الجسمانى عند الجسمانى، ولا الجسمانى اشرف
6
من الروحانى عند الروحانى. واما الروحانى على الاطلاق، فهو اشرف من
7
الجسمانى. والحس الروحانى ليس انما يوجد فى النوم فقط، بل قد يوجد
8
فى اليقظة عند اجتماع القوى الثلاث واتحادها كما سلف من قولنا ومن
9
|454a7-11|[Bekker1]هذين الرسمين يظهر ان هاتين القوتين واحدة بالموضوع، اثنتان بالماهية
10
والحد، وان موضعهما هى القوة الحساسة المدركة، وانهما مشتركتان للنفس
11
والبدن, وإن افعال النفس الحساسة من الامور المشتركة للنفس والبدن لانها
12
لا تفعل الا بآلات. وقد يظهر انها منسوبة لقوة الحس المشترك مما اقوله.
13
وذلك انه ليس يمكن ان تنسب الى القوة الغاذية، فان النبات لا نوم له اذ لا
14
|454a16-17|[Bekker1]ادراك له. واذا لم تنسب الى النفس الغير مدركة، فهى ضرورة منسوبة الى
54
1
النفس المدركة، ومن المدركة الى غير الناطقة، فان الحيوان الغير الناطق
2
ينام. ولما كان الحيوان لم يعدم شيئًا فى حال نومه من آلات الحس ولا من
3
آلات الحركة، وهو مع هذا لا يحس ولا يتحرك وتمّر به المحسوسات فلا
4
يشعر بها، علمنا ان السبب فى النوم هو ان المدرك للمحسوسات قد انصرف عن
5
|426b20-23|[Bekker1]تلك الآلات الى باطن البدن. ولما قد تبين فى كتاب النفس ان هاهنا قوة
6
حسية مشتركة لجميع الحواس الخمس، وهى التى تقضى على تباين المحسوسات
7
|455a15-22|[Bekker1]وتقابلها وكثرتها، علمنا ان المنصرف عن هذه الآلات انما هو الحس
8
المشترك، وان ماهية النوم انما هو غوور[*]غوور Middle Arabic for غؤور هذه القوة الحساسة المشتركة الى داخل
9
الجسم، وان اليقظة هى حركة هذه القوة الحساسة الى آلاتها خارج الجسم.
10
|454b23-27|[Bekker1]ولهذا قد يرسم النوم بانه سكون الحركة، واليقظة اتصال الحركةا وهذا القول
11
|458a25-32|[Bekker1]هو ادل على ماهية النوم من القول المتقدم.
12
والدليل على ان النوم هو غوور[*]غوور Middle Arabic for غؤور الحس المشترك الى باطن البدن ان
13
اليقظان يعرض له مثل هذا، اعنى انه تمّر به المحسوسات فلا يدركها، وذلك
55
1
اذا اقبل بالفكرة على امر ما، لانه فى ذلك الوقت يعطل آلات النفس الحساسة
2
ويقبل بالحاسة المشتركة الى داخل الجسم لمعونة القوة المفكّرة، لان القوة
3
المفكّرة تقوى عند سكون سائر الحواس. ولذلك كان الانسان يدرك فى النوم
4
الامور المستقبلة ولا يدركها فى اليقظة. واما معونة هذه القوة المفكّرة فبان
5
تحضر ما عندها من رسم ذلك الشىء فيصفيه الخيال، وتحضره القوة المفكرة.
6
وذلك ان المعنى الذى يدرك بالفكر روحانى، فهو يحتاج الى معونة هذه القوى
7
فى ادركه الذى يخصه. وهذا ليس يعرض لشىء من الحيوان سوى الانسان،
8
لانه لا قوة عقلية لها. وانما تدرك من المحسوسات سوم الاشياء وقشورها.
9
والدليل على ذلك أنها قد تمّر على الضار لها فلا تتجنبه، وعلى النافع فلا
10
تتحرك اليه.
11
|454b9-11, 25-27|[Bekker1]وقد.يرسم النوم ايضا بانه رباط القوى ووثاقتها، واليقظة بانها انحلال
12
القوى وضعفها. وذلك ان اليقظة، لما كانت استعمال الحواس آلاتها،
56
1
عرض لها الانحلال عن آلاتها لمكان الضعف والتعب. والنوم لما كان حساما
2
لهذه القوى، عرض له ان يكون رباط هذه القوى، لانها تستجد به نشاطًا
3
وقوة. ولما كان هذا الخلال انما يعرض للآلات عن الآلام الداخلة عليها،
4
مثل التعب والكد وغير ذلك من الامور كانت هذه الاشياء ايضا لها مدخل
5
فى رسم النوم.
6
|454b11-12|[Bekker1]واذا كان هذا ظاهرًا من امر النوم، فواجب فى كل ما له يقظة من
7
الحيوان ان يكون له نوم، لان الضعف يدخل على الحيوان ضرورة، الا انه
8
ليس لازمًا ذلك للحيوان على نحو واحد ووتيرة واحدة. وذلك ان من الحيوان
9
|454b29-31|[Bekker1]ما له خمس الحواس؛ وهذا يوجد له النوم واليقظة على التمام، ويوجد له
10
الفرح والحزن والشهوة على التمام ايضا، اذ قد توجد له الحاسة التامة المشتركة.
11
ومنها ما يوجد له اربع حواس فقط وثلاث حواس، وهذا انما يوجد له النوم،
57
1
لكن ليس فى جميع القوى الخمس، اذ كان لا يوجد له السهر فيها. وليس
2
|455a6-7|[Bekker1]يلحق شك فى ان النوم التام والفرح والسرور انما يوجد للحس المشترك التام،
3
وهو للحيوان الذى يوجد له خمس حواس، من قبل انا نجد كثيرًا ممن فقد
4
بعض هذه الحواس ينام، مثل الاعمى والاصم والاخشم، فان هذا الفقد
5
|456b9-10|[Bekker1]هو عرضى لا طبيعى. وايضا فهاؤلاء لم يفقدوا الحاس المشترك، وانما فقدوا
6
الآلات التى بها يشرف الحس المشترك على المحسوسات. ورسم قوم النوم
7
بانه الذى يحدث عن ضعف القوى الحسية. وليس كل نوم يحدث عن
8
ضعف القوى الحسية، فانه قد يحدث عن اعمال الفكر والنظر فى شىء ما
9
فيغوص الحس المشترك لمعونة الفكر، لا لانه لحقه ضعف، بل نفعله مع سائر
10
القوى فى ذلك الوقت اقوى منه حين اليقظة. والدليل على ان القوى الحسية
11
تنقبض عند النوم، ان المرء اذا عسر عليه المعنى وفكر فيه، عرض له النوم. وقد
58
1
|450b16|[Bekker1]يبلغ هذا المعنى ببعض الناس ان يعرض لهم شبيه بالموت، اعنى تضعف
2
قواهم الخارجة المكان انصراف القوى الداخلة الروحانية، وادراكها الامور
3
الشريفة واطلاعها على الامور الروحانية الموجودة فى العالم كالملائكة
4
وغير ذلك وهاؤلاء هم الذين يقال انه عرج بارواحهم.
5
ولما كان الحس المشترك من جهة واحدًا، ومن جهة كثيرًا، اما
6
الجهة التى هو بها واحد، فمن جهة انه يدرك جميع المحسوسات الخمس.
7
واما الجهة التى هو بها كثير فمن جهة الآلات، اعنى من جهة ان له عينًا
8
واذنًا وانفًا. وكان هذا الحاس هو موضوع النوم واليقظة، وهو عام لقوى كثيرة
9
|454a24-26|[Bekker1]من قوى الحيوان. ولذلك ما يقول ارسطو انه واجب ان يعدل المرء بين هاتين
10
القوتين ولا يميل الى احداهما دون الاخرى. وذلك انه متى ملنا الى النوم اكثر
11
|454a26-32|[Bekker1]مما ينبغى، تبلدت النفس والآلات الطبيعية التى بها تفعل. ومتى ملنا الى
59
1
اليقظة، فسدت القوى والآلات الطبيعية التى تخصها. فقد ظهر من هذا لاى
2
قوة من قوى النفس يوجد النوم والسهر.
3
ولما كانت هذه القوى لا بد لها من موضوع خاص، وذلك هو العضو
4
الذى فيه هذه القوة، فينبغى ان نفحص عن هذا العضو اى عضو هو، وان
5
كانت توجد لاكثر من عضو واحد، فلايها توجد اولًا، ولايها توجد ثانيًا، وعن
6
اى سبب توجد، وكيف توجد.
7
|469a5-12|[Bekker1]فنقول انه قد تبين فى ما سلف ان مبداء الحس المشترك انما هوفى القلب،
8
|456a3-6|[Bekker1]وان الدماغ هو احد الآلات المتممة لهذا الفعل من جهة التعديل الموجود
9
فيه. واذا كان ذلك كذلك، وكان النوم هو غوص الحس المشترك الى داخل
10
البد ن، فبين ان مبداء هذه الحركة فى السهر هو من القلب، ومنتهاها الى الدماغ.
11
واما فى النوم، فمبدأها من الدماغ ومنتهاها الى القلب؛ وعلى الحقيقة فمبدأها
12
فى الامرين انما هو من القلب، لكن الدماغ هوسبب فى النوم بجهة ما اكثر
60
1
منه فى السهر. وبالجملة فكل واحد منهما سبب فى ذلك لكن القلب هو
2
السبب الاول، والدماغ سبب ثانى. واذا كان هذا هكذا، فهذان عضوان هما
3
المشركان لهاتين القوتين. واما عن اى سبب يعرض لهذين العضوين، فذلك
4
يظهر مما اقوله. وذلك انه اذا وضع ان كل عرض يعرض لحيوان فانما سببه
5
الحار والبارد والرطب واليابس او ما تركب منها، ووضعنا ان النوم هو غور الحس
6
المشترك الى العضو الذى هو مبدأه، وكان موضوع الحس المشترك انما هو
7
الحار الغريزى، فبين ان النوم انما يكون بانصراف الحار الغريزى وانقباضه
8
ورجوعه الى مبدائه [*]مبدائه corrupt for مبدئه الذى هو القلب. فان الحركة انما تكون للجسم بما هى|456b27-28, 457b1|[Bekker1]
9
حركة، ولذلك لا تتحرك القوى الا من جهة موضوعها. واذا تبين هذا وكان
10
الانقباض للحار الغريزى الى باطن البدن انما يعرض له من قبل ضده الذى هوالبرد
11
والرطوبة كما ان الانتشار والحركة له الى الخارج انما تعرض له من قبل الحرارة
12
واليبس، فواجب ان يكون انما يعرض له فى وقت النوم هذا العرض من قبل
61
1
البرودة والرطوبة التى هى اغلب على الدماغ، وان يكون السهر انما يعرض له
2
من قبل الحرارة واليبس الغالب على مزاج القلب.
3
فاما كيف يعرض هذا الانقباض عن البرودة والرطوبة فمما اقوله. اما
4
الرطوبة فان من شانها[*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تسد مجارى الحار الغريزى فى العروق والاعصاب،
5
فتمنع الروح وتحجبه من الوصول الى آلاتها الخاصة به، كما يحجب السحاب
6
الشمس، فلا يصل هذا الروح اذا كثرت الرطوبة فيه الى الخارج. واما البرودة
7
فان من شانها[*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تحرك الحرارة الغريزية الى منبعثها من جهة ما هو ضد لها،
8
والا فسدت الحرارة الغريزية مع ان البرودة ايضا من شانها [*]شانها Middle Arabic for شأنها ان يكثف بها
9
الجرم ويعود الى كمية اصغر. ولذلك كان الاسطقس البارد اصغر كمية من
10
الاسطقس الحار. وقد يشهد لكون البرودة والرطوبة فاعلة للنوم، ما يعرض من
11
كثرة النوم عند تناول الاشياء الرطبة الباردة. وهذا العارض يعرض للروح على
62
1
المجرى الطبيعى من شيئين: احدهما، طبخ الغذاء ونضجه فى الدماغ والقلب؛
2
والثانى، الخلال الذى يلحق آلات الحواس والحار الغريزى.
3
فاما كيف يعرض ذلك للروح الغريزى عن هذين السببين، فعلى ما
4
اقوله. وذلك ان الغذاء اذا استحال دمًا وصار صفوه الى القلب، ثم الى عضو
5
عضو من البدن بحسب ما يلائمه ويشاكل طبيعته، صار الى الدماغ ايضا منه
6
ما يشاكله، وهو الجزء البرد الرطب. ومن شان[*]شان Middle Arabic for شأن الاعضاء اذا ورد عليها الغذاء، ان
7
تبرد وترطب اكثر مما كانت، وبخاصة العضو الذى هو بارد رطب، وذلك ما
8
دام الغذاء فى طريق الانهضام وذلك لان الحار الغريزى يتاثر ايضا عن الغذاء
9
كما يتاثر عنه الغذاء فيرطب اكثر مما كان ويبرد ايضا لم لان الغذاء هو من جهة
10
شبيه ومن جهة غير شبيه ويحدث ايضا عن الطبخ فى الاعضاء ابخرة غليظة،
11
فيكدر لها الروح الغريزى ويثقل ويتحرك منقبضًا الى مبدئه الذى هو القلب،
12
فيحدث النوم ضرورة.
63
1
ولما كان الدماغ باردًا رطبًا، وكان كل عضو انما يالم فى الاكثر من
2
جهة الاسطقس الغالب عليه، كان الاملك لحدوث هذا العرض، اعنى
3
النوم، هو الدماغ مع ان القلب ايضا فى ذلك الوقت، اعنى فى وقت الغذاء، قد
4
تبرد حرارته. واذا بردت، ضعف فعلها لذلك فى الدماغ وفى غيره من الاعضاء.
5
فالنوم يعرض ضرورة لمكان ضعف الدماغ وضعف القلب. وكل واحد منهما
6
سبب فى ضعف صاحبه، وان كان الدماغ اقوى سببًا فى ذلك لموضع مزاجه.
7
|458a21-22|[Bekker1]والسبب فى ضعفها جميعًا هو نضج الغذاء وطبخه. ولذلك ينام الحيوان ضرورة
8
ما دام فى النضج، وينتبه اذا فرع من الطبخ وتشبه الغاذى بالمغتذى، لانه
9
|458a24-25|[Bekker1]حينئذ تنقى الحرارة الغريزية من تلك الرطوبة والابخرة، وتتحرك فى الشرايين
10
والاعصاب الى خارج الحس، فيحدث السهر ضرورة.
11
ولانقباض الحار الغريزى وقت الطبخ عن آلات الحواس سبب اخر
64
1
ايضا، وذلك ان النفس لما كانت واحدة من جهة كثيرة من جهة، كان
2
لها فى هذه القوى تصرف ما بمجموعها. فاذا اهمها فعل من افعال النفس،
3
صرفت الآلات المستعملت فى غير ذلك الفعل الى ذلك الفعل، لتقوى بذلك
4
على ذلك الفعل المقصود لها، فلذلك ينصرف الحار الغريزى وقت انضاج الغذاء
5
الى فعل القوة الغاذية. وذلك انما يكون فى الموضع الذى فيه فعلها وذلك هو
6
داخل البدن. وهذا هو احد الاسباب التى يحدث النوم من اجلها عن التعب،
7
فان لذلك سببين. احدهما من جنس هذا، وذلك ان الحار الغريزى اذا تبرد
8
وقل من جهة الحركة، اعنى الحركة فى المكان وحركة الادراك، اعنى الحس،
9
تحركت به النفس نحو عمق البدن لتفعل به فى ما هنالك من بقايا الغذاء
10
الاخير، ليتوفر جوهره ويخلف به بدل ما تحلل بالحركة. والسبب الثانى، ان
11
الحركة، اذا بردت الحار الغريزى، برد وقل وثقل لموضع البرد، والم فانقبض
12
الى مبدئه ليدفع عن نفسه المزاج العارض.
65
1
فالنوم بالجملة يعرض لمكان تغير الحار الغريزى فى كميته وكيفيته.
2
اما النوم الذى يحدث عن الغذاء، فلمكان رطوبته وبرده. واما الذى عن التعب،
3
فلمكان نقصانه وبرده. واما لم كان الحيوان يعرض له هذا العارض فلموضع
4
الضرورة، لانه لما كان من ضرورة هذه الاجسام ان يلحقها الخلال والتعب
5
عند الحركة وكانت مغتذية، احتاجت الى النوم لمكان الراحة وضرورة الاغتذا[*]الاغتذا Middle Arabic for الاغتذاء.
6
وذلك بخلاف ما عليه الامر فى الاجرام السماوية، فان تلك لما لم يلحقها
7
الخلال ولم تكن مغتذية، لم تكن محتاجة الى النوم. فقد تبين من هذا القول
8
|458a28|[Bekker1]ما هو النوم ولاى جزء من اجزاء النفس ينسب، ولاى عضو من اعضاء البدن،
9
وكيف يعرض ولم يعرض.
66
1
الفصل الثالث
2
|458a33|[Bekker1]وجدير بنا بعد معرفة طبيعة النوم ان نعّرف طبيعة الرؤيا وما كان من
3
جنسها من الادراكات الالاهية التى ليست منسوبة الى اكتساب الانسان ولا
4
سعيه. فنقول ان هذه الادراكات، منها ما يسمى رؤيا، ومنها ما يسمى كهانة،
5
ومنها ما يسمى وحيا. وقوم من الناس جحدوا وجود هذه ونسبوا وجود ما يشاهد من
6
ذلك الى الاتفاق. وقوم اثبتوها، ومنهم من اثبت بعضها ونفى بعضًا. ومدافعة
7
وجودها دفع المحسوسات، وبخاصة وجود الرؤيا الصادقة، فانه ما من انسان
8
الا وقد رأى رؤيا انذرته بما يحدث له فى المستقبل. واذا اعتبر المرء تكرار ذلك
9
|463a30-b1|[Bekker1]عليه فى نفسه، افاده ذلك الاعتبار ان العلم الحاصل عنها انما هو بالذات،
10
وعن طبيعة فاعلة لذلك لا عن اتفاق. والمدارك الاخر، وان لم نشاهدها، فهى
67
1
|462b14-18|[Bekker1]مشهورة جدًا، والمشهور عند الجميع، اما ان يكون معدودًا فى الواجب بالكل
2
او بالجزء، فانه لا يمكن ان يكون المشهور كاذبًا بالكل، والقول فيها هو من
3
جنس واحد.
4
والكلام فى ماهية الرؤيا يجزى عن الكلام فى تلك لانها انما تختلف
5
بالاقل والاكثر، اعنى اسبابها. وانما اختلفت اسماوها [*]اسماوها Middle Arabic for اسماؤها لما يعتقده الجمهور فى
6
اسبابها. وذلك امر معروف فانهم يعتقدون فى الرؤيا انها من الملائكة، وفى
7
الكهانة انها من الجن وفى الوحى انه من الله سبحانه، اما بلا واسطة او بواسطة
8
مخصوصة. وايضا فان الوحى ينفصل عندهم، فانه انما ياتى التعريف فيه
9
بامور علمية، مثل تعريف ماهية السعادة، وتعريف الاشياء التى تحصل بها
10
السعادة. وتلك انما يحصل التعريف فيها بامور كائنة. وارسطو انما تكلم من
11
هذه فى الرؤيا فقط.
68
1
فلنقل فيها فنقول اما ان الرؤيا صنفان: كاذبة وصادقة. فينبغى ان
2
ننظر منها اولًا الى اى جزء من اجزاء النفس ينسب كل واحد من هذين الصنفين،
3
وما السبب الفاعل لكل واحد من صنفى الرؤيا، اعنى الصادقة ولكاذبة؛ ولم
4
ذا تكون الرؤيا الصادقة وكيف يمكن ان تكون؛ وكم اصنافها؛ وفى اى
5
اجناس من المعلومات تكون؛ ولما كانت تختص بوقت النوم؛ ولم كان الناس
6
متفضلين فيها، بعضهم يرىء رؤيا صادقة وذلك فى الاكثر، وبعضهم كاذبة،
7
ولم كان بعض الناس يعتبر الرؤيا وبعضهم لا يحسنها. فان هذه هى اصول
8
المطلوبات المتشوقة فى هذا الجنس.
9
|461a25-b3|[Bekker1]فنقول انه لما كان النائم يحس كانه يبصر ويسمع ويشم ويذوق
10
ويلمس، ولم تكن هنالك محسوسات من خارج، فواجب ان يكون مبداء هذه
11
الحركة فى النوم هو من منتهاها فى اليقظة. ولما كانت هذه الحركة فى
12
اليقظة تبتدىء من المحسوسات التى من خارج الى ان تنتهى الى قوة الذكر،
69
1
وهى المرتبة الخامسة، فقد كان يجب ان يكون مبدأها من هذه القوة، الا ان
2
قوة الفكروالذكر، لما كانت غير فاعلة فى النوم، وانما الفاعلة فى النوم المتخيلة.
3
لان هذه القوة هى فى حركة دائمة، وفعل متصل من التصّور والتمثيل والانتقال
4
من خيال الى خيال، فتارة تفعل ذلك من المعانى التى فى الذاكرة، وتارة
5
تفعل ذلك من الآثار التى فى الحس المشترك، وتارة تتلقى معنى ذلك الشىء
6
الذى تصوره من مبداء من خارج على ما سيبين. وذلك على احد وجهين: اما
7
ان تتلقى ذلك المعنى نفسه او تلقى ما يحاكيه بدله. كان بينًا من جميع
8
|459a14-22|[Bekker1]هذا ان الرؤيا انما تنسب من قوى النفس للقوة المتخيلة اولًا سوى كانت
9
صادقة او كاذبة.
10
واما كيف يعرض فى النوم عن هذه القوى ان المرء يرىء[*]يرىء Middle Arabic for يرى كانه يحس
70
1
بحواسه الخمس من غير ان تكون هنالك محسوسات خارج النفس، فان
2
ذلك يكون منها بعكس الحركة التى كانت بينها وبين المحسوسات فى
3
اليقظة. وذلك ان فى اليقظة المحسوسات من خارج هى التى حركت الحواس،
4
فحرك الحس المشترك القوة المتخيلة. وهاهنا اذا صورت القوة المتخيلة المعنى
5
الذى احذته من القوة الذاكرة، عادت فحركت الحس المشترك، وحرك الحس
6
المشترك قواه الجزئية. فيعرض لمرء ان يدرك المحسوسات، وان لم تكن موجودة
7
خارجا، لان معانيها قد صارت فى آلات الحواس. ولا فرق بين ان تصير هذه
8
المعانى من خارج او تصير من داخل. وقد يعرض مثل ذلك فى اليقظة للخائف
9
والمريض، وذلك لافراط فعل القوة المتخيلة فى هذه الاحوال، فانها اذا
10
قوى فعلها، عادت فحركت ما كانت عنه متحركة، وهو الحس المشترك.
11
|463a10-11|[Bekker1]وانما افرطت حركة القوة المتخيلة فى النوم لانها انحلّت عن رباط القوة الفكرية
12
وخرجت عن سلطانها. ولضعف هذه القوة، اعنى المفكرة، فى الخائف
71
1
والمريض، عرض لهم مثل هذا العارض. فقد تبين من هذا القول ان الرؤيا،
2
سوا كانت صادقة او كاذبت، انها منسوبة الى قوة التخيل.
3
فلننظر فى الاسباب الفاعلة لهذين الصنفين من الرؤيا. فنقول اما الرؤيا
4
الصادقة، فلما كانت تدل على معرفة وجود شى مجهول الوجود عندنا بالطبع،
5
قبل هذه المعرفة، وهى فى وقت المعرفة فى الاكثر معدومة، وكان هذا التصديق
6
الحاصل لنا بعد الجهل، ليس يحصل عن معرفة متقدمة عندنا فاعلة ولا بعد
7
فكر ولا رؤية بمنزلة ما تحصل المعرفة التصديقية والتصويرية الحاصلة لنا عن
8
المقدمات، فانه قد تبين فى كتاب البرهان ان المعرفة التصديقية والتصورية
9
يتقدمها بالطبع صنفان من المعرفة: فاعل وموطىء. واما هذه المعرفة التى
10
تحصل فى النوم، فظاهر انه ليس يتقدمها الصنف الفاعل. واما هل يتقدمها
11
الصنف الموطىء، ففى ذلك نظر. واذا كانت هذه المعرفة حاصلة لنا بعد الجهل،
72
1
وموجودة بالفعل بعد ان كانت بالقوة، ولم تكن فيها معرفة فاعلة لهذه المعرفة،
2
فبين ان الحال فى حصول هذه المعرفة لنا كالحال فى حصول المقدمات
3
الاولى. واذا كان ذلك كذلك، فواجب ان يكون الفاعل لهما واحد، من
4
جنس واحد.
5
ولما قد تبين فى الاقاويل الكلية ان كل شى يخرج من القوة الى الفعل|1049b24-27|[Bekker2]
6
فله فاعل ومخرج هو ضرورة من جنس الشىء الخارج من القوة الى الفعل،
7
فواجب ان يكون الفاعل لهذه المعرفة هو عقل بالفعل، وهو بعينه المعطى
8
للمبادىء الكلية فى الامور النظرية الذى تبين وجوده فى كتاب النفس، فان
9
الاعطأين [*]الاعطأين corrupt for إعطاءين من جنس واحد. وانما الفرق بينهما ان فى المعارف النظرية يعطى
10
المبادىء [*]المبادىء corrupt for المبادئ الكلية الفاعلة للمعرفة المجهولة، وهنا يعطى المعرفة المجهولة بلا
11
واسطة. ولهذا ينشا فى هذا النوع من الاعطاء موضع تعجيب وفحص شديد.
73
1
وذلك ان هذا الاعطاء ان كان ممكنًا للانسان، فهل ذلك ممكن له فى جميع
2
المعارف المجهولة، وذلك فى جميع الاجناس الموجودة، ام انما ذلك ممكن
3
له فى بعض الاجناس وغير ممكن فى بعضها؟ فان الرؤيا يبين من امرها
4
انها ليست تكون فى شىء من الامور النظرية. وانما هى فى امور مستقبلة.
5
وبالجملة فكيف كان الامر، فهذا النوع من الاعطاء شريف جدًا ومنسوب الى
6
مبداء ارفع من مبداء الاختيار واشرف منه، بل ذلك من امر الاهى وعناية تامة
7
بالانسان آلذي يحصل له هذا النوع من المعرفة فى كثيرمن الاشياء.
8
ولما كانت ماهية النبوءة انما هى داخلة فى هذا النوع من الاعطاء، نسبت
9
الى الآله والاشياء الالاهية وهى الملائكة. ولذلك يقول سقراط محتجًا على
10
اهل اثينيا: يا قوم، انى لست اقول لكم ان حكمتكم هذه الالاهية امر
74
1
باطل، ولاكن اقول انى حكيم بحكمة انسانية. وسننظر فى هذا بعد
2
بحسب قوتنا واستطاعتنا، فلنرجع الى حيث كنا.
3
ونقول اذا لاح ان معطى هذه المعرفة هو عقل برىء عن المادة، وكان
4
قد تين فى العلوم الالاهية ان هذه القول المفارقة انما تعقل الطبائع الكلية،
5
وكانت انما تعطى شبيه ما فى جوهرها، لم يمكن ان تعطى معنى شخصيًا
6
اصلا، اذ ليس فى طباعها ادراك ذلك المعنى الجزئى، وانما تتشخص تلك
7
الصورة الكلية فى الهيولى، اعنى من جهة انه ليس لها قوام الا بالهيولى.
8
ولو كان للعقول المفارقة ادراك شخصى، لكانت ضرورة هيولانية، فكانت
9
لا تفعل الا بمماسة فعل وانفعال. واذا لم تعقل تلك العقول المعانى الشخصية
10
فكيف، ليت شعرى، يعطى العقل الفاعل هذه الصورة الشخصية المخصوصة
11
بالزمان والمكان وبالصنف الواحد من الناس وبالشخص الواحد من الصنف
75
1
فانا نرىء [*]نرىء corrupt for نرى المرء انما يدرك من هذه الاشياء ويتقدم له فى النوم الانذار بحدوثها ما
2
كان خاصًا بجسمه او نفسه او قراباته او اهل مدينته او قومه، وبالجملة من
3
كان عرفه. فالشك هاهنا فى موضعين: احدهما كيف تحصل الامور الجزئية
4
من الطبيعة الكلية؛ والموضع الثانى، لم اختص هذا الاعطاء من الجزئيات
5
الخاصة بالانسان الذى القى عليه العلم بذلك. فان القول فى هذه الاشياء، وإن
6
كان معتاصًا جدًا بحسب الادراك الانسانى، فواجب ان يبلغ من ذلك اقصى
7
ما فى طباعه بلوغه، اذ كان جوهر السعادة ليس شيئا اكثر من هذا.
8
فنقول ان الامور التى تحدث، منها اشخاص جواهر، ومنها اشخاص
9
اعراض. واشخاص الجواهر، منها ما هى اشخاص جواهر بسيطة، وهى اجزاء
10
الاسطقسات، ومنها ما هى اشخاص جواهر مركبة. وهذه صنفان، اما ذوات
11
نفوس كالحيوان وانبات، واما غير ذوات نفوس كالمعادن وما كان من جنسها.
76
1
واما اشخاص الاعراض، فمنها اعراض موجودة فى اشخاص الجواهر البسيطة،
2
ومنها اعراض حادثة فى اشخاص المركبات. وهذه صنفان، اما اعراض
3
موجودة فى ذوات النفوس واما اعراض موجودة فى غير ذوات النفوس. وكل
4
واحد من هذين الصنفين موجود اما عن الطبيعة واما عن الارادة.
5
واما اشخاص الجوهر فجميعها محدودة الاسباب الفاعلة لها على ما
6
تبين فى العلم الطبيعى، اذ كان ليس يوجد شخص جوهر بالاتفاق، فانه قد
7
تبين فى كتاب الكون والفساد ان حدوث اجزاء الاسطقسات وتغير بعضها الى
8
بعض مرتب محفوظ منتظم من قبل حركات الاجسام السماوية. وبذلك
9
امكن ان يكون الكون والفساد فى اجزائها على تعادل، وان تبقى ابدا محفوظا
10
بكليتها. وكذلك تبين ايضا فى ذلك الكتاب بعينه ان الاجسام المتشابهة
11
الاجزاء الحادثة اولًا عن الاسطقسات، محدودة الوجود محصورة الاسباب من
12
قبل حركات الاجرام السماوية ايضا، ومن قبل حركات الاسطقسات الجارية
13
على نظام. فالاجرام السماوية اسباب بعيدة للاجسام المتشابهة الاجزاء،
14
وصور الاسطقسات اسباب قريبة. وتبين ايضا فى كتاب الحيوان والنبات ان
77
1
اشخاص النبات والحيوان محصورة الوجود محدودة الاسباب اما فى المتناسل
2
منها، فمن قبل البزر والعقل الفاعل، واما فى غير المتناسل، فمن قبل
3
الاسطقسات والاجرام السماوية والعقل الفاعل. واذا كانت هذه الاشخاص
4
محصورة الوجود، فطبيعتها معقولة ضرورة عند الصورة المفارقة وهى التى نسبتها
5
منها نسبة صورة الصانع من المصنوع.
6
واما اشخاص الاعراض، فمنها ما يوجد عن الاسباب الطبيعية، ومنها
7
ما يوجد عن الاسباب الارادية، ومنها ما يوجد عن الاتفاق. وذلك فى جنسين
8
جميعًا، اعنى فى الاشياء الارادية والاشياء الطبيعية. فما كان من هذه موجودًا
9
عن الاتفاق، فليس له طبيعة معقولة اذ ليس له اسباب محدودة، ولذلك ليس
10
|463a30-b11|[Bekker1]يمكن ان يقع للانسان معرفة بما يحدث من هذه الا بضرب من العرض.
11
واما الصنبف الثانى من الاعراض المحدودة الاسباب، فلها ضرورة طبيعة كلية
12
معقولة، هى السبب الاول فى وجودها. فانه واجب ضرورة ان يكون ما تحصل
78
1
معرفته بالذات ان يكون له اسباب موجودة بالذات، واذا كان هنالك اسباب
2
موجودة بالذات، فهى ضرورة معقولة عند الطبيعة الكلية، سوا عقلناها نخن
3
او لم نعقلها. وانما كانت هذه الشخوص الحادثة، لا تحصل لنا معرفة
4
حدوثها بقياس، وذلك فى ما يتباعد منا زمانه، لان تلك الاسباب غير محصورة
5
الوجود عندنا، مع انها فى انفسها محصورة الوجود، فانا انما ندرك الجليل من
6
هذه الاسباب والكلية العامة. وبين المراتب والاطوار التى ندركها نحن من
7
ذلك، والتى هى محدودة عند الطبيعة المعقولة التى تقيل ما عندها من ذلك
8
الطبيعة المحسوسة وتتحرك عنها كما تتحرك الآلات عن صورة الصناعة،
9
مراتب دقيقة تكاد ان تكون غير متناهية. ولذلك ما نرىء انه ليس يحدث
10
شخص من الاشخاص بالذات عن الطبيعة الا بعلم متقدم، فان آلة صاحب
11
|730b21-23|[Bekker1]المهنة، كما يقول ارسطو، انما تتحرك بقدر علم صاحب المهنة. واما ما
12
يحدث عن الارادة والاختيار، فما منها بالذات محصورة الاسباب فى انفسها،
13
وان لم تكن محصلة عندنا. وذلك اما عن خلق الانفس الطبيعية، واما عن
14
الخلق الناشية عن السير والآراء الانسانية، فان هذه ايضا واجب ان تكون محدودة
15
عند الطبيعة، وان كانت مجهولة عندنا.
79
1
وصناعة النجوم انما تعاطت القضاء على حدوث الاشخاص بما ظن
2
اهلها انه يحصل لهم من هيئات الاجرام السماوية الخاصة بحدوث شخص
3
من اصناف الانواع. ولذلك ظن القائلون بالقرانات، انه واجب ان تعود
4
الاشخاص المحسوسة باعيانها، وذلك لما ظنوه من ان هيئات الاجرام السماوية
5
فى نفسها محصلة الوجود، حتى ان كل هيئة منها مشار اليها فى الآن، واجب
6
ان تعد عندهم.
7
واذا تقرر هذا كله، فغيرنكير ان يكون العقل المفارق يعطى النفس الخيالية
8
الطبيعة الكلية التى لذلك الشخص الحادث، اعنى معقول اسبابه، فتقبله
9
النفس المتخيلة جزئيا من جهة ما هى فى مادة. وربما قبلت شخص ذلك
10
المعقول بالحقيقة، وربما قبلت ما يحاكيه. وكما انه يعطى الكمالات النفسانية
11
كلية، وتقبلها المادة جزئية، كذلك يعطى هاهنا الكمال الاخير للقوة المتخيلة
12
كليا، وتقبله النفس جزئيًا.
13
فانه قد تبين ان العقل انما يعطى الكمالات الاولى من قوى النفس
14
الجزئية، اعنى الحواس الخمس والقوة المتخيلة، وذلك ان معطى الكمالات
80
1
الاخيرة فيها انما هى المحسوسات. واما فى هذا الادراك الروحانى الذى يكون
2
فى النوم او فى ما يشبهه، فهو يعطى النفس المتخيلة الكمال الاخير. وكما
3
ان الطبيب الماهر منا ينذر بما يحدث لجسم زيد ونفسه فى وقت محدود
4
بمقدمتين: احداهما كلية معقولة، والاخرى جزئية محسوسة، كذلك هذا
5
الانذار. والعلم يلتئم من الكلى الذى يعطيه العقل، ومن المعنى الجزئى الذى
6
تاتى [*]تاتى Middle Arabic for تأتى به النفس المتخيلة المناسب لذلك الكلى.
7
فاما لم كان الانسان انما يدرك من هذه الامور ما كان خاصا ًبزمانه
8
ومكانه وبدنه وقومه دون سائر الامور الجزئية المشاركة لها فى الطبيعة الكلية،
9
فالسبب فى ذلك انه لا بد ان يكون عند الانسان فى هذا الادراك احد جنسى
10
المعرفة المتقدمة للتصديق، وهى المعرفة الموطئة للتصديق، اعنى معرفة التصّور
11
المتقدمة على التصديق. فالانسان انما تحصل له هذه المعرفة وهذا العلم فى
81
1
|464a28-29|[Bekker1]الاشخاص الذين قد تقدم فعرفهم، وبخاصة الذين تسبق له بهم عناية
2
واما فى ما كان منها مجهولًا عنده، فليس يمكن ان يحصل عنده علم بما
3
يحدث لذلك الشخص، فان هذا التصديق، وان لم يكن من شرطه ان تتقدمه
4
معرفة عند الانسان فاعلة، فلا بد ان يكون من شرطه ان تتقدمه معرفة موطئة.
5
فاما لم كانت القوة المتخيلة ليست تاتى فى الاكثر بالمعنى الشخصى
6
الحقيقى الداخل تحت الكلى الذى يفيضه العقل وانما تاتى بالمعنى المحاكى
7
له؟ فذلك لان للشىء المحسوس صورتين. روحانية، وهى الصورة المحاكية
8
له؛ وجسمانية، وهى صورة الشىء المحسوس نفسه، لا الصورة المحاكية له.
9
والصورة المحاكية انما كانت اكثر روحانية لانها اقرب الى طبيعة الكلى من
82
1
صورة الشىء الحقيقية. فلذلك كانت النفس المتخيلة تقبل المعنى المعقول
2
باتم ما يمكن فى جوهرها ان تقبله من الروحانية، وقد تقبله احيانا جسمانيا،
3
فيرىء الرأى فى النوم الصورة نفسها، لا ما يحاكيها.
4
واما لم اختص هذا الادراك بالنوم، فالعلة فى ذلك ان النفس لما كانت
5
واحدة بالموضوع، كثيرة بالقوى، فهى اذا استعملت نوعًا من القوى،
6
ضعفت من استعمال نوع اخر. مثال ذلك انه اذا استعملت الادراك الذى
7
من خارج، ضعفت من الادراك الذى يكون من داخل. واذا استعملت نوع
8
القوى المحركة، ضعفت عن استعمال القوى المدركة، وكذلك اذا استعملت
9
بعض القوى الباطنة، ضعفت عن البعض، مثل ضعف قوة الخيال عند اعمال
10
قوة الفكر، وقوة فعل الخيال عند ضعف الفكر. واذا عطلت النفس جنسًا من
11
هذه القوى او نوعًا منها، قوى النوع الباقى. وربما لم يقتصر فى هذا الفعل
12
على تعطيل بعض القوى، بل وتعطل مع ذلك الآلة التى كانت تفعل بها تلك
83
1
القوة المعطلة، وتصرفها الى القوة التى اخبت على استعمالها. وهذا من فعل
2
النفس يشبه جمعها القوى الثلاث الباطنة من قوى النفس فى احضار صنم
3
الشىء الذى لم يمر بالحس.
4
واذا كان هذا كله كما وصفنا، فواجب ان يكون فعل القوة الخيالية
5
فى النوم اكمل واكثر روحانية، لان النفس فى حال النوم قد عطلت الحواس
6
الظاهرة وآلاتها، ومالت بذلك نحو الحس الباطن. والدليل على ان القوى
7
الباطنة اتم فعلًا عند سكون القوى الخارجة ان الذين يعملون الفكر كثيرا، تميل
8
قواهم الحسية الى داخل البدن حتى انهم يغشاهم النوم ويتعمدون تسكين الحواس
9
الخارجة ليجود لهم الفكر. ولهذا السبب كان الذين يولدون عدما حاسة البصر
10
وحاسة السمع اتم افعالًا فى القوى الباطنة، ولهذا بعينه كان الوحى انما يتاتى[*]يتاتى corrupt for يتأتى
11
فى حالة شبيهة بالاغما. وذلك ان هذه القوى الباطنة اذا تحركت حركة
84
1
قوية، انقبضت الخارجة حتى انه ربما عرض عن ذلك شبيه بالغشى، مثل ما
2
يعترى الذين يقال انه عرج بارواحهم.
3
فقد تبين من هذا لم كان هذا الادراك فى النوم ولم يكن فى اليقظة.
4
وليس يبعد ان يوجد شخص يدرك من ذلك فى اليقظة ما يدرك النائم، بل
5
ربما رأى صورة الشىء بعينها لا مثالها، كما حكى عن عمر، رضى الله عنه،
6
فى قوله: يا سارية الجبل.
7
واما لما كانت الرؤيا، فلموضع العناية التامة بالانسان. وذلك ان الانسان
8
لما كان قاصر المعرفة والادراك فى القوة العقلية الفكرية التى بها يدرك حدوث
9
الامور النافعة والضارة فى المستقبل، ليستعد لشى ويتاهب له ويبشر ايضا
10
بوقوع الجيد ويعمل على وقوعه، ارفدت هذه القوة بهذا الانذار الشريف
11
والادراك الروحانى، ولذلك قيل انه جزء من كذا وكذا من النبوءة. وذلك بين
85
1
فى الرؤيا التى رأها الملك وسال عنها يوسف عليه السلام، فانه عند ما عبر عنه
2
يوسف عليه السلام، اشار ان يستعدوا لما دلت عليه الرؤيا من الجدب، بان
3
يذروا فى سنين الخصبة الحب فى سنبله ليلا نفسد ويبقى الى وقت [الى]
4
سنين الجدبة.
5
|464b5-7|[Bekker1]واما المعبر فهو الرجل المتهيىء النفس بالطبع لفهم المحاكات التى يكون
6
فى الرؤيا،وهى الذى يفيض عليه العقل المعانى الجسمانية التى حوكيت فى
7
النوم بالمعانى الروحانية. فمن شرطه ان يكون عالمًا بالمحاكات التى تعم
8
جميع الامم، والمحاكات التى تخص امة امة وصنفًا صنفًا من الناس، فان الامم
9
يختلفون فى ذلك من جهتين. احداهما، بحسب الطبع، وذلك بحسب قوى
10
انفسهم وبحسب الموجودات الخاصة بهم فى مدينتهم وفى بلادهم. والثانية،
11
بحسب المحاكات والآراء التى نشوا [*]نشوا corrupt for نشؤوا على قبولها، وعودوا التصديق بها منذ
12
الولادة. وذلك فى المبداء الاول وفى الملائكة وفى جوهر السعادة الانسانية.
86
1
وينبغى، كما يقول ارسطو، للمعبر ان يكون متعهدًا لنفسه بالفكرة والنظر،
2
ولبدنه بالنظافة، وان يكون عفيفًا غير مائل الى خلق النفس البهيمية، روحانيًا.
3
وربما عرض للمرء ان يدرك عبارة الرؤيا فى رؤيا اخر يرأها[*]يرأها corrupt for يراها، كما عرض
4
لهرقل الملك فى الرؤيا التى حكاها عنه ارسطو، فانه رأى رؤيا غريبة اخطا
5
المعبر عبارتها. فلما نام، عبرت له تلك الاشياء التى رأها[*]رأها corrupt for رآها، وبقى مشغول النفس
6
بتلك الامور التى انذر بحدوثها حتى حدثت. وربما عرض للمرء ان يرىء[*]يرىء corrupt for يرى الرؤيا
7
وينساها، وربما تذكرها اذا استيقظ. واذا تذكرها، فانما يتذكرها على
8
النحو الذى تتذكر الاشياء التى احسها فى الزمان الماضى، وقد قيل كيف ذلك.
9
|464a32-33|[Bekker1]وانما كان بعض الناس اصدق رؤيا من بعض واكثر روية فى النوم من
10
بعض، لموضع تفاضلهم فى هذه القوة، اعنى قوة التخيل، وهاؤلاء هم ذوا
11
الامزجة السوداوية الباردة اليابسة، وذلك ان الرطوبة من شانها [*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تغمر القوى
12
وتبطل فعلها وتسد مجارى الروح، ويكون نوم صاحبها شديد الاستغراق،حتى
87
1
ان هاؤلاء لا يكاد يتخيل لهم شى بل نومهم شبيه بالموت. والخلط السوداوى
2
يجتمع فيه انه موافق للنوم وموافق لفعل هذه القوة. اما موافقته للنوم، فمن
3
جهة ان هذا الخلط كثير البخار يصعد الى الراس[*]الراس Middle Arabic for الرأس فيحدث النوم. واما موافقته
4
لهذه القوة فمن جهة ان هذه القوة لما كانت شديدة الحركة دائمة الاضطراب
5
فى النوم واليقظة، منتقلة من خيال الى خيال، كانت ردأة[*]ردأة corrupt for رداءة فعلها انما هى فى
6
سرعة الحركة والانتقال من خيال الى خيال، وقلة الاستثبات والاتقان لخيال
7
الشىء الذى تصوره. وكانت جودة فعلها انما هى الاستثبات وجودة التصوير
8
والاتقان للشىء الذى تصورها. والذى يلائم هذا الفعل انما هو المزاج البارد
88
1
اليابس، وذلك ان البرد يوجب بطء الحركة، واليبس ثبوت الصورة. ولذلك
2
يوجد سلطان هذه القوى فى اصحاب المرة السوداء حتى انهم يدركون فى
3
اليقظة ما يدركونه فى النوم.
4
واما هل يكون هذا الادراك فى الامور الثلائة، اعنى الماضية والحاضرة
5
والمستقبلة، ففيه موضع نظر. وذلك ان المقصود منها بالانذار انما هو ما يحدث
6
فى المستقبل، الا انه ليس يبعد ان يقع فى الماضى والحاضر اذا كان ذلك
7
مجهولًا عندنا. واما فى اى جنس من اجناس المعلوات كما قيل، اما علوم
8
نظرية واما صنائع عملية واما قوى فكرية جزئية. وهو ظاهر من امر هذا الادراك،
9
انه انما يكون اكثر ذلك فى الامور المستقبلة التى يختص ادراكها بالقوى
10
الفكرية الجزئية التى تستعمل فى ادراك النافع والضار فى الامور المستقبلة.
89
1
واما الصنائع العملية، فقد يظن انه قد تحصل اشياء منها فى النوم، مثل
2
كثير من الاشياء التى كان اصل العلم بها فى الطب انذارًا مناميًا. واما العلوم
3
النظرية، فيبعد ان يكون ذلك فيها، اذ لو كان فيها ذلك، لكان النظر فيها
4
امرًا باطلًا وعبثًا. وذلك ان فى طباع الانسان ان يدرك العلوم النظرية فى ما
5
فطر عليه اولًا من المقدمات الاولى، فلو كان يدركها دون مقدمات، لكانت
6
المقدمات الاولى فيها عبثًا. كما انه لو امكنه السعى دون القدمين، لكانت
7
القدمان فيه عبثًا وباطلا، والطبيعة تابى ذلك.
8
وبالجملة ان حصل معقول من معقولات العلوم النظرية بهذا النوع،
9
فبالعرض واقليًا. ولذلك لا يمكن ان يلتائم منه صناعة نظرية، اللهم، الا ان
90
1
يضع انسان ان هاهنا صنفًا من الناس يدركون العلوم النظرية بغير تعلم. وهذا
2
الصنف ان كان موجودًا، فهو ناس باشتراك الاسم، بل هم ان يكونوا ملائكة
3
اقرب منهم ان يكونوا ناسا. وقد يظهر ان هذا ممتنع مما اقوله. وذلك ان المعرفة
4
النظرية فى نفسها واحدة غير متغايرة سوا علمت بتعلم او بغير تعلم. فلو علمت
5
بالامرين جميعًا، لما كان التعلم ماخوذًا فى حدها ولا ضروريًا فى حصول
6
جوهرها. فنحن بين امرين اما ان نسلم ان هذه المعرفة مقولة مع المعرفة
7
الانسانية باشتراك الاسم، واما ان نسلم ان الشىء الواحد بعينه يوجد عن اسباب
8
مختلفة. فتكون على هذا نسبة الشىء الى اسبابه التى بها قوامه غير ضرورية،
9
وذلك كله مستحيل. واما ان قال قائل قد يمكن ان تحصل خيالات الامور
10
النظرية لصنف من الناس بهذا النحو من الادراك، فهو ممتنع من قبل ان
11
حصولها بهذه الجهة هو فضل، لانه قد حصلت للانسان من جهة آلاته. الا
12
ان يقول قائل، عسى ان يكون هذا النوع من الادراك موجودًا لمن ليس يمكن
91
1
فيهم تعلم العلوم النظرية، اما بالطبع واما بغير ذلك. وهاؤلاء ان كانوا موجودين،
2
فهم ناس باشتراك الاسم. فقد قلنا فى ماهية الرؤيا الصادقة، ولما ذا تحدث،
3
وعما ذا تحدث، وكيف تحدث.
4
فلنقل فى اسباب الرؤيا الكاذبة. وهذه الرؤيا بالجملة انما تكون عن
5
سببين: احدهما، عن فعل القوة الخيالية عند النوم فى الآثار الباقية فى
6
الحس المشترك من المحسوسات التى من خارج، وعن فعل هذه القوة فى
7
المعانى المودعة فى القوة الذاكرة والمفكرة من تلك الامور المحسوسة؛ فان
8
تصرف هذه القوة دائمًا، اعنى قوة التخيل، انما هو فى خزانة هاتين القوتين،
9
|460b3-7|[Bekker1]اعنى خزانة الفكر والذكر وخزانة الحس المشترك. والسبب الثانى، هو حدوثها
10
عن المتشوقات الطبيعية التى للنفس فان شان [*]شان Middle Arabic for شأن النفس البهيمية اذا اشتاقت
11
شيئا، اعنى وجوده او عدمه، ان تحاكى لها النفس المتخيلة صورة ذلك الشىء
12
المتشوق على الحالة التى تشوقته وتحضر لها صنم ذلك الشىء. ولذلك يرىء [*]يرىء corrupt for يرى
92
1
المتشوق للنساء انه يجامع، والعطشان انه يشرب ماء. ومن هذا الجنس هى
2
الرؤيا الدالة عند الاطباء على غلبة الاخلاط على البدن. مثل ان رؤيا النار تدل
3
عندهم على غلبة الصفراء ورؤيا الماء على غلبة البلغم.
4
والفرق بين هذه الصور الكاذبة والصور الصادقة، ان الصادقة تستغربها
5
النفس وتعجب بها، وربما استيقظت، كالمذعورة من رويتها والمتعجبة من
6
|464b16-18|[Bekker1]لطيف الروحانية التى شاهدت فيها. فقد قلنا فى ماهية الرؤيا الصادقة والكاذبة،
7
واعطينا اسبابها الاربعة، واسباب ما يعرض فيها ويلحقها. وهنا انقضت
8
المعانى الملتقطة من هذه المقالة، والحمد لله حمدًا كثيرا، يتلوها المقالة
9
الثالثة بعونه.
93
1
المقالة الثالثة
2
|464b19-20|[Bekker1]غرضه فى هذه المقالة الفحص عن اسباب طول العمر وقصره. فنقول
3
|329b11-13|[Bekker1]انه من المسلم ان هاهنا اسبابًا طبيعية هى السبب فى هذين العرضين. فان
4
جميع ما ينسب الى الحيوان من الكون والفساد والنشىء [*]والنشىء Middle Arabic for والنشء والاضمحلال والنوم
5
واليقظة. وبالجملة ما يلحقه من التغير انما ينسب الى الكيفيات الاربع، اعنى
6
الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، لا الى كم ولا الى غير ذلك من الكيفيات، مثل
7
الثقل والخفة والسواد والبياض والخشونة والملاسة، الا ان ينسب ذلك بالعرض.
8
وذلك شىء قد تبين فى كتاب الكون والفساد. واذا تقرر هذا، فطول العمر وقصره
9
|466a18-22|[Bekker1]ليس منسوبًا الى شىء الا الى هذه الكيفيات الاربع، وهى الفاعلة لهذين العرضين
10
فى الحيوان والنبات.
11
فينبغى ان ننظر على كم وجه تقال هذه المقايسة وتوجد هذه النسبة
94
1
فى الحيوان والنبات، ثم من بعد ذلك نفحص عن الكيفيات التى تختص
2
بهذين العرضين. فنقول ان طول العمر وقصره يقالان على وجوه. احدها،
3
بالمقايسة بالجنس، اعنى مقايسة جنس الى جنس، مثل ما نقول ان النبات
4
|466a3-4|[Bekker1]بالجملة اطول عمرًا من الحيوان. والثانى، عند مقايسة النوع، مثل ما نقول
5
ان الانسان اطول عمرًا من الفرس وان النخلة اطول عمرًا من شجرة التين.
6
|465a4-6, 466a9-10|[Bekker1]والثالث، عند مقايسة صنف الى صنف، مثل ما نقول ان اهل البلاد الحارة
7
|465a6-10|[Bekker1]الرطبة اطول اعمارًا من اهل البلاد اليابسة. والرابع، عند مقايسة شخص الى
8
|465a10-12|[Bekker1]شخص، مثل ما نقول ان زيدًا اطول عمرًا من خالد، وان هذه النخلة اطول
9
عمرًا من هذه النخلة. فهذه هى جميع الوجوه التى يقال عليها طول العمر وقصره.
95
1
واذ قد تقرر ذلك، فينبغى ان نفحص عن اسباب ذلك. فنقول انه قد
2
|378b28-30|[Bekker1]تبين فى الرابعة من الآثار ان الكون انما يكون اذا غلبت القوى الفاعلة فى
3
|379a1|[Bekker1]المتكوّن للقوى المنفعلة، اعنى اذا غلبت الحرارة والبرودة الرطوبة واليبوسة، وان
4
الفساد انما يعرض من قبل ضد هذا، اعنى اذا غلبت الكيفيتان المنفعلتان
5
للفاعلتين وقهرتهما. وانما كان ذلك كذلك لان الحرارة المقدرة بالبرودة هى
6
التى تفيد المتكوّن الصورة الطبيعية التى له، بل هى الصورة بعينها. والرطوبة
7
المقدرة باليبوسة هى التى تقبل الصورة والشكل. فما دام الموجود الطبيعى
8
والقوتان الفاعلتان فيه قاهرتان للمنفعلتين ومستوليتان عليهما، انخفظ [*]انخفظ corrupt for انحفظ وجوده.
9
واذا ضعفتا عن ذلك، استولت على تلك القوى المنفعلة، قوى اخر فاعلة خاصة
96
1
بموجود اخر، ففسد ذلك الموجود. مثال ذلك ان الحرارة الطبيعية، وهى المقدرة
2
بالبرودة الطبيعية، ما دامت مستولية على الاخلاط، لم تحدث هنالك عفونة؛
3
فان ضعفت عن نضج الاخلاط وطبخها او افرطت فى ذلك، حدثت هنالك
4
حرارة غريبة مفسدة.
5
وانما يعرض الفساد بالجملة اذا بطلت النسبة الطبيعية التى بين القوى
6
الفاعلة والمنفعلة فى موجود موجود. وكل ما كانت هذه النسبة فيه اعظم، كان
7
ذلك الموجود اقل بوارًا وابعد من الفساد. وكل ما كانت فيه اصغر، كان اسرع
8
للبوار واشد قبولًا للفساد. ولذلك ما كان من الموجودات خلط الما[*]الما corrupt for الماء والنار غالب
9
فيه على خلط الارض والهواء، كان اطول بقاء، لان الماء والنار فيهما الكيفيتان
10
الفاعلتان اقوى منهما فى الارض والهواء. والارض والهواء الكيفيتان المنفعلتان
11
فيهما اقوى منهما فى النار والماء.
97
1
وانما كان الموجود الذى بهذه الصفة اكثر بقا [*]بقا Middle Arabic for بقاء لانه ليس تبطل هذه
2
النسبة فيه من التغيير اليسير الذى يدخل على القوى الفاعلة من خارج. وذلك
3
ان النسبة الطبيعية التى بين القوى الفاعلة والمنفعلة اذا كانت كثيرة، لم يعرض
4
لها ان تبطل الا من تغيير كثير وفى زمان طويل. وذلك ان الفساد ليس شيئا
5
أكثر من العفونة الحادثة بمن ضعف القوى الفاعلة وعسر المنفعلة. ولذلك من
6
كان مزاجه هذا المزاج، قلّ فيه تولد الاخلاط الغيرنضجة اوالاخلاط المحترقة،
7
وبالجملة الاخلاط الردئية الكيفية. وذلك ان المزاج الطبيعى انما هو فى النسبة
8
الطبيعية التى بين القوى الفاعلة والمنفعلة. فمتى كانت الباردة الفاعلة اقل مما
9
ينبغى، تشيطت الاخلاط واحترقت. ومتى كانت الحرارة اقل مما ينبغى، كان
10
عن ذلك عدم نضج ونيوءة. فهذه هو احد الاسباب التى بها يكون بعض الانواع
11
اكثر بقاء من بعض واقل قبولًا للامراض وللفضول والآفات.
98
1
والسبب الثانى ان تكون النسبة الطبيعية التى بين القوتين الفاعلتين احداهما
2
الى الاخرى، والنسبة التى بين القوتين المنفعلتين فى جنس ما او نوع ما او
3
صنف ما او شخص ما اعظم منها فى جنس اخر او نوع اخر او صنف اخر
4
او شخص اخر. والنسبة الطبيعية التى للحيوان والنبات فى هذا المعنى ان تكون
5
الحرارة فيه اغلب من البرودة، والرطوبةآغلب من اليبوسة، للاسباب التى قيلت
6
فى غير هذا الموضع. فكل ما كان من الحيوان والنبات الحرارة والرطوبة اغلب
7
عليه، وكانت القوى الفاعلة فيه غالبة للمنفعلة، كان طويل العمر.
8
والفساد انما يدخل على الحيوان والنبات متى عدم احدى هاتين النسبتين
9
او كلتيهما. وذلك انه متى ضعفت القوى الفاعلة، عرض للمادة ان تتخلا عن
10
الصورة لمكان فساد النضج وردأة[*]وردأة corrupt for ورداءة كيفية المادة. ومتى لم تكن الرطوبة فيه
11
وافرة جدًا، عرض للحيوان والنبات ان يجفّ سريعًا، فان الحرارة من شانها [*]شانها Middle Arabic for شأنها ان
12
تتعشق الرطوبة وتتشبث بها وتحيلها الى جوهرها، اذ كانت كالمادة لها والغذاء.
99
1
فاذا افنتها، فسدت الحرارة وغلب اليبس والبرد. وكل ما انتشفت الرطوبة، غلبت
2
اليبوسة والبرودة، فان اليبوسة يشبه ان تكون هى المادة الملائمة للبرودة كما
3
ان الرطوبة هى المادة الملائمة للحرارة. فانواع الحيوان انما تتفاضل فى طول
4
البقاء بتفاضلها فى الحرارة والرطوبة، وتفاضلها فى استيلا القوى الفاعلة على
5
المنفعلة. وبهذين السببين يتفاضل اصناف الناس واشخاصهم فى اعمارهم.
6
والفساد انما يلحق الاشخاص على احد وجهين: اما بالطبع، فعند
7
ما تفنى الحرارة الطبيعية الرطوبة الطبيعية التى فى ذلك الشخص، فيغلب عليه
8
البرد واليبس فيفسد؛ واما بالعرض، فعند ما تتولد فيهم من فضلات الهضم
9
ما لا توفى الطبيعة بتمييزه فتعتريهم امراض قاتلة. وهاؤلا الشخوص هم الذين لا
10
يتفق لهم ان تكون قواهم الفاعلة غالبة للمنفعلة. فان القوى الفاعلة اذا كانت
11
بالطبع غالبت فى اى شخص كان للقوى المنفعلة، ولم يعرض سبب عظيم
12
من خارج مضاد له من الاشياء التى من شانها [*]شانها Middle Arabic for شأنها ان تغير المزاج من داخل،
100
1
فبالواجب ان يكون فساد هذا الشخص الفساد الطبيعى. ثم ان هذه الاعمار
2
الطبيعية تفاضل فى الطول والبقاء بتفاضل الامزجة فى الحرارة والرطوبة.
3
فاعمار الناس بالجملة انما توجد تابعة لنسبة المزاجية الغلبية التى بين
4
القوى الفاعلة والمنفعلة، وبين القوى الفاعلة انفسها والقوى المنفعلة انفسها.
5
ولذلك نرىء بعض الناس اعضاوهم فى الظاهر حسنة قوية وقواهم عظيمة،
6
تصيبهم الامراض القاتلة، فيهلكون دون بلوع السن الذى للشيوخ بالطبع.
7
|464b29-30|[Bekker1]ونجد من هو دونهم فى القوة وجيدة الاعضاء، يبلغون سن الشيخوخة مع ان
8
تدبير الصنفين متشابهًا.
9
ومن الدليل على ان سبب طول العمر انما هو كثرة الحرارة والرطوبة
10
وغلبتها على المزاج مع استيلا الحرارة على الرطوبة، وبالجملة القوى الفاعلة
11
على المنفعلة ان ضد الحياة الموت، والموت انما هو برد ويبس. واذا كان
101
1
علة الموت بردًا يابسًا، فعلة الحياة حرارة ورطوبة. ولذلك كان مزاج الشباب
2
|466a18-19|[Bekker1]حارًا رطبًا ومزاج الشيوخ باردًا يابسا. ومن الدليل على ذلك ان الذبن يكثرن
3
|466b7-8|[Bekker1]الجماع اقصر اعمارًا من الذين يقلونه. والخصيان اطول اعمارًا من غير الخصيان.
4
والشيوخ الذين هم اكثر لحمًا اطول اعمارًا من الذين لحمهم قليل، لان علة
5
|466b9-10|[Bekker1]كثرة اللحم الحرارة والرطوبة. ولقلة الجماع كان البغل اطول عمرًا من الفرس
6
|466b16-22|[Bekker1]والحمار مع انه متولد عنهما. والاناث اطول اعمارًا من الذكور. والذين
7
يسكنون البلاد الحارة الرطبة اطول اعمارًا من الذين يسكنون البلاد الباردة
8
|465a7-10|[Bekker1]اليابسة. وانما تطول اعمار هذه البلاد لسبب عرضى وهى قلة العفن. والحيات
9
والهوام التى تكون فى جزائر البحر الكثيرة الرطوبة والحرارة، اطول اعمارًا من الحيات
10
والهوام التى تكون فى المواضع الحارة اليابسة او الباردة الرطبة. وكذلك الناس،
11
اعنى ان اهل الجزائر البحرية اطول اعمارًا من اهل البرارى، والحيوان البحرى
102
1
اطول عمرًا من البرى، لان ماء البحر حار رطب. ولذلك كان الحيوان البحرى
2
اسمن من البرى. وبالجملة كل ما كان احر وارطب، كان اقل اسراعًا الى
3
اليبس، وكل ما كان اكثر ارضية، كان اشد اسراعًا الى اليبس. فالسبب
4
الحافظ لبقاء الحيوان فى ذاته انما هو وفور الحرارة والرطوبة فى مزاجه، وكون
5
القوى الفاعلة فيه قاهرة للمنفعلة. فهذه الاسباب الحافظة للحيوان فى
6
ذاته.
7
واما الاسباب الحافظة له من خارج، فهى الستة الاصناف التى عددها
8
الاطباء، اعنى المطعم والمشرب، الاسهال والقبض والهواء المحيط، والنوم
9
واليقظة، والحركة والسكون، والاعراض النفسانية.ا فهذه اذا استعملها الانسان
10
الذى يوجد فى مزاجه هذان الشرطان اعنى وفور الحرارة والرطوبة، وان تكون
11
القوى الفاعلة فيه غالبة للمنفعلة، على ما رسم فى صناعة الحافظة للصحة،ا
103
1
طال عمره ضرورة ولم يعرض له الا الموت الطبيعى، وهو الذى يكون سببه
2
البرد واليبس. ومن لم يستعملها على ما ينبغى، امكن ان يكون موته من غلبة
3
القوى المنفعلة للقوى الفاعلة، وهى السبب فى تولد الامراض المادية. وامكن
4
ايضا ان يموت الموت الطبيعية متى كان تولد الخلط الغريب فى بدنه ليس
5
بمفرط الردأة[*]الردأة corrupt for الرداءة، بل تكون ردأته[*]ردأته corrupt for رداءته ردأة[*]ردأة corrupt for رداءة يحتملها مزاجه. وكثير من الناس يتفق لهم
6
ان تكون شهواتهم بالطبع موافقة لامزجتهم، فتطول اعمارهم.
7
واما الذين لا تغلب فيهم القوى الفاعلة للقوى المنفعلة، فانما يهلكون
8
اكثر ذلك هلاكًا غير طبيعى، وقل ما يبلغون الى اقصى ما فى طباع الرطوبة
9
فى ابدانهم ان تبلغها، بل يهلكون من جهة العفن قبل بلوع الهرم الطبيعى،
10
وبخاصة اذا اقترن الى ضعف القوى الفاعلة تديبر غير موافق.
11
وبالجملة من عدم هاذين الشرطين المشترطين فى مزاج الطويل العمر،
104
1
فعمره ضرورة قصير. والبوار يعرض لهم سريعًا من جهتين؛ احداهما، فناء
2
الرطوبة الطبيعية التى فى ابدانهم وغلبة البرد واليبس عليهم، وذلك اذا استعملوا
3
الامور التى من خارج استعمالًا غير موافقًا. وقد يعرض لهذا الصنف كثيرًا مع
4
استعمال التدبير الموافق ان يهلكوا هلاكًا غير طبيعى، وذلك من قبل الفضول
5
المتولدة فيهم لضعف قواهم الفاعلة. ولذلك يوجد هذا الصنف مع الحميه،
6
كثير الامراض، ويتعجب من ذلك جهال الاطباء، اذ كانوا لا يتصورون من
7
اسباب الامراض الا اسباب التى من خارج.
8
ويشبه ان يكون المزاج الذى وصفنا انه مختص بطول العمر وهو الذى
9
يوجد فى اصل تركيبه ذانك الشرطان، اما مجهولًا فى صناعة الطب، واما ان
10
يكون الوقوف عليه عسيرا ولو كان معلومًا علمًا قطعيًا، لقطع الطبيب على طول
11
العمر وقصره. والمزاج المعتدل الذى يصفه جالينوس، يشبه ان يكون هو هذا
12
المزاج، الا ان تعرف هذا المزاج بالحس والوقوف عليه عسير، وهو ان يكون
13
موجودًا بالقول اجرى منه ان يكون موجودًا بالحس. ولكون هذه النسبة مجهولة
105
1
بالطبع ترىء [*]ترىء corrupt for ترى كثيرًا من الزمنا يبلغون اخلا العمر، ونرىء كثيرًا من ذوى الهيئات|464b29-30|[Bekker1]
2
الجيدة يعطبون، فسبحان واهب الاعمار ومقدرها العليم بها وتفاضل الناس
3
فى اعمارهم هو بحسب تفاضلهم فى هذه النسبة المزاجية التى تختص بالطويل
4
العمر.
5
فطول العمر وقصره بالجملة يكون عن جنسين من الاسباب، احدهما،
6
الاشياء التى من خارج، والجنس الثانى، الاسباب التى فى ذوات الشىء، وهى
7
كما وصفنا، وفور الحرارة والرطوبة واستيلا [*]واستيلا Middle Arabic for واستيلاء القوى الفاعلة على القوى المنفعلة.|467a10-18|[Bekker1]
8
وفى النبات سبب ثالث مؤثر فى طول بقاوه، وهو انه يفسد وينشاء فى اجزائها،
9
اعنى انه اذا جف منه غصن، امكن ان يتولد فيه غصن اخر، وهو مع هذا
10
يستفيد الحرارة الغريزية التى فيه من الشمس اكثر مما يستفيدها الحيوان،
11
وهو مع هذا كثير المائية قريب من صور البسائط. فانه كل ما بعدت صورة
106
1
المركب من صور البسائط التى تركب منها، كانت صورته اشد مضادة
2
لصور البسائط، فكان فعل البسائط فيه اكثر، ومضادته له اعظم. فقد قلنا
3
فى اسباب طول العمر وقصره بحسب رأى ارسطو، وبحسب ما تقتضيه الاصول
4
الطبيعية.
5
واما القدماء فانهم كانوا ينسبون طول العمر وقصره الى اسباب عرضية.
6
فمنهم من كان يرىء ان العلة فى طول العمر المواضع الحارة اليابسة. ومنها من
7
كان يرىء ان السبب فى ذلك عظم الجسد. ومنهم من كان يرىء ان السبب
8
|466a1-2, 4-5|[Bekker1]فى ذلك كثرة الدم. والموضع الحار اليابس محرق ومفن للرطوبة الطبيعية،
9
ولذلك لا يمكن ان يتصور انه سبب بالذات لطول العمر. وانما يكون سببًا
10
بالعرض، لان العفونة التى تعرض من قبل الرطوبة تقل فى هذا الموضع. وهذا مثل
11
ما يكون البلد البرد اليابس سببًا لطول العمر، وهو احق بذلك من البلد الحار
12
اليابس، لانه يعدم العفونة التى تكون من الرطوبة، والعفونة التى تكون من
107
1
|466a1-2,18-19|[Bekker1]الحرارة. ولذلك يخص هذه البلاد انه يقل فيها الموت الذى يعرض عن العفونة.
2
وكذلك عظم الابدان انما يكون سببًا لطول العمر اذا كان العظم عن وفور
3
الحرارة والرطوبة، لا عن وفور الجزء الارضى فيها. ولذلك كان الانسان، مع
4
انه صغير الجثة اطول عمرًا من كثير من الحيوان الذى هو اعظم جثة منه.
5
وكذلك كثرة الدم هى ايضا سبب بالعرض، فان كثرة الدم تعرض فى الحيوان
6
عن وفور الحرارة والرطوبة. فقد قلنا فى اسباب طول العمر وقصره بحسب
7
قوتنا وما انتهى اليه فهمنا بحسب ضيق الوقت وشغل الزمان. وبانقضا هذه
8
المقالة انقضى ما وجد لارسطو فى هذا العلم.